الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

يكن في القرآن وكان عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أخْبِر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن ، كان فيه رأيه. (١)

إنّ هذه العبارات ونظائرها من الاعترافات ، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلامية عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

فهي تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقُّوه من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

نحن لا نلومهم في أخذ الرأي لوقوفهم على قصور ما بأيديهم من مصادر التشريع عن إغنائهم من الإفتاء بالرأي ، كيف وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في الفروع لا تتجاوز ٥٠٠ حديث.

قال السيد محمد رشيد رضا : إنّ أحاديث الأحكام والأُصول ٥٠٠ حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر. (٢)

وما ذكره من الممدّات ، هي آثار موقوفة على الصحابة ، أو مراسيل ، لا يحتج بها.

وقال في تفسير المنار : يقولون إنّ مصدر القوانين الأُمة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازي ، والمنصوص قليل جداً. (٣)

كيف يقول : إنّ مصدر القوانين في غير المنصوص هو الأُمّة أو ليس سبحانه وتعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). (٤)

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي : ٣ / ٢١٣.

(٢) الوحي المحمدي : ٢١٧.

(٣) تفسير المنار : ٥ / ١٨٩.

(٤) المائدة : ٣.

٣٨١

ويصرح به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في خطابه التاريخي في حجة الوداع إذ يقول : «أيّها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه». (١)

وقد أكد الإمام عليّ ـ عليه‌السلام ـ على هذه الحقيقة أي اكتمال الدين وغناء الأُمّة عن الرجوع إلى القوانين الوضعية التي مصدرها رأي نواب الأُمّة ، وقال : «أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وفيه تبيان لكلّ شيء). (٢)

فإذا كان الله قد أكمل دينه فلا نقصان فيه ، والرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يقصِّر عن تبليغه وأدائه ، وكانت الصحابة عاجزة عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فمن المرجع والمفزع للمسلمين عند ذاك؟

ترى أنّ الكتاب والسنّة يحكمان بكمال الدين في كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة في الأُصول والفروع ، في الحوادث الفعلية ، أو المستجدة وعندئذ كيف يمكن القول بأنّ مصدر القوانين هو الأُمّة وما هذه إلاّ امتداد لنفس الفكرة في عصر الصحابة لكن بنحو آخر حيث قام رأي الأُمّة ، مكانَ رأي الصحابي واجتهاده وسعيه في بيان حكم الواقعة.

إلى هنا تبيّن انّ الصحابة ـ مع الاعتراف بفضلهم ـ لم يستوعبوا الأحكام الشرعية ولذلك التجئوا إلى العمل بالرأي.

وهناك شواهد أُخرى على العمل بالرأي أعرضنا عن ذكرها مخافة الإطناب.

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٧٤.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة رقم ١٨.

٣٨٢

٢

اعتراف الصحابة بقصور علمهم بالشريعة

إنّ هناك شواهد تاريخية تحفل بها كتب التاريخ والمعاجم على قصور علم جُلّ الصحابة عن الإحاطة بالأحكام ولذلك يرجع بعضهم إلى بعض ، وربما لا ينتهي إلى نتيجة ونذكر هنا نماذج :

١. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي عبيدة (بن عبد الله بن مسعود) قال : أرسل عثمان إلى أبي يسأله عن رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة ، فقال أبي : وكيف يفتي منافق؟ فقال عثمان : نعيذك بالله أن تكون منافقاً ، ونعوذ بالله أن نسمّيك منافقاً ، ونعيذك بالله أن تكون مثل هذا ، قال : أولى أنّه إذاً أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، وتحل لها الصلاة.

قال : لا أعلم عثمان إلاّ أخذ بذلك. (١)

وذيل الرواية يدلّ على أنّ عثمان لم يكن جازماً بصحة ما أفتى به ابن مسعود ولكنّه أخذ به لأجل الضرورة ، فإذا كان هذا حال من جلس على منصَّة الحكم فما ظنك بغيره.

٢. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : أنّه أُتي في فريضة ابني عم ، أحدهما أخ لأُمّ فقالوا : أعطاه ابن مسعود المال كلّه ، فقال : يرحم الله ابن مسعود ، إن كان لفقيهاً لكني أعطيه سهم الأخ من الأُمّ من قبل أُمّه ،

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٣٣ / ١٥٠.

