الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

حجّة على مخالفيهم ، وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل. (١)

إنّ اتّفاق أهل المدينة على حكم شرعي ليس بأقوى من إجماع علماء عصر واحد على حكم شرعي ، فكما أنّ الثاني لا يكون حجّة على المجتهد ولا يمكن أن يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهكذا اتّفاق أهل المدينة خاصة انّ عنصر الاتّفاق تم على تقليد بعضهم البعض ، فالاحتجاج بهذا الاتفاق ونسبته إلى الشارع بدعة وإفتاء بما لم يعلم أنّه من دين الله.

نعم لو كان اتفاقهم ملازماً للإصابة خاصة في العصور الأُولى ، فيؤخذ به لحصول العلم ، وأنّى للمجتهد إثبات تلك الملازمة ، أو لو كشف اتّفاقهم عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا يمكن أن يحتج به.

وحصيلة البحث : أنّ اتّفاق أهل المدينة أو اتّفاق المصرين : الكوفة والبصرة رهن وجود الملازمة العادية بين الاتّفاق وإصابته للواقع ، أو بين الاتّفاق ووجود دليل معتبر وإلاّ فلا قيمة لاتّفاق غير المعصوم قليلاً كان أو كثيراً.

__________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام : ١ / ٣٠٢ ـ ٣٠٥.

٥٨١

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

٨ ـ إجماع العترة (١)

كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي وتعرض لمنابع الفقه والأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وحجّية أقوالهم فضلاً عن حجّية اتّفاقهم ، وذلك بعين الله بخس لحقوقهم ، وحيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة على حجّية أقوالهم فضلاً عن اتّفاقهم على حكم من الأحكام ، كقوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٢)

والاستدلال بالآية على عصمة أهل البيت وبالتالي حجية أقوالهم رهن أُمور :

الأوّل : الإرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية ، والفرق بين الإرادتين واضحة ، فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير

__________________

(١) وهو نفس تعبير الطوفي في رسالته. وإلاّ فالحجّة عندنا قول أحد العترة فضلاً عن إجماعهم وبما انّا قدمنا بعض الكلام في حجية قول العترة الطاهرة في الفصل الثاني من فصول جذور الاختلاف اختصرنا الكلام في المقام.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٥٨٢

اختصاص بأئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ كما قال سبحانه : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). (١)

فلو كانت الإرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص والحصر وجه مع انّا نجد فيها تخصيصاً بوجوه خمسة :

أ: بدأ قوله سبحانه بحرف (إِنَّما) المفيدة للحصر.

ب : قدّم الظرف (عَنْكُمُ) وقال : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ولم يقل ليذهب الرجس عنكم لأجل التخصيص.

ج : بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص ، وقال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أخصّكم.

د : أكد المطلوب بتكرير الفعل ، وقال : (وَيُطَهِّرَكُمْ) تأكيداً (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

ه : أرفقه بالمفعول المطلق ، وقال : (تَطْهِيراً).

كلّ ذلك يؤكد انّ الإرادة التي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة التي تعلّقت بعامة المكلّفين.

ونرى مثل هذا التخصيص في مريم البتول قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). (٢)

الثاني : المراد من الرجس كل قذارة باطنية ونفسية ، كالشرك ، والنفاق ، وفقد الإيمان ، ومساوئ الأخلاق ، والصفات السيئة ، والأفعال القبيحة التي يجمعها الكفر والنفاق والعصيان ، فالرجس بهذا المعنى أذهبه الله عن أهل البيت ، ولا شكّ انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعنى يكون معصوماً من الذنب بإرادة منه سبحانه ،

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) آل عمران : ٤٢.

٥٨٣

كيف وقد ربّاهم الله سبحانه وجعلهم هداة للأُمة كما بعث أنبياءه ورسله لتلك الغاية.

