الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

وثانياً : أنّ الغاية من الاجتهاد تارة يكون تحصيل العلم بالحكم الشرعي وأُخرى تحصيل الحجّة القطعية عليه ، وكون الشيء حجّة قطعية لا يلازم كون مفاده قطعياً وعلماً واقعياً بالحكم الشرعي ، كما في الخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام ، فقد قام الدليل القطعي على حجّيته ، فهو حجّة قطعاً ومع ذلك لا يفيد العلم بالحكم الشرعي.

وأفضل التعاريف ما عرّفه الشيخ بهاء الدين العاملي في «زبدة الأُصول» وقال : بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل ، فعلاً أو قوّة قريبة من الفعل. (١)

وقوله : «فعلاً أو قوة» قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعلية الملكة.

نعم يرد عليه : انّ الغاية من الاجتهاد أعمّ من استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية ، كالبراءة والاشتغال عند اليأس عن الدليل الاجتهادي.

٢. الاجتهاد المطلق والاجتهاد في مذهب خاص

المراد من الاجتهاد المطلق هو أن يجتهد على وفق الأُصول والمعايير التي حصلها قبل الاستنباط واعتمد عليها في علم الأُصول وغيره وأثبت حجّيتها.

وبعبارة أُخرى : أن يستنبط الحكم الشرعي على وفق المنهاج الذي اختاره بنفسه ، والمراد من الاجتهاد في المذهب هو الاجتهاد على وفق الأُصول التي قررها إمام مذهبه ويلتزم بمنهاجه وأُصوله التي اعتبرها.

نعم ربما يخالف الواحد منهم مذهب إمامه في بعض الأحكام الفرعية ،

__________________

(١) زبدة الأُصول : ١٥٠ ، المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد.

٦٠١

ومن هؤلاء الحسن بن زياد من الحنفية ، وابن القاسم وأشهب من المالكية ، والبويطي والمازني من الشافعية. (١)

ثمّ إنّ مهمة الصنف الثاني تتلخص في الأُمور التالية التي ذكرها «عبد الوهاب خلاف» في كتابه بالنحو التالي :

١. الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها عن إمام المذهب وفق الأُصول المجعولة من قبله وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع ، كالخصاف والطحاوي والكرخي من الحنفية ، واللخمي وابن العربي وابنُ رشيد من المالكية ، والغزالي والاسفراييني من الشافعية.

٢. الاجتهاد الذي لا يتجاوز تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض أقوال الأئمّة وأحكامهم ، كالجصاص وأضرابه من علماء الحنفية.

٣. اجتهاد أهل الترجيح بمعنى الموازنة بين ما روي عن أئمّتهم من الروايات المختلفة ، وترجيح بعض على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية ، كأن يقول المجتهد منهم : هذا أصحّ رواية وهذا أولى النقول بالقبول ، أو هذا أوفق للقياس أو أرفق للناس ، ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية. (٢)

٣. لزوم فتح باب الاجتهاد

إنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه يحفظ غضاضة الدين

__________________

(١) خلاصة التشريع الإسلامي : ٣٤٢

(٢) خلاصة التشريع الإسلامي : ٣٤٢.

٦٠٢

وطراوته ، ويجدّده ويصونه عن الاندراس ، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب ، بإعطائه كلّ موضوع ما يقتضيه من حكم.

أمّا لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل ، إذ نحن في زمن تتوالى فيه الاختراعات والصناعات ، وتستجدّ الحوادث التي لم يكن لها مثيل فيما غبر ، وتجعلنا هذه المجالات امام أحد أُمور :

إمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة ، من الأُصول والقواعد الإسلامية أو اتّباع المبادئ الأُوروبية ، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة ، وإمّا الوقوف من غير إعطاء حكم. (١)

وليس الاجتهاد من البدع المحدثة ، فانّه كان مفتوحاً في زمن النبوة وبين أصحابه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فضلاً عن غيرهم وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده ، نعم غايته انّ الاجتهاد يومئذ كان خفيف المئونة جدّاً لقرب العهد وتوفر القرائن وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع ، ثمّ كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات ، ربّما قد دخل فيها الدسّ والوضع ، وتوفرت دواعي الكذب على النبي ، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي ، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المئونة واستفراغ الوسع. (٢)

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة ، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء ، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس ، وأغنوا بذلك الأُمّة الإسلامية في كلّ مصر وعصر ، عن التطلّع إلى موائد الغربيّين ، وألّفوا مختصرات ومطوّلات لا يحصيها إلاّ الله سبحانه.

