الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

أمراً واضحاً كالشمس في رائعة النهار ، وأين هذا من القياس في الأُمور التشريعية الاعتبارية في الموارد التي يصل المجتهد فيها إلى الجهة المشتركة بالسبر والتقسيم وربما يظن الذي لا يفيد سوى الظن بالمشاركة ، فتعميم مفاد الآية إلى التشريع لا يصحّ إلاّ بضرب من القياس والاستدلال عليه بالآية عندئذ يستلزم الدور كما مرّ نظيره.

٥. آية جزاء الصيد

قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (١).

قال الشافعي : فأمرهم بالمثْل ، وجعل المثْل إلى عدلين يحكمان فيه فلمّا حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لدوابّ الصيد أمثال على الأبدان ، فحكم مَنْ حكم من أصحاب رسول الله على ذلك فقضى في الضَّبع بكبش وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة. (٢)

والعلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا ، المثل بالبدن لا بالقيم ، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان ، وفي الأزمان وأحكامهم فيها واحدة.

والعلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن ، ولكنّها كانت أقرب الأشياء منه شبهاً فجعلت مثله ، وهذا من القياس ، يتقارب تقارب العنز والظبي ،

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) العناق ـ بفتح العين المهملة ـ : هي الأُنثى من أولاد المعز ما لم يتمّ له سنة ، والجفرة : ما لم يبلغ أربعة أشهر وفصل عن أُمّه وأخذ في الرعي.

٤٦١

ويبعد قليلاً بعد الجفرة من اليربوع. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ حاصل مفاد الآية أنّه يشترط في الكفارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور ، أو المماثلة في القيمة كما هو المنقول عن إبراهيم النخعي ، وعلى أيّ تقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الأحكام الشرعية وكونه من مصادرها ، لأنّ أقصى ما يستفاد من الآية أنّ المحرم إذا قتل الصيد متعمّداً فجزاؤه هو ذبح ما يشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة ، والبقرة في قتل الحمار الوحشي وهكذا ، وهل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلاً على أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد ، أو يقتصر بمورده ولا يصحّ التجاوز عن المورد إلاّ بالقول بالقياس غير الثابت إلاّ بهذه الآية ، وهل هذا إلاّ دور واضح؟

إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء في ضمان المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي ، حيث اقتصر في براءة الذمّة ، بالمماثلة ، في العين أو قيمتها.

وثانياً : أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للأحكام الشرعية الكلّية ، وأين هذا من كون التشابه معياراً في تشخيص مصداق الواجب على الصائد؟

وربما يستدلّ بالآية بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه أوجب المثل وجعل طريق تشخيص المماثلة هو الظن. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ حجّية الظنّ في مورد لا يكون دليلاً على اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

__________________

(١) الرسالة : ٤٩١ ، ذكره في باب الاجتهاد ، وهو عنده مساو للقياس كما مرّ.

(٢) الطوسي : العدة : ٢ / ٢٧٦.

٤٦٢

وقد استدلّ الشوكاني (١) بوجه ثالث قريب من الوجه الثاني هو انّه سبحانه أوجب المثل ولم يقل أيّ مثل فوكّل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا ، نظيره أنّه أمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال وقال : (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الشارع وإن ترك لنا تشخيص الموضوعات ، إلاّ أنّه جعل لها طرقاً كالبيّنة ، مضافاً إلى الطرق العلمية في مورد القبلة ، وكون القياس أحد هذه الطرق أوّل الكلام.

٦. آية القدر

وتعلّقوا أيضاً بقوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ). (٣) قالوا : والمثلية والمقدار طريقة غالب الظن وبقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). (٤) قالوا : وذلك طريقة غالب الظن. (٥)

يلاحظ عليه : أنّه إذا ثبتت حجّية الظنّ في مورد أو موردين لا يكون دليلاً على حجّيته مطلقاً ، ولو قيل بذلك يصير قياساً وكلامنا في مسألة القياس ، فكيف يستدلّ به على نفسه؟

٧. آية العدل

واستدلّ ابن تيمية على حجّية القياس بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى). (٦) بتقريب انّ العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية.

__________________

(١) إرشاد الفحول : ٢٠١.

(٢) البقرة : ٢٠١.

(٣) البقرة : ٢٣٦.

(٤) النساء : ٣.

