الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

يمكن فسخ العقد الواحد مرّتين أو ثلاثاً ، وهو عقد واحد ، إلاّ أن يتجدد العقد فيتجدد إمكان الفسخ ، ويكون فسخاً لعقد آخر. (١)

٢. قوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين ، والمفسّرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة ، أعني قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...) ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية ، وقد عرفت ما هو الحق ، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق الثلاث على كل التقادير.

أمّا على التقدير الأوّل ، فواضح ، لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين : إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير : أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية ، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها ، فتبين منك ، وتطلق سراحها محسناً إليها ، لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها. (٢)

وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين ـ الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها ـ سواء طلّقها بلفظ : أنت طالق ثلاثاً ، أو : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق.

قال الشوكاني : يشترط في وقوع الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك ـ قبل الطلاق الثالث ـ وإذا لم يصحّ الإمساك إلاّ بعد المراجعة لم تصحّ الثالثة إلاّ بعدها لذلك ، وإذا لزم في الثالثة ، لزم في الثانية. (٣)

__________________

(١) نظام الطلاق في الإسلام : ٧٢.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٣.

(٣) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣٤.

٨١

وأمّا على التقدير الثاني ، فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث ، وساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين ، لكن قلنا : إنّ بعض الآيات ، تدلّ على أنّ مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق ، من غير فرق بين الأوّلين والثالث ، فالمطلّق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين :

قال سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). (١)

١. الإمساك بمعروف.

٢. التسريح بإحسان.

فالمحصّل من المجموع هو كون إتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) من القيود الغالبية ، وإلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته ، هو القيام بأحد الأمرين ، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن ، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه وغيظه ، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح فيها لأن يتفكّر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين ، وإلاّ فطبيعة الحكم الشرعي : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق ، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها ، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٨٢

٣. قوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع (١) ، ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (٢). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، من غير فرق بين أن نقول أنّ «اللام» في (لِعِدَّتِهِنَ) للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية ، والمراد لغاية أن يعتددن ، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع ، هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، وهو لا يتحقّق إلاّ بفصل الأوّل عن الثاني ، وإلاّ يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء لو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : أنّ رجلاً قال له : إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال : «ليس بشيء» ، ثمّ قال : «أما تقرأ كتاب الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ـ إلى قوله سبحانه : ـ (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ثمّ قال : كلّما خالف كتاب الله والسنّة فهو يرد إلى كتاب الله والسنّة». (٣)

__________________

(١) فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة ، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.

(٢) الطلاق : ١.

(٣) قرب الاسناد : ٣٠ ؛ ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج ١٥ ، الباب ٢٩ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٢٥.

٨٣

٤. قوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)

أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فائدة ، لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه ، ولا تحل العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر وطلاقه ، مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً : الاستدلال عن طريق السنّة

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة ، وأمّا حكم السنّة ، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

١. أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال : أُخبر رسول الله عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ألا أقتله؟ (١)

ومحمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع ، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال : أتانا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فصلّى بنا المغرب في مسجدنا ، فلما سلّم منها ، قال : اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم ، للسبحة بعد المغرب. (٢)

وهذا دليل على سماعه من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقد نقله الحافظ ابن حجر في «الإصابة». (٣)

ولعلّ هذا الرجل الذي طلّق امرأته ثلاث تطليقات هو (ركانة) الذي يأتي

__________________

(١) سنن النسائي : ٦ / ١٤٢ ؛ الدر المنثور : ١ / ٢٨٣.

(٢) مسند أحمد : ٥ / ٤٢٧.

(٣) لاحظ : ٦ / ٦٧.

٨٤

الكلام عنه في الحديث الثاني.

ثمّ نرى أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يصف هذا النوع من الطلاق : باللعب بكتاب الله ، وتظهر آثار الغضب في وجهه أفيمكن القول بصحّته بعد ما كان هذا منزلته؟!

