الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

ومع ذلك كلّه نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتّضح أنّ حجية أقوالهم لا تدلّ على أنّهم أنبياء أو فوّض إليهم أمر التشريع :

١. السماع عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ :

إنّ الأئمّة يروون أحاديث رسول الله سماعاً منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة آبائهم ، ولأجل ذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن عليّ أمير المؤمنين ، عن الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. وهذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم ، وقد تضافر عن الإمام الصادق أنّه كان يقول : «حديثي ، حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي» ، فعن هذا الطريق تحمّلوا أحاديث كثيرة عن الرسول الأكرم وبلّغوها ، من دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان ، أو على أُناس مجاهيل ، أو شخصيات متسترة بالنفاق وهذا النوع من الأحاديث ليس بقليل.

٢. كتاب عليّ ـ عليه‌السلام ـ :

يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الإمام أمير المؤمنين بإملاء رسول الله وخطّ عليّ ، وقد أشار أصحاب الصحاح والمسانيد إلى بعض هذه الكتب. (١)

فقد كان لعليّ كتاب خاص بإملاء رسول الله وقد حفظته العترة الطاهرة وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة ، وقد بثّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية ، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٨١ ؛ صحيح مسلم : ٤ / ٢١٧ ؛ السنن الكبرى : ٨ / ٢٦ نقلاً عن الإمام الشافعي.

٣٦١

من الطهارة إلى الديات ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

وقال الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ عند ما سئل عن الجامعة؟ فقال : «فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلاّ فيها حتى أرش الخدش».

وكان كتاب علي مصدراً لأحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحداً بعد آخر وينقلون عنه ويستدلّون به على السائلين.

وهذا هو أبو جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ يقول لأحد أصحابه ـ أعني حمران بن أعين ـ وهو يشير إلى بيت كبير : «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ عليّ ـ عليه‌السلام ـ وإملاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة».

وهذا هو الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ يعرّف كتاب عليّ ـ عليه‌السلام ـ بقوله : «فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من فلق فِيهِ وخطّ علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة».

ويقول سليمان بن خالد : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وخطّ عليّ ـ عليه‌السلام ـ بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى أرش الخدش».

ويقول أبو جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ لبعض أصحابه : «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ» (١).

__________________

(١) وقد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتب الإمام عليّ في موسوعته «بحار الأنوار» : ٢٦ / ١٨ ـ ٦٦ تحت عنوان «باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب» فلاحظ الباب ، الحديث ١٢ ، ١ ، ١٠ ، ٣٠.

٣٦٢

٣. الاستنباط من الكتاب والسنّة :

المصدر الثالث لأقوالهم ، هو إمعانهم في الكتاب والسنّة وتدبّرهم فيهما ، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخصّ العقيدة والشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الأفهام ، وهذا هو الذي جعلهم متميّزين بين المسلمين بالوعي والدقّة والفهم ، وخضع لهم أئمّة الفقه في مواقف شتّى حتى قال الإمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على الإمام الصادق «سنتين» : لو لا السنتان لهلك النعمان. ولأجل ذلك كانوا يستدلّون على كثير من الأحكام عن طريق الكتاب والسنّة ويقولون : «ما من شيء إلاّ وله أصل في كتاب الله وسنّة نبيّه».

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً. وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

أخرج الكليني باسناده عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة».

وأخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه». (١)

ومن وقف على الأحاديث المروية عنهم يقف على أنّهم كيف يستدلّون على الأحكام الإلهية عن المصدرين بفهم خاص ووعي متميّز يبهر العقول ، ويورث

__________________

(١) راجع الكافي : ١ / ٦٢٥٩ «باب الرد إلى الكتاب والسنّة» تجد فيه أحاديث تصرّح بما ذكر ، والمراد منها أُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.

٣٦٣

الحيرة. ولو لا الخوف من الإطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك ونكتفي ببيان موردين :

١. قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يُضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يُضرب حتى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (١) فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (٢)

إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته ، لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته ، وليس هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه ـ عليهم‌السلام ـ.