__________________

(١) رسالة الإسلام : السنة الثالثة ، العدد الثاني عن مقال أحمد أمين المصري.

(٢) أصل الشيعة وأُصولها : ١١٩.

٦٠٣

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الأُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم الذين حثُّوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه ، وانّه «مَن لم يتفقه فهو اعرابي» ، وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة من الآيات والقواعد المتلقاة عنهم ، بالتدبّر فيهما ، وأمروا أصحابهم بالتفريع ، وقد بلغت عنايتهم بذلك إلى حد دفعهم إلى تنصيب بعض من يعبأ بقوله ورأيه ، لمنصب الإفتاء ، إلى غير ذلك.

غير انّ أهل السنّة قد أقفلوا باب الاجتهاد إلاّ الاجتهاد في مذهب خاص ، وبما انّ الفتاوى المنقولة عن الأئمّة مختلفة ، أخذ علماء كلّ مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كلّ إمام في هذا الباب.

ولا أدري لما ذا أقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وإن تفلسف في بيان وجهه بعض الكتّاب من متأخّريهم ، وقال : ولم يكن مجرّد إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء وإصدار قرار منهم ، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ، ذلك انّهم رأوا غزو التتر لبغداد وعسفهم بالمسلمين ، فخافوا على الإسلام ، ورأوا انّ أقصى ما يصبون إليه هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمة ممّا وضعوه واستنبطوه. (١)

ولا يخفى ما في اعتذاره من الإشكال ، وسوف يوافيك بيان الأسباب الّتي أدّت إلى الاغلاق.

وأمّا زمان إقفاله فيظهر من المقريزي في خططه انّه أقفل عام ٦٦٥ ه‍ ، قال :

إنّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة ١٧٠ إلى ان صار قاضي القضاة ، فكان لا يولّي القضاء إلاّ من أراده ، ولمّا كان هو من

__________________

(١) رسالة الإسلام : العدد الثالث من السنة الثالثة عن مقال أحمد أمين المصري.

٦٠٤

أخصّ تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرهما إلاّ من كان مقلّداً لأبي حنيفة ، فهو الذي تسبّب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي أوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في إفريقية المغرب ، بسبب زياد بن عبد الرحمن ، فانّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة ١٦٠ ه‍ ـ هو عبد الرحمن بن القاسم.

قال : ونشر مذهب محمد بن إدريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة ١٩٨ وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد «جوهر» بجيوشِ مولاه المعز لدين الله أبي تميم معد الخليفة الفاطمي إلى مصر سنة ٣٥٨ فشاع بها مذهب الشيعة حتّى لم يبق بها مذهب سواه (أي سوى مذهب الشيعة).

ثمّ إنّ المقريزي بيّن بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يُولّ قاض ولا قُبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها والعمل على هذا ، إلى اليوم. (١)

وهذه الكلمة أعني : «وتحريم ما عداها» تكشف عن أعظم المصائب التي واجه بها الإسلام ، حيث إنّه قد مضى على الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّ ربهم ، ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ، وفيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى

__________________

(١) راجع الخطط المقريزية : ٢ / ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٤٤.

٦٠٥

الأحكام الفرعية في غاية من السعة والحرية ، كان يقلّد عامّيهم من اعتمد عليه من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامّة المسلمين : «العامّي المقلّد والفقيه المجتهد» أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمة الأربعة؟! وبأي دليل شرعي صار اتّباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً ، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدّم بعضها على غيرها ، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة ، كما أوضح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ، ص ٢١٦ في وقائع سنة ٦٤٥ ، يعني قبل انقراض بني العباس بإحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو ، سنة ٦٥٦ ، فلاحظ ذلك الكتاب. (١)

وقد خلّف هذا الوضع أثراً سلبياً عجيباً ، وهو انّ انتصار كلّ حاكم من الحكام لمذهب من المذاهب ، صار سبباً لانقراض كثير من المذاهب ؛ كمذهب سفيان الثوري ، وسفيان بن عينية ، وعبد الله بن مبارك ، وابن عمر ، والأوزاعي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وليث بن سعد ، وداود بن علي ، وأبي ثور ، وابن جرير الطبري ، وغيرهم.

