الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

مواضع الخمس في السنّة

وأمّا السنّة فهي أيضاً تدعم ما هو مفاد الآية :

روي عن ابن عباس : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقسم الخمس على ستة : لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض. (١)

إنّ السهم الوارد في قوله : «وسهم لأقاربه» تعبير آخر عن ثلاثة أسهم من الخمس يدل عليه قوله «على ستة : لله وللرسول سهمان» فانّ معناه سهم لله ، وسهمان للرسول ، أي سهم لنفس الرسول وسهم «لذي القربى» فتبقى الأسهم الثلاثة في الخمس ومن لأقاربه ، أعني : اليتامى والمساكين وابن السبيل.

وهذا هو الذي عليه الإمامية في تقسيم الخمس.

وروي عن أبي العالية الرياحي (٢) : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، فتكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفّه ، فيجعله للكعبة وهو سهم الله ، ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. قال : والذي جعله للكعبة فهو سهم الله. (٣)

ولعلّ جعله للكعبة كان لتجسيد السهام وتفكيكها ، وربّما خالفه كما روى

__________________

(١) تفسير النيسابوري المطبوع بهامش الطبري : ١٠ / ٤.

(٢) أبو العالية الرياحي : هو رفيع بن مهران ، مات سنة ٩٠. لاحظ تهذيب التهذيب : ٣ / ٢٤٦.

(٣) الأموال : ٣٢٥ ؛ تفسير الطبري : ١٠ / ٤ ؛ أحكام القرآن : ٣ / ٦٠.

٤١

عطاء بن أبي رباح (١) قال : «خمس الله ، وخمس رسوله واحد ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يحمل منه ويعطي منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء». (٢)

والمراد من كون سهمهما واحداً ، كون أمره بيده ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بخلاف الأسهم الأُخر ، فإنّ مواضعها معيّنة.

وبذلك يظهر المراد ممّا رواه الطبري : «كان نبيّ الله إذا اغتنم غنيمة جعلت أخماساً ، فكان خمس لله ولرسوله. ويقسّم المسلمون ما بقي (الأخماس الأربعة) وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ، لرسوله ، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان هذا الخُمْس خمسة أخماس خمس لله ولرسوله». (٣)

فالمراد منه ـ كما يظهر ـ أنّ أمر السهمين كان بيد الرسول ولذا جعلهما سهماً واحداً ، بخلاف السهام الأُخر ، وإلاّ فالخبر مخالف لتنصيص القرآن الكريم ، لتصريحه بأنّ الخمس يقسم أسداساً.

وأمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى ومن جاء بعدهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل ، فلأجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس من آل محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. روى الطبري : كان آل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم (ذوي القربى) خُمُس الخُمْسِ ، وقال : قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخُمْس مكان الصدقة (٤). كما

__________________

(١) عطاء بن أبي رباح مات سنة ١١٤ ، أخرج حديثه أصحاب الصحاح.

(٢) تفسير الطبري : ١٠ / ٤.

(٣) المصدر نفسه. والأصح أن يقول ستة أسداس وقد مرّ وجه العدول عنه.

(٤) المصدر نفسه : ٥ ، فجعل لهم تارة خمس الخمس ، بلحاظ المواضع الخمسة ما سوى لله ، وجعله كله لهم تارة أُخرى كما في ذيل كلامه : «فجعل لهم الخمس» باعتبار أنّ أمره أيضاً بيده ، فلا منافاة بين الجعلين.

٤٢

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ السهام الأربعة من الخمس ، لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله و (١) سلَّم.

فتبين انّ سدس الخمس لذي القربى والأسداس الثلاثة الباقية ، للطوائف الثلاث من آل محمّد.

هذا ما يستفاد من الكتاب والسنّة ، غير أنّ الاجتهاد لعب دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه ، وإليك ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة :

إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

اتّفق أكثر فقهاء المذاهب تبعاً لأسلافهم على إسقاط سهم ذوي القربى من خمس الغنائم وغيره ، وإليك كلماتهم :

قالت الشافعية والحنابلة : تقسم الغنيمة ، وهي الخمس ، إلى خمسة أسهم ، واحد منها سهم الرسول ، ويصرف على مصالح المسلمين ، وواحد يعطى لذوي القربى ، وهم من انتسب إلى هاشم بالابوّة من غير فرق بين الأغنياء والفقراء ، والثلاثة الباقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، سواء أكانوا من بني هاشم أو من غيرهم.

وقالت الحنفية : إنّ سهم الرسول سقط بموته ، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.

وقالت المالكية : يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.

