الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

والظاهر الصحّة في جميع الأقسام وفاقاً للشيخ كاشف الغطاء في كتابه (١) والسيد الأُستاذ الإمام الخميني كما أفاد في محاضراته.

ثمّ إنّ الروايات الدالّة على صحّة العمل الصادر عن التقية على أصناف :

١. ما دلّ على صحّة العمل المضطر إليه ، فيختصّ هذا الصنف بالتقية الاضطرارية التي تنبع عن خوف الضرر على النفس والنفيس ، ضرراً لا يتحمل عادة.

٢. ما دلّ على صحّة العمل المأتي به تقية والظاهر انصراف هذا الصنف إلى التقية الاضطرارية.

وعلى كلّ تقدير فعنوان الحكم في الصنف الأوّل هو الاضطرار وفي الصنف الثاني هو التقية.

٣. ما دلّ على صحّة العمل المخالف للواقع والموافق للمخالف مداراة له حفظاً للوحدة الإسلامية.

فها نحن نتناول لغاية الاختصار من كلّ صنف بعض الروايات.

الصنف الأوّل : ما يكون فيه الموضوع هو الاضطرار

إذا أتى بعمل مخالف للواقع لأجل الاضطرار ، فيدلّ على صحّته الروايات التالية :

١. حديث الرفع ، أعني قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «رفع عن أُمّتي ... ما اضطروا إليه». (٢)

والرواية صحيحة سنداً لكن المهم تحقيق مدلولها ، فإنّ الرفع يتعلّق بأمر وجودي وهو دائر بين أحد أُمور ثلاثة :

أ. المؤاخذة والعقاب.

__________________

(١) كشف الغطاء : ١ / ٣٠٠.

(٢) الوسائل : ١١ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

٣٤١

ب. الأثر المناسب لكلّ واحد من الأُمور التسعة.

ج. تمام الآثار المترتبة على الأمر المرفوع في لسان الشرع.

والأوّل غير صحيح ، لوضوح انّ الرواية بصدد الإخبار عن رفع أمر تشريعي من الوجوب والحرمة أو الجزئية والمانعية ، وأمّا المؤاخذة والعقاب الأُخروي فهو أمر تكويني لا تشريعي.

أضف إلى ذلك انّه لا يصحّ تقديرها في رفع النسيان والخطأ اللّذين هما من الأُمور التسعة ، لعدم وجود العقوبة فيهما حتّى يصحّ الامتنان من الشرع على الأُمّة برفعها فيهما.

والثاني بعيد أيضاً فانّه يحتاج إلى الفحص عن الأثر المناسب لكلّ واحد من الأُمور التسعة وربّما لا يصل الإنسان إليه في بعضها.

والثالث هو المتعيّن ، أي رفع تمام الآثار الشرعية المترتبة على الموضوع ، مثلاً : يحرم التكفير في الصلاة ، كما تجب السورة كاملة فيها ، فينتزع من حرمة التكفير ، مانعيته للصلاة ؛ ومن وجوب السورة ، جزئيتها لها. فإذا اضطر إلى التكفير أو إلى ترك قراءة السورة الكاملة ، فالآثار المترتبة على التكفير أو السورة مرفوعة ، فالمرفوع في التكفير هو الحرمة وبالتالي المانعية ، كما أنّ المرفوع في ترك السورة الكاملة اضطراراً هو الوجوب وبالتالي الجزئية ، وكأنّ الشارع لم يحكم على التكفير والسورة بشيء من الأحكام ، فينحصر المأمور به فيما أتى على وفق التقيّة.

فإن قلت : إنّ الرفع يتعلّق بأمر وجودي ، وعندئذ يصحّ التمسك بحديث الرفع في التكفير الذي هو أمر وجودي دون ترك السورة الذي هو أمر عدمي.