فقد كانت الدولة العباسية تثبّت دعائم مذهب أبي حنيفة ، فيولّى القضاء من كان متّبعاً لهذا المذهب ، ولمّا استولى الفاطميون على مصر نشروا المذهب الإسماعيلي ومنعوا التفقّه على مذهب أبي حنيفة ، لأنّه مذهب الدولة العباسية وسمحوا بالتفقّه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي.

__________________

(١) رسالة الاجتهاد للطهراني : ١٠٤.

٦٠٦

٤. ما هي العوامل التي سببت الإغلاق؟

ثمّ إنّ المهم هو كشف العوامل التي سبّبت إغلاق باب الاجتهاد. فقد ذكر الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء عوامل ثلاثة نأتي بها بنصها :

أ. التعصّب المذهبي

فقد تعصّب التلاميذ لآثار أساتذتهم من الأئمّة المجتهدين الّذين أناروا العصر السابق ، وكشفوا ظلمات المسائل بنور عقولهم الساطع.

إنّ التعصّب لفكرة تحمل الإنسان على الجمود عليها والتعلّق بأهدابها ، ودعوة الناس إليها دون سواها ، وهكذا فعل أُولئك الذين جاءوا بعد الأئمة السابقين ، فقد عنوا بدراسة مذاهبهم ونشرها بدلاً من السير على منهاجها ، والاجتهاد كما اجتهد أصحابها ، فوثق الناس بالسابقين وشكّوا في أنفسهم.

ب. ولاية القضاء

فقد كان الخلفاء يختارون القضاة أوّل الأمر من المجتهدين لا من مقلّديهم ، ولكنّهم فيما بعدُ آثروا اختيارهم من المقلّدين ، ليقيدوهم بمذهب معين ، ويعيّنوا لهم ما يحكمون على أساسه بحيث يكونون معزولين عن كلّ قضاء يخالف ذلك المذهب ، ولأنّ بعض القضاة المجتهدين كان يتعرض الفقهاء المذهبيون لتخطئته ، فيكون حكمه مثاراً لنقد الناس لا سبب اطمئنان لهم.

وهكذا كان تقيّد القاضي بمذهب يرتضيه الخليفة سبباً في اكتفاء أكثر الناس به وأقبالهم عليه.

٦٠٧

ج. تدوين المذاهب

إنّ تدوينها قد سهل على الناس تناولها ، والناس دائماً يطلبون السهل اليسير دون الصعب العسير ، وقد كان يدفع الناس إلى الاجتهاد في العصور السابقة ضرورة ملجئة إلى تعرّف أحكام حوادث وشئون جديدة لا يعرفون حكمها الشرعي.

فلمّا جاء المجتهدون في الأدوار السابقة ودوّنوا أحكام الحوادث التي عرضت والتي يحتمل عروضها ، صار الناس كلّما عرضت لهم مسألة وجدوا السابقين قد تعرّضوا لها ، فاكتفوا بمقالهم في شأنها ، فسدّت حاجتهم بما وجدوا ، فلا حافز يحفزهم إلى بحث جديد.

وساعد على ذلك ما للأقدمين من موقع علمي كبير جدير بالتقدير ، وما يكسبهم تفوقهم على مضي الزمن من إجلال ، وما يكون من عناية الأُمم بتكريم سلفها الصالح ليرتبط حاضرها بماضيها برباط متين.

لهذا كلّه انصرف الناس إلى التقليد ، اللهمّ إلاّ في تعرّف علل الأحكام المذهبية ، أو ترجيح بعض الآراء في المذهب نفسه على غيرها.