__________________

(١) الوسائل : ج ٦ ، الباب ٢٩ من أبواب المستحقّين للزكاة. ولاحظ أيضاً صحيح البخاري : ١ / ١٨١ ، باب تحريم الزكاة على رسول الله.

٤٣

وقالت الإمامية : إنّ سهم الله وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوّض أمرها إلى الإمام أو نائبه ، يضعها في مصالح المسلمين. والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، ولا يشاركهم فيها غيرهم. (١)

وفي هامش المغني لابن قدامة بعد ما روى أنّ أبا بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ قسّما الخمس على ثلاثة أسهم : «وهو قول أصحاب الرأي ـ أبي حنيفة وجماعته ـ قالوا : يقسّم الخمس على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأسقطوا سهم رسول الله بموته ، وسهم قرابته أيضاً.

وقال مالك : الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال.

وقال الثوري : والخمس يضعه الإمام حيث أراه الله عزّ وجلّ.

وما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية ، فإنّ الله تعالى سمّى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس حقّاً كما سمّى الأصناف الثلاثة الباقية ، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب ، وأمّا جعل أبي بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ سهم ذي القربى في سبيل الله ، فقد ذكر لأحمد فسكت وحرّك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عباس ومن وافقه أولى ، لموافقته كتاب الله وسنّة رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ .... (٢)

إسقاط سهم ذي القربى اجتهاد تجاه النص

ثمّ إنّ الخلفاء بعد النبيّ الأكرم اجتهدوا تجاه النص في موارد منها إسقاط سهم ذي القربى من الخمس ، وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى جعل لهم سهماً ،

__________________

(١) الفقه على المذاهب الخمسة : ١٨٨.

(٢) الشرح الكبير ـ على هامش المغني ـ : ١٠ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

٤٤

وافترض أداءه نصاً في الذكر الحكيم والفرقان العظيم يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ، وهو قوله عزّ من قائل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١)

وقد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يختصّ بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه ، وأنّه لم يَعْهَد بتغيير ذلك إلى أحد حتى قبضه الله إليه وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فلمّا ولي أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ تأوّل الآية فأسقط سهم النبيّ وسهم ذي القربى بموت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.

قال الزمخشري : وعن ابن عباس : الخمس على ستّة أسهم : لله ولرسوله ، سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض ، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء قال : وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس. (٢)

وقد أرسلت فاطمة ـ عليها‌السلام ـ تسأله ميراثها من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت ، وعاشت بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ،

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) الكشاف : ٢ / ١٢٦.

٤٥

وصلّى عليها. الحديث. (١)

وفي صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز قال : كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال ابن هرمز : فشهدتُ ابن عباس حين قرأ الكتاب وحينَ كتب جوابه وقال ابن عباس : والله لو لا أن أردّه عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه ، ولا نعمة عين. قال : فكتب إليه : إنّك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم الله من هم؟ وإنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هم نحن فأبى ذلك علينا قومُنا. الحديث. (٢)

وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر ص ٢٩٤ من الجزء الأوّل من مسنده.

ورواه كثير من أصحاب المسانيد بطرق كلها صحيحة ، وهذا هو مذهب أهل البيت المتواتر عن أئمّتهم ـ عليهم‌السلام ـ.

لكن الكثير من أئمّة الجمهور أخذوا برأي الخليفتين فلم يجعلوا لذي القربى نصيباً من الخمس خاصّاً بهم.

فأمّا مالك بن أنس فقد جعله بأجمعه مفوّضاً إلى رأي الإمام يجعله حيث يشاء في مصالح المسلمين ، لا حقّ فيه لذي قربى ولا ليتيم ولا لمسكين ولا لابن سبيل مطلقاً.

وأمّا أبو حنيفة وأصحابه فقد أسقطوا بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سهمه وسهم ذي قرباه ، وقسموه بين مطلق اليتامى والمساكين وابن السبيل على السواء ، لا فرق

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ٣٦ باب غزوة خيبر. وفي صحيح مسلم : ٥ / ١٥٤ : «... وصلّى عليها علي».

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ١٠٥ ، كتاب الجهاد والسير.

٤٦

عندهم بين الهاشميين وغيرهم من المسلمين.

والشافعي جعله خمسة أسهم : سهماً لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين كعُدَّة الغزاة من الخيل والسلاح والكراع ونحو ذلك ، وسهماً لذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل يقسم بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، والباقي للفرق الثلاث : اليتامى والمساكين وابن السبيل مطلقاً. (١)

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الخمس يقسم على ستة أسهم ، الثلاثة الأُولى ، أمرها بيد الإمام يتولاّها حسب ما رأى من المصلحة ، والثلاثة الأُخرى ، للأيتام والمساكين وأبناء السبيل من آل النبيّ الأكرم لا مطلقهم.