٣٨٣

ثمّ أقسم المال بينهما. (١)

٣. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي عمرو الشيباني قال : أتى رجل ابن مسعود ، فقال : في حجري بنت عم لي ، وإن امرأتي خافتني عليها فأرضعتْها ، فقال : سألت أحداً قبلي؟ قال : نعم ، أبا موسى ، فقال : حُرِّمتْ عليك ، قال : إنّه لا يقول شيئاً ، لا أُحرّم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدم ، فأتيت أبا موسى فذكرت ذلك له ، فقال : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم ، فو الله لقد رأيته ، وما رأيته إلاّ عبد آل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. (٢)

٤. روى ابن عساكر في تاريخه عن ابن عطية قال :

جاء رجل إلى أبي موسى فقال : إنّ امرأتي ورم ثديها فمصصتُ فدخل حلقي شيء فسبقني ، فشدّد عليه أبو موسى فأتى ابن مسعود فقال : سألت أحداً غيري ، قال : نعم ، أبا موسى ، فشدّد عليّ وقال : فأتى أبا موسى ، فقال له : أرضيع هذا؟ فقال أبو موسى : لا تسألون ما دام هذا الحبر بين أظهركم. (٣)

هذا حال أبي موسى الأشعري الصحابي الكبير الذي اختير حكماً في وقعة صفين!

ويظهر من غير واحد من الروايات انّ عبد الله بن مسعود كان يختلف مع زيد بن ثابت في الفتيا والقراءة وقد قالوا : إنّ زيد بن ثابت أفرض الصحابة.

٥. روى ابن عساكر عن أبي وائل عن عبد الله قال : لقد أخذتُ من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة وانّ زيد بن ثابت له ذؤابة يلعب مع الغلمان. (٤)

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق : ٣٣ / ١٥١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٣٣ / ١٥١.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٣٣ / ١٥٢.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٣ / ١٣٥.

٣٨٤

٦. وفي رواية أُخرى خطب ابن مسعود على المنبر فقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) غُلاّ) (١) مصاحفكم ، كيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت؟ وقد قرأت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بضعاً وسبعين سورة ، وانّ زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ، والله ما نزل من القرآن إلاّ وأنا أعلم في أيّ شيء نزل ، ما أحد أعلم بكتاب الله مني ، وأما أنا خيركم ، ولو أعلم مكاناً تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته.

قال أبو وائل : فلمّا نزل عن المنبر جلست في الحِلَق فما أحد ينكر ما قال. (٢)

وكم في غصون التاريخ شواهد كثيرة على اختلاف الصحابة بعضهم مع بعض في التشريع والقراءة وغير ذلك ، وهذا إن دل فإنّما يدلّ على عدم استيعابهم لأحكام الشريعة ومعالم الدين ، فكيف يكونوا مراجع الأحكام ومصادر التشريع ومنابع الحكم بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟!

__________________

(١) آل عمران : ١٦١.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٣٣ / ١٣٦.

٣٨٥

٣

قلة معرفتهم بالأحكام

إنّ تاريخ الفقه سجل أُموراً يكثر بها الابتلاء ومع ذلك لم يكن عند الصحابة حلول واضحة لها ، لذلك تشبّثوا بالمقاييس والظنون ولنذكر أمثلة :

١. لقد شغلتْ مسألةُ العول بالَ الصحابة فترة من الزمن ، ويُعنى به أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض ولا تقصر غالباً إلاّ بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة كما في المثال التالي :

إذا ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين ، ففرض الزوجة هو الثمن ، وفرض الأبوين هو السدسان ، وفرض البنتين الثلثان مع أنّ التركة لا تسع للثمن والسدسين والثلثين.

أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأُختين للأب ، ففرض الزوج النصف ، وفرض الأُختين الثلثان ، فحينئذ زادت السهام عن التركة.

وقد واجه الصحابة هذه المسألة ، فاختلفوا على قولين :

أ: إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن وذلك كالأب والبنتين والأُختين دون من له فريضتان في الكتاب لاستحالة أن يجعل الله في المال ثمناً وسدسين وثلثين ، كما أنّه محال أن يجعل فيه نصفاً وثلثين وإلاّ كان المشرع جاهلاً أو عابثاً ، تعالى عن ذلك. وهذا ما كان عليه الإمام عليّ ـ عليه‌السلام ـ وحبر الأُمّة

٣٨٦

ابن عباس وغيرهما.