ويسمّى من أُوتي القدرة العلمية على ذلك : مجتهداً في المذهب ، أي انّه ليس مجتهداً مطلقاً ذا مذهب مستقل ، بل هو من أتباع إمام مجتهد ، ولكنّه ذو رأي معتبر في ضمن مذهب إمامه ، وفي البناء على أُصوله. (١)

هذه العوامل الثلاثة وإن سببت ركود الحركة الاجتهادية ، ولكنّها عوامل جانبية على ما يبدو ، بل هناك سبب آخر وهو المهم في شلِّ الحركة العلمية الفقهية ، وهو تأثير السياسة التي اتّخذها القادر بالله الخليفة العباسي للحد من

__________________

(١) المدخل الفقهي العام : ١ / ١٧٩١٧٧.

٦٠٨

نشاط الحركة الاجتهادية حيث تصدّى للخلافة ما يقرب عن ٤١ عاماً. (١) ساد في هذه الفترة الطويلة فكرة التقشّف والتنسّك وذم الفكر والاجتهاد في الدين ، ويعرف ذلك عن ما ذُكر من حالاته وأفعاله ، فقد عرفوا القادر بالله بأنّه : صنّف كتاباً ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز ، وأفكار المعتزلة ، والقائلين بخلق القرآن ، وكان الكتاب يقرأ في كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ، ويحضر الناس سماعه ، ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني انّ القادر بالله كان يلبس زي العوام ويقصد الأماكن المعروفة بالبركة ، كقبر معروف وتربة ابن بشار. (٢)

وقد بلغ كبح جماح الفكر حداً انّه استتاب القادر بالله سنة ٤٠٨ ه‍ ـ فقهاء المعتزلة والحنفية ، فأظهروا الرجوع وتبرّءوا من الاعتزال ، ثمّ نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام ، وأخذ خطوطهم بذلك وانّهم متى خالفوه حلّ بهم من النكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم ، وامتثل يمين الدولة وأمين الملّة أبو القاسم محمود أمرَ أمير المؤمنين ، واستنّ بسننه في أعماله التي استخلفه عليها في خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم ، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين ، وإبعاد كلّ طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم ، وصار ذلك سنّة في الإسلام. (٣)

فإذا كان هذا حال أمير المؤمنين وحال وزيره في أصقاع كبيرة من الأرض

__________________

(١) بويع بالخلافة عام ٣٨١ ه‍ ـ وتوفّي عام ٤٢٢ ه‍. لاحظ المنتظم : ١٤ / ٣٥٣ و ١٥ / ٢١٧.

(٢) المنتظم : ١٤ / ٣٥٤.

(٣) المنتظم : ١٥ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٦٠٩

كخراسان ، فكيف يستطيع أيّ متكلم بارع أو فقيه متضلّع أن يفكّر في تجديد الهيكلية الفقهية أو العقائدية ، أو يطرح وجهات نظره الخاصة ، إذ لا يؤمن من أن يؤخذ باتّهام مخالفته لأهل السنّة والجماعة ، فينكل به أو يحبس أو يصلب على أعواد المشانق؟!

وقد مضى انّه كتب كتاباً عرف باسم «الاعتقاد القادري» ، وكأنّه وحي منزل يجب أن يقرأ في كلّ جمعة ، وقد امتد ذلك طول خلافته الطويلة ، ومع أنّه توفّي عام ٤٢٢ ه‍ ، ولكن السياسة التي ابتدعها للدولة دامت بعد موته في خلافة ابنه القائم بأمر الله ، وهذا هو ابن الجوزي يذكر في حوادث عام ٤٣٣ ه‍ ـ انّه قرأ الاعتقاد القادري في الديوان ، وحضر الزهّاد والعلماء ، وممّن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه : إنّ هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر ، ثمّ ذكر نص الاعتقاد القادري. (١)

ويقول في آخره : هذا هو قول أهل السنّة والجماعة الذي من تمسّك به كان على الحق المبين ، وعلى منهاج الدين ، والطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ودخوله الجنة. (٢)

وقد ذكر عبد الوهاب خلاف في «خلاصة التشريع الإسلامي» عوامل أربع ربما تتداخل بعض ما ذكره فيما نقلناه عن الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء ، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى «خلاصة التشريع الإسلامي». (٣)

__________________

(١) المنتظم : ١٥ / ٢٧٩ ، حوادث سنة ٤٣٣ ه‍.

