الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

بالنص لا بالقياس وعلى فرض كونه قياساً فهو حجّة عند الجميع نظير الاحتجاج بقوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) على تحريم ال (١) ضرب ، ولا شكّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم ، لأنّه مدلول عرفي يقف عليه كلّ من تدبّر في الآية.

الثامن : تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فانّ السائل وإن سأل عن الرجل الذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

ولعلّ من هذا القبيل قصة الأعرابي حيث قال : هلكت يا رسول الله ، فقال له : ما صنعت؟ قال وقعت على أهلي في نهار رمضان ، قال : اعتق. (٢)

والعرف يساعد على إلغاء القيود الثلاثة التالية وعدم مدخليتها في الحكم.

١. كونه أعرابياً.

٢. الوقوع على الأهل.

٣. صيام شهر رمضان.

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الصيام ، الحديث ١٨٧ ، وقد روي بطرق مختلفة وباختلاف يسير في المتن.

٤٤١

فيعمّ البدوي والقروي والوقوع على الأهل وغيره وصيام شهر رمضان وغيره فيكون الموضوع من أفطر بالوقاع صومَه الواجب.

إنّ تنقيح المناط من المزالق للفقيه وربما يُلغي بعض القيود باستحسان ، أو غيره مع عدم مساعدة العرف عليه ، فعليه الاحتياط التام في تنقيح موضوع الحكم والاقتصار بما يساعد عليه فهم العرف على إلغاء القيد وإن شك ، في مساعدة العرف على الإلغاء وعدمها ، فليس له تعميم الحكم.

وعلى كلّ حال ، فهذه التعميمات ، لا صلة لها بالقياس ، وإنّما هي استظهار مفاد الدليل واستنطاقه حسب الفهم العرفي.

وهذا ما يعبر عنه في الفقه الإمامي ، بإلغاء الخصوصية ، أو مناسبة الحكم والموضوع ، مضافاً إلى التعبير عنه ب «تنقيح المناط».

التاسع : المتشابهان غير المتماثلين

إنّ مصبّ القياس هو الأمران المتشابهان لا الأمران المتماثلان ، فكم فرق بين المتماثلين والمتشابهين ، فمثلاً إذا أثبتنا بالتجربة أنّ الفلز يتمدّد بالحرارة ، فيكون ذلك معياراً كلّياً لكلّ فلز مماثل وأنّه يخضع لنفس الحكم ، وهذا خارج عن مصبّ البحث ، إنّما الكلام في القياس بين أمرين متغايرين نوعاً ، متشابهين في جهة خاصة ، فهل يصحّ لنا تسرية حكم الأصل إلى الفرع بذريعة وجود التشابه بينهما أو لا؟ فمثلاً الخمر نوع حرام بالنصّ ، والفقّاع نوع آخر ، لأنّ الأوّل مأخوذ من العنب ، والثاني مأخوذ من الشعير ، فهما نوعان ، فهل يصحّ لنا أن نُسري حكم الخمر إلى الفقّاع لتساويهما في صفة الإسكار؟

وكثيراً ما نرى أنّ الباحثين لا يميّزون بين المتماثلين والمتشابهين ، إذ مرجع

٤٤٢

الأوّل غالباً إلى التجربة التي هي دليل عقليّ قطعيّ ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم فيه ظنّي لجهة المناسبة والمشابهة إلاّ أن ينتهي إلى مرحلة القطع.

العاشر : تخريج المناط

إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصَّ لمناطه ، مثلاً : إذا حرّم الربا المعاوضي في البُرّ فيعمم إلى كل مكيل بدعوى انّ مناط التحريم هو الكيل ، وهذا ما ربما يعبر عنه باستنباط علّة الحكم بطريق من الطرق ، ثمّ تعميم الحكم حسب صدقها على مواردها وقد ذكر له طرقاً سبعة أو أكثر والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم.

والسبر في اللغة هو الامتحان ، وتقريره : أن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم وتَصْلح لأن تكون العلّة واحداً منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة ، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة ويُستبقي ما يصحّ أن تكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصّل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة.