ب : ما اختاره الخليفة عمر بن الخطاب بعد ما تحيّر وقال : والله ما أدري أيّكم قدَّم الله وأيكم أخّر ، ولكنّي لا أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة. (١)

وكم لهذه المسألة (العول) من نظير في حياة الصحابة :

٢. سأل رجل عمر بن الخطاب عن رجل طلق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقة ، فهل يحسب ذلك ثلاثَ تطليقات؟ فقال عمر : لا آمرك ولا أنهاك ، وقد احتاط الخليفة في الإفتاء وعمل بالوظيفة لكن ابنه عبد الرحمن بن عمر ، قال : لكنّي آمرك ليس طلاقك في الشرك بشيء. (٢)

ولم يذكر دليل حكمه وقضائه.

٣. روى الشعبي قال : اختلف علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وابن عباس في جد وأُمّ وأُخت لأب وأُمّ ؛ فقال علي : للأُخت النصف ، وللأُمّ الثلث ، وللجدّ السدس ؛ وقال ابن مسعود : للأُخت النصف ، وللأُمّ السدس ، وللجدّ الثلث ؛ وقال عثمان : للأُمّ الثلث ، وللأُخت الثلث ، وللجدّ الثلث ؛ وقال زيد : هي على تسعة أسهم ، للأُمّ الثلث ثلاثة ، وما بقي فثلثان للجدّ ، والثلث للأُخت ؛ وقال ابن عباس : للأُمّ الثلث ، وما بقي فللجد وليس للأُخت شيء. (٣)

٤. روى عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ١١٤.

(٢) كنز العمال : ٥ / ١٦١.

(٣) كنز العمال : ١١ / ٦٨.

٣٨٧

وأبوين؟ فقال : للزوج النصف ، وللأُمّ الثلث ممّا بقي ، وللأب الفضل ، فقال ابن عباس : أفي كتاب الله وجدتَه أم رأي تراه؟ قال : رأي أراه ، لا أرى ان أُفضل أُمّاً على أب ، وكان ابن عباس يجعل لها الثلث من جميع المال. (١)

٥. ورد عن طريق أهل السنّة انّ زيد بن ثابت أفرض الصحابة. (٢)

ولكن روى بكير بن أعين من أصحاب الإمام الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : دخل رجل على أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ فسأله عن امرأة تركت زوجها واخوتها لأُمّها وأختاً لأب ، قال أبو جعفر : «للزوج النصف ثلاثة أسهم ، وللإخوة من الأُمّ الثلث سهمان ، وللأُخت للأب سهم» فقال له الرجل : فإنّ فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا يا أبا جعفر ، يقولون : للأب والأُمّ ثلاثة أسهم نصيب من ستة يعول إلى ثمانية؟ فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «ولم قالوا ذلك؟» قال : لأنّ الله قال : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ).

فقال أبو جعفر : «فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله فإنّ الله سمّى لها النصف وإن الله سمّى للأخ الكل ، فالكلّ أكثر من النصف ، فإنّه قال : (فَلَهَا النِّصْفُ) وقال للأخ : (وَهُوَ يَرِثُها) يعني جميع المال إن لم يكن لها ولد ، فلا تعطون الذي جعل له الجميع في بعض فرائضكم شيئاً وتعطون الذي جعل الله له النصف تاماً». (٣)

٦. أُتي عمر بن الخطاب بخمسة نفر أُخذوا في زنا ، فأمر أن يقام على كلّ

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤٣.

(٢) السنن الكبرى : ٦ / ٢١٠.

(٣) البحار : ١٠١ / ٣٤٦ ، الباب ٥ من أبواب الميراث ، ح ٢٥.

٣٨٨

واحد منهم الحدّ ، وكان أمير المؤمنين على ـ عليه‌السلام ـ حاضراً ، فقال : «يا عمر ، ليس هذا حكمهم» قال عمر : فأقم أنت عليهم الحكم. فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدّم الثاني فرجمه حتى مات ، وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره. فتحيّر الناس وتعجّب عمر!!

فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قضية واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات (أي أحكام) ليس فيها حكم يُشبه الآخر؟

فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «نعم ، أمّا الأوّل ، فكان ذمياً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث : فغير محصن ، زنا فضربناه الحد.

وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه».

فقال عمر : لا عشت في أُمّة لست فيها يا أبا الحسن. (١)

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نصّ صريح ، وقد واجهتها كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح على أنّه لو كان الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحير أو تردد. ويثبت انّ المرجع العلمي على الإطلاق ، أعني : الذين يعلمون كلّ الأحكام بلا تحيّر وتردد ، غيرهم.

__________________

(١) الكافي : ٧ / ٢٦٥ ، الحديث ٢٦.

٣٨٩

٤

اختلافهم فيما يكثر الابتلاء به

إنّ أدلّ دليل على عدم استيعابهم للسنّة النبوية ، اختلافهم في أبسط المسائل التي يعمل بها المسلمون كلّ يوم وليلة ، أعني : كيفية صلاة الميت ، فهل يصلى عليه بخمس أو بالأربع فقد قال زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان انّها خمس تكبيرات (١) ، وقد كبر عليّ ـ عليه‌السلام ـ على سهل بن حنيف خمساً. (٢)

وكان أصحاب معاذ يكبرون على الجنازة خمساً. (٣) وعليه أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، وقال الإمام الباقر ـ عليه‌السلام ـ كبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (٤) خمساً.

وسئل الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن التكبير على الميت فقال خمس. (٥)

وقال الفقهاء الأربعة والثوري والأوزاعي وداود وأبو ثور التكبير أربع ، ورووه عن الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ وأخيه محمد بن الحنفية ، وعمر ، وابن عمر ، وزيد ، وجابر ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعتبة بن عامر ، وعطاء بن أبي رباح ، لأنّ

__________________

(١) المجموع : ٥ / ٢٣١.

(٢) المغني : ٢ / ٣٨٧ ؛ الشرح الكبير : ٢ / ٣٤٩ نقلاً عن سعيد في سننه.

(٣) سنن البيهقي : ٤ / ٣٧ ؛ مصنف ابن أبي شيبة : ٣ / ٣٠٣.

(٤) التهذيب : ٣ / ٣١٥ ، الحديث ٩٧٧.

(٥) الكافي : ٣ / ١٨٤ ، الحديث ٣.

٣٩٠

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نعى النجاشي للناس وكبّر بهم أربعاً. (١)

وفي مقابل هاتين الطائفتين قال محمد بن سيرين (٢) وأبو الشعثاء جابر بن زيد انّه يُكبّر ثلاثاً ، ورواه الجمهور عن ابن عباس. (٣)

وقال عبد الله بن مسعود : يكبر ما كبر الإمام أربعاً وخمساً وسبعاً وتسعاً. (٤)

وعن أحمد روايات : إحداها : يكبر أربعاً ، والأُخرى يتابع الإمام إلى خمس ، وأُخرى يتابعه إلى سبع. (٥)

ومن حاول أن يقف على اختلافهم في عدد التكبيرات على الميت فليرجع إلى «السنن الكبرى» للبيهقي فقد جمع عدداً كبيراً من الروايات الواردة حول التكبير على الميت تحت باب عدد التكبير في صلاة الجنائز والبابين التاليين. (٦) وإذا كان هذا حال هذه المسألة فما ظنك بسائر المسائل التي لا يكثر الابتلاء بها.

ولا يقتصر اختلافهم عند هذا الحد بل تعداه إلى الاختلاف في تفسير الآيات التي تتضمن بيان الأحكام ، فلنأت بنماذج :

١. قال سبحانه في آية الوضوء : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). (٧)

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٩٢ و ١١٢ ؛ صحيح مسلم : ٢ / ٦٥٦ و ٩٥١ ؛ سنن الترمذي : ٣ / ٣٤٢ ؛ سنن أبي داود : ٣ / ٢١٢ ؛ سنن النسائي : ٤ / ٧٢ ؛ والموطأ : ١ / ٢٢٦.

(٢) المجموع : ٥ / ٢٣١ ؛ المحلى : ٥ / ١٢٧.

(٣) المغني : ٢ / ٣٨٩ ؛ المجموع : ٥ / ٢٣١ ؛ المحلّى : ٥ / ١٢٧.

(٤) المغني : ٢ / ٣٨٨.