(٢) المنتظم : ١٥ / ٢٨١.

(٣) خلاصة التشريع الإسلامي : ٣٤١ وما بعدها.

٦١٠

٥. اجتهاد الشيعة اجتهاد مطلق

إنّ اجتهاد فقهاء الشيعة من أوّل يومهم ، اجتهاد مطلق ، وكلّ مجتهد ، يجتهد حسب الميزان والمنهاج الذي انتخبه.

لكن يظهر من الشيخ أبي زهرة انّ اجتهاد الشيعة ، من قبل الاجتهاد المنتسب (الاجتهاد في مذهب خاص) ، وذلك لأنّ اجتهادهم حسب ما رسمت لهم المناهج من بيان أحكام النسخ والعموم ، وطريق الاستنباط والتعارض بين الأخبار وحكم العقل وإن لم يكن نصّ ، وكلّ هذا يقتضي أن يطبق في اجتهاده ، لا أن يرسم ويخطِّط ، فهو يسير في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه ولا يبتعد عنه يمنة ولا يسرة ، وبهذا النظر يكون في درجة المجتهد المنتسب. (١)

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : أنّ قسماً من الخطط التي يسر عليها مجتهد الشيعة ومستنبطهم ، أمر حصّله من الكتاب والسنّة النبوية القطعية والسيرة المستمرة إلى عهد الرسول والعقل الحاسم إلى غير ذلك من الأُمور التي تكون السنة والشيعة أمامها سواء.

وثانياً : أنّ الخطط الكلّية التي أخذوها عن أئمّة أهل البيت انّما وصلت إليهم عن النبي ، فهم حفظة سنّة النبي وعيبة علمه ، وأعدال الكتاب وقرناؤه ، معصومون من الضلال والخطأ كنفس القرآن من دون أن يكونوا أنبياء ، وهم يصدرون من عين صافية ، لا كدر فيها ، ومن أخذ عنهم فقد صدر أيضاً عن عين صافية. غير أنّ أبا زهرة زعم انّ أئمّة أهل البيت ، مجتهدون كالأئمّة الأربعة أو غيرهم ، لهم آراء وتفكّرات ، شأن كلّ عالم مفكّر ، ورتّب على ذلك بأنّ اجتهاد فقهاء

__________________

(١) الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ : ٥٤٠.

٦١١

الشيعة اجتهاد في مذهب وليس اجتهاداً مطلقاً ......... لكنّه زعم خاطئ ، يضاد كلماتهم وإرشاداتهم ، كما مرّ في صدر البحث فما رسموا من الخطوط ، والضوابط ، فإنّما هو مقتبس من أحاديث الرسول ، وكلماته رواها كابر عن كابر.

(الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات)

نحمده سبحانه ونشكره ونستعين به ونصلّي على

خاتم أنبيائه وخلفائه الطاهرين

فرغ المؤلّف من تبييض هذه الأوراق

عشية يوم العشرين من شهر رمضان المبارك

من شهور عام ١٤٢٣ ه

٦١٢

فهرس محتويات الكتاب

المسائل الخلافيّة ودورها في الاستنباط ...................................... ٥

الكتب المؤلّفة في الخلافيّات من السنة...................................... ٧

الكتب المؤلّفة في الخلافيّات من الشيعة..................................... ٩

ما هو السبب لاختلاف فقهاء السنة فيما بينهم.......................... ١١

ما هو سبب الاختلاف بين الفقهين: الشيعي والسني....................... ١١

الفتوى التاريخية للإمام الشيخ الشلتوت................................... ١٦

(١٣)

الخمس في الكتاب والسنّة

الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان........................................ ١٩

ورود الآية في مورد الغنائم الحربيّة غير مخصص............................. ٢٣

وجوب الخمس في الركاز من باب الغنيمة.................................. ٢٣

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز...................................... ٢٧

٦١٣

السنة النبوية والخمس في أرباح المكاسب ................................. ٣٠

إيضاح الاستدلال على تعلق الخمس بالأرباح ............................. ٣٣

(١٤)

مواضع الخمس

في القرآن الكريم

الخمس حسب تنصيص الآية يقسم على ستة أسهم....................... ٣٩

مواضع الخمس في السنة................................................ ٤١

اسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسولصلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم............ ٤٣

