الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

السابع : الاستحسان والمصلحة

وربما يفسر الاستحسان بإدراك الفعل لمصلحة توجب جعل حكم من الشارع له على وفقها ، وهذا يرجع إلى الاستصلاح والمصالح المرسلة الذي سيوافيك البحث فيه في الفصل التالي.

إلى هنا تبين انّه لم نعثر على معنى واضح للاستحسان ليقع مورد النزاع فالوجوه السبعة الآنفة الذكر ليست مورداً للخلاف وليس لها من الأهمية حتّى يعدّه مالك تسعة أعشار العلم كما نُقل عنه.

وإليك إجمال ما مضى من المعاني السبعة :

أمّا المعنى الأوّل أي العمل بالظن والرأي ، فهو فرع وجود دليل على حجّيته ولا يختلف فيه علمان.

وأمّا الثاني ـ أعني : العدول من قياس إلى قياس أقوى ـ فلو قلنا بحجّية القياس فلا محيص عن العدول.

وأمّا الثالث ـ أعني : العدول عن مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي ـ فلو كان المعدول إليه أقوى فلا محيص عنه ، وإلاّ لكان القياسان متعارضين.

وأمّا الرابع ـ أي العدول من مقتضى القياس بالدليل ـ فهو أيضاً على وفق القاعدة بشرط أن يكون الدليل أقوى من القياس.

وأمّا الخامس ـ وهو العمل بأقوى الدليلين في بابي التعارض والتزاحم ـ فهو أيضاً أمر لا سترة فيه.

وأمّا السادس ـ أعني : العمل بالعرف والسيرة المستمرة ـ فهو أمر صحيح بشرط أن تكون السيرة مورد تقرير للمعصوم.

٥٠١

وأمّا السابع ـ أعني : العمل بالمصلحة ـ فالاستحسان بهذا المعنى لا يكون أصلاً مستقلاً برأسه ، والمفروض انّه دليل في مقابل الاستصلاح ، فلم يبق من المحتملات إلاّ الوجه الآتي ، أعني :

الثامن : العدول عن مقتضى الدليل إلى ما يستحسنه المجتهد

الظاهر انّ المراد بالاستحسان هو العدول عن مقتضى الدليل باستحسان المجتهد.

وقريب منه ما يقال «دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه» ولذلك يستحسن أن يفتي على وفقه.

وبعبارة أُخرى : يستحسن أن يكون الموضوع داخلاً تحت ذلك الدليل لا الدليل الآخر من دون أن يكون له دليل على هذا سوى استحسانه.

والاستحسان بهذا المعنى قابل للنقض والإبرام ، ولذلك يصفه الشافعي بقوله : «أفرأيت إذا قال المفتي في النازلة ليس فيها نصّ خبر ولا قياس ، وقال : استحسن فلا بدّ أن يزعم انّه جائز لغيره أن يستحسن خلافه ، فيقول كلّ حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزاً عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا ، وإن كان ضيقاً فلا يجوز أن يدخلوا فيه». (١)

ولعلّ مراد الشافعي من كلامه هذا ما استظهره بعض الأجلة وقال :

والظاهر انّ مراده هو الردع عن خصوص هذا القسم ، كما تومئ إليه بقية أقواله ، ممّا لا تخضع لضوابط من شأنها أن تقلل من وقوع الاختلاف وتفسح

__________________

(١) فلسفة التشريع الإسلامي : ١٧٤.

٥٠٢

المجال أمام المتطفّلين على منصب الإفتاء ليرسلوا كلماتهم بسهولة استناداً إلى ما يدعونه لأنفسهم من انقداحات نفسية وأدلة لا يقدرون على التعبير عنها ، ممّا يسبِّب إشاعة الفوضى في عوالم الفقه والتشريع. (١)

ويمكن توضيح هذا الوجه بمثالين :

أ. انّ مقتضى إطلاق قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) هو قطع يد السارق دون فرق بين عام الرخاء والمجاعة ، ولكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

ب. يقول سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٣) وقد نقل عن الإمام مالك إخراج الأُمّ الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن ترضع ولدها ، وعلى هذا ينطبق تعريف الجرجاني : الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس. (٤)

أقول : لا وجه للعدول عن إطلاق الآية الشامل لعام المجاعة والأُم الرفيعة المنزلة وغيرهما إلاّ بدليل ، ويمكن أن يكون الدليل انصراف الآية عن الصورتين ، والانصراف يحدّد دلالة الدليل ويُتّبع الدليل في غير مورد الانصراف.