(٥) عدة الأُصول : ٢ / ٢٧٦.

(٦) النحل : ٩٠.

٤٦٣

يلاحظ عليه : أنّ الله سبحانه يأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الظلم والبغي في الحياة الفردية والاجتماعية ، وأي صلة للآية بالقياس في الأحكام وانّ المثلين في المناط المستخرج عن طريق السبر والتقسيم يجب أن يكونا متماثلين.

يقول الشوكاني : لو قلنا بدلالة الآية على حجّية القياس فإنّما نقول بها في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها لا الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ونوع من الظنون الزائغة وخصلة من خصال الخيالات الزائفة. (١)

وقد تمسّكوا بآيات أُخرى ليس لها أيّ مساس بحجّية القياس ، فلنذكر ما استدلّوا به على صحّته من السنّة.

٢. الاستدلال بالسنّة

استدلّ القائلون بالقياس بروايات نذكر ما هو المهمّ منها :

١. حديث معاذ بن جبل

احتجّ غير واحد من أصحاب القياس بحديث معاذ بن جبل والاحتجاج فرع إتقان الرواية سنداً ومتناً وإليك بيانها :

عن الحرث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص :

إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حين بعثه إلى اليمن ، فقال : كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟

قال : أقضي بما في كتاب الله.

__________________

(١) إرشاد الفحول : ٢٠٢.

٤٦٤

قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟

قال : فبسنّة رسول الله.

قال : فإن لم يكن في سنّة رسول الله؟

قال : أجتهد رأيي ، لا آلو.

قال : فضرب رسول الله صدري ، ثمّ قال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله. (١)

وقد استدلّ به الإمام الشافعي ، فقال ـ بعد ما أفاد أنّ القياس حجّة فيما لم يكن في المورد نصّ كتاب أو سنّة ـ : فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ ثمّ أجاب : هما اسمان لمعنى واحد. (٢)

وقال في موضع آخر : أمّا الكتاب والسنّة فيدلاّن على ذلك ، لأنّه إذا أمر النبي بالاجتهاد فالاجتهاد أبداً لا يكون إلاّ على طلب شيء ، وطلب الشيء لا يكون إلاّ بدلائل ، والدلائل هي القياس. (٣)

وقال أبو الحسين البصري : وجه الاستدلال به أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ صوّبه في قوله : أجتهد رأيي عند الانتقال من الكتاب والسنّة ، فعلمنا أنّ قوله : أجتهد رأيي ، لم ينصرف إلى الحكم بالكتاب والسنّة. (٤)

وثمّة كلمات متماثلة لما ذكرنا في تقريب الاستدلال به.

لكنّ الحديث ضعيف سنداً وغير تام دلالة.

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٣٠ ؛ سنن الدارمي : ١٧٠ ؛ سنن أبي داود : ٣ / ٣٠٣ برقم ٣٥٩٣ ؛ سنن الترمذي : ٣ / ٦١٦ برقم ١٣٢٨ ، ينتهي سند الجميع إلى حارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص.

(٢) الرسالة : ٤٧٧ و ٥٠٥ ، طبع مصر ، تحقيق أحمد محمد شاكر.

(٣) الرسالة : ٤٧٧ و ٥٠٥ ، طبع مصر ، تحقيق أحمد محمد شاكر.

(٤) المعتمد : ٢ / ٢٢٢.

٤٦٥

أمّا السند ، ففيه الأُمور التالية :

١. إنّ أبا عون محمد بن عبيد الله الثقفي الوارد في السند ، مجهول لم يعرف.

٢. إنّ الحارث بن عمرو ، مجهول مثله ولم يعرف سوى أنّه ابن أخي المغيرة بن شعبة.

٣. إنّ الحارث بن عمرو ، ينقل عن أُناس من أهل حمص وهم مجهولون فتكون الرواية مرسلة. وبعد هذه الأُمور أفيصحّ الاستدلال بحديث يرويه مجهول عن مجهول عن مجاهيل؟!