ولو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري (١) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء ، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

٢. روى ابن إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله : كيف طلّقتها؟ قال : طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال : إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها. (٢)

والسائل هو ركانة بن عبد يزيد. روى الإمام أحمد باسناد صحيح عن ابن عباس قال : طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، قال : فسأله رسول الله : كيف طلّقتها؟ قال : طلّقتها ثلاثاً. قال ، فقال : في مجلس واحد؟ قال : نعم. قال : فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال : فأرجعها ، فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر. (٣)

__________________

(١) فتح الباري : ٩ / ٣١٥. ومع ذلك قال : رجاله ثقات ، وقال في كتابه الآخر «بلوغ المرام» : ٢٢٤ : رواته موثّقون ؛ ونقل الشوكاني في نيل الأوطار : ٦ / ٢٢٧ ، عن ابن كثير أنّه قال : اسناده جيد.

(٢) بداية المجتهد : ٢ / ٦١. ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان : ١٥٦ ، والسيوطي في الدر المنثور : ١ / ٢٧٩ وغيرهم.

(٣) مسند أحمد : ١ / ٢٦٥.

٨٥

أدلّة القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً

استدلّ القائل بجواز إرسال الثلاث دفعة أو مفرقة بالكتاب تارة والسنّة أُخرى والإجماع ثالثة.

أمّا الكتاب فبالآيات التالية :

١. انّ قوله سبحانه : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) يعمّ إيقاع الطلاق الثلاث دفعة.

٢. وقوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ).

٣. وقوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ).

٤. وقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ).

ولم يفرق في هذه الآيات بين إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث.

وقد أُجيب عن الاستدلال بأنّ هذه عمومات مخصّصة وإطلاقات مقيّدة بما ثبت من الأدلة الدالّة على المنع من وقوع فوق الواحدة. (١)

والأولى أن يجاب بأنّ شرط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال والإهمال ، مثلاً : لو كان المتكلّم في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي بأن يقول : الغنم حلال ، والخنزير حرام فلا يمكن أن يستدلّ بهما على حلية الغنم وإن كان جلاّلاً أو مغصوباً تمسّكاً بإطلاقه ، وقد قرر في علم الأُصول

__________________

(١) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣٢.

٨٦

انّ التمسّك بالإطلاق رهن شروط ثلاثة ، أوّلها : كون المتكلّم في مقام بيان الحيثية التي نحن بصدد استنباط حكمها ، فإذا سكت يتمسّك بالإطلاق ، وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان تلك الحيثية ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، وهذه الآيات من هذا القبيل فانّها في مقام بيان أُمور أُخرى ، فالأولى منها في مقام بيان كون المطلقة محرمة أبداً حتّى تنكح زوجاً غيره ، والثانية في مقام بيان حكم المطلقة قبل المس ومثلها الثالثة والرابعة في مقام بيان انّ للمطلقة حقّاً خاصاً باسم المتاع ، فأين هذه الموضوعات من تجويز الطلاق ثلاثاً.

والحقّ انّ إغلاق باب الاجتهاد من أواسط القرن السابع إلى يومنا هذا صار سبباً لتدهور الاستنباط ، وإلاّ فلا يخفى ضعف هذا النوع من الاستدلال على المستنبط الملمّ بالأُصول.

الاستدلال بالسنّة

استدلّ القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد بالسنّة :

١. خبر فاطمة بنت قيس

روى ابن حزم من طريق يحيى بن أبي كثير : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أنّ فاطمة بنت قيس أخبرته انّ زوجَها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلاثاً ، ثمّ انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في بيت ميمونة أُمّ المؤمنين فقالوا : انّ ابن حفص طلّق امرأته ثلاثاً فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «ليس لها نفقة ، وعليها العدّة». (١)

__________________

(١) المحلى : ١٠ / ١٧٢.

٨٧

فلو كانت التطليق ثلاثاً أمراً منكراً لأنكره النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

يلاحظ عليه : أنّ ابن حزم نقل الرواية على غير وجهها ، فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن فاطمة بنت قيس ، قالت : كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة ، وكان قد طلّقني تطليقتين ، ثمّ إنّه سار مع علي إلى اليمن حين بعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فبعث بتطليقتي الثالثة. (١)

وفي سنن الدارقطني بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أنّها أخبرته أنّها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة ، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات ، فزعمت أنّها جاءت رسول الله فاستفته في خروجها من بيتها. (٢)

وما نقله المحدثان دليل على أنّ التطليقات كانت متفرقة لا مجتمعة ، غير أنّ ابن حزم تغافل عن ذكر نص الحديث.