ولكن الذي يؤاخذ على هذا الاستعمال هو انّ تسمية الانصراف وأشباهه ممّا يوجب العدول عن الدليل الأوّل بالاستحسان أمر غير صحيح.

وبعبارة أُخرى : إذا كان هنا دليل على العدول ، وكان المورد يتمتع برصيد خاص ، فما هو الوجه لاستعمال كلمة الاستحسان المريب ، إذ من الواضح انّ

__________________

(١) الأُصول العامة للفقه المقارن : ٣٦٣.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) البقرة : ٢٣٣.

(٤) التعريفات : ١٣.

٥٠٣

استحسان شخص واستقباحه ما لم يعتمد على دليل ، لا يعدان من مصادر التشريع؟

وهنا نقطة جديرة بالإشارة وهي انّ الاختلاف في تعريف الاستحسان الذي جعل من مصادر الفقه إلى هذا المستوى يعرب عن أنّه لم يمتلك مفهوماً واضحاً حتى عرّف بتعاريف مختلفة.

إنّ الاختلاف في حجّية الاستحسان ناتج عن عدم دراسة مصادر التشريع حسب مراتبها ، فإنّ تقديم دليل على دليل آخر سواء كانا قياسين أو غيرهما فرع وجود الملاك للتقديم حتى تقدم إحدى الحجّتين على الأُخرى بملاك وليس الاستحسان منه أبداً ، وعلى القائلين بالاستحسان بالوجوه المذكورة أن يدرسوا ملاك تقدّم الأدلّة بعضها على بعض.

مثلاً أنّ الخاص يقدّم على العام ، والمقيّد على المطلق ، والنص على الظاهر المخالف ، وأحكام العناوين الثانوية كالضرر والحرج على أحكام العناوين الأوّلية وغير ذلك فتقديم أيّ دليل على آخر يجب أن يكون داخلاً تحت أحد هذه الملاكات وأمثالها ممّا قرّر في مبحث تعارض الأدلّة وترجيحها ، لا تحت عنوان الاستحسان ، وعلى هذا لو فسروا الاستحسان بمعنى تقدم أحد الدليلين على الدليل الآخر بملاك موجب له ، لاتفقت الشيعة أيضاً معهم.

وممّا يرشد إلى ذلك انّ الأُستاذ «أبو زهرة» يعرف القياس ويقسمه إلى قسمين : أحدهما : استحسان القياس ، والآخر : استحسان سبب معارضة القياس ، ويمثل للقسم الأوّل بقوله : أن يكون في المسألة وصفان يقتضيان قياسين متباينين أحدهما ظاهر متبادر وهو القياس الاصطلاحي ، والثاني خفي يقتضي إلحاقها بأصل آخر فتسمى هنا استحساناً ، مثل انّ المرأة عورة من قمة رأسها إلى قدميها ،

٥٠٤

ثمّ أُبيح النظر إلى بعض المواضع للحاجة ، كرؤية الطبيب ، فأعملت علّة التيسير هنا في هذا الموضع. (١)

إنّ الأُستاذ وإن أصاب في تقديم الدليل الثاني على الأوّل ولكنّه لم يذكر وجهه ، فانّ المقام داخل تحت العناوين الثانوية فتقدم على أحكام العناوين الأوّلية ، فقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) يدلّ على أنّ كلّ حكم حرجي مرفوع في الإسلام وغير مشرّع ، فلو افترضنا انّ بدن المرأة عورة كلّه يجب عليها ستره ، لكن هذا الحكم يختص بغير حالة الضرورة ، وذلك لتقدم أحكام العناوين الثانوية كالضرورة والاضطرار على العناوين الأوّلية ، فقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه» دليل على إباحة الرؤية ، فأي صلة لهذه المسألة بالاستحسان ، وما هذا إلاّ لأنّ القوم لم يقيّموا مصادر التشريع حسب مراتبها فأسموا مثلَ ذلك بالاستحسان.

