الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

أكلّ أوان للنبيّ محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرَّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم

تضيء مصابيح السماء فتسرجُ (١)

وكان العباسيون أشدّ كرهاً للعلويين من الأمويين ، وأعظم بغضاً فأمعنوا فيهم قتلاً وحرقاً واضطهاداً وتعذيباً ، فهذا هو المنصور يُحمل إليه من المدينة كلّ من كان فيها من العلويين مقيدين بالسلاسل والأغلال ، ولما وصلوا إليه حبسهم في سجن مظلم لا يعرف فيه ليل من نهار ، وكان إذا مات أحدهم تُرك معهم وأخيراً أمر بهدم السجن عليهم ، وفي ذلك يقول أحد شعراء الشيعة :

والله ما فعلت أمية فيهم

معشار ما فعلت بنو العباس

وقال آخر :

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار(٢)

وقال أبو فراس :

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت

تلك الجرائم إلاّ دون نيلكم

وقال الشريف الرضي :

ألا ليس فعل الأولين وإن علا

على قبح فعل الآخرين بزائد

وقال الشيخ الطوسي الذي كان يعيش في عصر ازدهار الخلافة العباسية ، وهو يصف حال الشيعة :

__________________

(١) ديوان ابن الرومي : ٢ / ٢٤٣.

(٢) الشعر لأبي عطاء السندي.

٣٠١

لم تلق فرقة ولا بُلي أهل مذهب بما بُليت به الشيعة ، حتّى إنّا لا نكاد نعرف زماناً تقدّم سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقية ، ولا حالاً عريت فيه من قصد السلطان وعصبيته وميله وانحرافه. (١)

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العباسي وقد دام الأمر على هذه الوتيرة في العصور المتأخرة لا سيما في عصر الأيوبيين والعثمانيين.

محنة الشيعة في العصرين : الأيوبي والعثماني

ما إن انتزع صلاح الدين الأيّوبي الملك من الفاطميين حتّى قام بعزل القضاة الشيعة واستناب عنهم قضاة شافعية ، وأبطل من الأذان «حي على خير العمل» وتظاهر الناس بمذهب مالك والشافعي ، واختفى مذهب التشيع إلى أن نسي من مصر ، وكان يحمل الناس على التسنن وعقيدة الأشعري ، ومن خالف ضربت عنقه ، وأمر أن لا تقبل شهادة أحد ولا يقدم للخطابة ولا للتدريس إلاّ إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة ، قال الخفاجي في كتابه «الأزهر في ألف عام» ما ن (٢) صه : فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كلّ أثر للشيعة.

وأمّا في العصر العثماني فقد تولى السلطان سليم زعامة السنة واستحصل على فتوى من شيوخ السوء بأنّ الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم ولذلك أمر بقتل كلّ من كان معروفاً بالتشيع داخل بلاده.

وبهذا الأمر قُتل في الأناطول وحدها أربعون ألفاً وقيل سبعون ، لا لشيء إلاّ لأنّهم شيعة. وجاء في «الفصول المهمة» للسيد شرف الدين انّ الشيخ نوح الحنفي

__________________

(١) الطوسي : تلخيص الشافي : ٢ / ٥٩.

(٢) الأزهر في ألف عام : ١ / ٥٨.

٣٠٢

أفتى بكفر الشيعة ووجوب قتلهم ، فقتل من جراء هذه الفتوى عشرات الألوف من شيعة حلب حتّى لم يبق فيها شيعي واحد وكان التشيّع فيها راسخاً ومنتشراً منذ كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية ، وقد نشأ في حلب منذ القديم العديد من كبار العلماء وأئمة الفقه كبني زهرة وآل أبي جرادة وغيرهم ممن جاء ذكرهم في كتب السير والتراجم خاصة كتاب «أمل الآمل». (١)

وقتل العثمانيون الشهيد الثاني المشهور بفضله وورعه وكتبه العلمية الجليلة التي يدرس بعضها حتّى اليوم في جامعة النجف وقم ، وفَعل الجزار والي عكا بجبل عامل ما فَعل الحجاج في العراق.