٢. حديث عائشة

روى ابن حزم عن طريق البخاري عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : إنّ رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجت فطلق (٣) ، فسئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أتحلّ للأوّل؟ قال : «لا حتّى يذوق عسيلتها كما ذاق الأوّل» ، فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال ، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك. (٤)

يلاحظ عليه : أنّ الرواية غير ظاهرة في أنّ التطليقات كانت مجتمعة لو لم نقل انّها ظاهرة في المتفرقة ، بشهادة وقوع الطلاق في عصر رسول الله ، وقد كان

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ٥٦٣ ، حديث ٢٦٧٨٩.

(٢) سنن الدارقطني : ٤ / ٢٩ ، كتاب الطلاق ، الحديث ٨٠.

(٣) أي طلّقها الزوج الثاني.

(٤) المحلى : ١٠ / ١٧١.

٨٨

الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. (١)

٣. حديث سهل

روى سهل بن سعد الساعدي قال : لاعن رسول الله بين الزبير العجلاني وزوجته ، فلمّا تلاعنا ، قال الزوج : إن أمسكتها فقد كذبت عليها ، فهي طالق ثلاثاً ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : لا سبيل لك عليها. (٢)

وجه الاستدلال : انّ العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه ، فطلق ثلاثاً فبين له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حكم الوقت ، وانّه ليس له أن يطلق فيه ولم يبين له حكم العدد ، ولو كان ذلك العدد محرماً وبدعة لبيّنه.

يلاحظ عليه : بأنّه من غرائب الاستدلال فانّ الزوج إذا لاعن زوجته تحرم عليه مؤبداً. (٣) فلا موضوع للنكاح والطلاق ، ولمّا كان الرجل جاهلاً بحكم الإسلام وأنّها بانت عنه باللعان من دون حاجة إلى الطلاق ، طلّقها ثلاثاً بزعم انّها زوجته على رسم الجاهلية.

وأمّا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فليس في كلامه انّه انّه صحّح قوله ـ بعد اللعان ـ فهي طالق ثلاثاً ، بل أشار إلى الحرمة الأبدية وانّها صارت محرمة على الزوج ، وقال : «لا سبيل لك عليها» ، وأين هذا من تصحيح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حكم العدد.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث ١٥.

(٢) سنن البيهقي : ٧ / ٣٢٨.

(٣) اتّفقت فقهاء المذاهب الأربع على أنّ اللعان يحرم مؤبداً فلا تحلّ له أبداً حتّى وإن أكذب نفسه ، نعم قالت الحنفية بالحرمة المؤبدة إلاّ إذا أكذب نفسه. (الفقه الإسلامي وأدلّته : ٧ / ١٧٧).

٨٩

الاستدلال بالإجماع

استدلّ القائل بالصحّة بالإجماع وانّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ ، فقال العيني في «عمدة القارئ» :

فإن قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر لا ينسخ؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟

قلت : لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنصّ ، فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور ، فإذا كان النسخ جائزاً بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى.

فإن قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم ، فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نصّ أوجب النسخ ، ولم ينقل إلينا ذلك. (١)

يلاحظ عليه : كيف يدّعي الإجماع وقد تواتر النصّ على أنّه كان على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحداً ، ومع ذلك كيف يدّعي الإجماع مع تحقّق الخلاف في المسألة وذهاب كثير من الصحابة والتابعين إلى عدم صحّة الطلاق ثلاثاً؟!

وأمّا التمسّك بسكوت الناس ، فهو لا يكشف عن وجود نصّ يدلّ على النسخ ، إذ لو كان هناك نص لأظهروه ، ويصل من السلف إلى الخلف قطعاً ، لأنّ المسألة ممّا يعمّ بها الابتلاء.

__________________

(١) عمدة القارئ : ٢٠ / ٢٢٢.

٩٠

ولو افترضنا وجود النصّ فكيف خفي في عصر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعصر الخليفة الأوّل وسنتين من عصر الخليفة الثاني؟!