قال ابن حزم : وأمّا خبر معاذ ، فإنّه لا يحلّ الاحتجاج به لسقوطه ، وذلك أنّه لم يُروَ قطّ إلاّ من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو : حدّثني أحمد بن محمد العذري ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا زاهر بن أحمد الفقيه ، حدثنا زنجويه بن محمد النيسابوري ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري فذكر سند هذا الحديث ، وقال :

قال البخاري : ولا يعرف الحارث إلاّ بهذا ولا يصحّ. هذا نصّ كلام البخاري في تاريخه الأوسط ، ثمّ هو عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم. (١)

وقال الذهبي : الحارث بن عمرو ، عن رجال ، عن معاذ بحديث الاجتهاد ، قال البخاري : لا يصحّ حديثه.

قلت : تفرّد به أبو عون (محمد بن عبيد الله الثقفي) عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة وما روى عن الحارث ، غير أبي عون وهو مجهول.

وقال الترمذي : ليس إسناده عندي بمتّصل. (٢)

__________________

(١) الإحكام : ٥ / ٢٠٧.

(٢) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٣٩ برقم ١٦٣٥.

٤٦٦

وقال السيد المرتضى : إنّ حديث معاذ خبر واحد وبمثله لا تثبت الأُصول المعلومة ، ولو ثبتت بأخبار الآحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ ، لأنّ رُواته مجهولون. وقيل : رواه جماعة من أصحاب معاذ ولم يُذكَروا. (١)

وفي عون المعبود : وهذا الحديث أورده الجوزقاني في «الموضوعات» وقال : هذا حديث باطل ، رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار ، وسألت من لقيتُه من أهل العلم بالنقل عنه فلم أجد له طريقاً غير هذا ، ـ إلى أن قال : ـ فإن قيل انّ الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه قيل هذا طريقه والخلف قلّد السلف. (٢)

وأمّا الدلالة ، فانّ الاستدلال بالحديث على حجّية القياس لا يخلو من غرابة.

أمّا أوّلاً : فلأنّها مبنية على مساواة الاجتهاد بالقياس ، بل المراد به هو الاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله حتّى يتوصل إلى حكم الله عن طريقهما ، لأنّ الأحكام على قسمين قسم موجود في ظواهر الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى بذل الجهد ، بل يعرفه كلّ من يعرف اللغة ، وقسم منه غير موجود في ظواهره لكن يمكن التوصل إليها عن طريقهما بالتدبر فيهما.

وهذا هو الاجتهاد الدارج بين العلماء ، وأين هذا من القياس الذي ورد فيه النص على حكم الأصل دون الفرع ، والقائس يبذل جهده ، ليجد فيهما التشابه ، حتّى يسري حكم الأصل إلى الفرع.

قال المرتضى : ولا يُنكر أن يكون معنى قوله : «أجتهد رأيي» أي أجتهد

__________________

(١) الذريعة إلى أُصول الشريعة : ٢ / ٧٧٣.

(٢) عون المعبود شرح سنن أبي داود : ٩ / ٥١٠.

٤٦٧

حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة ، من الكتاب والسنّة ، إذ كان في أحكام الله فيهما ما لا يتوصّل إليه إلاّ بالاجتهاد ، ولا يوجد في ظواهر النصوص ، فادّعاؤهم أنّ إلحاق الفروع بالأُصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس ، هو الاجتهاد الذي عناه في الخبر ، ممّا لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. (١)

وثانياً : أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلاً على تجويزه في الإفتاء ، لأنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره ، بخلاف الإفتاء ، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء على جوازه في الإفتاء ، مبنيّ على صحّة القياس وهو دور واضح.

وثالثاً : أنّ القضاء منصب خطر إذ به تصان الدماء والأعراض والأموال ، كما به تباح النواميس والشئون الخطيرة ، فهل يمكن أن يبعث النبي رجلاً ويخوّل له النبي التصرف في مهام الأُمور ، باعمال الرأي من دون أن يحدّده على وجه يصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حكم الواقعة عن المصدرين بالتأمل فيهما ، لا إعمال الرأي بأقسامه المختلفة التي ربما لا تمس الواقع غالباً.

وهذا يكشف عن وجود خصوصية في معاذ تصدّه عن استعمال الرأي الخارج عن حدود الكتاب والسنّة ، وإلاّ لما خوله أمر القضاء من دون تحديده.

ويشهد على ما ذكرنا ما حكي من سيرة معاذ حيث إنّه لم يكن يجتهد برأيه في الأحكام وإنّما كان يتوقّف حتى يسأل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

روى يحيى بن الحكم أنّ معاذاً قال : بعثني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أُصدِّق أهلَ اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كلِّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً قال : فعرضوا عليّ أن آخذ من الأربعين فأبيت ذاك ، وقلت لهم : حتى أسأل

__________________

(١) الذريعة : ٢ / ٧٧٦.