٢. لمّا سمّ المتوكّل نذر لله : إن رزقه الله العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة. فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم «المال الكثير» فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الإمام عليّ الهادي فسأله؟ قال : يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً ، فقال المتوكل : من أين لك هذا؟ فقال : من قوله تعالى : (لَقَدْ

__________________

(١) غافر : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٤٠٥.

٣٦٤

نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...). (١)

والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لأنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ غزا سبعاً وعشرين غزوة ، وبعث خمساً وخمسين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين ، وعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب. (٢)

وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال «بثمانين» مكان «ثلاثة وثمانين» وذلك لأنّ عدد المواطن التي نصر الله المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين. (٣)

٤. الإشراقات الإلهية :

إنّ هناك مصدراً رابعاً لأحاديثهم نعبّر عنه بالإشراقات الإلهية ، وأيّ وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء ، أو معدودين من المرسلين ، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ولم يكن المصاحب نبيّاً بل كان وليّاً من أولياء الله سبحانه وتعالى بلغ في العلم والمعرفة مكاناً حتى قال له موسى ـ وهو نبيّ مبعوث بشريعة ـ : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). (٤)

يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان ـ آصف بن برخيا ـ بقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا

__________________

(١) التوبة : ٢٥.

(٢) تذكرة الخواص : ٢٠٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ٤٠٢.

(٤) الكهف : الآية ٦٦.

٣٦٥

عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (١)

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات ، بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه لصفاء قلبه وروحه ، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).

تضافرت الروايات على أنّ في الأُمّة الإسلامية ـ مثل الأُمم السابقة ـ رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع.

روى البخاري في صحيحه : لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر. (٢)

قال القسطلاني ليس قوله : «فإن يكن» للترديد بل للتأكيد كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.

وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى. (٣)

وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار : عن أبي هريرة مرفوعاً : أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطاب. (٤)

__________________

(١) النمل : ٤٠.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ١٤٩.

(٣) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ٦ / ٩٩.

(٤) صحيح البخاري : ٢ / ١٧١.

٣٦٦

قال القسطلاني في شرحه : قال المؤلف : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة. (١)

وقال الخطابي : يُلقى الشيء في روعه ، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب ، ويخطر الشيء بباله فيكون ، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

ورواه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» وقال : حديث متّفق عليه. (٢)

وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة ، وأخرج قراءة ابن عباس : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال : معنى قوله محدَّثون أي ملهمون ، فكان عمر ـ رضى الله عنه ـ ينطق بما كان ينطق ملهماً. (٣)

قال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : مصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل : تكلّمهم الملائكة ، وجاء في رواية : مكلّمون. وقال البخاري : يجري الصواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء.

وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في «الرياض» : ومعنى «محدّثون ـ والله أعلم ـ أي يلهمون الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم الملائكة لا

__________________

(١) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ٥ / ٤٣١.

(٢) صفة الصفوة : ١ / ١٠٤.

(٣) مشكل الآثار : ٢ / ٢٥٧.

٣٦٧

بوحي وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة». (١)

قال القرطبي : محدَّثون ـ بفتح الدال ـ اسم مفعول جمع محدَّث ـ بالفتح ـ أي ملهم أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حدّث به ، وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر ، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة التردّد. قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك : إن كان لي صديق فهو زيد ، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره. (٢)

فإذا كان في الأُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن فلِمَ إذاً لا يكون بين الأُمّة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأُمّة في مجال العقيدة والتشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الإفاضة تساوق النبوّة والرسالة ، فقد خلط الأعم بالأخصّ فالنبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام الله تعالى ويرى رسول الوحي ، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

وأمّا الإمام : وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة من دون أن

__________________

(١) الرياض : ١ / ١٩٩.

(٢) لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدّث ، كتاب الغدير : ٥ / ٤٢ ـ ٤٩.

٣٦٨

يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوّة طرقاً أشرنا إليها.