__________________

(١) النص والاجتهاد : ٢٥ ـ ٢٧.

٤٧
٤٨

١٥

الإشهاد على الطلاق

٤٩
٥٠

الإشهاد على الطلاق

وممّا انفردت به الإماميّة ، القول : بأنّ شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق ، ومتى فُقِد لم يقع الطلاق ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. (١)

وقال الشيخ الطوسي : كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط ، فإنّه لا يقع. وخالف جميع الفقهاء ولم يعتبر أحد منهم الشهادة. (٢)

قال سيد سائق : ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى انّ الطلاق يقع بدون إشهاد لانّ الطلاق من حقوق الرجل ولا يحتاج إلى بيّنة كي يباشر حقّه ولم يرد عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولا عن الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد ، وخالف في ذلك فقهاء الشيعة الإمامية ... وممّن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمر ان بن حصين ـ رضي الله عنهما ـ ومن التابعين الإمام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق ، وبنوهما أئمّة أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ ، وكذلك عطاء وابن جُريح وابن سيرين. (٣)

ولا يخفى ما في كلامه من التهافت فأين قوله «ولم يرد عن النبي ولا عن

__________________

(١) الانتصار : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) الخلاف : ٢ ، كتاب الطلاق المسألة ٥.

(٣) فقه السنة : ٢ / ٢٣٠.

٥١

الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد» ، من قوله : «وممن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحّته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمران بن حصين» أو ليسا من الصحابة العدول.

ولا نعثر على عنوان للموضوع في الكتب الفقهية لأهل السنّة وانّما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (١). وهم بين من يجعله قيداً للطلاق والرجعة ، ومن يخصّه قيداً للرجعة المستفادة من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

روى الطبري عن السدّي أنّه فسّر قوله سبحانه : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) تارة بالرجعة وقال : أشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ وذلك هو الرجعة ، وأُخرى بها وبالطلاق ، وقال : عند الطلاق وعند المراجعة.

ونقل عن ابن عباس : أنّه فسّرها بالطلاق والرجعة. (٢)

وقال السيوطي : أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال : النكاح بالشهود ، والطلاق بالشهود ، والمراجعة بالشهود.

وسئل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد ، وراجع ولم يشهد؟ قال : بئس ما صنع طلّق في بدعة وارتجع في غير سنّة ، فليشهد على طلاقه ومراجعته وليستغفر الله. (٣)

قال القرطبي : قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) أمرنا بالإشهاد على الطلاق ، وقيل : على الرجعة ، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثمّ الإشهاد مندوب إليه

__________________

(١) الطلاق : ٢.

(٢) جامع البيان : ٢٨ / ٨٨.

(٣) الدر المنثور : ٦ / ٢٣٢ ، وعمران بن حصين كان أيضاً من كبار أصحاب الإمام عليّ ـ عليه‌السلام ـ.

٥٢

عند أبي حنيفة كقوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعند الشافعي واجب في الرجعة. (١)

وقال الآلوسي : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرّياً عن الريبة. (٢)

تدلّ الآية تدلّ بوضوح على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق وتقرير الدلالة ، انّ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) إمّا أن يكون راجعاً إلى الطلاق ، كأنّه قال : «إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهنّ وأشهدوا ، أو أن يكون راجعاً إلى الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالإمساك (فَأَمْسِكُوهُنَ).

ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة [الثاني] لأنّها ليست هاهنا شيئاً يوقع ويفعل ، وإنّما هو العدول عن الرجعة ، وإنّما يكون مفارقاً لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق ، على أنّ أحداً لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة وظاهر الأمر يقتضي الوجوب ، ولا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة ، لأنّ أحداً لا يوجب فيها الإشهاد وإنّما هو مستحب فيها ، فثبت انّ الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق. (٣)

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

وممّن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان ، وهما : أحمد محمد شاكر القاضي المصري ، والشيخ أبو زهرة.

قال الأوّل ـ بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق : «والظاهر من سياق

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ١٨ / ١٥٧.

(٢) روح المعاني : ٢٨ / ١٣٤.

(٣) الانتصار : ٣٠٠.