الاستدلال على حجّية الاستحسان

استدلّوا على حجّية الاستحسان بوجوه :

الاستدلال بالكتاب والسنّة

الأوّل : قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). (٣)

__________________

(١) أُصول الفقه : ٢٤٧ ـ ٢٤٩.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) الزمر : ١٨.

٥٠٥

الثاني : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. (١)

يلاحظ على الأوّل : أنّه لا نزاع في الكبرى وانّ عباد الله هم الذين يستمعون القول فيتّبعون ما هو الأحسن ، ولكن الكلام في أنّ الإفتاء بشيء ممّا لم يقم عليه دليل سوى استحسان المجتهد ، هل هو اتّباع للأحسن أو اتّباع للهوى؟

وبعبارة أُخرى : القرآن يدعو إلى اقتفاء القول الأحسن وهو الذي دعمه العقل الصريح والشرع المبين ، وأين هذا من الإفتاء بشيء بمجرّد استحسان ذهن المجتهد ورأيه من دون أن يقوم عليه دليل قطعي من عقل أو شرع؟! نعم إذا كان الإفتاء مستنداً إلى دليل شرعي فهو حجّة قطعية ولا حاجة في جواز الإفتاء بها إلى الاستدلال بالآية ، بل يكفي دليل حجّيته.

والدليل على أنّ المراد من قوله «أحسن» هو ما قام الدليل على حجّيته انّك لو فسرت الآية بالاستحسان وقلت : الذين يتبعون الاستحسان لاختل انسجام الآية.

والحاصل : انّ لفظ «الأحسن» يُمثّل أحد معنيين :

١. امّا أن يتضمن معنى التفصيل ، فعندئذ يدلّ على أنّ هناك قولاً حسناً وقولاً أحسن فيتبعون الثاني دون الأوّل ، ولا يوصف القول بالحُسْن إلاّ إذا دلّ الدليل من العقل والنقل على كونه حجّة.

٢. أن يكون بمعنى الحسن خالياً عن المفاضلة فيكون المعنى يتبعون الحسن دون غيره ، وعلى كلا التقديرين لا صلة للآية بما يستحسنه المجتهد بأنّه حكم الله من دون أن يستند إلى دليل قاطع.

__________________

(١) احكام الفصول في احكام الأُصول : ٦٨٨ ـ ٦٨٩ ؛ الإحكام : ٦ / ١٩٢ ـ ١٩٦.

٥٠٦

ومنه يظهر انّ الحديث لا صلة له بالمقام ، فإنّ المراد ما رآه المسلمون حسناً أي ما اتّفقت عليه عقولهم لا رأي واحد منهم.

الاستدلال بالإجماع

وربما يستدلّ بإجماع الأُمّة واستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء بأيدي السقّائين من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والأُجرة.

يلاحظ عليه : أنّه إذا جرت السيرة على هذا فهي حجّة إذا استمرت إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع التقرير وإلاّ فليست السيرة حجّة في مقابل الأدلة الشرعية ، حيث إنّ الجهل في المعاملة مرفوض شرعاً إلاّ ما جرت السيرة المستمرة عليه بالشرط المذكور.

بقي هنا أمر :

ربما يُمثّل بالاستحسان بالموارد التالية ويدعى انّ النبي الأعظم أفتى فيها به دون الوحي وانّه كان يجتهد كسائر الناس :

أ. نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، ورخّص في السلم.

ب. نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس ، ورخّص في العرايا.

ج. نهى رسول الله عن أن يخضد شجر مكة وأن يختلى خلاها ورخّص في الإذخر.

يلاحظ على المثال الأوّل : أنّه لم يرد على لسان الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قوله : نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، وإنّما الوارد قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا تبع ما ليس عندك» (١) وهو ناظر إلى بيع المبيع الشخصي الذي هو تحت يد الغير ، فما لم يتملّكه البائع لا حق له في بيعه ،

__________________

(١) لاحظ بلوغ المرام : ١٦٢ ، الحديث ٨٢٠.

٥٠٧

لعدم جواز بيع ما لا يملك ، وأين هو من بيع السلم الذي هو بيع شيء في الذمة ، فلم يكن ما صدر عن الرسول بنحو الضابطة شاملاً لبيع السلم حتى يكون الثاني استثناء من الأوّل ومبنيّاً على اجتهاده واستحسانه.

ومنه يظهر حال المثال الثاني أعني : «نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس».