ومن التصوّر الخاطئ : الحكم بأنّ كل من أُلهم من الله سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول ، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً ، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول في حقّها سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). (١)

أفصارت أُمّ موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء؟

وهذه مريم البتول ، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة قال سبحانه : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ * يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ...). (٢)

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر قال سبحانه : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا). (٣)

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تصبح نبيّة ولا رسولة ، فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من الله سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

__________________

(١) القصص : ٧.

(٢) آل عمران : ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) مريم : ٢١١٧.

٣٦٩

٢

عصمة الأئمّة الاثني عشر

إنّ القول بعصمة الأئمّة الاثني عشر وقعت ذريعة لتخيّل أنّهم أنبياء ، زاعمين بأنّ العصمة تساوي النبوّة ، غافلين عن أنّها أعمّ من النبوّة وإليك البيان :

العصمة : قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلاّ لم يستحقّ مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ في التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والأهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة وإنّما دلّهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنّة رسوله ، أمّا الكتاب :

فقد قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق.

وأمّا السنّة فنذكر بعضها :

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

٣٧٠

١ ـ قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه كيفما دار». (١) ومن دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطأ.

٢ ـ وقال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حقّ العترة : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً». (٢) فإذا كانت العترة عدل القرآن ، تصبح معصومةً كالكتاب ، لا يخالف أحدهما الآخر وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.

ولا أظنّ أن يرتاب فيما ذكرنا أحد ، إلاّ أنّ اللازم التعرّف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الأكرم فنقول : من هم العترة وأهل البيت؟

لا أظنّ أنّ أحداً ، قرأ الحديث والتاريخ ، يشكّ في أنّ المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاصّ من أهل بيته ، ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح ، ونكتفي بالقليل من الكثير منها.

روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : لمّا نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ...) الآية ، دعا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عليّاً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال : «اللهمّ هؤلاء أهلي».

وروى أيضاً عن أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ : إنّ هذه الآية نزلت في بيتي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قالت : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ، ألستُ من أهل البيت؟ فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول الله. قال : وفي البيت رسول الله ،

__________________

(١) حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه : ١٤ / ٣٢١ ، والهيثمي في مجمعه : ٧ / ٢٣٦.

(٢) حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده : ٢ / ١١٤ وغيرهم.

٣٧١

وعليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».

وروي أيضاً عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر ، يقول : «الصلاة أهل البيت» : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قال يزيد بن حيّان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟

قال : يا ابن أخي والله ، لقد كبر سنّي ، وقدم عهدي ، فما حدّثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه. ثم قال : قام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ثم قال :

«أمّا بعد ، ألا أيّها الناس ، إنّما أنّا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ـ فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : ـ وأهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي».

فقلنا : من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال : وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته

٣٧٢

الذين حرموا الصدقة بعده. (١)

٣. روى المحدّثون عن النبيّ الأكرم أنّه قال : «إنّما مثل أهل بيتي في أُمّتي ، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق». (٢)

فشبّه ـ صلوات الله عليه وآله ـ أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أُصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله غير أنّ ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم.

فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)؟

يقول ابن حجر في صواعقه : «ووجه تشبيههم بالسفينة : أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكراً لنعمة مشرّفهم وأخذاً بهدي علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات. ومن تخلّف عن ذلك ، غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان». (٣)

__________________

(١) لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث ، جامع الأُصول : ١ / ١٠٠ ـ ١٠٣ الفصل الثالث ، من الباب الرابع.

(٢) مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥١ ؛ الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٦٦. وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها ، فعليه بتعاليق إحقاق الحق : ٩ / ٢٧٠ ـ ٢٩٣.

(٣) الصواعق : ١٩١ الباب ١١. يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته :

راجع كلامه هذا لما ذا لم يأخذ ـ ابن حجر ـ بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا في شيء من أُصول الفقه وقواعده ، ولا في شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب؟ ولما ذا تخلّف عنهم ، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان؟! لاحظ المراجعات : ٢٥ ، المراجعة ٨.