(٥) المغني : ٢ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ؛ الشرح الكبير بهامش المغني : ٢ / ٣٤٩ ؛ المجموع : ٥ / ٢٣١.

(٦) سنن البيهقي : ٤ / ٣٥ ـ ٣٨.

(٧) المائدة : ٦.

٣٩١

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الأُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ «أرجلكم» على الرءوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل ، فأي الرأيين هو الصحيح؟!

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي ، حيث قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). (١)

وقد اختلفت الأُمّة في مقدار القطع وموضع اليد.

فمن قائل : انّ القطع من أُصول الأصابع دون الكف وترك الإبهام ، كما عليه الإمامية وجماعة من السلف.

ومن قائل : انّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكف والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي.

ومن قائل : انّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج. (٢)

هذه نماذج من اختلافاتهم في حقل التفسير.

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) راجع الخلاف للطوسي كتاب السرقة : ١٨٤.

٣٩٢

٥

المرجع العلمي وأصناف الصحابة

نفترض انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ارتحل وجعل أصحابه المرجع العلمي بعده لاستنطاق الكتاب والسنّة وبيان معالم الشريعة ، ولكن الصحابة كانوا على أصناف.

فصنف منهم هم المهاجرون والأنصار أهل الجهاد والإنفاق.

وصنف آخر يشمل الأعراب والطلقاء والمنافقين.

فهل المرجع العلمي هو صنف خاص أو يعم جميع الأصناف؟

فعلى الأوّل ما هو سماتهم وصفاتهم ، وعلى الثاني فيعم الأعراب والطلقاء والمنافقين ومن رأى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مرّة واحدة ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء مراجع العلم؟!

وحصيلة الكلام : انّه لو كانت المرجعية العلمية بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هو أصحابه لكان على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يحدّدهم صنفاً ووصفاً.

ثمّ إنّ طائفة كبيرة من الصحابة اتهموا بالنفاق وقد سجّل وصفهم بالنفاق في المعاجم ، كما أنّ طائفة كبيرة منهم لم يُحسنوا الصحبة ومع ذلك كيف يكونون مراجع الفتيا؟! نظير :

١. احمد بن قيس الأنصاري ، قيل انّه صاحب الجمل الأحمر ، وقد قال في

٣٩٣

حقّه النبي : كلّكم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر. رواه مسلم. (١)

٢. الحرقوص بن زهير السعدي شهد الرضوان لكنّه كان رأس الخوارج ، وهو الذي قال للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : اعدل يا محمد.

٣. الحارث بن سويد بن الصامت ، عدّه ابن حزم من المتهمين بالنفاق ويظهر له براءته فقد شهد بدراً لكنّه قتل المجذر بن زياد يوم أحد لثأر جاهلي فأمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بقتل الحارث بالمجذر.

٤. العرنيون الذين قتلهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جزاء على فعلهم بقتل بعض الرعاة وسرقة الإبل ، كانوا قد صحبوا قبل الحديبية.

٥. محلم بن جثامة ، وقد قال فيه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة ، ولم يكن منافقاً لكنّه قتل صحابياً متعمّداً.

٦. مقيس بن صبابة ، قتل نفساً مؤمنة فأهدر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ دمه ، فقتل في فتح مكة.

٧. عبد الله بن خطل ، كان صحابياً ثمّ ارتد ولحق بمكة وقتل يوم فتح مكة.

٨. المغيرة بن شعبة ، اتّهم بالنفاق في غزوة الطائف ، وساءت سيرته بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

٩. مدعم مولى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي غلّ من غنائم خيبر.

١٠. كركرة مولى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ غلّ من غنائم خيبر أيضاً.

١١. سمرة بن جندب ، لم يؤثر عنه نفاق لكنّه أساء السيرة بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فكان يبيع الخمر ويقتل البشر ويُرضي معاوية في سخط الخالق.

__________________

(١) صحيح مسلم ، ح ٨ ، كتاب صفات المنافقين ، ص ١٢٣ ، وليس في الرواية ما يدلّ على انّه كان منافقاً ، وإنّما ذكره مسلم في ذلك الباب لصيانة عدالة الصحابة

٣٩٤

١٢. عبيد الله بن جحش الأسدي كان من السابقين إلى الإسلام ومن مهاجرة الحبشة لكنّه تنصّر بالحبشة.

