الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

المسألة والمسألتان حاشا المسائل التي تيقن إجماعهم عليها ، كالصلوات وصوم رمضان فأين الإجماع على القول؟! (١)

عمل الصحابة بالرأي

وربّما يتمسّك بأنّ الصحابة كانوا يفتون بالرأي وقد شاع بينهم «هذا رأي فلان» في الكلالة ، أو «بيع أُمّهات الأولاد» وليس الرأي إلاّ الإفتاء بالقياس.

وقد روي عن أبي بكر في الكلالة أنّه قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكون صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه. (٢)

وقد روي أيضاً عنه انّه حكم بالرأي في التسوية في العطاء حتّى قيل له : كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر : إنّما أسلموا لله وأُجورهم على الله ، وإنّما الدنيا بلاغ ، وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرّق بينهما. (٣)

كما روي عن عمر أنّه قال : أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي. (٤)

وقال ابن مسعود : سأقول فيها بجهد رأيي ، فإن كان صواباً فمن الله وحده ، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء. (٥)

يلاحظ عليه : لا شكّ أنّ بعض الصحابة كانوا يفتون بالرأي ، ولكن لم يكن الرأي مساوقاً للعمل بالقياس بل لعلّهم اعتمدوا فيها على ضرب من الاستدلال والتأمّل ، ولو كان ديدنهم في الإفتاء في غير ما نصّ عليه على القياس ، لبان وارتفع الخلاف. ويتّضح ذلك ممّا يذكره الشيخ المظفّر في المقام قائلاً :

__________________

(١) إبطال القياس : ١٩.

(٢) روضة الناظر : ١٤٨.

(٣) الإحكام : ٣ / ٨١.

(٤) الإحكام : ٣ / ٨١.

(٥) المحلى : ١ / ٦١.

٤٨١

ويجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي وأكثروا بل حتى فيما خالف النصّ تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم ، والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن لم تكن الاجتهادات واضحةَ المعالم عندهم من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ولم يعرف عنهم ، على أيّ كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلاً للنصوص ، أم جهلاً بها ، أم استهانة بها؟ ربّما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم ، وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه وخصائصه في القرن الثاني والثالث. (١)

إنّ هنا اجتهادات حُكيت من الصحابة لا يصحّ حملها على القياس :

١. تحريم المتعتين : قال عمر بن الخطاب : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا محرّمهما ومعاقب عليهما.

٢. جعل عمر الطلاق الثلاث ، ثلاثاً مع أنّه كان في عصر الرسول وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافته ، واحدة.

٣. قطع أيضاً سهم المؤلّفة قلوبهم.

٤. إلغاء الحيعلة وهو قول : «حيّ على خير العمل» من الأذان. (٢)

وغيرها.

وليس الاجتهاد فيها مبنيّاً على القياس بل الاستحسان المطلق.

وقد ذكر الغزالي مواضع من اجتهادات الصحابة وحاول تطبيقها على القياس بجهد بالغ غير ناجح ، لأنّ أكثرها بعيد عن القياس.

نعم روي عن عمر انّه كتب في رسالته إلى أبي موسى الأشعري : اعرف

__________________

(١) أُصول الفقه : ٢ / ١٧٢.

(٢) لاحظ للوقوف على تفصيل هذه الأُمور : كتاب «النص والاجتهاد» للسيد شرف الدين ، وكتاب «الاعتصام بالكتاب والسنّة» للمؤلّف ، وغيرهما.

٤٨٢

الأشياء والأمثال وقس الأُمور. (١)

أقول : لم يثبت رسالة عمر إلى أبي موسى ، وقد وصفها ابن حزم انّها مكذوبة عليه وراويها عبد الملك بن وليد بن معدان عن أبيه وهو ثابت بلا خلاف ، وأبوه أسقط منه أو هو مثله في السقوط. (٢)

٤. الاستدلال بدليل العقل

استدلّ على حجّية القياس بوجوه :