٣٧٣

عصمة الإمام في الكتاب

وممّا يدلّ على عصمة الإمام على وجه الإطلاق قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (١)

والاستدلال مبنيّ على دعامتين :

١. إنّ الله سبحانه أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق ، أي في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

٢. إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).

من غير فرق (٢) بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين : وجوب إطاعة أُولي الأمر على وجه الاطلاق وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان ، وأن يتّصف أُولو الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين ، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت العناية ، لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) الزمر : ٧.

٣٧٤

هذه الآية تدلّ على عصمة من أمر الله بطاعتهم ولا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته ، ولكن اتّفقت الأُمّة على عدم عصمة غير النبي والأئمّة الاثني عشر ، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلاّ تخلو الآية عن المصداق.

وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ويطيب لي أن أذكر نصّه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال :

«إنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً». (١)

وهذه الأدلّة والبراهين على لزوم اتّباع أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لا تبقي شكّاً لمشكّك ولا جدلاً لمجادل ، ويفرض على المسلمين الرجوع إليهم فيما لا نصّ فيه في كتاب أو سنّة ، ولكن ـ مع الأسف الشديد ـ نجد انّ جماهير أهل السنّة ولجوا كلّ باب إلاّ باب أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في الأُصول والفروع حتّى بلغ الأمر إلى حد أثار تعجب الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق من عدول أهل السنة عنهم ، والتوجه إلى غيرهم ويقول : «فما ندري لما ذا عدل أهل القبلة عن أئمّة أهل البيت

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ١٠ / ١٤٤.

٣٧٥

فلم يتعبدوا بمذاهبهم في شيء من الأُصول والفروع ، ولا وقفوا في المسائل الخلافية عند قولهم ، ولا كان علماء الأُمّة يبحثون عن رأيهم ، بل كانوا يعارضونهم في المسائل النظرية ولا يبالون بمخالفتهم ، وما برح عوام الأُمّة خلفاً عن سلف يرجعون في الدين إلى غير أهل البيت بلا نكير». (١)

__________________

(١) المراجعات : المراجعة ١٧.

٣٧٦

الفصل الثاني

الصحابة

والمرجعية العلميّة بعد رحيل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الصحابة هم الذين رأوا نور الوحي واستضاءوا به ، وصحبوا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وجاهدوا بين يديه ونشروا الإسلام وحملوا رايته خفّاقة ، كما تعلّموا منه العقيدة والشريعة في ظل تعلم القرآن والسنّة ، وأخذ منهم الخلف ، فلهم حقّ كبير على الأُمّة في حفظ الشريعة ونشرها.

ومع أنّهم بذلوا جهوداً كبيرة في تعلّم الدين وأحكام الشريعة ومعالمها ومعارفها ، ولكنّهم لم يستوعبوا كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة عبْر القرون ، فهم وإن أخذوا من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ معالم دينهم ولكنّهم لم يبلغوا مستوى يؤهّلُهم لرفع حاجات الأُمّة في مختلف العصور.

ولعلّ القارئ يتلقّى ما ذكرنا دعوة بلا برهان نظراً للقداسة التي حظي بها الصحابة عبر القرون على نحو عرفوا بمراجع الدين في العقيدة والشريعة.

ولكنّه فكرة مرفوضة ، لأنّ التاريخ يشهد على خلافه ، وإليك نماذج من تلك الشواهد.

٣٧٧

١

الإفتاء بالرأي

إنّ ردّ الفرع إلى الأصل ، واستخراج حكم الواقعة من الأُصول الكلية ، ليس إفتاءً بالرأي وإنّما هو إفتاء بالدليل وبالكتاب والسنّة ، غاية الأمر انّ الكتاب أدلى ، والسنّة أشارت إلى القاعدة ، والمستنبط يستخرج حكم الواقعة الجزئية من الضوابط الكلية ، وهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي هو رمز بقاء الشريعة ولولاه لما قامت لخاتمية الإسلام دعامة ، ومن أنكره فإنّما ينكره بلسانه ويذعن به بقلبه.