٤٦٨

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن ذلك.

فقدمتُ ، فأخبرت النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأمرني أن آخذ من كلّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً. (١)

فإذا كانت هذه سيرته فكيف يقضي بالظنون والاعتبارات؟!

ثمّ إنّ هناك نقطة جديرة بالذكر ، وهي أنّ القضاء منصب خطير لا يشغله إلاّ العارف بالكتاب والسنّة والخبير في فضّ الخصومات ، فالنبيّ الذي نصبه للقضاء لا بدّ أن يعلِّمه الكتاب والسنّة أوّلاً وأن يكون واقفاً على مدى إحاطته بهما ، ثم يبعثه إلى القضاء وفصل الخصومات مع المعرفة التامّة لحال القاضي.

وعلى هذا (أي لزوم المعرفة بكفاءة المبعوث قبل البعث) يكون السؤال بقوله : «فكيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بما في كتاب الله» أمراً لغواً ، وهذا يعرب عن أنّ الحديث لم ينقل على الوجه الصحيح ، وستوافيك الصور الأُخرى للرواية.

قال الرازي : إنّ الحديث يقتضي أنّه سأله عمّا به يقضي بعد أن نصبه للقضاء ، وذلك لا يجوز لأنّ جواز نصبه للقضاء مشروط بصلاحيته للقضاء ، وهذه الصلاحية إنّما تثبت لو ثبت كونه عالماً بالشيء الذي يجب أن يقضي به والشيء الذي لا يجب أن يقضي به. (٢)

ثمّ إنّ المتمسّكين بالحديث لمّا رأوا ضعف الحديث سنداً ودلالة ، حاولوا تصحيح التمسّك بقولهم بأنّ خبر معاذ خبر مشهور ولو كان مرسلاً ، لكنّ الأُمّة تلقّته بالقبول. (٣)

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٢٤٠ ؛ المسند الجامع : ١٥ / ٢٣٠ برقم (١١٥١٨ ـ ٤١).

(٢) المحصول : ٢ / ٢٥٥.

(٣) الحاصل من المحصول : ٢ / ١٦٣.

٤٦٩

لكن عزب عن المستدلّ أنّ اشتهار الحديث نتيجة الاستدلال به للقياس ولو لا كونه مصدراً لمقالة أهل القياس لما نال تلك الشهرة.

يقول السيد المرتضى : أمّا تلقّي الأُمّة له بالقبول ، فغير معلوم ، فقد بيّنا أنّ قبول الأُمّة لأمثال هذه الأخبار كقبولهم لمسّ الذكر ، وما جرى مجراه ممّا لا يُقطع به ولا يُعلم صحّته. (١)

إلى هنا تمّ مناقشة الحديث سنداً ودلالة ، وتبيّن أنّ الحديث غير صالح للاحتجاج به.

الصور الأُخرى للحديث

إنّ الحديث قد ورد بصور مختلفة وبينها تضادّ كبير في المضمون ، وإليك هذه الصور :

الصورة الأُولى : ما رواه ابن حزم قال : حدثنا حمام وأبو عمر الطلمنكي قال حمام : حدثنا أبو محمد الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقى (٢) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.

وقال الطلمنكي : حدثنا ابن مفرج ، حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ، قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، ثمّ اتّفق ابن أبي شيبة وسعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير. حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي ـ أبو عون ـ قال : لمّا بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن ، قال : يا معاذ بم تقضي؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن جاءك

__________________

(١) الذريعة إلى أُصول الشريعة : ٢ / ٧٧٤.

(٢) هكذا في المصدر.

٤٧٠

أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه؟ قال : أقضي بما قضى به الصالحون. قال : فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه ولا قضى به الصالحون؟ قال : أؤم الحقّ جهدي.

فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما يُرضى به رسول الله. (١)

ترى أنّ معاذاً يقدّم ما قضى به الصالحون على كلّ شيء ، بعد الكتاب والسنّة ، ولعلّ مراده هي الأعراف السائدة بين المجتمعات التي تكون مرجعاً للقضاء كما أوضحنا في بعض محاضراتنا الأُصوليّة (٢) حالها عند دراسة حجّية العرف والأعراف. ويحتمل أن يكون مراده ، هو ما ورد في الشرائع السالفة.

