الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

الفصل الثالث

حجّية العقل

في مجالات خاصّة

إنّ الشيعة الإمامية أدخلت العقل في دائرة التشريع واعترفت بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها. فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصافّ المصادر الأُخر للتشريع وبه يُكْشف الحكم الشرعي وتُبين وجهة نظر الشارع في مورده ، وانّه من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه إذا كان الموضوع من المواضيع التي يصلح للعقل أن يقضي فيه ، فالملازمة بين حكمي العقل والشرع حتمية.

ولا يهمّنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد ، هل هو نفس الحكم الشرعي أو انّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفّرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجّية إدراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتلّ محلاً خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كلّ ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة ، وعند ذلك يستند إليه الشارع في تبليغ أحكامه إلى الناس كما يستند إلى القرآن والسنّة.

٤٠١

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً ، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الإنسانية ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كلّ ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة ، فانّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني ، وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجّية العقل ، انّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتّى يتاح له أن يتسرع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل يفسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل.

وقد نصّ أئمّة أهل البيت على حجّيته في مجالات خاصة ، فهذا هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم ـ عليه‌السلام ـ يخاطب تلميذه هشام بن الحكم ويقول : «يا هشام : ما بعث الله أنبياءَه ورسلَه إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام انّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (١)

وقال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «حجّة الله على العباد ، النبي ، والحجّة على ما بين العباد

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٦ ، الحديث ١٢.

٤٠٢

وبين الله ، العقل». (١)

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة ، والغرائز الحيوانية ، والعواطف الإنسانية ، ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن إعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالأقيسة والاستحسانات ، وما هذا لانّها تفيد الظنّ.

وعلى ذلك جرى علماؤنا من عصر مبكر إلى يومنا هذا ، فحصروا الأدلة الشرعية في أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، فلنذكر نصاً من أحد علمائنا القدامى.

يقول ابن إدريس الحلّي (٥٣٩ ـ ٥٩٨ ه‍) : إنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب الله سبحانه ، أو سنّة رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المتواترة المتفق عليها ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسكُ بدليل العقل فيها ، فانّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها فمن تنكّب عنها عسف وخبط خبط عشواء ، وفارق قولُه من المذهب. (٢)

وحصيلة الكلام : إذا كان حكم العقل منبعثاً عن الجانب العقلي المحض ، غير متأثر بالجوانب اللاشعورية ، والغرائز الحيوانية ، والعواطف الإنسانية ، وتجنب عن الأساليب الممنوعة ، وحكم من صميم التدبر والتفكر بحكم بات

__________________

(١) الكافي : ١ / ٢٥ ، الحديث ٢٢.

(٢) السرائر : ١ / ٤٦.

٤٠٣

يصير حجة بين الله وعبده وتكون النتيجة تأسيسَ حكم شرعي أو تحديدَ إطلاق لحكم شرعي أو تخصيصاً لعموم ، ويصير عند ذاك أحد الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط ويعد قريناً للكتاب والسنّة والإجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

هذا هو إجمال الموضوع ، وأمّا تفاصيله فتحتاج إلى بيان المجالات التي يكون العقل فيها حجّة قطعية.

٤٠٤

١

مجال التحسين والتقبيح

إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلى نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع ، نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ والجواب نعم.

وذلك لأنّ الحكم المزبور من الأحكام البديهية للعقل العملي وكلّ إنسان يجد من نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عرض الإنسان ذينك الأمرين على وجدانه وعقله يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل وتنفراً عن الظلم وهكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين وهذا من الأحكام العقلية النابعة عن صميم العقل من دون أن يكون متأثراً عن الجوانب اللاشعورية أو الغرائز الحيوانية أو العواطف الإنسانية ، يقول العلاّمة الحلي :

انّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فانّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ويُقبِّح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع. (١)

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٥٩ ، المطبوع مع تعاليقنا.

٤٠٥

ويقول أيضاً في كتاب آخر : إنّ من الأفعال ما هو معلوم الحُسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، فكلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات.

وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع ، وما حسّنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح. (١)

ومن حسن الحظ انّ الذكر الحكيم يشير إلى موقف العقل من درك تحسين الأشياء وتقبيحها ، فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة الإنسان على حسن بعض الأفعال وفي الوقت نفسه يقبح بعضها على وجه يُسلِّم انّ الفطرة الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين ، ولذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه ويقول :

١. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (٢)

٢. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). (٣)

٣. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ). (٤)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكّل الذكرُ الحكيم القضاءَ إلى وجدان

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ٨٣.

(٢) ص : ٢٨.

(٣) القلم : ٣٥.

(٤) الرحمن : ٦٠.

٤٠٦

الإنسان ، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب ، يعرفهما معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع بغيَة التعرّف على الموضوع ، وكان الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته.

ويقول سبحانه :

١. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (١)

٢. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (٢)

٣. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

معنى درك حسن الفعل أو قبحه

إنّ العقل بفضل سعة آفاق إدراكه ، يدرك انّ نفس الفعل بما هو هو إمّا حسن أو قبيح ، سواء كان الفاعل واجباً أو ممكناً ، مؤثراً في حفظ النظام (كالعدل) أو لا ، مؤمِّناً لغرض الفاعل أو لا ، كلّ هذه القيود مرفوضة غير مأخوذة في الموضوع ، بل الموضوع هو نفس الفعل بما هو هو ، مع غض النظر عنها ، كردّ الأمانة ، والخيانة فيها ، والوفاء بالميثاق ونقضه ، وجزاء الإحسان بالإحسان ، وبالإساءة ، وهكذا.

__________________

(١) النحل : ٩٠.

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) الأعراف : ١٥٧.

٤٠٧

فإذا كان الموضوع هو نفس الفعل ولا دور لأي قيد في وصفه بأحدهما فيكون حكمه بالحسن أو القبح وبالتالي : وجوب إتيان الأوّل ، وترك الثاني ، حكماً عامّاً يحكي عن كونه كذلك عند الواجب والممكن فيستكشف من حسن الفعل وجوبه ، ومن قبحه ، حرمته ، وبذلك يُصبح العقل من منابع التشريع ومصادره في إطار خاص ، أي إطار إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها.

الآثار المترتبة على التحسين والتقبيح

تحتل مسألة التحسين والتقبيح العقليين مكانة مرموقة في المعارف والعقائد والتشريع والأحكام ، ونذكر شيئاً من آثارهما ممّا يتعلق بباب التشريع ونترك ما يرجع إلى باب العقائد والمعارف :

أ. أصالة البراءة من التكليف

إذا شكّ الإنسان في وجوب شيء أو حرمته ، وفحص عن مظان التكليف فحصاً كاملاً فلم يعثر على بيان الشارع ، فالعقل عندئذ يستقل بقبح العقاب بلا بيان ، وانّه لو كان في الواقع واجباً أو حراماً والعبد تركه أو ارتكبه ، لا يكون معاقباً فانّ عقابه عقاب بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل لا يصدر من الله الحكيم.

وعلى ضوء ذلك بنوا أصالة البراءة في عامة الشبهات شريطة أن لا يكون الشكّ مقترناً بالعلم الإجمالي.

٤٠٨

ب : وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي

إذا علم المكلّف انّ أحد الفعلين واجب أو انّ أحدهما حرام فعندئذ يجب عليه إتيان الأوّلين معاً وترك الآخرين كذلك ، لأنّ العقل يستقل بالاحتياط ، في كلا الموردين ، لأنّ اشتغال ذمّته بأحد التكليفين قطعي ، والعقل يستقل بأنّ الاشتغال القطعي يبعث الإنسان إلى تحصل البراءة القطعية وهو لا يتحقّق إلاّ بفعل الأوّلين وترك الآخرين وذلك باب واسع في الفقه الإسلامي.

ثمّ إنّ مذهب الأشعري تبعاً لأهل الحديث أنكر التحسين والتقبيح العقليين ، وبذلك صار شعار أهل السنّة حذف العقل عن مجال المعارف والتشريع.