١. إنّه سبحانه ما شرع حكماً إلاّ لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من وراء تشريع الأحكام ، فإذا تساوت الواقعة المسكوتُ عنها ، بالواقعة المنصوص عليها ، في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمةُ والعدالةُ أن تساويها في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتّفق وعدل الله وحكمته أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصّية الخمر وهي الإسكار ، لأنّ مآلها المحافظة على العقول من مسكر وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (٣)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من «أنّه سبحانه ما شرع حكماً إلاّ لمصلحة وانّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام» ، مبني على القول بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، والمذهب الأشعري يرد ذلك كما يرد كون فعله سبحانه معللاً بالأغراض ، ومن أفعاله تعالى هو تشريعه فالاستدلال مبني على قول العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح أوّلاً ، وعلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ثانياً ، فعندئذ يُصبح الاستدلال جدلياً لا برهانياً حيث استدلّ بعقيدة

__________________

(١) المحلى : ١ / ٥٩.

(٢) المحلى : ١ / ٥٩.

(٣) مصادر التشريع الإسلامي : ٣٤ ـ ٣٥.

٤٨٣

الخصم ومسلماته.

وثانياً : أنّ الكبرى وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد أمر مسلّم ، إنّما الكلام في الوقوف على مناط الحكم وعلّته ، وأمّا ما مثّله من قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علماً قطعياً واضحاً بأنّ مناط التحريم هو الإسكار ، ولأجل ذلك جاءت في روايات أئمّة أهل البيت : حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسول الله المسكر من كلّ شارب فأجاز الله له ذلك. (١) وإنّما الكلام في أنّ الظنّ بالعلّة هل يغني عن مُرّ الحق شيئاً؟ وهل المظنون كونه علّة يكون علّة حقيقة ، أو أنّ هناك احتمالات أُخرى قد مضى بيانها عند بيان استنباط العلّة؟

إنّ المستدل جعل القياس في مسألة اتّفق عليها العقل والعقلاء والنصوص الشرعية ، دليلاً على حجّيته في عامة الموارد التي لم تُعلم الجهةُ المشاركة المظنونة هي علة الحكم في الأصل فكيف في الفرع ، وإنّما ظن المستدل به ، فكيف يمكن أن يحتج بالظن على الحكم الشرعي الذي لم يقم عليه دليل.

٢. إنّ نصوص القرآن والسنّة محدودة ومتناهية ، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية ، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها مصادر تشريعية لما لا يتناهى.

وبعبارة أُخرى : القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفّق بين التشريع والمصالح. (٢)

__________________

(١) الكافي : ١ / ٢٦٦.

(٢) مصادر التشريع الإسلامي : ٣٥ ، وانظر : المنخول من تعليقات الأُصول : ٣٥٩ و ٣٢٧.

٤٨٤

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ عدم إيفاء النصوص عند أهل السنّة بالإجابة على جميع الأسئلة المتكثّرة ، لا يكون دليلاً على حجّية القياس ، فربّما تكون الحجّة غيره ، إذ غاية ما في الباب أنّ عدم الوفاء يكون دليلاً على أنّ الشارع قد حلّ العقدة بطريق ما ، وأمّا أنّ هذا الطريق هو القياس ، فلا يكون دليلاً عليه.

إنّ القوم لو رجعوا إلى الطرق والأمارات والأُصول المؤمِّنة الأربعة التي مضى الإيعاز إليها في صدر البحث لاستغنوا عن اعتبار القياس ، وهذه الضوابط والأمارات واردة في حديث أئمّة أهل البيت عن جدّهم ، والقوم لما أعرضوا عن أحد الثقلين ـ أعني : العترة الطاهرة في حديث الرسول ـ وقعوا في هذا المأزق وزعموا انّ النصوص غير وافية ببيان الأحكام غير المتناهية ، وقد غفلوا انّ غير المتناهي هي الجزئيات والمصاديق ، وهو لا يوجد مشكلة إذا كانت الضوابط العامة قادرة على إعطاء حكمها.

وثانياً : أنّ المستدلّ اتّخذ المدّعى دليلاً وقال : والقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، مع أنّ الكلام في أنّ القياس هل هو مصدر تشريعيّ حتى نأخذ به في مسايرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ ومجرد كونه يساير الأحداث لا يكون دليلاً على كونه حجّة.

٣. القياس يفيد الظنّ بالحكم وهو يلازم الظنّ بالضرر فيجب دفعه.