إنّ الغزالي ذكر لإثبات العلّة بالاستنباط طرقاً ثلاثة وجعل السبر والتقسيم النوع الأوّل وقال : وهو دليل صحيح وذلك أن يقول : هذا الحكم معلّل ولا علّة له إلاّ كذا وكذا ، وقد بطل أحدهما فتعيّن الآخر ، وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة ، بل له أن يقول : حرّم الربا في البر ولا بدّ من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه ، ولا علامة إلاّ الطعم أو القوت أو الكيل ، وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا ، فثبت الطعم. لكن يحتاج هاهنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة

٤٤٣

أُمور :

الأوّل : انّه لا بدّ من علامة ، ولا يمكن أن يقال هو معلوم باسم البُرّ فلا يحتاج إلى علامة وعلة ، وذلك لأنّه يستلزم أن ينتفي الربا إذا صار دقيقاً أو سويقاً وقد زال اسم البر ، فدلّ انّ مناط الربا أعمّ من اسم البر.

الثاني : أن يكون سبره حاصراً يحصر جميع ما يمكن أن يكون علّة.

الثالث (١) : إفساد سائر العلل تارة ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها ، أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّ السبر والتقسيم إنّما يوجب الاطمئنان في موردين :

١. فيما إذا أفاد السبر والتقسيم الاطمئنان بأنّ ما أخذه هو المناط للحكم ، كما في مسألة تحريم الخمر فلو افترضنا انّه لم يرد فيه نصّ على علّة الحكم ، فالمجتهد يردّد العلّة بين كونه من العنب ، أو كونه سائلاً ، أو كونه ذا لون خاص ، أو كونه مسكراً ، ويستبعد كلّ واحد من العلل إلاّ الأخير فيحكم بأنّه علّة ، ثمّ يقيس كلّ مسكر عليه ، لكن يفقد أكثر موارد القياس هذا النوع من الاطمئنان.

٢. التقسيم إذا كان دائراً بين النفي والإثبات يفيد اليقين ، كقولك : العدد إمّا زوج أو فرد ، والحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق. وأمّا إذا كان بشكل التقسيم والسبر أي ملاحظة كلّ وصف خاصّ وصلاحيّته للحكم ، فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم ، وما يستبعده يطرحه ، فمثل هذا لا يكون دليلاً قطعياً بل ظنّياً ، وهذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس.

__________________

(١) سقط لفظ «الثالث» عن النسخة المطبوعة ببولاق مصر عام ١٣٢٤ ه‍.

(٢) المستصفى : ٢ / ٧٤.

٤٤٤

قال الشيخ عبد الوهاب خلاّف : وخلاصة هذا المسلك أنّ المجتهد ، عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل ، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علّة منها ، ويستبقي ما هو العلّة حسبَ رجحان ظنّه. وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقيقُ شروط العلّة بحيث لا يستبق إلاّ وصفاً منضبطاً متعدّياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار ، وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين ، لأنّ منهم من يرى المناسب هذا الوصف ، ومنهم من يرى المناسب وصفاً آخر.

فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية ، القدر مع اتحاد الجنس ، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس ، والمالكية رأوه القوت والادّخار. (١) فمن أين يجزم القائس بأنّ المناط هو الطعم لا القوت ولا الكيل ، فما ذكره الغزالي من أنّه إذا بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا فثبت الطعم ، غير تام ، وذلك لأنّه إن أراد من الدليل الدليل الشرعي القاطع للنزاع فهو حقّ ، ولكن أين للمستنبط هذا الدليل القاطع ، وإن أراد الظن بأنّه المناط دون الآخرين فهو ظن لم يقم على حجّيته دليل.

ونأتي في المقام بمثال حتّى يعلم أنّ استخراج المناط أمر محظور لا يمكن الاطمئنان به.

قد ورد في الحديث «لا يزوّج البكر الصغيرة إلاّ وليّها» ، فقد ألحق بها أصحاب القياس الثيّبَ الصغيرة ، بل المجنونةَ والمعتوهةَ ، وذلك بتخريج المناط وانّه عبارة عن كون المزوّجة صغيرة ناقصة العقل ، فيعمّ الحكم الثيّب الصغيرة والمجنونة أو المعتوهة لاتحاد المناط.