وعمدة أدلّتهم على إنكار الحسن والقبح هو تخيّل انّ القول بالتحسين والتقبيح بمعنى فرض الوجوب على الله من جانب العبد. والله سبحانه فوق أن يقع معرضاً لحكم العقل عليه بالتحسين والتقبيح وبالتالي التكليف على الله بإيجاب الحسن ، وتحريم القبيح. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المستدل خلط بين التكليف على الله وكشف ما عنده سبحانه من الحكم من خلال صفاته وكماله ، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على الله ، ويقول : أين التراب ورب الأرباب ، لكن هذا لا يمنع من أن نستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية ، فهو بما انّه عادل لا يجور ، وحكيم لا يعبث ، وعالم لا يجهل ، نستكشف الأحكام اللائقة به حسب صفاته ، فالتكاليف المخوّلة إليه من قبيل التكاليف التي فرضتها عليه حكمته وعدله

__________________

(١) شرح المقاصد : ٢ / ١٠٥ ، طبع الآستانة ، اسلامبول.

٤٠٩

وعلمه ، فلو قلنا لا يجوز على الله سبحانه تعذيب البريء أو أخذه بذنب المجرم لا نعني أن نفرض هذا التكليف عليه ، وانّه يجب أن يقوم به ، وإنّما يراد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها ، فلو قال القائل بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين ، فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة ، فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم ، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

٤١٠

٢

في مجال الملازمات

قد تقدّم انّ العقل حجّة في مجالات خاصة ، منها : حكمه بالتحسين والتقبيح على النحو الذي ذكرنا ، ومن المجالات التي يؤخذ فيها بحكم العقل ويستكشف حكم الشرع ، هو مجال الملازمات ، أعني بها :

١. الملازمة بين الوجوبين ، كوجوب الشيء وجوب مقدّمته.

٢. الملازمة بين الحرمتين ، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

٣. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، كوجوب المضيق وحرمة الموسّع عند التزاحم.

٤. الملازمة بين امتثال المأمور به ، وأجزائه.

٥. الملازمة بين النهي عن العبادة ، وفسادها.

٦. الملازمة بين النهي عن المعاملة ، وفسادها.

٧. الملازمة بين الوجود لدى الوجود ، والانتفاء لدى الانتفاء (المفاهيم).

٨. الملازمة بين وجوب الشيء وامتناع وصفه بالحرمة على القول بالامتناع وبالعكس ، أو عدم الملازمة على القول بالاجتماع كما في الصلاة في الدار المغصوبة.

إلى غير ذلك من أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير المستقلة ، فانّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة ، حكم

٤١١

شرعي نظير :

١. كوجوب مقدّمة ، الواجب.

٢. حرمة مقدّمة الحرام.

٣. حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيق كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين الحال.

٤. إجزاء المأتي به وكونه مسقطاً عن الإعادة والقضاء ، سواء كان المأتي به واجباً بالأمر الواقعي ، أو الاضطراري ، كالصلاة مع الطهارة الترابية ، أو بالأمر الظاهري كالصلاة في ثوب نجس واقعاً محكوم بالطهارة ظاهراً.

٥. فساد العبادة المنهية ، كالصوم في يوم الفطر.

٦. فساد المعاملات كبيع المنابذة.

٧. انتفاء الحكم عند انتفاء القيد كما في قوله في سائمة الغنم زكاة.

٨. كون الموضوع محكوماً بأحد الحكمين أو كلاهما في الصلاة في الدار المغصوبة.

إلى غير ذلك من الموارد التي توصف بباب الملازمات غير المستقلة. وفي الفقه الشيعي والأُصول دور كبير لباب الملازمات ، فمن مثبت وناف ومفصِّل.

والعجب انّ أهل السنة أعرضوا عن العقل في مجال التحسين والتقبيح ولكن لهم مواقف مشهورة في باب الملازمات حيث طرحوا في علم الأُصول وجوب المقدّمة وحرمتها وهكذا سائر أبواب الملازمات.

قال المحقّق السيد علي القزويني معلّقاً على قول المحقّق القمي : «ومنها ما يحكم به العقل بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم والاستلزامات» أي بملاحظته

٤١٢

كحكمه بوجوب المقدمة بملاحظة الخطاب بذي المقدمة ، وبحرمة الضد ، بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيق ، وبالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلق على شرط أو وصف أو غيرهما ، لئلا يلغوا التعليق وذكر القيد ويسمّى بالاستلزامات العقلية كحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء وجوب مقدماته واستلزام الأمر بالشيء لحرمة ضده ، واستلزام الوجود عند الوجود ، والانتفاء عند الانتفاء فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (١)

إلى هنا تبيّن حجّية حكم العقل في المجالين :

١. مجال التحسين والتقبيح ويسمّى بالملازمات المستقلة.