قال الرازي : إنّ من ظنّ أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا وعلم أو ظنّ حصول ذلك الوصف في الفرع ، وجب أن يحصل له الظنّ بأنّ حكم الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأنّ مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب ، فتولد من ذلك الظن ، وهذا العلم ، ترك العمل به سبب للعقاب ، فثبت أنّ القياس يفيد ظن

٤٨٥

الضرر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الرازي خلط بين القاعدتين العقليتين المحكمتين :

١. قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

٢. وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل.

أمّا القاعدة الأُولى فهي قاعدة محكمة دلّ العقل والنقل على صحّتها أمّا العقل فواضح فانّ استقلال العقل بالقبح شيء لا ينكر وأمّا النقل فيكفي قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (٢)

فإذا لم يرد في واقعة دليل شرعي على الحرمة أو الوجوب يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب حتى ولو ظن بأحد الحكمين ، وذلك إمّا لأنَّه لا يكون هناك ظنّ بالضرر أو يكون ظنّ به لكن لا يكون مثله واجب الاجتناب.

وذلك لأنّه لو أُريد بالضرر ، الضرر الأُخروي فهو مقطوع الانتفاء بحكم تقبيح العقل مثل ذلك العقاب وتأييد الشرع ، ففي مثل ذلك المورد لا يكون الظن بالحرمة أو الوجوب ، ملازماً للظن بالضرر أبداً لعدم تمامية الحجّة على المكلّف.

ولو أُريد بالضرر ، الضرر الدنيوي فهو وإن كان ملازماً للظنِّ بالحكم غالباً نظراً إلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكنّه ليس بواجب الدفع إلاّ إذا كان ضرراً عظيماً لا يتحمل ففي مثله يستقل العقل بدفعه.

وحصيلة الكلام : انّ القياس لما لم تثبت حجّيته فالظن بالحكم لأجله ، لا يلازم الظن

__________________

(١) المحصول : ٢ / ٢٨٨.

(٢) الإسراء : ١٥.

٤٨٦

بالضرر الأُخرويّ أبداً ، وأمّا الضرر الدنيوي فهو وإن كان يلازمه لكنّه غير واجب الدفع غالباً إلاّ ما ذكرناه.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الظن الحاصل بالحكم لأجل القياس الذي لم تثبت حجّيته لا يكون ملازماً للظن بالعقوبة ولا يكون داخلاً في قاعدة «لزوم دفع الضرر المظنون».

وأمّا القاعدة الثانية التي زعم الرازي انّ المقام من مصاديقها وجزئياتها فموردها ما إذا قام الدليل على الحكم الكلي ، وعلى وجود الموضوع له ، فعندئذ يجب دفع الضرر بصوره الثلاث :

ألف. تارة يكون الضرر (العقاب) مقطوعاً كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وانّ هذا المائع خمر.

ب. وأُخرى يكون الضرر مظنوناً ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وعلم أنّ أحد الإناءين خمر ، فشرب أحدهما ـ لا كليهما ـ مظنة للضرر الأُخروي.

ج. وثالثة يكون الضرر (العقاب) مشكوكاً ، كما إذا تردد الخمر بين أوان عشرة فشرب أحدها ، محتملاً للضرر.

فالضرر بتمام صوره واجب الدفع للعلم بالكبرى ، أعني : الحكم الكلي ، والعلم بالموضوع معيناً أو مردداً بين إناءين أو أواني كثيرة.

فاللازم على الفقيه تنقيح مصاديق القاعدتين حتى لا يخلط مواردهما ، كما خلط الرازي.

٤٨٧

الآن حصحص الحقّ

لقد أثبتت البحوث السابقة حول ما أُقيم من الأدلّة على حجّية القياس انّه ليس هناك دليل صالح قاطع للنزاع ، مفيد للعلم بأنّ الشارع جعل القياس حجّة فيما لا نصّ فيه ، وهناك نكتة جديرة بالتأمّل فيها ، وهي انّه إذا كان للقياس في الشريعة المقدسة هذه المنزلة في التشريع الإسلامي فلما ذا لم يقع في إطار البيان الصريح من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، كما وقع قول الثقة أو حجّية البيّنة في إطاره؟

وقد عرفت أنّ ما استدلّوا من كلام الشارع في ذلك المجال كلّها انتزاعات شخصية فرضت عليه ، وانّ عقيدة المستدل جرّته إلى أن يبحث عن الدليل حول عقيدته فلذلك جمع أشياء من هنا وهناك ليثبت بها مدّعاه ، والجميع بريء ممّا يرتئيه.