كما أنّ مراده من قوله : «أؤمّ الحقّ» هو التفكّر في الأُصول والقواعد الواردة في الكتاب والسنّة.

أضف إلى ذلك أنّ الرواية مرسلة ، لأنّ أبا عون لا يروي عن «معاذ» مباشرة ، لتأخّر طبقته في الحديث عن «معاذ» بطبقتين.

الصورة الثانية : عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : حدثنا معاذ بن جبل ، قال :

لمّا بعثني رسول الله إلى اليمن ، قال : لا تقضينّ ولا تفصِلنّ إلاّ بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبيّنه أو تكتب إليَّ فيه. (٣)

وهي : متّصلة السند ولكن المتن غير ما جاء في الحديث بل يغايره تماماً ، وينفي مقالة حماة القياس.

الصورة الثالثة : ما وردت في الكتب الأُصولية ولعلّها منقولة بالمعنى.

قال أبو الحسين البصريّ : روي عن النبيّ ، أنّه قال لمعاذ وأبي موسى

__________________

(١) الإحكام : ٥ / ٢٠٨.

(٢) إرشاد العقول : ١ / ٢٨٥ ـ ٢٩١.

(٣) أخرجه ابن ماجة برقم ٥٥.

٤٧١

الأشعري ، وقد أنفذهما إلى اليمن ، بم تقضيان؟

قالا : إن لم نجد الحكم في السنّة ، قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به. (١)

ونقله الرازي في «المحصول» ، وقال : روي أنّه أنفذ معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لهما : بما تقضيان ، فقالا : إذا لم نجد الحكم في السنّة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به.

فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أصبتما. (٢)

وتبعه الأرموي في «التحصيل من المحصول». (٣)

والظاهر أنّ الحديث نقل بالمعنى حسب فهم الراوي ، ولم نعثر على هذا النصّ في الصحاح والمسانيد.

نعم أخرج أحمد عن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما الناس القرآن. (٤)

وعلى أيّ تقدير فالرواية مرسلة أوّلاً ، وإجابة الرجلين بجواب واحد في زمان واحد بعيد ثانياً ، واختصاصها بالقضاء دون الإفتاء ثالثاً ، وتفويض أمر القضاء إلى رأي الرجلين دون تحديد له ، يلازم التهاون بالنواميس رابعاً ، فلا محيص عن القول بوجود خصوصية فيهما كانت تصدهما عن الإفتاء بالرأي الذي ليس له جذر في الكتاب والسنّة.

__________________

(١) المعتمد : ٢ / ٢٢٢.

(٢) المحصول : ٢ / ٢٥٤.

(٣) الحاصل من المحصول : ٢ / ١٦٣.

(٤) مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٣٩٧.

٤٧٢

٢. حديث عمر

عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، قال : هششت فقبَّلتُ وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله أتيت أمراً عظيماً قبّلتُ وأنا صائم ، فقال : «أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟» فقلت : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «ففيم؟!». (١)

قال ابن قيم الجوزية : ولو لا أنّ حكمَ المثل حكمُ مثلِه وأنّ المعاني والعلل مؤثّرة في الأحكام نفياً وإثباتاً لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى ، فَذَكَره ليُدلّ به على أنّ حكم النظير حكمُ مثله ، وأنّ نسبة القبلة التي هي وسيلة للوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه ، فكما أنّ هذا الأمر لا يضرّ ، فكذلك الآخر. (٢)

وقال السرخسي : هذا تعليم المقايسة ، فإنّ بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة ، كما أنّ بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. (٣)

أقول : إنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع عن حكم الأصل بحيث يعتمد أحدهما على الآخر وليس المقام كذلك ، بل كلاهما كغصني شجرة أو كجدولي نهر ، فالمبطل هو الأكل والجماع لا مقدّمتهما فبما أنّ المخاطب كان واقفاً على ذلك الحكم في الأكل دون الجماع ، أرشده النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إليه بتشبيه القبلة بالمضمضة إقناعاً للمخاطب لا استنباطاً للحكم من الأصل وليس الكلام في إقناع المخاطب ، بل في استنباط الحكم والرواية غير ظاهرة ، في الأمر الثاني الذي

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ٣١١ ، كتاب الصوم رقم ٢٣٨٥ ؛ مسند أحمد : ١ / ٢١.