٥٣

الآيتين أنّ قوله : (وَأَشْهِدُوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً ، والأمر للوجوب ، لأنّه مدلوله الحقيقي ، ولا ينصرف إلى غير الوجوب ـ كالندب ـ إلاّ بقرينة ، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب ، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب ـ إلى أن قال : ـ فمن أشهد على طلاقه ، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به ، ومن أشهد على الرجعة فكذلك ، ومن لم يفعل فقد تعدّى حدود الله الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً ، لا يترتّب عليه أيُّ أثر من آثاره ـ إلى أن قال : ـ وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنّه ركن من أركانه ، ولم يوجبوه في الرجعة والتفريق بينهما غريب لا دليل عليه. (١)

وقال أبو زهرة : قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية والإسماعيلية : إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين ، لقوله تعالى ـ في أحكام الطلاق وإنشائه في سورة الطلاق ـ : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٢) فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة ، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه ، وإنّ تعليل الإشهاد بأنّه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشّح ذلك ويقوّيه ، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين ، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى.

وأنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي ، فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين. (٣)

__________________

(١) نظام الطلاق في الإسلام : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) الطلاق : ٣٢.

(٣) الأحوال الشخصية : ٣٦٥ ، كما في الفقه على المذاهب الخمسة : ١٣١.

٥٤

وهذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الإشهاد إلى الرجعة وحدها ، وبين من يقول برجوعه إليها وإلى الطلاق ، ولم يقل أحد من السنّة برجوعه إلى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. وعلى ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص ، التدبّر والاهتداء بكتاب الله إلى حكمه.

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً * فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). (١)

إنّ المراد من بلوغهنّ أجلهنّ : اقترابهنّ من آخر زمان العدة وإشرافهنّ عليه. والمراد بإمساكهنّ : الرجوع على سبيل الاستعارة ، كما أنّ المراد بمفارقتهنّ : تركهنّ ليخرجن من العدّة ويبنّ.

لا شك أنّ قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ) ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل ، إنّما الكلام في متعلّقه. فهناك احتمالات ثلاثة :

١. أن يكون قيداً لقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

٢. أن يكون قيداً لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

٣. أن يكون قيداً لقوله : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأوّل أو

__________________

(١) الطلاق : ٢١.

٥٥

الثاني ، والظاهر رجوعه إلى الأوّل ، وذلك لأنّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق وقد افتتحت بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) فذكرت للطلاق عدّة أحكام :

١. أن يكون الطلاق لعدّتهنّ.

٢. إحصاء العدّة.

٣. عدم خروجهنّ من بيوتهنّ.

٤. خيار الزوج بين الإمساك والمفارقة عند اقتراب عدّتهنّ من الانتهاء.

٥. إشهاد ذوَي عدل منكم.

٦. عدّة المسترابة.

٧. عدّة من لا تحيض وهي في سن من تحيض.

٨. عدّة أُولات الأحمال.

وإذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية السابعة تجد أنّها بصدد بيان أحكام الطلاق ، لأنّه المقصود الأصلي ، لا الرجوع المستفاد من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَ) وقد ذكر تبعا.

وهذا هو المرويّ عن أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ. روى محمد بن مسلم قال : قدم رجل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ بالكوفة فقال : إنّي طلّقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أُجامعها ، فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : أشهدت رجلين ذوَي عدل كما أمرك الله؟ فقال : لا ، فقال : اذهب فانّ طلاقك ليس بشيء. (١)

__________________

(١) الوسائل : ج ١٥ الباب ١٠ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٧ و ٣ ولاحظ بقية أحاديث الباب.

٥٦

وروى بكير بن أعين عن الصادقين ـ عليهما‌السلام ـ أنّهما قالا : «وإن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع ، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين ، فليس طلاقه إيّاها بطلاق». (١)

وروى الفضلاء من أصحاب الإمام الباقر الصادق كزرارة ومحمد بن مسلم ، وبريد ، وفضيل عنهما ـ عليهما‌السلام ـ في حديث انّهما قالا : وإن طلقها في استقبال عدتها طاهراً من غير جماع ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق. (٢)

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال لأبي يوسف : إنّ الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك ، إنّ الله أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين ، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود ، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله ، وأبطلتم شاهدين فيما أكّد الله عزّ وجلّ ، وأجزتم طلاق المجنون والسكران ، ثم ذكر حكم تظليل المحرم. (٣)

قال الطبرسي : قال المفسرون : أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة ولا الرجل الطلاق. وقيل : معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم ، وهو المروي عن أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ وهذا أليق بالظاهر ، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط الطلاق ، ومن قال : إنّ ذلك راجع إلى المراجعة ، حمله على الندب. (٤)

__________________

(١) الوسائل : ج ١٥ الباب ١٠ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٧ و ٣ ولاحظ بقية أحاديث الباب.