قلت : الملاك في الاستدلال هو تعلّق الرفع بعنوان كلّي ـ أعني : ما اضطروا إليه وهو أمر وجودي ـ سواء كان المنطبَق والمصداق أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً ،

٣٤٢

فالمصحِّح لصدق الرفع هو متعلّقه في الحديث ـ أعني : ما اضطروا إليه ـ وعلى ذلك فلو اضطرّ إلى ترك الوقوف في عرفات دون المشعر أمكن التمسّك في صحّة العمل بحديث الرفع ، لأنّ العنوان في الحديث الذي تعلّق به الرفع (الاضطرار) أمر وجودي.

٢. صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم ، فقد أحلّه الله له». (١)

وجه الدلالة : انّ الإنسان يضطر إلى التكفير وترك الوقوف بعرفة وغير ذلك من الأفعال والتروك الممنوعة شرعاً في عباداته ، فكلّ ذلك أحلّه الله ورفع المنع الثابت فيها لو لا التقية.

وبعبارة أُخرى : المراد بالإحلال رفع المنع السابق ، والرفع في كلّ ممنوع بحسب حاله سواء كان الممنوع حكماً تكليفياً كشرب النبيذ أو الفقاع أو حكماً غيرياً كالتكفير وترك الوقوف بعرفة ، فالمنع في كلا الموردين مرفوع بحكم قوله : أحلّه الله ، وينتج صحّة العمل.

٣. موثّقة سماعة ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «إذا حلف رجل تقية لم يضرّ إذا هو أُكره أو اضطر إليه» وقال : «ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه». (٢)

وجه الدلالة على صحّة العمل المأتي به اضطراراً ، هو انّ حنث الحلف حرام تكليفاً ووضعاً بمعنى ترتب الكفّارة عليه في حالة الاختيار ، وهذا العمل إذا صدر عن إكراه واضطرار يتجرّد عن كلا الحكمين ، فلا هو حرام تكليفاً ولا وضعاً بمعنى

__________________

(١) الكافي : ٢ / ١٧٥ ، الحديث ١٨ ، باب التقية. ولاحظ الوسائل : ١١ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل : ١٦ ، الباب ١٢ من كتاب الأيمان ، الحديث ١٨.

٣٤٣

وجوب الكفّارة.

٤. صحيحة زرارة : «عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به». (١)

والظاهر انّ الضرورة أعمّ من الاضطرار من حيث المورد ، فانّ الثاني يختصّ بما إذا كان الخوف على نفس الشخص ونفيسه ، بخلاف الضرورة فهي أعمّ ، فتصدق أيضاً على ما إذا كان في ترك العمل خطر يهدد كيان الإسلام والمسلمين أو طائفة منهم.

هذا بعض ما دلّ على صحّة العمل المخالف للواقع لأجل الاضطرار والضرورة ، وعلى ضوء ذلك فلو اضطر الإنسان أو دعت الضرورة إلى فعل المانع كالتكفير أو ترك الجزء كالسورة الكاملة فالعمل جائز وماض ، وسيوافيك في روايات الصنف الثاني انّ المراد من قوله : «أحله الله» هو تنفيذ العمل وقبوله لا بمعنى حلّيته وعدم حرمته.

الصنف الثاني : ما يكون الموضوع فيه «التقيّة»

ما اتّخذ عنوان التقيّة موضوعاً لتنفيذ العمل وتصحيحه فيدلّ عليه الروايات التالية :

١. موثّقة مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في حديث وتفسير ما يتّقى : «مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (٢)

__________________

(١) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٦.

٣٤٤

فلو أُريد من الجواز الإباحة فيدلّ على حلية العمل إذا كان حراماً في الواقع ، وأمّا لو أُريد به نفوذ العمل ومضيّه عند الشارع فيدلّ على صحّة العمل مثل قوله : «الصلح جائز بين المسلمين» ، فإفطار المؤمن عند سقوط القرص أو وقوفه بعرفات قبل وقته أو إيقاعه الطلاق مع عدم العدلين كلّها جائزة أي نافذة ومقبولة لدى الشارع.