الثالث : المراد من أهل البيت هو علي وفاطمة وأولادهما ، لأنّ أهل البيت وإن كان يطلق على النساء والزوجات بلا شك ، كقوله سبحانه : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). (١) ولكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير نساء النبي وأزواجه وذلك بوجهين :

أ: نجد انّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهن بصيغة جمع المؤنث ولا يذكرهن بصيغة الجمع المذكر ، فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية ٢٨ إلى الآية ٣٤ باثنين وعشرين ضميراً مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي ، وإليك الإيعاز بها :

١. كُنْتُنّ ، ٢. تُرِدْنَ ، ٣. تَعالَيْنَ ، ٤. أُمتّعكُنّ ، ٥. أُسرّحْكُنَّ. (٢)

٦. كُنْتُنَّ ، ٧. تُرِدْنَ ، ٨. مِنْكُنَّ. (٣)

٩. مِنْكُنَّ. (٤)

١٠. مِنْكُنَّ. (٥)

١١. لَسْتُنَّ ، ١٢. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، ١٣. فَلا تَخْضَعْنَ ، ١٤. قُلْنَ. (٦)

١٥. قَرنَ ، ١٦. فِي بُيُوتِكُنَّ ، ١٧. تَبَرَّجْنَ ، ١٨. أَقِمْنَ ، ١٩. آتِينَ ، ٢٠. أَطِعْنَ اللهَ. (٧)

__________________

(١) هود : ٧٣.

(٢) الأحزاب : ٢٨.

(٣) الأحزاب : ٢٩.

(٤) الأحزاب : ٣٠.

(٥) الأحزاب : ٣١.

(٦) الأحزاب : ٣٢.

(٧) الأحزاب : ٣٣.

٥٨٤

٢١. اذكُرْنَ ، ٢٢. في بُيُوتِكُنَّ. (١)

وفي الوقت نفسه عند ما يذكر أئمة أهل البيت في آخر الآية ٣٣ يأتي بضمائر مذكّرة ويقول : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ) ... (وَيُطَهِّرَكُمْ) فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع إلى موضوع آخر ، أي من نساء النبي إلى أهل بيته ، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نساءه.

ب : انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتى يتعيّن المنظور منه باسمه ورسمه ولم يكتف بذلك ، بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ومنع من دخول غيرهم.

ولم يقتصر على هذين الأمرين (ذكر الأسماء وجعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة إلى ثمانية أشهر يقول : الصلاة ، أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد تضافرت الروايات على ذلك ، ولو لا خوف الإطناب لأتينا بكلِّ ما روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ولكن نذكر من كلّ طائفة نموذج.

أمّا الطائفة الأُولى : أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نزلت الآية في خمسة : فيّ وفي علي رضي‌الله‌عنه وحسن رضي‌الله‌عنه ، وحسين رضي‌الله‌عنه ، وفاطمة رضي الله عنها ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد رويت روايات كثيرة في هذا المجال ، فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري والدر المنثور للسيوطي.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٤.

٥٨٥

وأمّا الطائفة الثانية : فقد روى السيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما معه ، ثمّ جاء علي فأدخله معه ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

ولو لم نذكر فاطمة في هذا الحديث ، فقد جاء في حديث آخر ، حيث روى السيوطي ، قال : واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن سعد ، قال : نزل على رسول الله الوحي ، فأدخل علياً وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ، قال : اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي.

وفي حديث آخر جاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى فاطمة ومعه حسن وحسين ، وعلي حتى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأمّا الطائفة الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (١)

والروايات تربو على أربع وثلاثين رواية ، رُوِيتْ من عيون الصحابة ؛ أبو سعيد الخدري ، أنس بن مالك ، ابن عباس ، أبو هريرة الدوسي ، سعد بن أبي وقاص ، واثلة بن الأسقع ، أبو الحمراء ، أعني : هلال بن حارث ، وأُمهات المؤمنين :

__________________

(١) وللوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ : تفسير الطبري : ٢٢ / ٧٥ ، والدر المنثور : ٥ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

٥٨٦

عائشة وأُمّ سلمة. (١)

فعلى ضوء هذا فأئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ معصومون من الذنب ، قولاً وفعلاً فيكون قولهم كاتفاقهم حجّة وإن غاب هذا الأمر عن أكثر إخواننا أهل السنّة.

نعم قد عدّ نجم الدين الطوفي (المتوفّى ٧١٦ ه‍) إجماع العترة الطاهرة من مصادر التشريع الإسلامي كما أنهاها إلى ١٩ مصدراً ، وإليك رءوسها :

١. الكتاب.

٢. السنّة.

٣. إجماع الأُمّة.

٤. إجماع أهل المدينة.

٥. القياس.

٦. قول الصحابي.