بقي هنا كلام وهو دراسة كلمات أئمّة أهل البيت في القياس ، فانّهم أحد الثقلين وكسفينة نوح ، حتّى نقف على موقفهم من القياس في الشريعة الإسلامية.

القياس في كلمات أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام :

١. عن جعفر بن محمد ـ عليهما‌السلام ـ عن أبيه ـ عليه‌السلام ـ أنّ علياً ـ عليه‌السلام ـ قال : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس».

٢. كتب الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ في رسالة إلى أصحابه أمرهم بالنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وقد جاء فيها : «لم يكن لأحد بعد محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ، ثمّ قال : واتبعوا آثار رسول الله وسنّته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا».

٤٨٨

٣. روى سماعة بن مهران عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «ما لكم وللقياس ، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس».

٤. دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، فقال له : «يا أبا حنيفة بلغني انّك تقيس؟» قال : نعم ، قال : «لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس».

٥. عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّته فننظر فيها؟ فقال : «لا ، أما إنّك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله».

٦. عن يونس بن عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل ـ عليه‌السلام ـ : بما أوحّد الله؟ فقال : «يا يونس لا تكونن مبتدعاً ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضل ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر».

٧. عن المفضّل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «من شك أو ظنّ فأقام على أحدهما فقط حبط عمله ، انّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة».

٨. عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ السنّة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».

٩. عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ عن القياس ، فقال : «وما لكم وللقياس ، إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».

١٠. عن أبي شيبة الخراساني ، قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بعداً ، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس».

١١. عن محمد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ بمنى إذ أقبل أبو

٤٨٩

حنيفة على حمار له فلما جلس قال : إنّي أُريد أن أُقايسك ، فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «ليس في دين الله قياس».

١٢. عن زرارة بن أعين قال : قال لي أبو جعفر محمد بن علي ـ عليه‌السلام ـ : «يا زرارة إيّاك وأصحاب القياس في الدين ، فانّهم تركوا علم ما وُكّلُوا به وتُكلِّفوا ما قد كفوه ، يتأوّلون الأخبار ، ويكذبون على الله عزّ وجلّ ، وكأنّي بالرجل منهم ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين».

١٣. عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ أصحاب القياس ، غيّروا كتاب الله وسنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ واتّهموا الصادقين في دين الله». (١)

القياس في كلمات الصحابة والتابعين

إنّ لفيفاً من الصحابة والتابعين ممّن يؤخذ عنهم العلم قد خالفوا القياس بحماس وندّدوا به ، وإليك نزراً من كلماتهم ليعلم أنّ القياس لم يكن أمراً متفقاً عليه بين أوساط الصحابة والتابعين :

١. عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذّراً ، فبعث الله نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنزل كتابه وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو.

٢. عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ليس عام إلاّ والذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهب خياركم وعلماؤكم ، ثمّ يحدث قوم يقيسون

__________________

(١) راجع الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٤٩٠

الأُمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم.

٣. عن جابر بن زيد ، قال : لقيني ابن عمر قال : يا جابر إنّك من فقهاء البصرة وستُسْتفتى ، فلا تُفتينَّ إلاّ بكتاب ناطق أو سنّة ماضية.

٤. عن زيد بن عميرة ، عن معاذ بن جبل ، قال : تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمؤمن والمنافق ، فيقرؤه الرجل فلا يتبع ، فيقول : والله لأقرأنّه علانية ، فيقرؤه علانية فلا يتبع ، فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإيّاكم وإيّاه ، فإنّها بدعة ضلالة ، قالها ثلاث مرات.