وأمّا استخراج المناط فهو بالبيان التالي :

__________________

(١) علم أُصول الفقه : ٨٧.

٤٤٥

إنّ الحديث اشتمل على وصفين كلّ منهما صالح للتعليل ، وهما الصغر والبكارة ، وبما انّه عُلّلت ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١) وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد وهو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل ، وهي المجنونة أو المعتوهة ، وتقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة.

وبذلك أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع إمكان أن تكون جزءاً من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير. (٢)

فانّ استخراج الحكم الشرعي عن هذا الطريق أمر لا يعتمد عليه إلاّ إذا ورد الدليل القاطع على حجّيته.

مضافاً إلى أنّ قياس باب النكاح بباب التصرف في الأموال ، قياس مع الفارق ، فانّ العناية بصيانة مال الصغير تستدعي أن يكون الموضوع هو الصغر ذكراً كان أو أُنثى ، بكراً كان أو ثيباً ، إذ لا دخالة لهذه القيود في أمر الصيانة ولهذا يعم الحكم جميع أفراد الصغير ، وهذا بخلاف باب النكاح فيحتمل فيه الفرق بين الصغير البكر والثيب نظير الفرق بين الكبير البكر والثيب حيث ذهب جماعة إلى أنّ الأُولى أيضاً لا تزوّج إلاّ بإذن الوليّ.

__________________

(١) النساء : ٦.

(٢) الأُصول العامة للفقه المقارن : ٢٩٨.

٤٤٦

تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظنّ

إنّ تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظن لا القطع بالمناط ، وقد عرفت تصريح عبد الوهاب خلاف باختلاف العقول في تشخيص المناط ونزيد على بيانه بأنّ هنا احتمالات أُخرى تخلُّ بعلّية المناط بالبيان التالي :

أوّلاً : نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معلّلاً عند الله بعلّة أُخرى غير ما ظنه القائس وهو كونه صغيراً أو قاصر العقل ، وليس هذا بأمر بعيد وقد قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). (١)

إذ الإنسان لم يزل في عالم الحس تنكشف له أخطاؤه ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة على العقل إلاّ في موارد جزئية كالإسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئاً.

قال ابن حزم : وإن كانت العلة غير منصوص عليها فمن أيِّ طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نص يبين طريق تعرفها؟ وترك هذا من غير دليل يعرف العلة ينتهي إلى أحد أمرين : إمّا انّ القياس ليس أصلاً معتبراً ، وإمّا انّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له وذلك يؤدي إلى التلبيس ، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فلم يبق إلاّ نفي القياس. (٢)

ثانياً : لو افترضنا انّ المقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين يعلم انّها تمام العلة ، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) أُصول الفقه لأبي زهرة : ٢١٠ ، نقلاً عن الاحكام.

٤٤٧

القائس إليه؟

ثالثاً : احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً : احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس ، ويعلم ذلك بالتدبر في الأمثلة التالية :

١. قياس الولاية في النكاح بالميراث

يقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في الميراث / المقيس عليه

فيقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في ولاية النكاح / المقيس

فإنّ علّة التقديم في الميراث امتزاج الاخوة وهو الجامع المؤثر الموجود في الطرفين.

٢. قياس الجهل في المهر بالبيع

انّ الجهل بالعوض يفسد البيع بالاتفاق / المقيس عليه

فالجهل بالمهر يفسد النكاح / المقيس

لوجود المعاوضة والجهل فيها / الجامع

٣. قياس ضمان السارق بالغاصب

إنّ الغاصب يضمن إذا تلف المال تلف يده / المقيس عليه

والسارق أيضاً يضمن وإن قطعت يده / المقيس

تلف المال تحت اليد العادية / الجامع

٤٤٨

فانّ تخريج المناط في هذه الموارد وعشرات من أمثالها تخريجات ظنية وهي بحاجة إلى قيام الدليل ، وإلاّ فيمكن أن يكون للميراث خصوصية غير موجودة في النكاح أو يكون الجهل بالعوض مفسداً في البيع دون النكاح ، لأنّ البيع مبادلة بين المالين بخلاف النكاح فانّه علاقة تجمع بين شخصين ، فالعلّة هو الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر ، والمهر ليس عوضاً.