إنّ الإفتاء بالمقاييس الظنية التي لم تثبت حجيتها بدليل قاطع هو الإفتاء بالرأي ، والصحابة بعد رحيل النبي إذا لم يجدوا في الواقعة المستجدة دليلاً من الكتاب والسنّة أفتوا بتلك المقاييس ، وربّما تشاوروا فأخذوا بالرأي الراجح المظنون انّه حكم الله سبحانه ، ومن المعلوم أنّ الإفتاء بهذا النوع من الرأي ، ليس إفتاءً بحكم الله سبحانه ، بل أشبه بالأحكام الوضعية الرائجة في الغرب غاية الأمر انّهم كانوا يلتجئون إلى هذا النوع من الحكم بعد اليأس عن وجود دليل في الكتاب والسنّة ، وإليك شواهد على ذلك.

١. عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يَقْضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعُلِمَ عن رسول الله في ذلك الأمر سنّة قضى بها ، فإن أعياه خرج ، فسأل المسلمين ،

٣٧٨

فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلّهم يذكر عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا ، فإن أعياه ان يجد فيه سنّة عن رسول الله ، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (١)

وهذا اعتراف صريح من الخليفة بأنّ السنّة النبوية التي وعاها الصحابة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كانت غير وافية بالحاجات الفقهية ، ولذلك كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس الظنيّة لاستنباط حكم الموضوع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الصحابة لم يكونوا بمنزلة ، تجعلهم مصادر الحكم ومراجع الدين على نحو تكون الشريعة مخزونة عندهم ، بل كانوا كسائر الناس في عدم المعرفة بالمستجدات وما ليس فيه نص معين وإن كانوا يتفاوتون عن الآخرين بصحبتهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأخذهم عنه قسماً من معالم الدين حسب ما سمح لهم الوقت.

٢. نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضي بالكوفة وأوصاه على النحو التالي :

إن جاءك شيء من كتاب الله ، فاقض به ولا يُلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، فانظر سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم تكن في سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أيّ الأمرين شئت : إن شئت أن تجتهد برأيك فتُقدِّم ، وإن شئت ان تتأخر فتأخر ، ولا أرى التأخير إلاّ خيراً لك. (٢)

__________________

(١) دائرة المعارف لفريد وجدي : ٣ / ٢١٢ ، مادة جهد.

(٢) دائرة المعارف لفريد وجدي : ٣ / ٢١٢ مادة جهد.

٣٧٩

فالمراد من قوله : «ان تجتهد برأيك» هو العمل بالمقاييس الظنية التي لم يدل عليه دليل ، وإلاّ فلو كان هناك دليل لما كان هناك حاجة إلى الرأي.

وممّا يدلّ على أنّ العمل بالرأي لم يكن عملاً بالدليل الشرعي ، بل كان تخلّصاً من المأزق ، انّ الإمام علياً ـ عليه‌السلام ـ لما ولى شريحاً على القضاء ، اشترط عليه ألاّ ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه ، وما ذلك إلاّ لأجل انّ الإمام كان واقفاً بأنّ بعض المعايير التي يقضي على ضوئها شريح ، ليست معايير شرعية فلذلك اشترط عليه العرض. (١)

٣. يقول عبد الله بن مسعود : أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وان الله قد قدر من الأمر ان قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم ، فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فليقض فيه بما قضى به الصالحون ، ولا يقل إنّي أخاف وإنّي أرى. (٢)

وزاد مؤلف كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» : فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيُّه ولم يقض به الصالحون ، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي. (٣)

فهو على النصّ الأوّل نهي عن الإفتاء بالرأي ، بخلاف النصّ الثاني فقد أجاز الإفتاء به.

٤. كان ابن عباس إذا سئل عن أمر : فإن كان في القرآن أخْبِر به ، وإن لم

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٢) دائرة المعارف لفريد وجدي : ٣ / ٢١٢ ـ ٢١٣ ، مادة جهد.

(٣) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : ١٧٧.

٣٨٠