فانّ نهي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّما كان منصبّاً على المجنيّ من الثمرة دون ما كان على الشجرة ، فنهى عن بيع الرطب باليابس ، لئلا يلزم الربا ، وإليك نصّ الحديث

عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر ، فقال : أينقص الرطب إذا يبس؟ قال : نعم ، فنهى عن ذلك. (١) وعلى ذلك فالنهي كان منصبّاً على البيع الشخصي ، أي تبديل الرطب المعيّن بعين يابس ، وعلى ضوء ذلك فلم يكن بيع العرايا داخلاً في النهي حتى يحتاج إلى الترخيص ويكون مبنياً على الاستحسان.

ومن ذلك يعلم أنّ ما رواه زيد بن ثابت «انّ رسول الله رخص في العرايا تباع بخرصها كيلاً» (٢) ليس بمعنى انّه كان ممنوعاً ، ثمّ رخصه رسول الله ، بل بمعنى عدم تعلّق النهي به من بدء الأمر ، بخلاف المجنيّ.

وأمّا الثالث فلأنّ استثناء الإذخر من «اختلاء خلاه» ليس بمعنى انّ النبي استثناه من تلقاء نفسه معتمداً على الاستحسان ، بل كان الحكم (لا يخضد شجر مكة ولا يختلي خلاها) غير شامل للأُذخر في الواقع ، ولعلّ النبي كان مستعداً لبيان المخصص غير أنّ عمه العباس لما سبقه وقال : إلاّ الإذخُر ، فأعقبه النبي وقال : إلاّ الأُذخُر ، فزُعم انّ النبي قاله اجتهاداً أو استحساناً ، وما ذكرناه وإن كان احتمالاً ، لكنّه يكفي في نقض الدليل وإسقاطه عن الصلاحية

__________________

(١) بلوغ المرام : ١٧٢ ، الحديث ٨٦٥.

(٢) بلوغ المرام : ١٧٣ ، الحديث ٨٦٧.

٥٠٨

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

الاستصلاح أو المصالح المرسلة

«المصالح المرسلة» مركبة من كلمتين لا بدّ من إيضاحهما :

أمّا الأُولى فيقول الغزالي : المصلحة هي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ـ وقال ـ : ولسنا نعني به ذلك ، فانّ جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنّا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ؛ ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ، ونفسَهم ، وعقلَهم ، ونسلهم ، ومالهم ؛ فكلّ ما يتضمن هذه الأُصول الخمسة فهو مصلحة ، وكلّ ما يفوِّت هذه الأُصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. (١)

وأمّا المرسلة فقد اختلفت كلمتهم في تفسيرها على وجهين :

١. المراد هو المصلحة غير المعتمدة على نصّ خاص ولكن تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامة.

وبعبارة أُخرى : لم يرد في خصوص تلك المصلحة دليل معيّن ولكن المصلحة داخلة في مقاصد الشريعة التي يُرغب إليها وهذا هو الظاهر من الأُستاذ

__________________

(١) المستصفى : ١ / ١٤٠.

٥٠٩

الدواليبي في تفسير الاستصلاح فقال : الاستصلاح في حقيقته هو نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة ، وذلك في كلّ مسألة لم يرد في الشريعة نصّ عليها ، ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس بها ، وإنّما بنى الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة برهنت على أنّ كلّ مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشيء وتلك القواعد هي مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (١) وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا ضرر ولا ضرار». (٢)

٢. انّ المراد عدم الاعتماد على أي نص شرعي من دون فرق بين الخاص والعام وإنّما يترك للعقل حق استكشافها ، وعلى هذا عرفه ابن برهان بقوله : هي ما لا تستند إلى أصل كلي أو جزئي.

وعلى هذا الوجه فكشف العقل المصلحة في فعل الشيء أو تركه من أدلة التشريع عند القائلين به.

ولو قبل به فالأولى تعريفه بالنحو التالي :

المصالح المرسلة عبارة «عن كلّ مصلحة لم يرد فيها أيُّ نصّ يدعو إلى اعتبارها ، أو عدم اعتبارها ، ولكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر».

وبعبارة أُخرى : الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع وانّ المصلحة المطلقة التي لا يوجد من الشرع ما يدلّ على اعتبارها ولا إلغائها ، مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط. (٣)

وهي من مصادر الفقه والاستنباط عند المالكية والحنابلة ، دون الحنفية

__________________

(١) النحل : ٩٠.