(٢) إعلام الموقعين : ١ / ١٩٩.

(٣) أُصول الفقه : ٢ / ١٣٠.

٤٧٣

هو المقصود بالاستدلال بها.

أضف إلى ذلك ما ذكره ابن حزم حولها حيث قال :

لو لم يكن في إبطال القياس إلاّ هذا الحديث لكفى ، لأنّ عمر ظنّ أنّ القبلة تفطر الصائم قياساً على الجماع ، فأخبره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها ، وأنّ المضمضة لا تفطر ، ولو تجاوز الماء الحلق عمداً لأفطر ، وأنّ الجماع يفطر ، والقبلة لا تفطر ، وهذا هو إبطال القياس حقاً. (١)

٣. حديث ابن عباس

عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس ، أنّ رجلاً سأل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّ أبي أدركه الحجّ وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته فإن شددته خشيت أن يموت أفأحجّ عنه؟

قال : أفرأيت لو كان عليه دَين فقضيتَه أكان مجزئاً؟ قال : نعم.

قال : فحجّ عن أبيك.

ورواه نافع بن جبير وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو الشعثاء وعطاء عن ابن عباس بتعابير متقاربة ، فالرواية واحدة لانتهاء أسنادها إلى ابن عباس والرواة عنه متعدّدون (٢) ولكن الرواية في الكتب الأُصولية منسوبة ، إلى جارية خثعميّة. (٣)

والرواية المنسوبة إليها ليست مشتملة على التشبيه ، وإليك نصّها :

عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنّه قال :

__________________

(١) الإحكام : ٧ / ٤٠٩.

(٢) لاحظ للوقوف على صور الروايات : المسند الجامع : ٩ / ١٦ ـ ١٩ ، كتاب الحج.

(٣) المنخول : ٣٢٩ ؛ المحصول : ٢ / ٢٦٢.

٤٧٤

كان الفضل بن عباس رديف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يصرف وجه الفضل إلى الشقّ الآخر. قالت : يا رسول الله إنّ فريضة الله في الحجّ على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجّ عنه؟ قال : نعم ، وذلك في حجّة الوداع. (١)

وعلى كلّ تقدير فقد استدلّ بهذه الرواية ، يقول السرخسي : هذا تعليم المقايسة وبيان بطريق إعمال الرأي.

وقال الآمدي : إنّه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه وهو عين القياس. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما جاء في هذه الرواية ليس من مقولة القياس ، بل من باب تطبيق الكبرى المسلّمة عند القائل على صغراها ، أعني قوله : كلّ دين يقضى ، وقد طبقها رسول الله على دين الله لأبيها ، فحكم بلزوم القضاء فأين هذا من القياس؟!

وإن شئت قلت : إنّ القياس يتحقّق بأركان أربعة :

١. الأصل ، ٢. الفرع ، ٣. الجهة الجامعة بينهما ، ٤. الحكم ، فيلاحظ القياس الأصل أوّلاً ، ثمّ الفرع ثانياً ، ثمّ يتفحص عن الجهة الجامعة بينهما ، ثمّ يحكم بالتحاق الفرع بالأصل ، وأين هذه الأُمور المتسلسلة ، ممّا ورد في الرواية ، بل النبي لما كان عالماً بالتشريع الإلهي وهو انّ كلّ دين يقضى من غير فرق بين كونه دين الناس ، أو دين الله سبحانه ، وكان السائل جاهلاً بالتسوية ، فشبّه أحدهما

__________________

(١) موطأ مالك : ٢٣٦ ؛ مسند أحمد : ١ / ٣٦١ برقم ١٨٩٣ ؛ صحيح البخاري : ٢ / ١٦٣ ؛ صحيح مسلم : ٤ / ١٠١ ؛ سنن النسائي : ٥ / ١١٧ ؛ سنن أبي داود : برقم ١٨٠٩.

(٢) الأحكام للآمدي : ٣ / ٧٨.

٤٧٥

بالآخر بنية تطبيق الكبرى على الصغرى.

وثانياً : أنّ القياس الوارد في الحديث من باب القياس الأولوي ، وقد مرّ أنّه خارج عن محلّ النزاع ، والشاهد عليه قوله : «أحقّ بالقضاء».