هذا وقد ذكر ابن حزم أحاديث أُخرى على لسان الصحابة في ذم القياس أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة ، ونقتصر على سرد أسمائهم :

أبو هريرة ، سمرة بن جندب ، عبد الله بن أبي أوفى ، ومعاوية. (١)

وكذلك صرح أئمة التابعين على ذم القياس وشجبه والنهي عنه :

١. عن داود بن أبي هند قال : سمعت محمد بن سيرين ، يقول : القياس شؤم وأوّل من قاس إبليس فهلك ، وإنّما عُبدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس.

٢. قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن علي انّ شريحاً القاضي قال : إنّ السنّة سبقت قياسَكم.

٣. عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي ، قال : السنّة لم توضع بالقياس.

٤. وعن عامر الشعبي أيضاً : إنّما هلكتم حيث تركتم الآثار وأخذتم

__________________

(١) انظر الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : ٦ / ٥٠٨ ، ٥١١ ؛ اعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن قيم الجوزية : ١ / ٢٤٢٢٤٠ ، طبعة دار الكتاب العربي.

٤٩١

بالمقاييس.

٥. عن جابر ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : لا أقيس شيئاً بشيء قيل : لمَ؟ قال : أخشى أن تزل رجلي.

وكان يقول : إيّاكم والقياس والرأي ، فانّ الرأي قد يزل.

إلى غير ذلك من الروايات التي يطول بذكرها الكلام ، ونكتفي هنا بسرد أسماء التابعين الذين نالوا من القياس :

إياس بن معاوية ، مالك بن أنس ، وكيع بن الجراح ، حماد بن أبي حنيفة ، ابن شبرمة ، مطر الوراق ، عطاء بن أبي رباح ، أبو سلمة بن عبد الرحمن. (١)

وبعد نقل هذه الطائفة الكبيرة من الأحاديث من قبل أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ والصحابة والتابعين كيف يُدّعى انّ الإجماع قام على صحّة القياس ولم يخالفه أحد ، لو لم نقل انّ الإجماع قام على نفي القياس؟!

وهذا يدلّ على أنّ هذا العنصر قد دخل حيّز التشريع الإسلامي بموافقة بعض ومخالفة البعض الآخر له ، وانّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة أمر لا يليق بمن تتبع كلمات الفقهاء في هذا الصدد ، وقد نقل ابن قيم الجوزيّة كلمات الموافقين كما نقل كلمات المخالفين للقياس ، وإن كان في كثير من المباحث عيالاً على كتاب الإحكام لابن حزم الأندلسيّ.

__________________

(١) انظر الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : ٦ / ٥١١ ـ ٥١٤ ؛ اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية : ١ / ٢٤٣ ـ ٢٤٦ ؛ العدّة للشيخ الطوسي : ٢ / ٦٨٨ ـ ٦٩٠.

٤٩٢

مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

٢ ـ الاستحسان

الاستحسان من مصادر التشريع لدى المالكيّة ، وقد روي عن الإمام مالك أنّه قال : «الاستحسان تسعة أعشار العلم» خلافاً للشافعي حيث رفضه وقال : «من استحسن فقد شرّع» وربما يُفصّل بين الاستحسان المبنيّ على الدليل ، والاستحسان المبنيّ على الهوى والرأي ، ومع كونه أصلاً معتبراً لدى المالكيّة وغيرهم ، فلم يُعرَّف بوجه يكون مثلَ القياس ، واضحَ المعالم ، فإنّ الاستحسان ضد الاستقباح ، وتعالى التشريع الإسلامي أن يكون تابعاً لاستحسان إنسان أو استقباحه من دون أن يكون له رصيد من الشرع والعقل ، ولا يصحّ الإفتاء إلاّ بما دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، والاستحسان بما هو هو ، ليس عِلْماً ولا ظنّاً يدل دليل قطعي على حجّيته ، كلّ ذلك يبعثنا إلى تحقيق مراد القائلين من كونه دليلاً فقهياً كسائر الأدلّة ، واللازم هو الإمعان في موارد استعماله.