(٢) المدخل إلى أُصول الفقه للدواليبي : ٢٨٤.

(٣) مصادر التشريع : ٧٣.

٥١٠

والشافعية ، فقد ذهب الأوّلان إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وانّ المصلحة المطلقة ـ التي لا يوجد دليل من الشرع يدل على اعتبارها ولا على إلغائها ـ مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط.

والمعروف من الحنفية انّهم لا يأخذون بالاستصلاح ، وكذا الشافعية ، حتى روي عن الشافعي انّه قال : «من استصلح فقد شرّع» ، كما أنّ «من استحسن فقد شرّع» ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى.

وقد اعتبرها الإمام مالك بشروط ثلاثة :

١. أن لا تنافي إطلاقَ أُصول الشرع ، ولا دليلاً من أدلّته.

٢. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.

٣. أن لا تمسّ العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على التفسير.

والفرق بين الأدلة الثلاثة واضح.

فالقياس عبارة عن استنباط حكم الفرع عن الأصل بحجّة اشتراكهما في العلّة.

والاستحسان عبارة عن العدول عن مقتضى دليل إلى دليل آخر بوجه من الوجوه.

والاستصلاح عبارة عن حيازة المصلحة المطلقة في مورد ، لم يرد من الشارع دليل لصيانتها ولا لإلغائها.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّهم استدلّوا على القاعدة بوجوه سيأتي التعرض لها والأولى بيان صور الاستصلاح :

٥١١

الأوّل : تقديم المصلحة على النصّ ، ونبذ الآخر

إنّ الاستصلاح بهذا المعنى تشريع محرّم وتقدّم على الله ورسوله قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١) والواجب على كلّ مسلم ، التجنّب عن هذا القسم من الاستصلاح فمن يتوهم المصلحة في سلب حق التطليق عن الزوج ، أو منح الزوجة حق التطليق أيضاً ، لا يصحّ له التشريع ، ولكن نجد ـ مع الأسف ـ رواج هذا الأُسلوب بين الخلفاء حيث كانوا يقدّمون المصلحة على النص.

١. روى مسلم عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.

٢. وروى عن ابن طاوس ، عن أبيه : انّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبي بكر وثلاثاً من خلافة عمر؟ فقال : نعم.

٣. وروى أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك (٢) ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (٣)

هذه النصوص تدلّ بوضوح على أنّ عمل الخليفة لم ينطلق من الاجتهاد

__________________

(١) الحجرات : ١.

(٢) يقال في فلان هنات : أي خصلات شر ، ولا يقال ذلك في الخير.

(٣) صحيح مسلم ٤ / ١٨٤١٨٣ ، باب الطلاق ثلاثاً ، الحديث ٣١.

٥١٢

فيما لا نصّ فيه ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط ، وإنّما كان عمله من الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي والسير وراء رأيه.

ومن هذا القبيل : نهي الخليفة عن متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان ، وغير ذلك.

الثاني : تقييد النصّ بالمصلحة

روي أنّه جاء رجل إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقال : هلكت يا رسول الله ، قال : «ما أهلكك؟».

قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال : «هل تجد ما تعتق رقبته؟» قال : لا ، قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال : لا ، قال : «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال : لا ، ثمّ جلس فأُتي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعرق فيه تمر ، فقال : «تصدق بهذا». (١)

ومقتضى إطلاق الحديث كفاية كلّ من الخصال في مقام التكفير فالغنيّ المفطر ، له أن يكفّر بالعتق كما له التكفير بالأُخرى ، ولكن ربما يقال بتعيّن الصيام على الغني ، لأنّه لا يُكفّر ذنبه إلاّ به ، أي صوم شهرين متتابعين ، لأنّه هو الرادع له عن العود إلى الإفطار لا الإطعام ولا عتق الرقبة ، لعسر الأوّل ويسر الثانيين.

ولكنّه تشريع تجاه النص والاستصلاح في المقام ، كالاستصلاح في القسم الأوّل بدعة ، غير أنّه في الأوّل بمعنى نبذ النص من رأسه وفي المقام نبذ لإطلاقه.