وفي كلام الإمام الصادق لابن شبرمة إلماع إلى محظورية هذا النوع من التخريج فانّه أشبه بالرجم بالغيب.

روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» مذاكرة الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ مع أبي حنيفة كما في رواية ابن شبرمة بالنحو التالي :

أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا.

قال : قتل النفس.

قال : فإنّ الله عزّ وجلّ جعل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة؟

ثمّ قال : أيّهما أعظم الصلاة أم الصوم؟

قال : الصلاة.

قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة.

فكيف ويحك يقوم لك قياسك ، اتق الله ولا تقس الدين برأيك. (١)

توضيح الاستدلال : انّه لو افترضنا ورود النص في قتل النفس دون الزنا وانّ القتل يثبت بشاهدين فمقتضى القياس هو قبول الشاهدين في الفرع مع أنّ حكم الله على خلافه.

ونظيره الصلاة والصوم ، فلو افترضنا ورود النصّ في أنّ الحائض لا تقضي و

__________________

(١) حلية الأولياء : ٣ / ١٩٧.

٤٤٩

لم يرد النص في الصوم فمقتضى القياس عدم لزوم قضائه مع أنّ الحكم الواقعي هو خلافه.

حصيلة البحث

قد خرجنا من دراسة هذه الأُمور العشرة انّ ما هو محط النزاع عبارة عن أمرين :

١. التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وقد عرفت انّ الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ ركّز على هذا النوع في كلام له مع أبي حنيفة وهذا النوع من الاصطلاح في مورد القياس مهجور.

٢. تخريج المناط عن طريق السبر والتقسيم ، فانّ المسالك لمعرفة العلة غير مقطوعة ، وقد اعترف بها مثبتو القياس ، وأمّا ما سوى ذلك من الأقيسة فهو ليس بقياس حقيقة وإنّما عمل بالسنّة.

إذا علمت هذه الأُمور فلنختم هذا البحث بتأسيس الأصل في حجية الظن ، فهل الأصل في الظنون الحجية إلاّ ما ورد المنع فيه ، أو الأصل عدم الحجية إلاّ ما دلّ الدليل عليه؟ وهذا من أروع البحوث في أُصول الفقه الإمامي وقد خلا عنه كتب السنّة ، وحصيلة هذا البحث هو ما يلي :

الشكّ في الحجية يساوق القطع بعدمها

إنّ الأثر تارة يترتب على الوجود الواقعي للشيء كتحريم الخمر المترتب على الخمر الواقعي ، وأُخرى يترتّب على واقعه ومشكوكه معاً كالطهارة حيث إنّ الطاهر الواقعي ومشكوك الطهارة كلاهما محكومان بالطهارة واقعاً أو ظاهراً.

وثالثة أُخرى يترتب على الوجود العلمي للشيء بأن يكون معلوماً للمكلّف.

٤٥٠

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتج به المولى على العبد ، والعبد على المولى ولها آثار منها :

١. التنجز عند الإصابة ، ٢. التعذير عند المخالفة ، وهما من آثار ما علم كونه حجّة بالفعل ، وإلاّ فلو كان حجّة في الواقع ولم يقف المكلف على كونه كذلك لا يترتب عليه شيء من الأثر ، لأنّ العقل حاكم بقبح العقاب بلا بيان ، وعند ذلك لو شككنا في حجية شيء فهو ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية ومعه لا يترتّب عليه شيء من آثارها فيكون الأصل في الشك في الحجية عدمها قطعاً ، أي عدم صحّة الاحتجاج وترتب الآثار.