أقول : مع ما عُرّف الاستحسان بتعاريف كثيرة أكثرها خاضعة للسجع دون بيان الواقع نظير ما يحكى عن الحاكم الذي كتب إلى قاضي قم بقوله :

أيّها القاضي بقم

قد عزلناك فقم

٤٩٣

ولذلك قال القاضي المعزول ما عزلني إلاّ وحدة القافية ، وإن شئت فأمعن النظر في هذه التعاريف ، فكأنّ الغاية فيها هو حفظ السجع دون تفهيم المراد.

١. الاستحسان : ترك القياس ، والأخذ بما هو أوفق للناس.

٢. الاستحسان : طلب السهولة في الأحكام ، فيما يبتلى به الخاص والعام.

٣. الاستحسان : الأخذ بالسعة ، وابتغاء الدعة.

٤. الاستحسان : الأخذ بالسماحة ، وانتفاء ما فيه الراحة.

٥. الاستحسان : هو الالتفات إلى المصلحة والعدل.

فإنّ هذه التعاريف لا تُوضح حقيقة الاستحسان ، فالذي يمكن أن يكون محطاً للنزاع هو ما سنذكره عن قريب.

وقبل استعراضه يجب أن نركّز على نكتة وهي انّ ظاهر القائلين بالاستحسان عدّه دليلاً مستقلاً وراء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. ووراء القياس والاستصلاح (المصالح المرسلة) وسد الذرائع وفتحها وغيرها لكنّه في أغلب الموارد يرجع إلى أحد الأدلة المذكورة كما سيتضح عن قريب.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يُطلق ويراد منه أحد المعاني التالية :

الأوّل : العمل بالرأي والظن

قد يطلق الاستحسان ويراد منه العمل بالرأي فيما جعله الشارع موكولاً إلى آرائنا ، ويظهر هذا من السرخسيّ في أُصول فقهه ، كما في مورد تمتيع المطلقة غير المدخول بها قال سبحانه : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً

٤٩٤

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). (١)

ونظيره قوله سبحانه في مورد رزق الوالدات وكسوتهنّ ، قال سبحانه : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (٢) فقد ترك الشارع تعيين كيفية التمتيع وتقدير المعروف بحسب اليسر والعسر إلى آرائنا. (٣) وهو يختلف حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

والاستحسان بهذا المعنى ، عمل بالظن في موضوع من الموضوعات ، كالعمل به في سائر الموارد الذي جعل الظن فيه حجّة ، فلو قام دليل على حجّية مثل هذا الظن يتمسك به ويقتصر على مورده سواء استحسنه المجتهد أم لا ، وإلاّ فلا. وتسمية مثل هذا استحساناً أمر مُورِث للاشتباه.

على أنّ المرجع في هذه الموارد هو عرف البلد لا رأي القاضي ولا المجتهد كما هو واضح ، ولذلك يختلف مقدار تمتيع المطلقة ونفقة الزوجة حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

الثاني : العدول من قياس إلى قياس أقوى منه

وقد يطلق ويراد منه العدول عن مقتضى قياس ظاهر إلى مقتضى قياس أقوى منه ، وهذا هو الذي نقله أبو الحسين البصري عن بعضهم ، فقال : العدول من موجب قياس إلى قياس أقوى منه. (٤)

__________________

(١) البقرة : ٢٣٦.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) أُصول الفقه : ٢ / ٢٠٠.

(٤) المعتمد : ٢ / ٢٩٦.

٤٩٥

وعلى هذا لا يكون الاستحسان دليلاً مستقلاً ويكون مرجّحاً لتقديم القياس الأقوى على غيره كما هو الحال في سائر الأدلّة حيث يقدم الأقوى على غيره ، كالخاص على العام ، والمقيّد على المطلق ، وهكذا ، ولو أُريد من الاستحسان هذا فمثله لا يليق أن يقع موضع خلاف بين القائلين بحجّية القياس كمالك والشافعي ، فالجميع على تقديم أقوى الدليلين على الآخر من غير فرق بين القياسين أو الدليلين.