الاجتهاد تجاه النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى وقد برز بين المسلمين اتّجاهان مختلفان ، وفكران متباينان ، فعليّ وسائر أئمّة أهل البيت ، كانوا يتعرّفون على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية أو رواية ، ولا يعملون برأيهم بتاتاً ، وفي قبالهم لفيف من الصحابة يستخدمون الرأي للتوصّل إلى الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه ، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش ، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نص ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص ، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته. (١)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص

__________________

(١) فجر الإسلام : ٢٣٨ ، نشر دار الكتاب.

٩١

والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانت تنبذ النص وتعمل بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ، من هذا القبيل. وإن كنتَ في ريب من ذلك ، فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه :

١. روى مسلم عن طاوس عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم. (١)

٢. وروى مسلم عن ابن طاوس عن أبيه : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال : نعم. (٢)

٣. وروى مسلم عن طاوس أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (٣)

وربما يقال : انّ هذه الرواية تخالف ما روي عن ابن عباس أنّه أفتى بوقوع الثلاث. قال أحمد بن حنبل : كلّ أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما رواه طاوس في هذه المسألة ، أعني بهم : سعيد بن جبير ومجاهد ونافع.

قال أبو داود في سننه : صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس انّ ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً فكلّهم ، قال :

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٨٤ باب الطلاق الثلاث ، الحديث ٣١. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.

(٢) صحيح مسلم : ٤ / ١٨٤ باب الطلاق الثلاث ، الحديث ٣١. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.

(٣) صحيح مسلم : ٤ / ١٨٤ باب الطلاق الثلاث ، الحديث ٣١. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.

٩٢

لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ المعتبر إنّما هو رواية ابن عباس وهي على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأمّا ما نقل عنه من الرأي وهو حجّة عليه لا على غيره ، ولو صحّ انّه أفتى على خلاف الرواية ، فلا يكون دليلاً على ضعف الرواية ، لأنّ الاحتمالات المسوّغة لترك الرواية والعدول إلى الرأي ، كثيرة منها النسيان ونظائره.

ثمّ إنّ الشوكاني بعد ما ذكر هذا الجواب قال : إنّ القائلين بالتتابع (صحّة الطلاق ثلاثاً) قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس كلّها غير خارجة عن دائرة التعسف ، والحقّ أحقّ بالاتّباع. (٢)

٤. روى البيهقي ، قال : كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس ، قال : أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ، جعلوها واحدة على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبي بكر ـ رضى الله عنه ـ وصدراً من إمارة عمر ـ رضى الله عنه ـ فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها ، قال : أجيزوهن عليهم. (٣)

٥. أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال : لمّا كان زمن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. (٤)

٦. عن طاوس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك. (٥)

__________________

(١) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣٣.

(٢) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣٤.

(٣) سنن البيهقي : ٧ / ٣٣٩ ؛ الدر المنثور : ١ / ٢٧٩.

(٤) عمدة القارئ : ٩ / ٥٣٧ ، وقال : اسناده صحيح.

(٥) كنز العمال : ٩ / ٦٧٦ ، برقم ٢٧٩٤٣.

٩٣

٧. عن الحسن : أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فألزِمُ كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه؟ من قال لامرأته : أنت عليَّ حرام ، فهي حرام ؛ ومن قال لامرأته : أنت بائنة ، فهي بائنة ؛ ومن قال : أنت طالق ثلاثاً ، فهي ثلاث. (١)

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك النصوص في المسألة ، كما إذا قال : الخمر حرام ، فيسري حكمه إلى كلّ مسكر أخذاً بروح القانون ، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص ، وانّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي ، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه ، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة نذكرها تباعاً :

تبريرات لحكم الخليفة

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره ، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد تجاه النص ، بل يكون صادراً عن دليل شرعي ، وإليك بيانه :

__________________

(١) كنز العمال : ٩ / ٦٧٦ ، برقم ٢٧٩٤٣.

٩٤

١. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ.

فان قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر ـ رضى الله عنه ـ لا ينسخ ، وكيف يكون النسخ بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟

قلت : لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار ، صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا ، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا. (١)

يلاحظ عليه أولاً : أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة ، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة ، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد؟! وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة ويقول : وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد ، واحدة ، ولم ينقض هذا الإجماع بخلافه ، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا. (٢)

وثانياً : أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ، ولو كان هناك نص عند الخليفة ، لكان التبرير به هو المتعيّن.