وبعبارة أُخرى : انّ معنى حجّية الظن هو صحة اسناد مؤدّاه إلى الله سبحانه ، والاستناد إليه في مقام العمل ، فإذا كان هذا معنى الحجّية فلا شكّ انّه مرتب على العلم بحجيّة الشيء بأن يقوم دليل قطعي على حجّية الظن ، من كتاب أو سنّة ، فعند ذلك يوصف الظن بالتنجيز أو التعذير ، ويصح إسناد مؤدّاه إلى الله سبحانه ، كما يصحّ الاستناد إليه في مقام الامتثال والعمل.

وأمّا إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّية الظن ، بل صار مظنونَ الحجّية أو محتملها فلا يترتب عليه الأثران الأوّلان : التنجز والتعذير ، لأنّ العقل إنّما يحكم بتنجيز الواقع إذا كان هناك بيان من الشارع وإلاّ فيستقل بقبح العقاب بلا بيان والمفروض انّه لم يثبت كون الظن بياناً للحكم الشرعي ، إذ لم يصل بيان من الشارع على حجّية الظن ، كما أنّه لا يعد المكلف العاملُ بالظن معذوراً إذا خالف الواقع إذا لم يدعمه دليل قطعي.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الحجية بمعنى التنجيز والتعذير من آثار معلوم الحجّية لا مظنونها ولا محتملها ، هذه هي الضابطة في مطلق الظن.

٤٥١

ومنها يظهر حكم القياس ، وذلك لأنّ المفروض وجود الشكّ في حجّية القياس حيث إنّ البحث الآن فيما لم يدعمه دليل ونهى عنه ومعه يكون الاحتجاج به غير صحيح ، إلاّ إذا دل الدليل القطعي على حجيته ، كما أنّ الأثرين الأخيرين ، أعني : اسناد مضمونه إلى الشارع والاستناد إليه في مقام العمل من آثار ما علم كونه حجّة ، وإلاّ يكون الاسناد والاستناد بدعة ، وتشريعاً محرماً ، حيث إنّ الاستناد إلى مشكوك الحجية في مقام العمل واسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي وقولي دلّت على حرمته الأدلة الأربعة.

وعلى ضوء ما ذكرنا فالقاعدة الأوّلية هو عدم حجّية أيّ ظن من الظنون بمعنى انّه لا يحتج به ما لم يقم على صحّة الاحتجاج به دليل ، ومن تلك الظنون القياس فالأصل فيه عدم الحجّية ، فإن قام على حجّيتها دليل فهو وإلاّ كان العمل به بدعة داخلة تحت قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (١)

ومفاد الآية انّ كلّ ما لم يأذن به الله فاسناده إلى الله والاستناد إليه في مقام العمل يعد افتراءً على الله ، ونظيره قوله سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (٢)

ومفاد الآية انّ التقول على الله بما لا يعلم كونه من الله أمر محرم ، سواء أمر به في الواقع أم لا.

وعلى ضوء ذلك فنفاة القياس في فسحة من إقامة الدليل على حجيته ، لأنّ الأصل عدم حجّية الظن إلاّ ما قام على حجيته الدليل ، وإنّما يلزم على مثبتي

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) الأعراف : ٢٨.

٤٥٢

القياس إقامة الدليل القطعي على أنّ الشارع سوّغ العمل بهذا النوع من الظن كما سوغ العمل بخبر الثقة ، فيجب علينا دراسة أدلّتهم من الكتاب والسنّة والعقل ، وهذا هو بيت القصيد في هذا الفصل وقد استدلّوا بآيات من الذكر الحكيم نذكر ما هو المهم وهي ستة :

١. آية الاعتبار

قال سبحانه في حادثة بني النضير : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). (١)

والحشر هو الاجتماع ، قال سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٢) ، وهو كناية عن اللقاء بين اليهود والمسلمين.