الثالث : العدول من مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي

يطلق الاستحسان ويراد منه ، العدول من مقتضى القياس الجلي إلى قياس خفي. (١) وهذا هو الذي يظهر من الأُصولي المعاصر الدكتور «وهبة الزحيلي» وغيره والفرق بين التعريفين ـ الثاني والثالث بعد اشتراكهما في أنّ المعدول عنه والمعدول إليه ، قياس ـ هو انّ المعدول إليه على التعريف الثاني ، هو القياس الأقوى الأعم من أن يكون جلياً أو خفياً ، بخلاف التعريف الثالث فإنّ المعدول إليه قياس خفيّ. ولنذكر مثالين :

١. مقتضى القياس الجلي ، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة ـ على القول بنجاسة سؤره ـ لاشتراكهما في الافتراس ، ولكن مقتضى القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.

٢. إذا وقف أرضاً زراعية فهل يدخل فيه حقوق الري والمرور؟ قولان :

أ. لا يدخل حقوق الريّ والمرور في الوقف قياساً على البيع ، فإنّ البيع ، والوقف يشتركان في خروج المبيع عن ملك الواقف والبائع ، فلا يدخل في بيع

__________________

(١) الوجيز في أُصول الفقه : ٨٦.

٤٩٦

الأرض الزراعية حقوقُ ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو مقتضى القياس الظاهري.

ب. يدخل حقوق الري والمرور قياساً على الإجارة بجامع انّ المقصود من كلّ منهما الانتفاع بريع العين لا تملُّك رقبتها ، وفي إجارة الأرض الزراعية تدخل حقوق ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو العدول عن مقتضى القياس الظاهري إلى مقتضى القياس الخفي وسموه بالاستحسان. (١)

أقول : إنّ دخول حقّ الريّ والمرور أو عدمه لا يبتني على قياس الوقف بالبيع أو الإجارة ، بل هما مبنيان على وجود الملازمة العرفية بين وقف الأرض ودخول حقوق ريّها والمرور إليها فيه أو عدمها ، فلو قلنا بالملازمة العرفية بين إخراج الشيء عن ملكه وإخراج ما يتوقف الانتفاع به عليه (كحقوق ريّها وصرفها والمرور إليها على نحو إذا بيعت الأرض الزراعية أو أُوجرت أو أُوقفت يفهم منه نقل توابعها ممّا يتوقف الانتفاع بها عليها) فيدخل إلاّ أن ينصَّ على خلافه ، ولو قلنا بعدم الملازمة وانّه لا يفهم من نقل الأصل ، نقل التوابع ، فلا يدخل واحد ، فعلى الأوّل يكونُ الدخول هو مقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه بخلاف الثاني ، فإنّه يكون عدم الدخول هو المطابق لمقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه.

ونظير المقام توابع المبيع من اللجام والسرج ومفتاح الباب وغيرها ، وبذلك تعرف انّه لا دور للقياس في حلّ المسألتين خروجاً وعدمه ، حتّى يسمّى العدول استحساناً وإنّما يجب على الفقيه أن يركز على الملازمة العرفية بين النقلين وعدمها.

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٧٢.

٤٩٧

الرابع : العدول من مقتضى القياس بدليل

قد يطلق ويراد منه هو العدول عن مقتضى القياس بدليل شرعي سواء كان المعدول إليه قياساً أم غيره. نعم يشترط في المعدول عنه كونه قياساً.

وهذا هو الذي يظهر أيضاً من السرخسي في أُصول فقهه قال : هو الدليل يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه ، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادث وأشباهه من الأُصول يظهر انّ الدليل الذي عارضه ، فوقه في القوة وانّ العمل به هو الواجب. (١)

وظاهر هذا التعريف كما عرفت أنّ العدول عن القياس بدليل شرعي هو الاستحسان ، وعلى ضوء هذا يختص الاستحسان بصورة العدول عن مقتضى القياس فحسب لا مطلق الدليل ، فيشترط في المعدول عنه أن يكون قياساً وامّا المعدول إليه ، فيشترط أن يكون دليلاً غير القياس.

وهذا هو الظاهر من الكرخي أيضاً حيث عرفه بقوله : إثبات الحكم في صورة من الصور على خلاف القياس من نظائرها مع أنّ القياس يقتضي إثباته ، بدليل خاص لا يوجد في غيرها. (٢)

ولنذكر مثالاً :

إذا ضاع شيء تحت يد الصانع ، فمقتضى القياس هو عدم ضمانه إذا ضاع أو تلف لديه من غير تقصير منه قياساً على يد المودع ، ولكن روي عن الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ والقاضي أبي أُمية شريح بن الحارث الكندي بأنّهما يضمّنان

__________________

(١) أُصول الفقه : ٢ / ٢٠٠.