٢. مجال الملازمات غير المستقلة.

ووجه تسمية الأوّل بالمستقلات والثاني بغيرها ، هو انّ إدراك الموضوع والحكم في الأوّل ، راجع إلى العقل ولا يستعين في حكمه بالشرع ، بل يدرك الموضوع ويصدر الحكم ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح. بخلاف القسم الثاني ، فانّه في حكمه يستعين بالشرع ، فإنّ الشارع هو المعيّن للموضوع ، مثلاً يقول : إنّ الوضوء مقدمة للواجب ، والعقل يصدر الحكم ويقول مقدمة الواجب واجب ، ومثله سائر الموارد الثمانية.

__________________

(١) القوانين : ٢ / ١ ، قسم الحواشي.

٤١٣

٣

في مجال تنقيح المناط

لا في مجال تخريجه

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فانّ السائل وإن سأل عن الرجل الذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

وأمّا تخريج المناط فهو ممنوع ومعناه أنّه إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصَّ لمناطه ، مثلاً : إذا حرّم الربا المعاوضي في البُرّ فيعمم إلى كل مكيل بدعوى انّ مناط التحريم هو الكيل ، وهذا ما ربما يعبر عنه باستنباط علّة الحكم بطريق من الطرق ، ثمّ تعميم الحكم حسب صدقها على مواردها وقد ذكر له طرقاً سبعة أو أكثر والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم. وسيوافيك انّ تخريج المناط بهما ممنوع جدّاً ولا يفيد سوى الظن وسيوافيك توضيحه عند البحث في عدم حجّية القياس.

٤١٤

٤

في مجال درك مصالح الأفعال ومفاسدها

إذا أدرك العقل وجود ا لمصلحة أو المفسدة في فعل إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء كوجود المفسدة في استعمال المخدرات ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي دون ما لا يكون كذلك ، كإدراك فرد أو فردين وجوب المصلحة الملزمة أو المفسدة ، وذلك.

إذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين يتساوى في إدراكها جميع العقلاء فلا سبيل للعقل إلى الحكم بأنّ ما أدركه علّة ، هي العلة التامة التي يدور الحكم مدارها ، إذ يحتمل أن يكون هناك مانع يمنع من حكم الشارع على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشرع. (١)

يقول المحقّق الاصفهاني : إنّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت ضابطة ، ولا تجب أن تكون هي بعينها ، المصالح العمومية ، المبنى عليها حفظ النظام وإبقاء النوع وعليه لا سبيل للعقل بما هو إليها.

اللهمّ إلاّ إذا وصل الأمر إلى المصالح والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء

__________________

(١) وبذلك رفضوا المصالح المرسلة التي لم يتّفق العقلاء عليها بل يدركها الفقيه.

٤١٥

عامة على صلاحها أو فسادها على نحو صار من الضروريات وهذا كتعاطي المخدرات التي أطبق العقلاء على ضررها ، ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري والحصبة وغيرهما فقد أصبحت من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

٤١٦

الفصل الرابع

التشريع تابع للمصالح والمفاسد

إنّ الأحكام الشرعية عند الإمامية تابعة للمصالح والمفاسد ، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه وانّ التشريع الإسلامي بعيد عن الفوضى ، ونصوص الكتاب والسنّة يشهدان على ذلك.

١. انّه سبحانه يعلِّل وجوب الاجتناب عن الخمر والميسر بأنّهما وسيلتان للعداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله عموماً والصلاة خصوصاً يقول سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (١)

كما أنّه يعلل وجوب الصلاة بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تشير إلى ملاكات التشريع في الذكر الحكيم.