٤. حديث الأعرابي

عن أبي طاهر وحرملة بن يحيى قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة :

إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاءه أعرابي فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود (وإنّي أنكرته) ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «هل لك من إبل؟» قال : نعم ، قال : «ما ألوانها؟» ، قال : حمر ، قال : «هل فيها من أورق؟» قال : نعم ، قال : «فأنّى كان ذلك؟» ، قال : أراه عرق نزعه ، قال : «فلعلّ ابنك هذا عرق نزعه». (١)

يلاحظ عليه : أنّ الأصل المقرّر في الشرع ، هو أنّ الولد للفراش ، ولم يكن للأعرابي نفي الولد بحجّة عدم التوافق في اللون ، وأراد النبيّ أن يبطل حجّته بأنّ عدم التوافق لا يكون دليلاً على عدم الإلحاق ، وليس ذلك بعجيب ، لأنّه يوجد نظيره في الحيوانات فالإبل الحمر ربّما تلد أورق بالرغم من حمرتها ، وقد بيّن وجهه في الحديث.

فلو صحت تسمية ذلك قياساً فإنّما هو في الأُمور الطبيعية لا في الأحكام الشرعية.

قال ابن حزم : وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس ، وذلك لأنّ الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علّة لنفيه عن نفسه ، فأبطل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب الحدود : ٨ / ١٧٣.

٤٧٦

حكم الشبه ، وأخبره أنّ الإبل الورق قد تلدها الإبل الحمر ، فأبطل ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن تتساوى المتشابهات في الحكم ، ومن المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الإبل ، والقياس عندهم إنّما هو ردّ فرع إلى أصله وتشبيه ما لم ينصّ بمنصوص ، وبالضرورة نعلم أنّه ليس الإبل أولى بالولادة من الناس ، ولا الناس أولى من الإبل وأنّ كلا النوعين في الإيلاد ، والإلقاح سواء ، فأين هاهنا مجال للقياس؟ وهل من قال : إن توالد الناس مقيس على توالد الإبل ، إلاّ بمنزلة من قال : إنّ صلاة المغرب إنّما وجبت فرضاً لأنّها قيست على صلاة الظهر؟ وإنّ الزكاة إنّما وجبت قياساً على الصلاة.

وهذه حماقة لا تأتي بها إلاّ عضاريط أصحاب القياس ، لا يرضون بها لأنفسهم.

فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلّم للناس ، وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافاً بقدر النبوّة وكذباً عليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. (١)

وممّا ذكرنا يعلم حال بعض ما استدلّ به على حجّية القياس نظير :

جاء في الحديث انّه قال لأُمّ سلمة «قد سُئلتْ عن قبلة الصائم : هل أخبرته انّي أُقبّل وأنا صائم». (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ لسان الرواية يأبى نسبة مضمونها إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهو أسمى من أن يشهر بشيء يعود إلى شئونه وعوالمه الخاصة مع نسائه وحسبه من تبليغ الحكم بغير هذا الطريق. (٣)

__________________

(١) الإحكام : ٧ / ٤١٣ ـ ٤١٤.

(٢) الإحكام للآمدي : ٣ / ٧٨.

(٣) الأُصول العامة للفقه المقارن : ٣٤٤.

٤٧٧

وثانياً : أنّ النبي بصدد بيان السنّة بفعله ، فانّها كما تبلغ بالقول بأن يقول القبلة لا تبطل الصوم ، كذلك تبلغ بالفعل ، وهو بفعله حكى السنة وأين هذا من القياس.

هذه هي الأحاديث التي تشبّثوا بها في إثبات القياس ، وقد عرفت قصور الجميع في الدلالة ، وقصور بعضها في السند ، وإليك دراسة بقية أدلّتهم.

٣. الاستدلال بإجماع الصحابة

وقد اعتبر الآمدي إجماع الصحابة أقوى الأدلة وقال ابن عقيل الحنبلي : وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي.

وقال الصفي الهندي : دليل الإجماع هو المعوَّل لجماهير المحقّقين من الأُصوليين وقال الرازي في المحصول : مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جمهور الأُصوليين. (١)

ثمّ إنّ الرازي استدلّ بدليل مؤلف من مقدّمات ثلاث :

المقدّمة الأُولى : إنّ بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به.