(٢) الوصول إلى الأُصول : ٢ / ٣٢١ ؛ المنخول : ٣٧٥ ، حيث قال : الصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي.

٤٩٨

الصنّاع ، وما هذا إلاّ لأنّ عدم تضمينهم ربما ينتهي إلى إهمالهم في حفظ أموال الناس. (١)

وروي أنّ الإمام الشافعي يذكر انّه قد ذهب شريح إلى تضمين القصّار فضمّن قصّاراً احتُرق بيته ، فقال : تضمّنني وقد احترق بيتي ، فقال شريح : أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك. (٢)

وعلى ضوء هذا المثال ربما يفسر الاستحسان : بترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.

أقول : المثال قابل للنقاش.

أوّلاً : ليس المورد من موارد القياس ، لأنّ قياس الأجير ، بالودعي قياس مع الفارق ، فإنّ الأوّل يأخذ المال لصالحه بُغية أخذ الأُجرة لعمله ، وهذا بخلاف الودعي فانّه يأخذ المال لصالح صاحب المال ، فقياس الأوّل بالثاني مع هذا الفارق ، قياس مع الفارق.

ثانياً : إذا كان المورد غير صالح لاعمال القياس ـ لفقدان بعض شرائطه ـ فيكون المرجع ، هو الأصل الأوّلي في الأموال ، وليس إلاّ الاحترام والضمان حتى يثبت خلافه لا الاستحسان «أعني : كون الضمان أوفق للناس ، أو لئلاّ ينتهي إلى الإهمال في أموال الناس». فإذا أتلفه الأجير أو تلف عنده فمقتضى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» هو الضمان ما لم يدل دليل على خلافه كما دلّ في مورد الودعي حيث ليس لصاحب المال تغريم الودعي ، نعم لصاحب المال إحلافه على أنّ التلف لم يكن عن تعد أو تفريط ، ولذلك قالوا : «ليس على الأمين إلاّ اليمين».

__________________

(١) السنن الكبرى : ٣ / ١٢٢.

(٢) السنن الكبرى : ٣ / ١٢٢.

٤٩٩

الخامس : الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين

إذا كان بين الدليلين تعارض بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص من وجه ، يُعمل بأقوى الدليلين ، فالأوّل كما إذا ورد «ثمن العذرة سحت» ، وورد أيضاً «لا بأس ببيع العذرة». والثاني كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضاً : لا تكرم الفاسق ، فاجتمع الدليلان في العالم الفاسق ، ففي هذه الموارد يرجع إلى مرجحات باب التعارض التي طرحها الأُصوليون في باب التعادل والترجيح ، وأهمّ المرجّحات هو موافقة الكتاب ، أو موافقة السنّة ، أو كون أحد الدليلين موافقاً لما هو المشهور بين العلماء ، أو غير ذلك.

ونظير ذلك إذا كان بين الدليلين تزاحم كما إذا تزاحم الأمر بإنقاذ نفس محترمة بالتصرف في أرض الغير ، أو تزاحم أداء الدين مع الحجّ إلى غير ذلك من موارد المتزاحمين ، فيرجع فيهما إلى أقوى الدليلين ملاكاً وأعظمهما أهمية.

فلو أُريد من الاستحسان هذا فلا أظن أن يكون هذا موضع اختلاف بين مالك والشافعي ، أو بين القائلين به والنافين له.

السادس : الاستحسان والأخذ بالعرف

وربما يفسر الاستحسان بالرجوع إلى العرف كما في عقد «الاستنصاع» وهو عقد على معدوم وقد قيل بصحته لأخذ العرف به ، ولعلّ المراد من العرف هو السيرة ولكنّها لا تكون دليلاً على مشروعية العقد إلاّ أن تكون متصلة إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع إقراره.

ومن عجيب الأمر أن يتوارد النفي والإثبات على موضوع كالاستحسان من دون أن يحدد مفهوم الاستحسان.

٥٠٠