وأكد الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ ـ في كلماته ـ على ذلك وقال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يُحرّم إلاّ ما فيه

__________________

(١) المائدة : ٩١.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

٤١٧

الضرر والتلف والفساد». (١)

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «في الدم انّه يُسيء الخُلْق ، ويورث القسْوة للقلب ، وقلّة الرأفةَ والرحمةَ ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده». (٢)

وقال أبو جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ مدْمن الخمر كعابد الوثن ، وپيورثه الارتعاشُ ويهدم مروّته ، ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا». (٣)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين. (٤)

ولكن المعروف عن الأشاعرة خلاف ذلك ، وذلك لأنّ أفعاله سبحانه عندهم ليست معلّلة بالأغراض ، واحتجّوا لذلك : انّه لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصاً لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وهو معنى الاستكمال. (٥)

فإذا كان فعله عارياً عن الغرض ، يكون تشريعه الذي هو أيضاً من أفعاله سبحانه ، خالياً عنه.

ولكن الاستدلال ضعيف غايته ، لأنّ الاستكمال بالغرض إنّما يلزم إذا كان الغرض عائداً إليه سبحانه ، لا إذا كان تفضلاً على العباد ، واستصلاحاً لأحوالهم.

وبعبارة أُخرى : الغاية ، غاية للفعل ، لا للفاعل ، وقد خلط الأشعري بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى الفعل ، فالاستكمال لازم المعنى

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ٣ / ٧١.

(٢) بحار الأنوار : ٦٢ / ١٦٥ ، الحديث ٣.

(٣) بحار الأنوار : ٦٢ / ١٦٤ ، الحديث ٢.

(٤) راجع علل الشرائع ، للشيخ الصدوق.

(٥) المواقف للإيجي : ٣٣١.

٤١٨

الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله ومنها تشريعاته ، معللة بالأغراض والغايات والدواعي والمصالح ، انّما يعني المعنى الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً مطلقاً في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ولكن إثبات الغرض بالمعنى الثاني يخرج فعله سبحانه عن العبث واللغو ، فالجمع بين كونه سبحانه غنياً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزهاً عن العبث واللغو يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد لا إلى وجوده وذاته.

ثمّ إنّ النصوص الصريحة تؤيد موقف الإمامية في ذلك.

يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (١)

وقال عزّ من قائل : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (٢)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (٣)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). (٤) إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله وتصرح باقترانه بالحكمة والغرض.

إجابة عن سؤال

قد تقدّم في الفصل الثاني انّ العقل من مصادر التشريع في موردين فقط :

١. إذا استقل بحسن الفعل أو قبحه.

٢. إذا أدرك الملازمة بين الحكمين.

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥.

(٢) الدخان : ٣٨.

(٣) ص : ٢٧.

(٤) الذاريات : ٥٦

٤١٩

وسبق انّه إذا أدرك الفعل مصالح ومفاسد في الفعل من عند نفسه ـ دون ورود نصّ حولهما ـ فلا يصح للفقيه أن يتخذه ذريعة إلى استكشاف الحكم الشرعي من الوجوب والحرمة ، بحيث يكون علمه بالمصالح والمفاسد من مصادر التشريع.

ومع هذا الاعتراف كيف يصحّ القول بأنّ الأحكام الشرعية رهن المصالح والمفاسد؟!

وأمّا الإجابة فواضحة ، إذ لا منافاة بين الأمرين فانّ الكلام هنا في مقام الثبوت وانّ التشريع الإسلامي ، رهن الملاكات والمناطات عند الله سبحانه وربما يقف عليها العباد عن طريق النصّ كما أنّهم كثيراً ما يجهلون بعلل التشريع. والحاصل : وليس التشريع فوضى غير خاضع للملاك.

وهذا لا ينافي ما رفضناه من أنّه ليس للفقيه الخوض في تعيين مصالح الأفعال ومفاسدها فيحكم على الأوّل بالوجوب وعلى الثاني بالحرمة لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية وربما يدرك العقل مصلحة أو مفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراكه أحد الأمرين لا يكون دليلاً على التشريع.

مرجّحات باب التزاحم

ثمّ إنّ المصالح والمفاسد ، لما لم تكن على وزان واحد ، بل رب واجب يسوغ في طريق إحرازه ، اقتراف بعض المحرّمات ، لاشتماله على مصلحة كثيرة لا يجوز تركها بحال ، كإنقاذ الإنسان المتوقف على استطراق أرض الغير ، بلا إذنه ، ورب حرام ذي مفسدة كبيرة لا يجوز اقترافه وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات. فلذلك يحكم العقل بتقديم الأهم على المهم عند التزاحم.

٤٢٠