إنّ هذا القسم من الاستصلاح ربما يعبر عنه بالأخذ بروح القانون (٢) ، وهو

__________________

(١) بلوغ المرام : ١٣٦ ، الحديث ٦٩٥.

(٢) فجر الإسلام : ٢٣٨ ، نشر دار الكتاب.

٥١٣

بذل الجهد للوقوف على ملاك الحكم ومناطه الذي يقع التشريع وراءه وهو يكون أساساً لعملين :

١. إسراء الحكم ممّا فيه النصّ إلى ما ليس فيه إذا كان حائزاً للمناط ، وهنا تلتقي المصالح المرسلة مع القياس.

٢. تقييد إطلاق النص بالمناط والاسترشاد بالمصلحة والأخذ بروح القانون لا بحرفيّته.

لكن تنقيح المناط في كلا الموردين محظور جداً سواء كان أساساً للقياس ، أو كان سبباً لتقييد الدليل ، فإنّ عقول الناس أقصر من أن تحيط بالمصالح والمفاسد فيكون الاستصلاح في كلا الموردين تشريعاً محرماً وباطلاً.

وعلى هذا الأساس المنهار ، منع الخليفة إعطاء المؤلّفة قلوبهم في أيّام خلافته قائلاً بأنّ مناط الحكم هو ضعف المسلمين وشوكة الكافرين فيصرف شيء من الزكاة فيهم ، لكي يستعان بهم على الكفار ، وهو منتف الآن. وبهذا ، قيّد إطلاق الآية : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) وخصّصها بصورة الضعف وأخرج صورة القوّة.

والاستصلاح بهذا المعنى ، فوق ما يرومه الأُصوليون من أهل السنّة ، وقد عرفت أنّ الإمام مالكاً خصّ العمل به بما إذ توفّرت فيه الشروط الثلاثة التي منها أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.

فتلخص انّ الاستصلاح بالمعنى الأوّل والمعنى الثاني بكلا قسميه خارج عمّا هو محط البحث لدى الأُصوليين ، وإليك سائر الأقسام.

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

٥١٤

الثالث : إنشاء الحكم فيما لا نصّ فيه على وفق المصلحة

إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه ولكن أدركنا بعقولنا وجود مصلحة فيه وإن لم يرد من الشارع أمر بالأخذ ، ولا بالرفض ، فتشريع الحكم الشرعي على وفقها هو الاستصلاح ولا مانع منه ويعلّله بعض المعاصرين بأنّ الحياة في تطوّر مستمر ، ومصالح الناس تتجدّد وتتغير في كلّ زمن ، فلو لم تشرع الأحكام المناسبة لتلك المصالح ، لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في كلّ الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطوّرات ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها. (١)

يلاحظ عليه : أنّ لتشريع الحكم على وفق المصلحة صوراً :

الأُولى : تشريعه في الأُمور العبادية التوقيفية ، كتشريع الأذان الثاني لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم ، فلا شكّ انّه تشريع محرّم وإدخال في الدين ما لم يأذن به الله ، لأنّ الأذان الثاني عمل عباديّ لم يأذن به الشارع مع توفّر طرق أُخرى عاديّة لإعلام المصلّين ، من دون لزوم التشريع كما هو واضح.

الثانية : إذا كان أصل الحكم منصوصاً بوجه كلي ، ولكن فُوِّضت كيفيةُ العمل به وتحقيقه على صعيد الحياة إلى الحاكم الشرعي ، وذلك مثل ما مرّ من الأمثلة ، كإنشاء الدواوين أو سكّ النقود ، وتكثير الجنود وغيرها فالمنصوص ، هو حفظ بيضة الإسلام ، للحيلولة دون غلبة الكفار. قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٢) وقوله

__________________

(١) الوجيز في أُصول الفقه : ٩٤ ؛ مصادر التشريع الإسلامي : ١٠٠.

(٢) الأنفال : ٦٠.