نعم المتبادر من التقية هي التقية الاضطرارية ، ولا يعمّ القسم المدارائي الذي يتجرّد عن الخوف.

٢. صحيحة أبي الصباح إبراهيم بن النعيم ، قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمد : «إنّ الله علم نبيه التنزيل والتأويل ، فعلمه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ علياً ـ عليه‌السلام ـ» قال : «وعلمنا والله» ثمّ قال : «ما منعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية ، فأنتم منه في سعة». (١)

فقوله : «ما منعتم من شيء ... تقية» يعم كلّ عمل صدر من الإنسان تقية فهو في سعة منه ، أي لا يترتب عليه الأثر ، فلو كفّر أو ترك سورة كاملة أو سجد على ما لا يجوز السجود عليه ، فالمصلي في سعة من هذا العمل يعني لا يعد عمله هذا محرّماً ولا يترتب عليه الإعادة والقضاء ، وتوهم انّ المراد من السعة هو خصوص عدم الحرمة لا رفع الكفّارة فقط كما ترى ، مخالف لإطلاقها.

٣. موثّقة سماعة قال : سألته عن رجل كان يصلّي ، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة ، قال : «إن كان إماماً عدلاً فليصل أُخرى وينصرف ويجعلها تطوعاً ، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ، ويصلّي ركعة أُخرى ، ويجلس قدر ما يقول : أشهد أن لا

__________________

(١) الوسائل : ١٦ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب الأيمان ، الحديث ٣.

٣٤٥

إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، ثمّ ليتم صلاته معه على ما استطاع فانّ التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله». (١)

والرواية صريحة في صحّة صلاته بمحضر منهم مع ترك ما لم يستطع فعله أو إتيان ما لم يستطع تركه من الأجزاء والشرائط والموانع.

والرواية كالضابطة الكلية في كافة الأعمال حيث قال : «فانّ التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور».

وحصيلة الكلام : انّ الإنسان إذا تأمّل في العناوين التالية :

١. رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه.

٢. كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله.

٣. ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه.

٤. التقيّة في كلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها.

٥. كلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية فانّه جائز.

٦. ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه في يمين في تقية فأنتم منه في سعة.

٧. وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها.

فإذا أمعن في هذه العناوين وما حمل عليها من الأحكام يقف على أنّ طروء الاضطرار والضرورة والتقية سبب لرفع الحكم أو نفوذ العمل وجوازه فينتزع منه صحّة العمل في مجالي التكليف والوضع.

٤. ما رواه في أُصول الكافي بسنده عن أبي جعفر أنّه قال : «التقية في كلّ شيء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفّين». (٢)

__________________

(١) الوسائل : ٨ / ٤٠٥ ، الباب ٥٦ من أبواب كتاب الصلاة ، الحديث ٢.

(٢) الكافي : ٢ / ١٧٢ ، باب التقية ، الحديث ٢.

٣٤٦

دلّت الرواية على ثبوت التقية ومشروعيتها في كلّ شيء ممنوع لو لا التقية ، إلاّ في الفعلين المذكورين ، فاستثناء المسح على الخفين مع كون المنع فيه عند عدم التقية منعاً غيرياً دليل على عموم الشيء لكلّ ما يشبهه من الممنوعات ، لأجل التوصّل بتركها إلى صحّة العمل ، فدلّ على رفع التقية لمثل هذا المنع الغيري وتأثيرها في ارتفاع أثر ذلك الممنوع منه ، فيدلّ على أنّ التقية ثابتة في التكفير في الصلاة مثلاً ، بمعنى عدم كونه ممنوعاً عليه فيها عند التقية ، وكذا في غسل الرجلين واستعمال النبيذ في الوضوء ونحوهما. (١)

فظهر ببركة هذه الروايات انّ العمل الموافق للتقية مجزي مطلقاً.