٧. المصلحة المرسلة.

٨. الاستصحاب.

٩. البراءة الشرعية.

١٠. العوائد.

١١. الاستقراء.

١٢. سد الذرائع.

١٣. الاستدلال.

١٤. الاستحسان.

١٥. الأخذ بالأخف.

١٦. العصمة.

١٧. إجماع أهل الكوفة.

١٨. إجماع العترة.

١٩.إجماع الخلفاءالأربعة. (٢)

ولا يخفى انّ بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه ، وانّ كثيراً ممّا عدّه من مصادر التشريع قابل للإدغام في البعض الآخر ، كما مرّ في بعض الفصول.

إلى هنا تمّ بيان ما هو مصادر التشريع عند أهل السنّة ، وإليك الكلام فيما بقي من جذور الاختلاف.

__________________

(١) ورواه مسلم في صحيحه : ٧ / ١٢٣١٢٢. ولاحظ جامع الأُصول لابن الأثير : ١٠ / ١٠٣.

(٢) رسالة الطوفي ، نشرها الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في مصادر التشريع الإسلامي فيما يرجع إلى المقام ، ص ١٠٩.

٥٨٧

الفصل السابع

هل الإجماع أصل برأسه

أو حاك عن الدليل؟

اتّفق الفريقان على حجّية الإجماع المحصّل واختلفوا في وجه حجّيته وسبب كونه من مصادر التشريع ؛ فالشيعة الإمامية على أنّه حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر صدر عنه المجمعون ، وعلى هذا ليس الإجماع دليلاً برأسه فلو يتمّ كشفه عن قوله أو الدليل المعتبر فلا يعدّ حجّة ، وهذا بخلاف الإجماع عند أهل السنّة ، فله عندهم كيان مستقل في جعل المجمع عليه حكماً واقعيّاً ، فلا يحتاج في حجّيته رجوعه إلى الأُصول الثلاثة ـ أعني : الكتاب والسنّة والعقل ـ وإنّما هو مستقل في مقابلها.

نعم يشترط أن يكون له مستند كما يقول الخضري في «أُصول الفقه» إنّه لا ينعقد الإجماع إلاّ عن مستند».

وقال بعض المعاصرين : لو كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استناداً إلى ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس

٥٨٨

بالصلاة كي لا تفوتهم حتّى صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً وإن لم ينزل به الوحي. (١)

وعلى هذا فاتّفاق الأُمّة على شيء سبب لصيرورة المجمع عليه حكماً شرعيّاً.

هذا وينبغي الكلام في موقفين :

الأوّل : مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة

إنّ الأُمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم ، غير مصونة من الخطأ في الأحكام ، فليس للاتّفاق والإجماع رصيد علمي ، إلاّ إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين :

١. استكشاف قول المعصوم ـ عليه‌السلام ـ بالملازمة العقلية (قاعدة اللطف).

٢. استكشاف قوله ـ عليه‌السلام ـ بالملازمة العادية (قاعدة الحدس).

أمّا الأمر الأوّل فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام ـ عليه‌السلام ـ من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم وعدم ردعهم عنه نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الحجّة الموصوف بالعلم والعصمة في كلّ الأزمنة. فإنّ من أعظم فوائدها ، حفظ الحقّ وتمييزه عن الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينُهم طريقاً يتمكّن العلماء وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلاً ، أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه ثانياً. (٢)

وحاصل هذا الوجه : انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة وردّهم عن

__________________

(١) الوجيز في أُصول الفقه : ٤٩.

(٢) كشف القناع عن وجه حجّية الإجماع : ١١٤.

٥٨٩

الإجماع على الباطل وإرشادهم إلى الحقّ ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان على الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق بوجه من الوجوه. وهذا ما يسمّى بقاعدة اللطف.

وأمّا الثاني ـ أي استكشاف قوله ـ عليه‌السلام ـ بالملازمة العادية ـ فيمكن تقريره بالنحوين التاليين :

الف : تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه ـ وإن كان يفيد الظن ولو بأدنى مراتبه ، إلاّ أنّها ـ تعزَّز بفتوى فقيه ثان فثالث ، إلى حدّ ربما يحصل للفقيه ـ من إفتاء جماعة على حكم ـ القطعُ بالحكم ، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

نقل المحقّق النائيني عن بعضهم : إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم ، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (١)

ب : الاتّفاق كاشف عن دليل معتبر

إنّ حجّية الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال : يستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان. (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول : ٣ / ١٤٩.