__________________

(١) العيني : عمدة القارئ : ٩ / ٥٣٧.

(٢) تيسير الوصول : ٣ / ١٦٢.

٩٥

وفي الختام نقول : أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفّى ١٢٩٨ ه‍) حيث قال : إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين : أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب الله تعالى أو سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يُعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسية ، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له ، أو أنّه اطّلع على دليل آخر ، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين. (١)

٢. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود الله

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس ، إلاّ عقابهم من جنس عملهم ، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود الله ، فاستشار أُولي الرأي ، وأُولي الأمر وقال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال : أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة الله ألزمناه إيّاه. (٢)

لم أجد نصّاً ـ فيما فحصت ـ في مشاورة عمر أُولي الرأي والأمر ، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة .... (٣) وهو يُعرب عن عزمه وهمّه لا عن استشارته له ، ولو كان بصدد الاستشارة ، فالأجدر به أن يستشير الصحابة من المهاجرين

__________________

(١) إيقاظ همم أُولي الأبصار : ٩.

(٢) مسند أحمد : ١ / ٣١٤ ، برقم ٢٨٧٧.

(٣) كنز العمال : ٩ / ٦٧٦ ، برقم ٢٧٩٤٤.

٩٦

والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس ، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة ، بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة ومنعة ، وكيف تصحّ مؤاخذتهم بموافقتهم في عمل أسماه رسول الله لعباً بكتاب الله؟! (١)

ثمّ إنّ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب «نظام الطلاق في الإسلام» وإن أبدى شجاعة في هذه المسألة وأفتى ببطلان الطلاق الثلاث مطلقاً واستنبط حكم المسألة من الكتاب والسنة بوجه جدير بالاهتمام ، لكنّه برّر عمل الخليفة بوجه لا يخلو من التعسّف ، وقد صدر عمّا أجاب به ابن قيم الجوزية ـ كما سيوافيك كلامه ـ يقول :

«ولم يكن هذا الإلزام من عمر تغييراً للحكم الظاهر من القرآن ، والثابت عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ انّ الطلاق لا يلحق الطلاق ، وانّ الطلقة الأُولى ليس للمطلق بعدها إلاّ الرجعة أو الفراق ، وكذلك الثانية بعد رجعة أو زواج ، وإنّما كان إلزاماً بحكم السياسة الشرعية في النظر إلى المصالح. ممّا جعل الله للحكام بعد استشارة أُولي الأمر ، وهم العلماء وزعماء الناس وعرفاؤهم ، فقد أراد عمر والصحابة أن يمنعوا الناس من الاسترسال في الطلاق ، ومن التعجل إلى بت الفراق ، فألزموا المطلق ثلاث مرات في عدّة واحدة ما ظنّه ـ أو ما رغب فيه ـ من أنّها بانت منه بمرة ، فمنعوه من رجعتها بإرادته ومن تزويجها بعقد آخر حتّى تنكح زوجاً غيره ، ولذلك قال عمر : انّه من تعجل أناة الله في الطلاق الزمناه إياه ، فجعله إلزاماً من الإمام ومن أُولي الأمر. ولم يجعله حكماً بوقوع الطلاق الذي لم يقع ، لأنّ الأحكام

__________________

(١) الدر المنثور : ١ / ٢٨٣.

٩٧

الثابتة بالكتاب والسنّة صريحاً لا يملك أحد تغييرها أو الخيار بينها وبين غيرها ، سواء أكان فرداً أم كان أُمّة مجتمعة».

يلاحظ على (١) ه‍ أوّلاً : أنّ للحاكم الإسلامي اتّخاذ سياسة مناسبة من أجل دفع المجتمع إلى ما فيه صلاحه وزجره عمّا فيه فساده.

فالتعزيرات الشرعية معظمها من هذا الباب ويشترط فيها قبل كلّ شيء أن تكون أمراً حلالاً لا حراماً ، فلا يصحّ تعزير الناس بأمر لم يشرِّعه الشارع.