فإن قلت : قد ورد في بعض الروايات وجوب القضاء لمن أفطر في شهر رمضان تقية ، نظير :

١. ما رواه الكليني بسند صحيح عن داود بن الحصين ، عن رجل من أصحابه ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس : إنّي دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان ، فسلّمت عليه ، فقال : يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت : لا والمائدة بين يديه ، قال : فادنُ فكل ، قال : فدنوت فأكلت ، قال : وقلت : الصوم معك والفطر معك ، فقال الرجل لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : تفطر يوماً من شهر رمضان؟! فقال : «أي والله أفطر يوماً من شهر رمضان وأقضي أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي». (٢)

٢. ما رواه الكليني عن رفاعة ، عن رجل ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «دخلت على أبي العباس بالحيرة ، فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال :

__________________

(١) لاحظ رسالة التقية للشيخ الأنصاري : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) الوسائل : ٧ ، الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٤.

٣٤٧

«ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا ، وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه ، وأنا أعلم والله انّه يوم من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله». (١)

فهاتان الروايتان تدلاّن على لزوم القضاء وعدم كفاية التقية في الإجزاء.

قلت : مضافاً إلى أنّ الروايتين لا يحتجّ بهما لوجود الإرسال في آخرهما أنّ الكلام في الإجزاء وعدمه في العمل الموافق للتقية ، كما إذا أتى العمل على وفق التقية لا فيما إذا تركه رأساً كما في المقام ، لأنّ مصب روايات التقية هو العمل المأتي به لتلك الغاية لا ترك العمل للتقية ، وعندئذ الروايات الدالة على وجوب القضاء لمن أفطر يوم الشك ولو عن عذر حاكم في المقام لو عملنا بالروايتين وقد علمت ضعفهما.

الصنف الثالث : التقية لغاية المداراة

كان الكلام في السابق في التقية الناشئة من الخوف وهناك قسم آخر من التقية وهو المسمّى بالتقية المدارائية.

والمراد منها هو حسن المعاشرة مع العامة بالحضور في شعائرهم والمشاركة في عباداتهم تحبيباً للقلوب ، دون أيّ خوف على النفس والنفيس. ويدلّ عليه روايات :

١. صحيحة هشام بن الحكم وفيه قال : قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إيّاكم أن تعملوا عملاً نُعيَّر به ، فإنّ ولد السوء يُعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ، ولا تكونوا عليه شيناً ، صلّوا في عشائرهم ، وعوِّدوا مرضاهم ،

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٥.

٣٤٨

واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء» ، قلت : وما الخبء؟ قال : «التقية». (١)

٢. ما رواه الصدوق عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «من صلّى معهم في الصف الأوّل كمن صلّى مع رسول الله في الصف الأوّل». (٢)

وليست الرواية ناظرة إلى صورة الخوف ، وإلاّ لأشار إليه الإمام.

٣. صحيحة حفص البختري ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «يحسب لك إذا دخلت معهم وإن كنت ، لا تقتدي بهم ، مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به». (٣)

٤. صحيحة حماد ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله». (٤)

٥. ما رواه إسحاق بن عمار ، قال لي أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «يا إسحاق ، أتصلّي معهم في المسجد» ، قلت : نعم ، قال : «صلّ معهم ، فانّ المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل الله». (٥)

٦. ما رواه البرقي عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : أُوصيكم بتقوى الله عز وجل ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتُذلّوا ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)».

__________________

(١) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٦ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل : ٥ ، الباب ٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٢.

(٤) المصدر السابق ، الحديث ٣.

(٥) المصدر السابق ، الحديث ٧.