وجه الاستدلال : أنّ الله سبحانه بعد ما قصّ ما كان من بني النضير الذين كفروا ، وما حاق بهم من حيث لم يحتسبوا ، قال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فَقِسُوا أنفسَكم بهم ، لأنّكم أُناسٌ مثلهم إن فعلتم مثلَ فعلهم حاق بكم مثل ما حاق بهم ، من غير فرق بين تفسير الاعتبار بالعبور والمرور ، أو فُسِّرَ بالاتّعاظ ، فهو تقرير ، لبيان أنّ سنّة الله في ما جرى على بني النضير وغيرهم واحد. (٣)

نعم لو فسّر بالتعجب كما عن ابن حزم فلا صلة له بالقياس ، وأمّا لو فسّر بالعبور والمجاوزة فهو يرتبط به ، لأنّ في القياس عبوراً من حكم الأصل ، ومجاوزة

__________________

(١) الحشر : ٢.

(٢) طه : ٥٩.

(٣) الحاصل من المحصول : ٢ / ١٦٢ ؛ المحصول في علم الأُصول : ٢ / ٢٤٧.

٤٥٣

عنه إلى حكم الفرع ، فإذا كنّا مأمورين بالاعتبار ، فقد أمرنا بالقياس وهو معنى حجّيته كما أنّه لو فسّر بالاتعاظ فهو أيضاً ظاهر في جعل الحجية للقياس ، لأنّه تقرير لسنّة الله في خلقه ، وانّ ما يجري على النظير ، يجري على نظيره. (١)

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : بأنّ الآية بصدد بيان سنّة الله في الظالمين ، سواء فسّر الاعتبار بالتجاوز أو بالاتّعاظ ، وأنّ إجلاء بني النضير من قلاعهم وتخريبهم بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين كان جزاءً لأعمالهم الإجرامية ، وأنّ الله تبارك وتعالى يعذّب الكافر والمنافق والظالم بأنحاء العذاب ولا يتركه ، فليس هناك أصل متيقّن ولا فرع مشكوك حتى نستبين حكمَ الثاني من الأوّل بواسطة المشابهة ، بل كل ذلك فرض على مدلول الآية ، وكم لها من نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). (٢)

هل تجد في نفسك أنّ الآية بصدد إضفاء الحجّية على القياس؟ أو أنّها لبيان سنّة الله في المكذّبين؟ وقال سبحانه : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). (٣)

قال سبحانه : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). (٤)

وأدلّ دليل على أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس ، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قول : (أُولِي الْأَبْصارِ) فقلت : فاعتبروا يا أهل

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٢٦.

(٢) آل عمران : ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٣) الإسراء : ٧٦ ـ ٧٧.

(٤) هود : ٨٢ ـ ٨٣.

٤٥٤

القياس ، لعاد الكلام هزلاً غير منسجم.

وثانياً : نفترض انّ الآية بصدد بيان انّ حكم النظير ، يستكشف من حكم النظير ولكن مصبّها ، هو الأُمور الكونيّة لا الأُمور التشريعية والأحكام الاعتبارية فتعميم مدلول الآية في الأُولى إلى الثانية يحتاج إلى الدليل ، وإثبات التعميم بالتمسك بالقياس مستلزم للدور.

وثالثاً : نفترض انّها بصدد إضفاء الحجّية على القياس في التشريع أيضاً ، وانّ حكم الفرع يعلم في حكم الأصل فيما إذا توفّرت علة الحكم بينهما بحيث يجعلهما كصنوان على أساس واحد ، ولكن ما هو المسلك الكاشف عن توفر العلّة ، فالآية ساكتة عنه ، فهل المسلك الكاشف هو :

١. تنصيص الشارع في كلامه.

٢. أو الإجماع على وحدة العلّة.

٣. أو تنقيح المناط حسب فهم العرف من الكلام.

٤. أو تخريج المناط بالسبر والتقسيم.

وبما انّ الآية ساكتة عن هذه الجهة فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّية القياس على وجه الإطلاق.

٢. آية الردّ إلى الله والرسول

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). (١)

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٤٥٥

وجه الاستدلال : أنّ الله سبحانه أمر المؤمنين ـ بأنّهم إن تنازعوا واختلفوا في شيء ليس لله ولا لرسوله ولا لأُولي الأمر منهم فيه حكم ـ أن يردُّوه إلى الله وإلى الرسول ، وردّه أي إرجاعه إلى الله وإلى الرسول بإطلاقه يشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما ، فردّه إلى قواعد الشرع الكلية ردّ إلى الله ورسوله ، وردّ ما لا نصّ فيه إلى ما فيه النصّ ، والحكم عليه بحكم النصّ لتساوي الواقعتين في العلّة التي بُني عليها الحكم ، هو ردّ المتنازع فيه إلى الله ورسوله.