(٢) الفصول : ٢ / ٢٤٨ ، الطبعة الحجرية.

٥٩٠

الثاني : الإجماع أصل برأسه عند السنّة

قد عرفت أنّ الإجماع عند أهل السنّة برأسه بشرط أن يكون في مورد الإجماع مستند ظني ، بل يظهر من الآمدي انّه لا يشترط المستند بل يجوز صدوره عن توفيق بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب. (١)

وعلى كلّ تقدير فالكلام في ثبوت مدّعاه وانّه أصل برأسه ، وقد استدل بآيات وروايات ، وقد أوضحنا حال الآيات في كتابنا «مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه». (٢) وانّها لا صلة للآيات بالإجماع.

كما أنّهم استدلّوا بروايات لا صلة لها بالمقصود ، مثل قولهم : «إنّ الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد». (٣)

«يد الله مع الجماعة ، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ». (٤)

«لا تزال طائفة من أُمّتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم». (٥)

«من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه». (٦)

«من فارق الجماعة ... ومات ، فميتة جاهلية». (٧) إلى غيرها من الروايات أوردها الخضري في «أُصول الفقه». (٨)

__________________

(١) أُصول الفقه للخضري : ٢٧٥.

(٢) مصادر السنة الإسلامي ومنابعه : ١٤٢ ـ ١٤٧ ؛ الوسيط : ٣٢ ـ ٣٥.

(٣) كنز العمال ، الحديث ١٠٣٣.

(٤) سنن الترمذي : ٤ / ٤٦٦ ، كتاب الفتن ، الحديث ٢١٦٧.

(٥) سنن أبي داود : ٤ / ٩٨ ، كتاب الفتن ، الحديث ٤٢٥٢.

(٦) المعجم الكبير : ١٠ / ٢٨٩ ، ح ١٠٦٨٧.

(٧) صحيح البخاري : ٨ / ٨٧ ، كتاب الفتن.

(٨) أُصول الفقه : ٢٧٩ وبعدها.

٥٩١

فإنّ هذه الروايات لا مساس لها بحجّية الإجماع ، وإنّما الغاية منها الدعوة إلى الأُلفة والتجمع ، نظير قوله «اتّبعوا السواد الأعظم فانّه من شذّ شذّ في النار». (١)

والمهم في المقام ما استندوا عليه من قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا تجتمع أُمّتي على الخطأ».

وقد ألّفنا رسالة في بيان حال الحديث وأوضحنا انّ أكثرها ضعيف ، وعلى فرض صحة السند فهو خبر غير متواتر فلا يفيد العلم ، ومعه لا يمكن أن يحتج به على مسألة أُصولية. (٢)

يقول الطوفي في رسالته : إنّ هذا الخبر وإن تعدّدت ألفاظه ورواياته لا نسلم انّه بلغ رتبة التواتر المعنوي ، لأنّه إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا ، وسخاء حاتم وشجاعة علي ونحوهما من المتواترات المعنوية ، وجدناها قاطعة بثبوت الرأي الثاني غير قاطعة بالأوّل ، فهو إذن في القوة دون سخاء حاتم وشجاعة علي ، وهما متواتران ، وما دون المتواتر ليس بمتواتر ، فهذا الخبر ليس بمتواتر لكنّه في غاية الاستفاضة. (٣)

وقال تاج الدين السبكي (المتوفّى ٧٧١ ه‍) : أمّا الحديث فلا أشك انّه اليوم غير متواتر ، بل لا يصحّ ، أعني : لم يصحّ منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ ، ولكنّي أعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه ، والأغلب على الظن انّه «عدم اجتماعها عن الخطأ». (٤)

هذا كلّه حول سندها وأمّا الدلالة ففيها :

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ١ / ١١٥.

(٢) نشرت الرسالة في مصادر الفقه الإسلامي : ١٤٧ ـ ١٦٠.

(٣) مصادر التشريع الإسلامي ، رسالة الطوفي : ١٠٥.

(٤) رفع الحاجب عن ابن الحاجب : ورقة ١٧٦ ب ، المخطوط في الأزهر.