اسقاط سهم ذي القربى كان اجتهاداً تجاه النصّ........................... ٤٤

(١٥)

الاشهاد على الطلاق

دلالة الآية على لزوم الإشهاد في صحة الطلاق ........................... ٥٢

تصريح علمين من أهل السنة على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق ........... ٥٣

رجوع الاشهاد في الآية إلى الطلاق دون الرجعة............................ ٥٥

رسالة الشيخ أحمد محمد شاكر إلى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في رجوع الاشهاد إلى الطلاق والرجعة معا      ٥٨

إجابة الشيخ كاشف الغطاء على رسالته.................................. ٥٩

٦١٤

(١٦)

الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة

بصيغة أو ثلاث صيغ

مضاعفات تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة............................. ٦٣

نقل كلام الشيخ أحمد محمد شاكر في الموضوع............................. ٦٤

أقوال الفقهاء في الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد ............................  ٦٦

دراسة الآيات الواردة في المقام ........................................... ٦٩

تفسير قوله:(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)....................... ٧١

١. الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً بقوله: (الطلاق مرّتان)........ ٧٦

٢. الاستدلال على البطلان بقوله(فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان) ٨١

٣. الاستدلال على البطلان بقوله(فطلّقوهنّ لعدتهنّ)................. ٨٣

٤. الاستدلال على البطلان بقوله : (لعل الله يحدث بذلك أمراً)...... ٨٤

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً عن طريق السنّة ...................... ٨٤

استدلال القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً بالسنة والإجماع ونقده ................. ٨٦

اجتهاد الخليفة تجاه النصّ .............................................. ٩١

تبريرات لحكم الخليفة .................................................  ٩٤

١. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النصّ ........................ ٩٥

٢. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللّه................................ ٩٦

٣. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب ............................. ٩٩

٦١٥

٤. تغير الأحكام بالمصالح......................................... ١٠١

٥. تفسير تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان..................... ١٠٣

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع ....................................... ١٠٨

(١٧)

الطلاق المعلّق

تقسيم الطلاق إلى منجَّز ومعلَّق ....................................... ١١٥

أدلّة القائل ببطلان الطلاق المعلق: ..................................... ١١٧

١. الطلاق المشروط غير مسنون ................................... ١١٧

٢. مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية .............................. ١١٧

٣. الطلاق المعلّق خارج عن القسمين(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) ١١٩

٤. تلك المطلقة أشبه بالمعلقة ...................................... ١١٩

٥. إجماع أئمّة أهل البيت على البطلان ............................. ١٢٠

أدلّة القائلين بالصحة ............................................. ١٢١

١. إطلاق قوله: الطلاق مرّتان ونقده (الطلاق مرّتان) ................ ١٢١

٢. إطلاق قوله: المسلمون عند شروطهم ونقده ...................... ١٢٢

(١٨)

الحلف بالطلاق

ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة ......................................... ١٢٧

٦١٦

تسويد الصفحات الطوال حول أقسام الحلف بالطلاق ................... ١٢٨

بطلان الحلف بالطلاق عند البعض من أهل السنة ....................... ١٢٩

بطلان الطلاق بالحلف به عند الإمامية وأدلته ........................... ١٣٢

دليل القائلين بالصحّة ونقده .......................................... ١٣٣

خاتمة المطاف: هل تتعلّق الكفّارة إذا حنث ............................. ١٣٥

(١٩)

الطلاق في الحيض والنفاس

أو في طهر جامعها

تقسيم الطلاق إلى سنّي وبدعيّ ....................................... ١٣٩

تفسير شرطية الطهر في الطلاق السني .................................. ١٤٠

نقل كلمات الفقهاء ................................................. ١٤٠

ما هو المراد من القرء في قوله (والمطلّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)... ١٤١