والحاصل : انّ القياس بعد استنباط علّته بالطرق الظنية من الكتاب والسنّة يكون ردّاً إلى الله والرسول وبما انّا مأمورون بالرجوع إليها بهذه الآية ، فتكون النتيجة : نحن مأمورون بالرجوع إلى القياس في التنازع.

قال أبو زهرة : وليس الردّ إلى الله وإلى الرسول إلاّ بتعرّف الأمارات الدالّة منهما على ما يرميان إليه ، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها ، وذلك هو القياس. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : إنّ الردّ إلى الله ورسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم وسؤالهم عن حكم الواقعة قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٢)

أو إرجاعها إلى الضابطة الكلّية التي ذكرها الرسول ، فمثلاً إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد وعدمه ، فنرجع إلى الضابطة التي ذكرها الرسول في باب الشروط وقال : إنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً. (٣)

قال القرطبي في تفسير قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي ردّوا ذلك الحكم

__________________

(١) أُصول الفقه : ٢٠٧.

(٢) الأنبياء : ٧.

(٣) الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ٥.

٤٥٦

إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته أو بالنظر إلى سنّته بعد وفاته وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة وهو الصحيح ـ إلى أن قال ـ : «وقد استنبط عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ مدة أقل الحمل ـ وهو ستة أشهر من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستة أشهر. (١)

وأين هذا (أي الرد إلى كتاب الله وسنّة رسوله) ، من الرجوع إلى القياس لأنّ قياس ما لا نصّ فيه على ما نصّ فيه لأجل تساوي الواقعتين في شيء أو في أشياء نحتمل أو نظنّ أن تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم ، ليس ردّاً إلى الله ورسوله ، لأنّ العلّة ، ليست منصوصة في كلامه أو كلام نبيّه ، بل مستنبطة بطريق من الطرق التي لا نذعن بإصابتها ، وبذلك يظهر ضعف ما استند إليه الشيخ أبو زهرة ، وذلك لأنّ الاهتداء بتعليل الأحكام إلى نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله ، لا ما إذا قام العقل الظنيّ باستخراج العلّة بالسبر والتقسيم أو بغيرهما من الطرق.

وثانياً : انّ الآية نزلت في مورد التخاصم والتحاكم ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، وقوله سبحانه بعد هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (٢). ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى القياس الظني لا يفضّ نزاعاً ولا يقطع اختلافاً ، وإنّما يقطع النزاعُ الرجوعَ إلى كتاب الله وسنّة رسوله اللّذين لا يختلف فيهما اثنان ، ولذلك تختلف فتاوى العلماء القائلين بحجيّة القياس في موارد كثيرة حيث إنّ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٢٦٢.

(٢) النساء : ٦٠.

٤٥٧

البعض يرى توفر شروط العمل به دون البعض الآخر ، ومثله لا يقطع الخصومة.

وثالثاً : انّ مصب الآية هو التنازع فلو دلت الآية على حجّية القياس في باب التحاكم لاختصت دلالتها به ، وتعميمها إلى باب الإفتاء ، يحتاج إلى الدليل والتمسك بالقياس في هذا المورد ، يستلزم الدور ، لأنّ حجّية الآية في مورد الافتاء تتوقف على حجّية القياس ، والمفروض ، انّ حجّيته موقوف على دلالة الآية. (١)

٣. آية الاستنباط

قال سبحانه : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً). (٢)

وقد استدلّ به السرخسي في أُصوله ، وقال : والاستنباط استخراج المعنى من المنصوص بالرأي ، وقيل : المراد بأُولي الأمر : أُمراء السرايا ، وقيل : العلماء وهو الأظهر ، فإنّ أُمراء السرايا إنّما يستنبطونه بالرأي إذا كانوا علماء. (٣)