٥٩٢

أوّلاً : فلأنّه جعل الملاك اتّفاق الأُمّة ، ومن المعلوم أنّ اتّفاقهم بعامّة أصنافهم حجّة إمّا برأسها أو لكشفها عن الدليل ، وأين هو من اتّفاق المجتهدين منهم في عصر واحد ، أو اتّفاق أهل الحديث كما في رأي مالك ، أو اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة) أو أهل المصرين (الكوفة والبصرة) ، أو اتّفاق الشيخين ، أو اتّفاق الخلفاء الأربع؟! (١)

وثانياً : أنّ المنقول مسنداً هو لفظ «الضلالة» لا لفظ «الخطأ» أو «على غير هدى» وإنّما جاء الخطأ في غير الكتب الحديثية.

وعلى ذلك فالحديث على فرض ثبوته يرجع إلى المسائل العقائدية التي عليها مدار الهداية والضلالة ، أو ما يرجع إلى صلاح الأُمّة من وحدة الكلمة والاجتناب عن التشتت فيما يمس وحدة المسلمين.

وأمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب والمخطئ فيها بالهداية والضلالة كما لا يكون مصير الشاذ فيها هو النار أو لا يكون الشاذ نصيب الشيطان.

وعلى ذلك فالاستدلال به على حجّية الإجماع في المسائل الفقهية كما ترى.

ثالثاً : لو سلمنا سعة دلالة الحديث فالمصون من الضلالة هو الأُمّة بما هي أُمّة ، لا الفقهاء فقط ، ولا أهل العلم ، ولا أهل الحلّ والعقد ، وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة من العقائد والأُصول.

رابعاً : أنّ مصونية الأُمّة كما يمكن أن يكون سببه كمال عقلها ، يمكن أن يكون لوجود معصوم فيهم ، والرواية ساكتة عنه ، فلا يمكن أن يستدلّ بالرواية على أنّ الأُمّة مع قطع النظر عن المعصوم مصونة عن الخطأ ، بل لما ثبت في محله انّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم تكون عصمة الأُمّة بعصمة الإمام ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) أُصول الفقه للخضري : ٢٧٠.

٥٩٣

الفصل الثامن

الخلاف

في مسألة التخطئة والتصويب

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً شرعياً أُمر الرسول بتبليغه بلا واسطة أو من خلال بيان خلفائه.

١. روى الكليني بسنده عن عمر بن قيس ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

٢. روى الكليني بسنده عن حمّاد ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة». (١)

إنّ الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ يصف الجامعة التي هي كتاب علي ويقول : «فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتّى أرش الخدش». (٢)

__________________

(١) الكافي : ١ / ٥٩ ، الباب الرد إلى الكتاب والسنة ، الحديث ٢ و ٤.

(٢) الكافي : ١ / ٢٤١ ، باب فيه ذكر الصحيفة الجامعة ، الحديث ٥.

٥٩٤

إلى غير ذلك من الروايات الحاكية عن ذلك.

وعلى ضوء هذه الأحاديث ، اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً بيّنه الرسول مباشرة أو عن طريق خلفائه ، والمجتهد إمّا مصيب أو مخطئ ، فلذلك عرفت بالمخطئة أي لا يصوّبون آراء المجتهدين عامة في كلّ مسألة ، بل المصيب واحد وغيره مخطئ.

هذا ما لدى الشيعة ، وأمّا السنّة فقد اشتهروا بالتصويب فنقول :

لو ورد النصّ في حكم واقعة خاصة يبيّن حكمها فلا أظنّ أنّ أحداً يصف المجتهد بالتصويب ، بل المصيب واحد ، وغيره مخطئ.

فمسألة التصويب مختصّة بما إذا لم يكن في الواقعة نصّ ، كما نصّ به الغزالي في «المستصفى» وقسّم المصوبة إلى قسمين : أحدهما للأشاعرة والآخر لغيرهم.

يقول : إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يُطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي [الباقلاني].

وذهب قوم من المصوبة إلى أنّ في تلك الواقعة حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب ، إذ لا بدّ للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد إصابتَه ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته. (١)

وربما ينسب القول الثاني في كتب الأُصول (٢) إلى المعتزلة ، ويظهر من الغزالي فيما يأتي انّه خيرة الشافعي.