٥١٥

ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». (١)

فعند ذلك فالحكم المنشأ على وفق المصلحة ليس حكماً شرعياً أوّلياً ، ولا حكماً شرعياً ثانوياً وإنّما هو حكم ولائي نابع من ولاية الحاكم على إجراء القانون المنصوص إليه على صعيد الحياة وفقاً للمصالح ، ما لم يخالف تشريع الكتاب والسنّة فقد سمح للحاكم وضع هذه الضوابط والمقررات ضمن «إطار خاص» لأجل تطبيق الأحكام الكلية على صعيد الحياة فهي لازمة الاتّباع ما دامت تضمن مصلحة الأُمة فيدوم ما دام الحكم مقروناً بالمصلحة ، فإذا فقد الملاك ينتفي.

والأولى تسمية هذا النوع من الأحكام بالمقررات ، لتمييزها عن الأحكام الشرعية المجعولة الصادرة من ناحية الشرع.

فلو أُريد كون الاستصلاح مبدأ لهذا النوع من الحكم ، فهو صحيح لكن يبدو انّه غير مراد للقائلين بكونه من مبادئ التشريع ومصادره.

الثالثة : تشريع الحكم حسب المصالح والمفاسد العامة الذي اتّفق عليه العقلاء ، فلو افترضنا انّ موضوعاً مستجدّاً لم يكن له نظير في عصر النبي والأئمّة المعصومين ، لكن وجد فيه مصلحة عامة للمسلمين أو مفسدة لهم ، فالعقل يستقل بارتكاب الأُولى والاجتناب عن الثانية ، فالعقل عندئذ لا يكون مشرِّعاً بل كاشفاً عن حكم شرعي دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع. وذلك كتعاطي المخدّرات فقد اتّفق العقلاء على ضررها وإفسادها الجسم والروح ، فيكون العقل كاشفاً عن حكم شرعي ، للملازمة بين الحكمين ، وعندئذ تكون قاعدة الاستصلاح من شعب حجّية العقل.

__________________

(١) الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ١ من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١١.

٥١٦

ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري ، والحصبة وغيرهما فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاصات.

يقول الأُستاذ عبد الوهاب خلاف : إنّ الأحكام الشرعية إنّما شرعت لتحقيق مصالح العباد وانّ هذه المصالح التي بنيت عليها الأحكام الشرعية ، معقول ، أي ممّا يدرك العقل حسنها كما أنّه يدرك قبحها فيصح ما نهى عنه ، فإذا حدثت واقعة لا نصّ فيها ، وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر ، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع ولذلك لم يقع باب الاستصلاح إلاّ في المعاملات ونحوها ممّا تعقل معاني أحكامها. (١)

أقول : ما ذكره لا غبار عليه لو لا ما في قوله : «وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر» حيث اتّخذ الإدراك الفردي ملاكاً للتشريع وهو غير صحيح ، لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه ، لا يكشف عن كونه كذلك في الواقع ، لقصور العقل الفردي عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، فربما يدرك المصلحة والمفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراك فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل لا يكون ملاكاً للتشريع على وفقه.

وهذا بخلاف ما أُطبق عليه العقلاء جيلاً بعد جيل على اشتمالَ الفعل على المصلحة الملزمة أو المفسدة ، فيؤخذ بما يحكم فيه العقل.

الرابعة : إذا استدعى العمل بالتشريع الإسلامي حرجاً عاماً أو مشقة للمجتمع الإسلامي لأجل ظروف وملابسات مقطعية أو كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين ، فللحاكم الإسلامي رفع الحرج بتقديم أحكام العناوين

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٧٥.

٥١٧

الثانوية على أحكام العناوين الأوّلية ما دام الحرج باقياً ، أو تقديم الأهم من الحكمين على المهم ، وهذا النوع من الأحكام ليست أوّلية ، كوجوب الصلاة ولا ثانوية كالتيمم عند فقدان الماء ، بل صلاحيات خوّلها الشارع إلى الحاكم الشرعي لما يتمتع به من ولاية على الناس. فهذا النوع من التصرّف لغاية تطبيق الأحكام على صعيد الحياة.

يقول الأُستاذ خلاف : «إنّ الوقائع تحدث ، والحوادث تتجدد ، فلو لم ينفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ، ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم ، ولم تصلح لمسايرة مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال مع أنّها الشريعة العامة لكافة الناس وخاتمة الشرائع كلّها. (١)

ما ذكره الأُستاذ مؤلّف من أمرين قد خلط بينهما :

١. انّ النصوص المتناهية غير وافية لاستنباط الحوادث الطارئة غير المتناهية فلا بدّ من الأخذ بقاعدة الاستصلاح ، للإجابة عليها.