٣٤٩

ثمّ قال : «عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم وعليهم ، وصلوا معهم في مساجدهم». (١)

٧. ما رواه سماعة ، قال : سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم ، فقال : «هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك ، قد أنكح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وصلّى عليّ ـ عليه‌السلام ـ وراءهم». (٢)

إنّ الدعوة إلى معاشرتهم وإقامة الصلاة في مساجدهم وجماعاتهم ربما يترتّب عليه فعل المانع في الصلاة أو ترك الجزء أو غير ذلك من الأُمور المبطلة للصلاة عندنا ومع ذلك نرى أنّ الإمام يرغب إلى العمل في صفوفهم وعشائرهم.

فقوله في صحيحة هشام : «والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبء» ، قلت : وما الخبء؟ ، قال : «التقية» لأجل دفع استبعاد المخاطب صحّة العمل المخالف للواقع وانّه كيف يكون أحب العبادات وأحسنها ، ولكن القدر المتيقن من هذا الصنف هو الصلاة وشموليّتها لسائر الأُمور لا يخلو من تأمّل.

ثمّ إنّ هناك روايات ربما يستظهر منها خلاف ما ذكرناه ، مثلاً قوله :

١. رواية عمرو بن ربيع انّه سأل الإمام ـ عليه‌السلام ـ إن لم أكن أثق به أُصلّي خلفه وأقرأ ، قال : «لا ، صلّ قبله أو بعده» ، قيل له : أفأُصلّي خلفه وأجعلها تطوعاً ، قال : «ولو قبلت التطوع لقبلت الفريضة ولكنّها اجعلها سبحة». (٣)

والرواية ضعيفة وفي سندها مجهول ، وهو أحمد بن محمد بن يحيى الخازني ، كما أنّ في سندها الحسن بن الحسين وهو مشترك.

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٨.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١٠.

(٣) الوسائل : ٥ ، الباب ٦ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٥.

٣٥٠

٢. رواية ناصح المؤذن ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ إنّي أُصلّي في البيت وأخرج إليهم ، قال : «اجعلها نافلة ولا تكبر معهم فتدخل معهم في صلاتهم ، فانّ مفتاح الصلاة التكبيرة». (١)

والرواية ضعيفة ، والناصح المؤذن مجهول على أنّ الرواية ظاهرة في الصحّة إذا كبّر ودخل معهم في الصلاة.

٣. رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله قال : قلت : إنّي أدخل المسجد وقد صليت فأُصلّي معهم فلا أحتسب تلك الصلاة ، قال : «لا بأس».

وأمّا أنا فأُصلّي معهم وأُريهم إنّي أسجد وما أسجد».

والرواية ضعيفة لوجود قاسم بن عروة في سندها وهو مجهول. إلى غير ذلك من الروايات التي يستشم منها عدم الاعتداد بالأعمال التي يؤتى بها معهم ، فالجل لو لا الكلّ ضعاف وما دلّ على الصحّة أكثر عدداً وأوضح دلالة.

وبما اخترنا من صحّة العمل في مجالي الاضطرار والمداراة نستغني عن عقد البحث حول «اشتراط عدم المندوحة في صحّة العمل المأتي به تقية» كمالا يخفي كما نستغني عن البحث حول وجوب اعمال الحيلة والتورية لفظاً وعملاً.

بقي هنا مباحث طفيفة تظهر الحال فيها ممّا ذكرنا.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

__________________

(١) الوسائل : ٥ ، الباب ٦ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٧.

٣٥١
٣٥٢

خاتمة المطاف

جذور الاختلاف بين الفريقين

٣٥٣

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أمر مستحسن ، إذ في ظلّه تتلاقى الأفكار وتتلاقح الآراء ، ويُثمر عن نتائج بنّاءة تعود بالنفع إلى الأُمّة الإسلامية ، ولعلّ على هذا ورد في بعض الآثار انّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «اختلاف أُمّتي رحمة» فالمراد من هذا الاختلاف هو جانبه الإيجابي ، المؤدّي إلى الوصول إلى الحقيقة.

وثمة وجه مشترك بين الاختلاف والشكّ ، فكما أنّ الشكّ قنطرة إلى اليقين فكذلك الاختلاف الموضوعي هو القنطرة الأُخرى لنيل الحقيقة شريطة أن لا يراوح في مكانه بل يتجاوزه إلى اليقين.