وعلى ضوء ذلك فلا يمكن أن يعد إمضاء عمر للتطليقات الثلاث سياسة شرعية ، لأنّه من قبيل دفع الناس إلى ما نهاهم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عنه وحذّرهم منه وعدّه لعباً بكتاب الله حيث قال غاضباً : «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»

وثانياً : أنّ الصحابة والتابعين ومن تلاهم تلقوه تشريعاً قام به الخليفة لا حكماً تأديبياً ، ولذلك أخذوا به عبر القرون إلى يومنا هذا ، وما خالفه إلاّ النادر من أهل السنّة ، كابن تيمية في «الفتاوى الكبرى» ، وابن القيم في «اعلام الموقعين» و «إغاثة اللهفان».

والحقّ أن يقال : انّ إمضاء هذا النوع من الطلاق من قبل الخليفة بأيّ داع كان ، قد جرّ الويل والويلات على الأُسر والعائلات ، فصار سبباً لانفصام عُقَد الزوجية في عوائل كثيرة.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف تبرير ابن قيم الجوزية عمل الخليفة بقوله : إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والإجماع القديم ، ولم يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر ـ رضى الله عنه ـ أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة

__________________

(١) نظام الطلاق في الإسلام : ٨٠.

٩٨

عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة ، وحرّمت عليه ، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة ، يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم ، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه ، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصديق ، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم ، لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون الله في الطلاق ، وقد جعل الله لكلّ من اتّقاه مخرجاً ، فلمّا تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرّعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ الله شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة ، ولم يشرّعه كلّه مرّة واحدة. (١)

وبما ذكرنا حول كلام أحمد محمد شاكر يعلم ضعفه فلا نعيد.

٣. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب

وربما يقال في تبرير فعل الخليفة الثاني هو وجود الفرق بين عصر رسول الله وعصر الخليفة ، ففي عصر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان الناس في صلاح وفلاح ، وإذا قالوا : أردنا من قولنا : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، التكرير يؤخذ بقولهم ، بخلاف عصر الخليفة ، فقد فشا في عصره الفساد والكذب فكانوا يعتذرون بنفس ما كانت الصحابة يعتذرون به ، وبما انّ قسماً كثيراً منهم يكذبون في قولهم ، بالتأكيد لم يجد الخليفة بداً من الأخذ بظاهر كلامهم وهو الطلاق ثلاثاً.

وهذا الوجه نقله الشوكاني ، فقال : إنّ الناس كانوا في عهد رسول الله وعهد أبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار لم يظهر فيهم خب ولا خداع ، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد ، فلمّا رأى عمر في زمانه

__________________

(١) اعلام الموقعين : ٣ / ٣٦.

٩٩

أُموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير ، إذ صار الغالب عليهم قصدها ، وقد أشار إليه بقوله : «إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة».

ثمّ إنّ الشوكاني ردّه ـ بعد نقله ـ حيث قال : وقد ارتضى هذا الجواب القرطبي ، وقال النووي : إنّه أصحّ الأجوبة ، ولا يخفى انّ ما جاء بلفظ يحتمل التأكيد وادعى انّه نواه يُصدَّق في دعواه ولو في آخر الدهر فكيف بزمن خير القرون ومن يليهم؟!

وإن جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادّعى التأكيد من غير فرق بين عصر وعصر. (١)

أقول : إنّ هذا التبرير ـ بالإضافة إلى ما ذكره الشوكاني ـ من قبيل دفع الفاسد بالأفسد ، وقد زاد في الطين بلّة ، حيث إنّ المجيب حاول أن يبرر عمل الخليفة ويبرّئه من الخطأ ولو على حساب كرامة قسم من الصحابة والتابعين ، حيث إنّ كثيراً منهم كان يرجع إلى الخليفة ، فكيف يرميهم بالكذب والخداع؟!

وفي الختام نأتي بكلمة قيمة للشوكاني ، فانّه بعد ما ذكر أدلّة القائلين بوقوع الطلاق ثلاثاً ، وتأويل رواية ابن عباس ، وتبرير عمل الخليفة ، قال : فإن كانت تلك المماشاة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تُؤثَر على السنّة المطهرة ، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله ، فأيّ مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى؟! (٢)

__________________

(١) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣٣.

(٢) نيل الأوطار : ٦ / ٢٣٤.

١٠٠