١٣. الحارث بن ربيعة بن الأسود القرشي افتتن وارتد بمكة.

١٤. علي بن أُميّة بن خلف افتتن بمكة.

١٥. العاص بن المنبه بن الحجاج افتتن بمكة وقتل ببدر مع المشركين.

١٦. الوليد بن عقبة الذي وصفه القرآن الكريم بالفسق في سورة الحجرات عند قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). (١)

١٧. مسلم بن عقبة الأشجعي الذي أباح القتل والنهب في المدينة المنورة ثلاثة أيام في سنة ٦٣ ه‍.

١٨. بسر بن أبي أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العباس.

١٩. معاوية بن أبي سفيان رأس الفئة الباغية وهو الذي قال في حقّه النبي مخاطباً عمار : «ويح عمار ، تقتلك الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».

٢٠. أبو الغالية قاتل عمار. (٢)

هذه نماذج من الصحابة الذين لم يُحسنوا الصحبة ، وأمّا ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) وقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ). (٤)

وقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّ الله اطّلع على أهل بدر ـ إن كان الخبر صحيحاً ـ فكلّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم فرداً غير معصوم بأنّه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء.

وبعبارة أُخرى : كلّ ما ورد من الثناء على المهاجرين والأنصار في الكتاب

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) لاحظ كتاب : الصحبة والصحابة : ١٨٢ ـ ١٨٤.

(٣) الحجرات : ١٨.

(٤) الحجرات : ٢٩.

٣٩٥

العزيز فإنّما هو ثناء على مجموعهم لا على كلّ فرد فرد منهم وإن تبيّن فسقه وبانت زلّته ، وكم له في الذكر الحكيم من نظير :

١. انّه سبحانه أثنى على بني إسرائيل في غير واحد من الآيات وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (١)

٢. وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (٢)

فليس لأحد أن يستدل بهذه الآيات على تنزيه كلّ فرد من بني إسرائيل.

٣. وقال تعالى في حقّ أُمّة نبينا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

فالآية تصف الأُمة المرحومة بأنّها خير أُمّة ولكنّها ليست بصالحة للاستدلال على صلاح كلّ مسلم وفلاحه ، وهل كلّ فرد من آحاد الأُمّة كذلك؟!

ونحن لم نزل نسمع عن كلّ من يحاول اثبات عدالة كلّ صحابي الاستدلال بهذه الآيات ولكنّهم غفلوا عن نكات :

الأوّل : انّ الآيات نزلت في حقّ المهاجرين والأنصار ، فأين هي من الأعراب والطلقاء والمرتدين والمنافقين المندسين في الصحابة؟!

الثانية : انّها ثناء على مجموعة ولا يخص كلّ فرد فرد منهم ، مثلاً إذا أُثني على الأُمة العربية فإنّما يراد المجموعة من الأُمة لا كلّ فرد فرد حتّى أُولئك الخونة الذين باعوا الأراضي الإسلامية بثمن بخس.

__________________

(١) البقرة : ٤٧.

(٢) الجاثية : ١٦.

(٣) آل عمران : ١١٠.

٣٩٦

٦

المرجع العلمي وعدم تدوين الحديث

و

تفرق الصحابة

إنّ مرجعية الصحابة بعد رحيل النبي في حلّ المشاكل والمعضلات الطارئة في مختلف الأصعدة ، بمعنى مرجعية سنّة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ التي حدّث بها النبي أو شوهد منه فعل أو تقرير ، ولكنّها إنّما تُزيح العلة وترفع حاجات الأُمّة إذا كانت مدونة في ضمن صحف ورسائل حتّى يتيسّر رجوع بغاة العلم وأهل الفتيا إليها ، ولكنّها ـ وللأسف ـ لم تكن مدونة في عصره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بل حالت الخلافة ، بينها وبين تدوينها قرابة قرن ونصف ـ فبعد ما بلغ السيل الزُّبى واندرس العلم وأُبيد معظمُ الصحابة والتابعين فعند ذلك وقف المسلمون على الرزيّة الكبرى التي مُنوا بها ، فعادوا يتداركونه ببذل جهود حثيثة في تقييد شوارد الحديث.