فلأجل هذه الغاية طرحت هذه المسائل على طاولة البحث ، ليكون حافزاً للمفكرين على مناقشة هذه المسائل في ظل إقامة مؤتمر فقهي يجمع كافة المذاهب الإسلامية حتّى ينفض عن وجهها غبار الاختلاف المضني ، ويتجلى وجه الحقيقة بأنصع صورها ولا ينال هذا الهدف إلاّ بإزالة العراقيل أمام الجهود المخلصة للوصول إلى الحقّ.

وهذه العراقيل عبارة عن ضرورة التعرف على جذور الاختلاف ومحاولة استئصالها على ضوء المنهج الموضوعي بعيداً عن التعصب المقيت.

وقد دونت هذه البحوث لتكون خطوة متواضعة للوقوف على جذور الاختلاف كي يُبان الحقُ ويُتَّبع ، ويأتي ذلك في ضمن فصول :

٣٥٤

الفصل الأوّل

أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ

هم المرجع العلمي للمسلمين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الإمامية ـ كما تصدر عن الكتاب والسنّة في مجالي العقيدة والشريعة ـ كذلك تصدر عن أحاديث أئمّة أهل البيت وترى قولهم وفعلهم وتقريرهم حجّة ، وهذا لا يعني أنّ أحاديثهم ، حجّة ثالثة ، في عرض الكتاب والسنّة أو أنّهم أنبياء يوحى إليهم كما ربّما يتخيّله من ليس له إلمام بعقائدهم وأُصولهم ، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وحفظة سنّته ، وخلفاءه بعده ، يحكون بقولهم وأفعالهم وتقريرهم ، سنّة النبي الأكرم ، فالاحتجاج بأحاديثهم ، احتجاج في الحقيقة بحديث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكلامه. ولأجل إيضاح الموضوع ، نأتي بتفصيل ذلك :

أئمّة الشيعة أوصياء الرسول

اتّفقت الشيعة على أنّ الأئمّة الاثني عشر أوصياء الرسول ، وأنّهم أئمّة الأُمّة وأحد الثقلين اللَّذين أوصى بهما رسول الله في غير موقف من المواقف ، وقال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» والحديث من التواتر بمكان أغنانا عن

٣٥٥

ذكر مصادره ، ويكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في هذا المجال.

إنّ الشيعة الإماميّة كسائر المسلمين مؤمنون بعالمية رسالة النبيّ الأكرم كما هم مؤمنون بخاتمية رسالته ، مستدلين بقوله سبحانه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (١).

وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

إنّ خاتمية رسالة النبي الأكرم من الأُمور الدينية الضرورية تكفّل لبيانها الذكر الحكيم والأحاديث المتضافرة التي بلغت حدّ التواتر ، منها قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند ما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي : أأخرج؟ فقال : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». (٣)

وهذا علي أمير المؤمنين أوّل الأئمّة الاثني عشر قال وهو يلي غسل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «بأبي أنت وأُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء». (٤)

وفي كلام آخر له : «أمّا رسول الله فخاتم النبيّين ليس بعده نبيّ ولا رسول ،

__________________

(١) الأحزاب : ٤٠.

(٢) فصّلت : ٤٢٤١.

(٣) أمالي الصدوق : ٢٩ ؛ معاني الأخبار : ٩٤ وغيرها من المصادر الشيعية ولاحظ صحيح البخاري : ٦ / ٣ باب غزوة تبوك.

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٩.

٣٥٦

وختم رسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة». (١)

ونكتفي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الأئمّة الاثني عشر على ختم النبوّة وانقطاع الوحي وسدّ باب التشريع بعد رحلة الرسول ، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا «مفاهيم القرآن» فقد جاء فيه قرابة (١٣٤) نصّاً من النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين في ذلك المجال.