المقدّمة الثانية : إنّه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس ، فلأنّ القياس أصل عظيم في الشرع نفياً أو إثباتاً فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم ، ولو نقل لاشتهر ، ولوصل إلينا فلمّا لم يصل إلينا علمنا أنّه لم يوجد.

__________________

(١) الأحكام للآمدي : ٣ / ٨١.

٤٧٨

المقدّمة الثالثة : إنّه لمّا قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحّته. (١)

يلاحظ عليه : أنّ كلاً من المقدّمات الثلاث قابلة للنقاش والرد.

أمّا الأُولى فلنفترض انّ بعض الصحابة عمل بالقياس على وجه الإجمال ولكن لم يُشخّص تفاصيله ، وانّهم هل عملوا بمنصوص العلّة أو بمستنبطها؟ وعلى فرض العمل بالثاني فلم يعلم ما هو مسلكهم في تعيين علة الحكم ومناطه فهل كان بالسبر والتقسيم أو من طريق آخر؟ ومع هذا الإجمال كيف يمكن أن يتخذ عمل الصحابة دليلاً على حجّية القياس في عامة الموارد وعامة المسالك إلى تعيين علّة الحكم ومناطه.

وأمّا الثانية فلأنّ تسمية عمل البعض مع سكوت الآخرين إجماعاً غير صحيح جدّاً ، لأنّ الإجماع عند الأُصوليين وحتّى الغزالي نفسه عبارة عن اتفاق علماء عصر واحد على حكم شرعي. (٢)

ومن المعلوم أنّ عمل البعض لا يعدّ دليلاً على الإجماع وإن سكت الآخرون ، وذلك لأنّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين في المدينة المنورة بل ميادين الجهاد والبلدان المفتوحة والثغور وغيرهما أخذت كثيراً من الصحابة ولاة وعُمّالاً وجنداً وقادة فكيف عرف اتّفاقهم على هذين المقامين حتّى يتحقّق الإجماع.

وأمّا الثالثة وهو عدم إنكار أحد منهم فهو أيضاً محجوج بالروايات القطعية عن الصحابة والتابعين في استنكار القياس.

__________________

(١) المحصول : ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٩. وقد صرح في ص ٢٩٢ : انّ مذهب أهل البيت إنكار القياس.

(٢) المستصفى : ١ / ١١٠.

٤٧٩

وستوافيك نصوص المخالفين واستدلالهم على عدم صحّته ، وقد اشتهر بين المحدّثين قول الإمام عليّ ـ عليه‌السلام ـ بأنّه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخُفّ أولى بالمسح من ظاهره.

وقد روي عن ابن مسعود أنّه قال : إذا قلتم في دينكم بالقياس ، أحللتم كثيراً مما حرّم الله وحرمتم كثيراً ممّا حلل الله. (١)

وقال ابن عباس : إياكم والمقاييس فإنّما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس. (٢)

إلى غير ذلك من الآثار المروية عن الصحابة والتابعين وقد نقلها ابن قيم الجوزية في «اعلام الموقعين» ، وابن حزم في كتاب «إبطال القياس» ومع هذه النقول عن الصحابة ، كيف يمكن أن نعتمد على مثل هذا الإجماع؟! (٣)

وقد شاع بين التابعين نقد أدلّة القائلين بالقياس ، بأنّ أوّل من قاس هو إبليس إذ قاس نفسه بآدم ، وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين.

والحاصل لم يكن هناك إجماع من الصحابة على العمل بالقياس ، ولو كان هناك شيء فإنّما هو كقضية جزئية لا تكون سنداً للقاعدة. على أنَّ قول الصحابي ليس بحجّة ما لم يعلم استناده إلى الرسول ، فكيف يكون فعله حجّة؟ وستوافيك نصوص من الصحابة والتابعين على نفي القياس.

قال ابن حزم : أين وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم أنّ الصحابة أُلوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلاّ عن مائة ونيّف وثلاثين نفراً منهم سبعة مكثرون ، وثلاثة عشر نفساً متوسطون ، والباقون مقلّون جدّاً تروى عنهم

__________________

(١) الإحكام : ٣ / ٨٣.

(٢) الإحكام : ٣ / ٨٣.

(٣) أُصول الفقه للمظفر : ٢ / ١٧٢.

٤٨٠