وإنّما عدل صاحب القول الثاني عن تصويب الأشاعرة ، لأجل توجّه الدور

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ١٠٩.

(٢) فوائد الأُصول للكاظمي : ١ / ٢٥٢.

٥٩٥

إليه ، لأنّه إذا لم يكن لله سبحانه فيما لا نصّ فيه حكم معيّن فما معنى الطلب وبذل الجهد؟ فالطلب موقوف على وجود الحكم لله سبحانه ، والمفروض انّه تابع لرأي المجتهد.

وهذا بخلاف القول الثاني فالمفروض فيه : انّ فيه حكماً معيناً يتوجّه إليه الطلب لكن المجتهد غير مكلّف بإصابته ، فلذلك يكون مصيباً وإن كان قد أخطأ ذلك الحكمَ المعين الذي لم يؤمر بإصابته.

ثمّ إنّ الغزالي في «المستصفى» نسب التصويب بالمعنى الثاني إلى الشافعي وقال : أمّا المصوبة فقد اختلفوا فيه ، فذهب بعضهم إلى إثباته وإليه تشير نصوص الشافعي لأنّه لا بدّ للطالب من مطلوب ، وربّما عبروا عنه بأنّ مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله. (١)

وقال الخضري : لكن المجتهد لم يكلّف بإصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك المعين الذي لم يؤمر بإصابته. (٢)

قول ثالث في التصويب

ولمّا كان القول بإنكار الحكم الإلهي في الوقائع التي لا نصّ فيها ، يحبط من جامعية الإسلام في مجالي العقيدة والشريعة ، حاول بعض أهل السنّة تفسير التصويب بمعنى لا يخالف ذلك ، ومجمل ما أفاد : انّ القول بالتصويب ليس بمعنى نفي حكم الله في الواقع ، وانّ حكم الله تابع لرأي المفتي ، بل هو في قبال القول بالتأثيم وانّ المجتهد إذا أخطأ يأثم ، فصار القائل بالتصويب يعني نفي الإثم لا إصابة الواقع ، فعليه يصير النزاع في التصويب والتخطئة لفظياً.

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ١١٦.

(٢) أُصول الفقه للخضري : ٣٣٦.

٥٩٦

وعلى ضوء ذلك فالمراد من التصويب هو نفي القول بالإثم الذي أصرّ عليه بشر المريسيّ لا إصابة كلّ مجتهد للحق الملازم لنفي الحكم المشترك ، وكيف يمكن نسبة القول بالتصويب بمعنى نفي حكم الله في الواقعة مع أنّهم رووا في كتبهم عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر. (١)

وممّن جزم بالمعنى الثالث الشوكاني فقال : إنّ المجتهد لا يأثم بالخطإ ، بل يؤجر على الخطأ بعد أن يُوفي الاجتهاد حقّه ، ولم نقل انّه مصيب للحقّ الذي هو حكم الله في المسألة ، فإنّ هذا خلاف ما نطق به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في الحديث حيث قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر».

فتلخص من ذلك انّ الأقوال في تخطئة المجتهد وتصويبه لا يتجاوز عن أربع.

١. انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً واقعياً بلّغه الرسول مباشرة أو غير مباشرة ، والمجتهد إمّا يصيبه أو يخطأه ، وهذا ما عليه الإمامية ، وهو مقتضى إكمال الدين.

٢. ليس لله تعالى في الواقعة التي ليس فيها نصّ حكم معيّن. وهذا هو المنسوب إلى الأشاعرة واختاره الغزالي ، وقد أطال الكلام في تقريبه ودفع ما يورد عليه من الشبه ، وقد تصعّد وتصوب ولكنّه لم يتمكن من رفع الدور المتوجه إلى هذه النظرية.

٣. انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتوجه إلى الطلب ، إذ لا بدّ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ٢٦٨ ؛ صحيح مسلم : ٣ / ١٢٢ ؛ وسنن أبي داود : ٣ / ٣٠٧ ؛ المستدرك : ٤ / ٨٨

٥٩٧

للطلب من مطلوب لكن المجتهد لم يكلّف إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ. وهذا هو المنسوب إلى الإمام الشافعي وفي الكتب الأُصولية للمعتزلة كما مرّ. (١)

٤. انّ المراد من التصويب هو رفع الإثم لا إصابة المجتهد ، وفي الحقيقة يتفق هو مع الإمامية في أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً لكن خطأ المجتهد لا يستلزم الإثم.