عدم احتساب الحيضة على فرض الطلاق فيها من العدة عند الجميع ....... ١٤٢

الاستدلال بالكتاب على شرطيّة الطهر ................................. ١٤٣

الاستدلال بالسنة على شرطيّة الطهر .................................. ١٤٥

الروايات الواردة حول طلاق عبد اللّه بن عمر على طوائف ثلاث .......... ١٤٦

١. ما دلّ على عدم الاعتداد بالطلاق في الحيض .................... ١٤٦

٦١٧

٢. ما يتضمن التصريح باحتسابها .................................. ١٤٦

٣. ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين................................ ١٤٧

معالجة الصور المتعارضة ............................................... ١٤٨

حكم الطلاق في طهر المواقعة ......................................... ١٥١

دلالة الكتاب على عدم صحّة الطلاق في ذلك الطهر ................... ١٥٢

(٢٠)

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفاق الإمامية على انّ الوصية للوارث جائزة ............................. ١٥٧

اتّفاق أهل السسنة إلاّ القليل على انّه لا وصية للوارث إلاّ إذا أجاز سائر الورثة ١٥٨

عرض المسألة على الكتاب والسنّة ودلالتها على نفوذ الوصية ............. ١٦٠

هل آية الوصية منسوخة ب آية المواريث ونقدها ......................... ١٦٠

هل آية الوصية منسوخة بالسنة ونقدها ................................. ١٦٦

دراسة سند رواية أبي أمامة الباهلي وجود مجاهيل فيه ..................... ١٦٧

ملاحظات على تجويز نسخ الآية بالسنة ................................ ١٧٧

(٢١)

المسلم يرث الكافر دون العكس

توريث الكافر من المسلم باطل إجماعاً .................................. ١٨٣

٦١٨

توريث المسلم من الكافر صحيح عند الإمامية وبيانه ضمن أُمور ........... ١٨٤

استعراض كلمات الفقهاء ............................................. ١٨٥

الكتاب حجّة قطعية لا يعدل عنه إلاّ بدليل قطعي ...................... ١٨٧

أدلّة القائلين بإرث المسلم من الكافر ................................... ١٨٩

أدلّة القائلين بعدم التوريث ونقدها ..................................... ٢٠٠

(٢٢)

الميراث بالقرابة

أو بالتعصيب

العَصَبة في اللغة والاصطلاح .......................................... ٢١١

أقسام العصبة ....................................................... ٢١٢

أقسام نسبة الفروض مع مجموع التركة .................................. ٢١٣

إيضاح التوريث بالتعصيب ............................................ ٢١٤

ضابطة الميراث عند الفريقين ........................................... ٢١٥

عدم الثمرة فيما إذا كان قريب مساو لا فرض له ........................ ٢١٦

ترتب الثمرة إذا لم يكن قريب مساو لا فرض له ......................... ٢١٨

دراسة أدلة نفاة التعصيب من الكتاب ................................. ٢٢٠

دراسة أدلة نفاة التعصيب من السنة ................................... ٢٣٠

الأحاديث المأثورة من أئمّة أهل البيت في نفي التعصيب .................. ٢٣٢

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب من الكتاب ونقدها ....................... ٢٣٥

٦١٩

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب من السنة ونقدها ........................ ٢٣٨

مضاعفات القول بالتعصيب .......................................... ٢٤٧

(٢٣)

العول في الإرث

العول لغة واصطلاحاً ................................................ ٢٥١

العول تاريخياً ........................................................ ٢٥٢

الأقوال المطروحة في العول ............................................. ٢٥٥

ذكر نماذج من صور العول ............................................ ٢٥٧

أدلة القائلين بصحّة العول ............................................ ٢٦٠

١. قياس الحق بالدين ونقده ....................................... ٢٦٠

٢. قياس الإرث بالوصية ونقده .................................... ٢٦١

٣. تقديم البعض على البعض ترجيح بلا مرجح ونقده ................. ٢٦٢

٤. قول علي عليه السَّلام في المسألة المنبرية وإيضاحه.................. ٢٦٣

أدلّة القائلين ببطلان العول ........................................... ٢٦٦

استلزام العول نسبة الجهل أو العبث إلى المشرّع .......................... ٢٦٦

استلزامه التناقض والاغراء بالجهل ...................................... ٢٦٧

استلزامه تفضيل النساء على الرجال .................................... ٢٦٨

تصريح أئمّة أهل البيت على بطلان العول .............................. ٢٦٩

٦٢٠