إنّ فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة ، أو خاتميتها ، فلأجل ذلك فالبابية والبهائية وهكذا القاديانية مرتدّون عندهم ارتداداً فطرياً أو ملّيّاً (٢) أحياناً ، وهذه كتبهم الفقهية في باب الحدود وأحكام المرتد وغير ذلك.

هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حقّ الرسول الأعظم وأنّهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول وخاتميته ، ولم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة ، ويظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتقادية المدوّنة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا ، فقد ألّفوا مئات الكتب والرسائل ، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الإسلامية وهي بين مخطوطة ومطبوعة منتشرة في العالم وهذه كتبهم ومكتباتهم وجامعاتهم العلمية ، وخطباؤهم ومنشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوّة غير النبي الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأنّ هذه النظرية الخاطئة ، استنبطها البعض من خلال أُمور لا دلالة لها على ما يرتئيه ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الأُمور التي كانت

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٠ ؛ مجالس المفيد : ٥٢٧ ؛ بحار الأنوار : ٢٢ / ٥٢٧.

(٢) المرتد الملّي : عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلماً حين انعقاد نطفته ، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثم ارتدّ.

٣٥٧

سبباً لهذا الوهم ، وقد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين وهي لا تتجاوز أمرين :

١. حجّية أحاديثهم وأفعالهم.

٢. القول بعصمتهم من الإثم والخطأ.

وإليك تحليل هذين الأمرين :

٣٥٨

١

حجّية أقوال العترة الطاهرة

إنّ الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فلولا كونهم أنبياء أو طرفاً للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجّة؟

الجواب : إنّ الشيعة الإمامية تأخذ بأقوالهم للأُمور التالية :

ألف : إنّ النبيّ الأكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ...» (١) فالتمسّك بأحاديثهم وأقوالهم امتثال لقول الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

ب : نرى أنّ الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يأمر الأُمّة بالصلاة على آل محمد في الفرائض والنوافل ، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون العترة بعد النبيّ الأكرم في تشهّدهم ويصلّون عليهم مثل الصلاة عليه ، والفقهاء وإن

__________________

(١) ربّما يروى عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي. ولا تعارض بين الخبرين ، غير أنّ الأوّل متواتر دون الثاني والأوّل مسند ، والثاني مرسل نقله الإمام مالك في موطئه ، وأين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدّثون على نقله؟! والتفصيل موكول إلى محلّه.

٣٥٩

اختلفوا في صيغة التشهّد ولكنّهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي وآله وفيها يقول الإمام الشافعي :

يا أهل بيت رسول الله حبّكمُ

فرض من الله في القرآن أنزلهُ

كفاكمُ من عظيم الشأن أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة لهُ

فلو لم يكن للعترة شأن ومقام في مجال هداية الأُمّة ولزوم الاقتفاء بهم ، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهّد وتكرارها في جميع الصلوات ليلاً ونهاراً ، فريضة ونافلة؟

وهذا يعرب عن سرّ نقف عليه من خلال أمر النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في هذا المجال ، وهو أنّ لآل محمّد شأناً خاصّاً في الأُمور الدينية والقيادة الإسلامية أظهرها : أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على المسلمين ، وأنّ لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول ، سواء أكان في مجال العقيدة والشريعة أم في مجال آخر.

ج : إنّ النبيّ الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ شبّه العترة الطاهرة بسفينة نوح ، وأنّه من ركبها نجا ، وأنّ من تخلّف عنها غرق (١). وهو يدلّ على حجّية أقوالهم وأفعالهم.

إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حقّ العترة التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد ، ومن أراد فليرجع إلى مصادرها.

فالمسلم المؤمن بصحّة هذه الوصايا لا يشك في حجّية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٢).

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥١ ؛ الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٦٦ ؛ الصواعق : ١٩١ ، الباب ١٢.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

٣٦٠