وقد تفرّد السرخسي في الاستدلال بها ، والمشهور هو الاستدلال بالآية السابقة ، غير أنّ تفسير أُولي الأمر بالعلماء تفسير على خلاف الظاهر ، وإلاّ لقال : «أُولي العلم منهم» ، كما قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ). (٤)

يقول العلاّمة الطباطبائي : ومورد قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) هي الأخبار التي لها جذور سياسية ترتبط بأطراف شيء ربّما أفضى قبولها ، أو ردّها ، أو إهمالها بما فيها من المفاسد والمضار الاجتماعية إلى ما لا يمكن

__________________

(١) الأُصول العامة : ٣١٩.

(٢) النساء : ٨٣.

(٣) أُصول الفقه : ٢ / ١٢٨.

(٤) آل عمران : ١٨.

٤٥٨

أن يستصلح بأيّ مصلح آخر ، أو يبطل مساعي أُمّة في طريق سعادتها ، أو يذهب بسؤددهم ويضرب بالذلّة والمسكنة والقتل والأسر عليهم ، وأيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردّها إليهم. (١)

وأمّا من هم «أُولي الأمر» في زمن نزول الآية ، فلسنا بصدد بيانه ، وعلى أيّ حال لا صلة للآية بالقياس أبداً ، بل هدف الآية الإشارة إلى أنّ واجب المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله من أمن أو خوف أو سلامة وخلل ، هو عدم إذاعة ما سمعوه ، وردّه إلى أُولي الأمر الذين يستخرجون صحّة أو سقم ما وصل إليهم من الخبر بفطنتهم وتجاربهم ، وهل تجويز الاستنباط في المسائل السياسيّة بالقرائن يكون دليلاً على جواز استنباط الأحكام الشرعيّة بالقياس؟

٤. آية النشأة الأُولى

قوله سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢).

فإنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الأُولى من قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأُجيب بالقياس ، فإنّ الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أوّل مرّة ، لإقناع الجاحدين بأنّ من قدر على خلق الشيء وإنشائه أوّل مرّة قادر على أن يعيده بل هذا أهون عليه.

فهذا الاستدلال بالقياس ، إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به وهو

__________________

(١) الميزان : ٥ / ٢٣.

(٢) يس : ٧٨ ـ ٧٩.

٤٥٩

قياس في الحسيات ولكنّه يدلّ على أنّ النظير ونظيره يتساويان. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الله سبحانه لم يدخل من باب القياس ، وهو أجل من أن يقيس شيئاً على شيء ، وإنّما دخل من باب البرهان ، فأشار إلى سعة قدرته ووجود الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجوده ، وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، فإذا ثبتت الملازمة بين القدرتين والمفروض أنّ الملزوم وهي القدرة على إنشائها أوّل مرّة موجودة ، فلا بدّ أن يثبت اللازم ، وهي القدرة على إحيائها وهي رميم ، فأين هو من القياس؟!

ولو صحّت تسمية الاستدلال قياساً ، فهو من باب القياس الأولوي الذي فرغنا عن كونه خارجاً عن مورد النزاع ، ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر بهذا البرهان ، بل أشار إلى سعة قدرته بآية أُخرى بعدها وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ). (٢)

والآيات كسبيكة واحدة والهدف من ورائها تنبيه المخاطب على أنّ استبعاد إحياء العظام الرميمة في غير محلّه ، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه ، وأمّا إذا وسعت قدرته كلَّ شيء بشهادة أنّه خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً ، وخلق السماوات والأرض وهي خلق أعظم من الإنسان ، لكان أقدر على معاد الإنسان وإحياء عظامه الرميمة.

وليس كلّ استدلال عقلي قياساً.

وثانياً : سلّمنا دلالة الآية على حجّية القياس لكن مصبّها هو قياس الأُمور الكونيّة بعضها ببعض فيما إذا كانت الجهة المشتركة بين المقيس والمقيس عليه ،

__________________

(١) مصادر التشريع : ٢٧.

(٢) يس : ٨١.

٤٦٠