وهناك قول خامس ، وهو : انّ المجتهد الذي أخطأ الدليل القطعي آثم غير فاسق ولا كافر. وهذا قول بشر المريسي ، ونسبه الغزالي والآمدي إلى ابن عليّة وأبي بكر الأصم ، وهؤلاء هم المؤثمة. (٢)

وقد عرفت مقتضى الأدلّة هو التخطئة مطلقاً ، وأمّا الأجر مع التخطئة فهو رهن ثبوت الدليل على الأجر ولعلّه غير بعيد حسب ما مرّ.

وأمّا ما هو الحافز للقول بالتصويب بالمعنيين الأوّلين فيُكْمن في أمرين :

الأوّل : قلة النصوص بين أهل السنّة فاستنتج منها عدم الحكم.

يقول الغزالي : أمّا المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم أنّه لا حكم فيها ، لأنّ حكم الله تعالى خطابُه ، وخطابه يعرف بأن يُسمع من الرسول ، أو يدلّ عليه دليل قاطع من نقل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أو سكوته ، فانّه قد يعرفنا خطاب الله من غير استماع صيغة ، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراماً فمعنى تحريمه انّه قيل فيه لا تشربوه ، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطباً ، والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ، ولا بدّ أن يكون المخاطب به هم المكلّفون من الآدميين ، ومتى

__________________

(١) فوائد الأُصول للكاظمي : ١ / ١٤٢.

(٢) المستصفى : ٢ / ٣٦١.

٥٩٨

خوطبوا ولم ينزل فيه نصّ ، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق ، فإذن لا يعقل خطاب لا مخاطب به ، كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ، ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل. (١)

فاستنتج من عدم ورود النص في الصحاح والسنن والمسانيد ، عدم ورود النصّ من الشارع ، ولكنّه لو رجع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت المروية عن النبي بأسانيد لا غبار عليها ، لوقف على النصّ في أكثر المسائل ووجود الإطلاقات والعمومات والعمل في غيره.

هذا ما لدى الأشاعرة.

الثاني : انّ الحافز عند الشافعي الذي ذهب إلى وجود الحكم في كلّ واقعة لله سبحانه ولكنّه لم يكلّف بإصابته هو وجود الإشكال في الجمع بين الحكم الواقعي عند الله سبحانه والأمارات الظنية التي ثبتت حجّيتها مع العلم ، وذلك لأنّ بعضها يخالف الحكم الواقعي المعيّن عند الله ، فلم يجد بدّاً لأجل الجمع بين الحكم الواقعي وحجّية هذه الأمارات بالقول بعدم تكليف المجتهد بإصابة الواقع وعندئذ يرفع اليد عن الأحكام الواقعية المعيّنة عند الله.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الأُصول الإمامي بانقلاب الحكم الواقعي إلى ما في الأمارات والأُصول ، ولنا حول الجمع بين الحكم الواقعي ، ومفاد الأمارات والأُصول العملية بحوث رائعة لا يسع المجال لإيرادها ، ومن حاول التوسع فليرجع إلى المصدرين التاليين. (٢)

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ١١٦.

(٢) المحصول في علم الأُصول : ٣ / ١١٠ ؛ إرشاد العقول إلى علم الأُصول : ٣ / ١١٢.

٥٩٩

الفصل التاسع

انفتاح باب الاجتهاد

عند الشيعة

وانسداده عند السنّة

١. الاجتهاد لغة واصطلاحاً

الاجتهاد مأخوذ من الجُهد ـ بضم الجيم ـ بمعنى الطاقة والوسع ، وبفتحها بمعنى المشقة ، فإذا كان من باب الافتعال يراد به إمّا بذل الوسع والطاقة في طلب الشيء ، أو تحمّل المشقّة. (١)

وأمّا في اصطلاح الأُصوليّين فعرّفه الغزّالي بأنّه بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة ، والاجتهاد التام هو أن يبذل الوسع بحيث يحسّ من نفسه بالعجز من مزيد الطلب. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه مشتمل على الدور الواضح حيث أُخذ المعرّف في التعريف.

__________________

(١) لاحظ لسان العرب : مادة جهد.

(٢) المستصفى : ٢ / ٣٥٠.

٦٠٠