يقول ابن الأثير : لما انتشر الإسلام ، واتسعت البلاد ، وتفرقت الصحابة في الاقطار ، وكثرت الفتوح ، ومات معظم الصحابة ، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم وقلّ الضبط ، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري انّها الأصل ، فانّ الخاطر يغفل ، والذهن يغيب ، والذكر يُهمِل والعلم يحفظ ولا

٣٩٧

ينسى. (١)

يقول الذهبي : «في سنة مائة وثلاثة وأربعين شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك الموطّأ بالمدينة ، والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ، ومعمر باليمن ، وسفيان الثوري بالكوفة ، وصنّف أبو إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي ـ إلى أن قال ـ وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلّمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة. (٢)

أفيصحّ في منطق العلم ، اتهام صاحب الرسالة بعدم وضع ضمانات لازمة لحلّ العويصات التي تطرأ على المجتمع الإسلامي في هذه الفترة الطويلة ، فإذا لم يصحّ فما هي الضمانات اللازمة فيها ، وهل هناك مرجع آخر ، غير العترة الطاهرة الذين هم حَفَظة سُننه ورواةُ أحاديثه ، وعيبة علمه.

وهناك مشكلة أُخرى وهي عدم حضور أكثر الصحابة في عامة القضايا والوقائع التي يقضي فيها النبي ويُفتي أو يحدّث أو يقرر ، لأنّ أكثر الصحابة كانوا على النعت الذي يصفهم به ابن حزم ويقول : مشاغيل في المعاش ، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش في الحجاز ، وانّه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط ، وانّه إنّما قامت الحجة على سائر من لم يحضر بنقل من حضره وهم واحد أو اثنان. (٣)

__________________

(١) جامع الأُصول : ١ / ٤٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٦.

(٣) الأُصول العامة للفقه المقارن : ١٦٦ ، نقلاً عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : ١٢٣ ، نقلاً عن ابن حزم.

٣٩٨

هذا ويقول المحقّق الفقيد : السيد محمد تقي الحكيم بعد نقل هذا : وإذا صحّ هذا ـ وهو صحيح جدّاً ، لأنّ التاريخ لم يحدثنا عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه كان يجمع الصحابة جميعاً ، ويبلّغهم بكلّ ما يجد من أحكام ، ولو تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنّة ـ فما ذا يصنع من يريد التمسك بسنّته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة؟

أيظل يبحث عن جميع الصحابة ـ وفيهم الولاة والحكام ، وفيهم القواد والجنود في الثغور ـ ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام؟ أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين وهو لا يجزيه ، لاحتمال صدور الناسخ أو المقيِّد أو المخصِّص أمام واحد أو اثنين ممّن لم يكونوا بالمدينة؟ والحجية ـ كما يقول ابن حزم ـ : لا تتقوّم إلاّ بهم.

والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصِّصه أو مقيِّده ، ما دمنا نعلم أنّ من طريقة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة ، فالإرجاع إلى شيء متشتّت وغير مدوّن تعجيز للأُمّة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.

وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبياً ، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح ، وانتشار الإسلام ، ومحاولة التعرف على أحكامه من قِبَل غير الصحابة من رواتهم ، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث للأغراض السياسية أو الدينية أو النفسية؟

ومثل هذه المشكلة هل يمكن أن لا تكون أمامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المسئول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته ما دامت خاتمة الشرائع؟!

إنّ الشيء الطبيعي أن لا يفرض أيَّ مصدر تشريعي على الأُمّة ما لم يكن

٣٩٩

مدوّناً ومحدَّد المفاهيم ، أو يكون هناك مسئول عنه يكون هو المرجع فيه.

وما دمنا نعلم أنّ السنّة لم تدوّن على عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وانّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منزّه عن التفريط برسالته ، فلا بدّ أن نفترض جعل مرجع تُحدَّد لديه السنّة بكلّ خصائصها. (١)

وليس هناك أي مرجع بهذا الوصف إلاّ العترة الطاهرة الذين هم أحد الثقلين ، اللذين أُنيط بالتمسك بهما ، النجاة من الضلالة في حديث الثقلين المتواتر أو المتضافر ، وحديث السفينة الذي جاء فيه : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق». (٢)

__________________

(١) الأُصول العامة للفقه المقارن : ١٦٧.

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ١٥١.

٤٠٠