(٢) الوسائل : ١٥ ، الباب ١٠ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، الحديث ٣.

(٣) الوسائل : ج ١٥ الباب ١٠ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ١٢ ولاحظ بقية أحاديث الباب.

(٤) مجمع البيان : ٥ / ٣٠٦.

٥٧

ومن عجيب الأمر حمل الأمر على الإشهاد في الآية على الندب قال الآلوسي : وأشهدوا ذوي عدل منكم عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إن اخترتموها تبرياً عن الريبة وقطعاً للنزاع ، وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وقال الشافعي في القديم : إنّه للوجوب في الرجعة. (١)

يلاحظ عليه : بأنّ المتبادر من الأمر هو الوجوب ، وقد قلنا في محلّه : إنّ الأصل المقرر عند العقلاء الذي أنفذه الشارع هو «انّ أمر المولى لا يترك بلا جواب» والجواب إمّا العمل بالأمر أو قيام الدليل على كونه مندوباً ، وعلى ضوء ذلك فالأمر في المقام للوجوب خصوصاً بالنسبة إلى حكمة التشريع الذي ذكره وهو قوله تبرياً عن الريبة وقطعاً للنزاع.

وأمّا قوله سبحانه : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فقد اتّفقت الأُمّة على كون الإشهاد عند البيع أمراً مندوباً.

ثمّ إنّ الشيخ أحمد محمد شاكر ، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول «نظام الطلاق في الإسلام» وأهدى نسخة منه مشفوعة برسالة إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه : إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق ، وإنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتد به ، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل ويوافق مذهب أئمّة أهل البيت والشيعة الإمامية.

وذهبتُ أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة ، وهو يوافق أحد القولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة ، واستغربت (٢) من

__________________

(١) روح المعاني : ٢٨ / ١٣٤.

(٢) مرّ نصّ كلامه حيث قال : والتفريق بينهما غريب.

٥٨

قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل له : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) واحد فيها.

وبعث إليه العلاّمة كاشف الغطاء برسالة جوابية بيّن فيها وجه التفريق بينهما ، وإليك نص ما يهمنا من الرسالة :

قال بعد كلام له : وكأنّك ـ أنار الله برهانك ـ لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام ، وإلاّ لما كان يخفى عليك أنّ السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى أنّها قد سمّيت بسورة الطلاق ، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدّة أي لا يكون في طهر المواقعة ، ولا في الحيض ، ولزوم إحصاء العدّة ، وعدم إخراجهنّ من البيوت ، ثمّ استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عزّ شأنه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إذا أشرفن على الخروج من العدّة ، فلكم إمساكهنّ بالرجعة أو تركهنّ على المفارقة. ثمّ عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كلّه لبيان أحكامه ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلاّ تبعاً واستطراداً ، ألا ترى لو قال القائل : إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه واكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ، ويجب المشايعة وحسن الموادعة ، فانّك لا تفهم من هذا الكلام إلاّ وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه ، وإن تأخّرا عنه ، وهذا لعمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خريت العربية لو لا الغفلة (وللغفلات تعرض للأريب) ، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة.

وهنالك ما هو أدقّ وأحقّ بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة

٥٩

الإسلامية وشموخ مقامها وبعد نظرها في أحكامها. وهو أنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق ، ودين الإسلام كما تعلمون ـ جمعي اجتماعي ـ لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة والأُسرة ، وعلى الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة ، فكثّر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده ، عزّ أو قلّ وجوده ، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً وللتأخير والأناة ثانياً ، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة كما أُشير إليه بقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين ، لا شكّ أنّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر ، وهذا كلّه بعكس قضية الرجوع فإنّ الشارع يريد التعجيل به ، ولعلّ للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أيّ شرط من الشروط.

وتصح عندنا معشر الإمامية ـ بكلّ ما دلّ عليها من قول أو فعل أو إشارة ـ ولا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق ؛ كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرّقهم ، وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع وهي ـ أي المطلّقة الرجعية ـ عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدّة ، ولذا ترثه ويرثها ، وتغسّله ويغسّلها ، وتجب عليه نفقتها ، ولا يجوز أن يتزوّج بأُختها ، وبالخامسة ، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية. (١)

__________________

(١) أصل الشيعة وأُصولها : ١٦٣ ـ ١٦٥ ، الطبعة الثانية.

٦٠