وقد استدلّ به على حجّية القياس وقد تقدّم انّ الحوادث وإن كانت غير متناهية ، لكن في الإطلاقات والعمومات ، مضافاً إلى القول بحجّية العقل من باب التحسين والتقبيح غنى وكفاية.

٢. لو لم نقل بالاستصلاح ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد ... ، لكن الفقيه إذا عرف موانع الأدلّة ودرجاتها ، فهي في غنى عن التشريع والاستصلاح وأخص بالذكر أمرين :

١. معرفة الأدلّة الثانوية كالضرر والحرج والعسر وما يحكم به العقل في موارد التزاحم.

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٧٥.

٥١٨

٢. الأحكام الولائية التي يصدر الحاكم الإسلامي في مواجهة المشاكل والمعضلات الاجتماعية ، وهي أحكام حكومية مؤقتة.

ففي ذلك غنى عن التشريع بالاستصلاح.

وعلى ضوء ما ذكرنا ليس للفقيه ، تصحيح الاستصلاح على وجه الإطلاق أو رفضه كذلك ، بل لا بدّ من الإمعان في صوره وأقسامه.

والذي تبيّن لي من إمعان النظر في قاعدة الاستصلاح انّ السبب من وراء جعلها من مصادر التشريع أُمور ثلاثة :

الأوّل : إهمال العقل كأحد مصادر التشريع بالمعنى الذي أشرنا إليه ـ أعني : كونه كاشفاً عن التشريع الإلهي في مجال التحسين والتقبيح لا كونه مشرعاً بنفسه ـ في مجالات خاصّة ، هذا من جانب ومن جانب آخر واجه الفقهاء مصلحة حقيقية عامة لا تختلف في كونها مصلحة ، قاطبة العقلاء ـ أي ليست مصلحة شخصية ـ فرأوا انّ حيازتها أمر لازم فاخترعوا قاعدة الاستصلاح مع أنّها في هذا المورد من شعب قاعدة حجّية العقل ، فلو أضفوا على العقل وصف الحجّية واعتبروه من مصادر التشريع لاستغنوا عن تلك القاعدة.

الثاني : عدم دراسة أحكام العناوين الأوّلية والثانوية كأدلّة الضرر والحرج ، فإنّ الأحكام الأوّلية محددة بعدم استلزام إطلاقها الحرج والضرر ، فإذا صارت موجبة لأحدهما يقدّم حكمهما على الأحكام الأوّلية.

وبذلك يستغني الفقيه عن قاعدة الاستصلاح مع ما لها من الانطباعات المختلفة.

وبما ذكرنا يعلم ما في كلام الأُستاذ عبد الوهاب خلاف ، حيث قال : إنّ الذين لا يحتجون بالمصلحة المرسلة إطلاقاً لا فيما لا نصّ على حكمه ولا فيما

٥١٩

ورد نص بحكمه قد سدّوا باباً من أبواب اليسر ورفع الحرج في التشريع وأظهروا الشريعة قاصرة عن مصالح الناس وعن مسايرة التطورات. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ الذين قالوا بحجّية حكم العقل فيما له مجال القضاء فيه ، قد فتحوا باباً من أبواب اليسر فيما لا نصّ على حكمه ، أوّلاً ؛ ومن وقف على مكانة أحكام العناوين الثانوية بالنسبة إلى أحكام العناوين الأوّلية ، فقد رفع الحرج في التشريع ، ثانياً.

الثالث : انّ كلّ من كتب حول قاعدتي الاستصلاح وسد الذرائع لم يفرّقوا بين الأحكام الشرعية والأحكام الولائية الحكومية ، فانّ الطائفة الأُولى أحكام شرعية جاء بها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لتبقى خالدة إلى يوم القيامة ، وأمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل العالقة في حياة المجتمع الإسلامي.

ومنه يتضح انّ ما مثّلوا به لقاعدة الاستصلاح ـ فإنّما هو في الواقع ـ من صلاحيات الحاكم الشرعي ، فمثلاً عدّوا الأمثلة التالية من مصاديق تلك القاعدة :

أ. إنشاء الدواوين.

ب. سكّ النقود.

ج. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه كتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد.

د. سجن المتهم كي لا يفر.

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ١٠٠.

٥٢٠