وانتهب الجزار أموال العامليين ومكتباتهم ، وكان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد ، وبقيت أفران عكا توقد أسبوعاً كاملاً من كتب العامليين ، ولم يسلم من ظلم الجزار إلاّ من استطاع الفرار ، وفي عهده هاجر علماء جبل عامل مشردين في الأقطار ، ومن هؤلاء الشاعر الشيعي إبراهيم يحيى الذي هرب إلى دمشق ، وفي نفسه لوعة وحسرة ، وذكرى فظائع الجزار لا تفارقه بحال ، وقد صورها وهو شاهد عيان في قصائد تدمي الأفئدة والقلوب منها قصيدة طويلة ، يقول فيها :

مضى ما مضى والدهر بؤس وأنعم

وبصر الفتى ان مسه الضر أحزم

إلى أن قال :

يعز علينا أن نروح ومصرنا

لفرعون مغنى ، يصطفيه ومغنم

منازل أهل العدل منهم خليّة

وفيها لأهل الجور جيش عرمرم

__________________

(١) راجع الفصول المهمة : ٢٠٦ ، الفصل التاسع ؛ غنية النزوع : ١١ ، المقدمة.

٣٠٣

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العثماني ، وعلى الرغم من شيوع الحرية في عصرنا الراهن فلم تزل الشيعة في أكثر نقاط العالم تمارس التقية ، وإلاّ يضيق عليها الخناق.

يقول العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها مُنيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ، تبتغي بهذا الكتمان ، صيانةَ النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلاّ تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : «التقية ديني ودين آبائي» ، إذ أنّ دين الله يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم. (١)

__________________

(١) غافر : ٢٨ ؛ النحل : ١٠٦.

٣٠٤

روي عن صادق آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ في الأثر الصحيح :

«التقية ديني ودين آبائي».

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت ـ عليهم‌السلام ـ دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولمّاً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم. (١)

حصيلة البحث

فحصيلة البحث انّ أوساط الشيعة شهدت مجازر بشعه على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحقّ يقال : انّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة وأقامت دولاً وشيّدت

__________________

(١) مجلة المرشد : ٣ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ ولاحظ تعاليق اوائل المقالات ص ٩٦.

٣٠٥

حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

فلو كان الأخ السني يرى التقية أمراً محرماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما عذَرَ أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الديار ، فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فما ذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون ـ وذاك هو العجيب ـ انّ الخروج على الإمام عليّ ـ عليه‌السلام ـ غير مضرّ بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين!! وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ ، فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ولا يذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!

٣٠٦

٥

الغاية من تشريع التقية

الغاية من التقية : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن تترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة تمارس الارهابَ ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقة ، وعندئذ لا يجد صاحبُ العقيدة ـ الذي يرى نفسه محقاً ـ محيصاً من إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث الله أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يُبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مُرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بدّ منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي

٣٠٧

حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها ، يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية ، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يُذكر ، ولو لم تستبد الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة بهذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم ولَدَعوا الناس إليها علناً ، ودون تردّد.

أين العمل الدفاعي بصورة بدائية من الأعمال التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء منصّة الحكم؟ وهي أعمال كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير ، حتى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث الله أمراً ، من قبيل عطف المباين على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر

٣٠٨

بالمرونة ، وإخفاء المراسيم الدينية ، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم الله سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها الله تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتَها وهدفَها ، فهي أمر فطريّ ، يسوق الإنسان إليها قبل كل شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليها فطرته ، ولأجل ذلك يلوذ بها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان أم سنيّاً ـ وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ، ندرس دليله من القرآن والسنّة.

٣٠٩

٦

التقية في الكتاب العزيز

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم ، حيث وردت فيها جملة من الآيات الكريمة (١) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

الآية الأُولى :

قال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (٢)

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجُدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة والاسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه مراجعة كتب التفسير المختلفة :

١. قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار

__________________

(١) غافر : الآية ٢٨ و ٤٥ ، والقصص : الآية ٢٠ ، وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

(٢) النحل : ١٠٦.

٣١٠

وأبوه ياسر وأُمّه سمية ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول الله ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : «كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». (١)

٢. وقال الزمخشري : روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخبّاب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .... (٢)

٣. وقال الحافظ ابن ماجة : والايتاء : معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (٣)

٤. وقال القرطبي : قال الحسن : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ـ ثمّ قال : ـ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تَبين منه زوجته ولا يُحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (٤).

__________________

(١) مجمع البيان : ٣ / ٣٨٨.

(٢) الكشاف عن حقائق التنزيل : ٢ / ٤٣٠.

(٣) ابن ماجة : السنن : ١ / ٥٣ ، شرح حديث رقم ١٥٠.

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ٤ / ٥٧.

٣١١

٥. قال الخازن : التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال الله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ثمّ هذه التقية رخصة. (١)

٦. قال الخطيب الشربيني : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) أي على التلفّظ به (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. (٢)

٧. وقال إسماعيل حقّي : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : «ولكن المكره على الكفر باللسان» ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند الله ، هو التصديق بالقلب. (٣)

الآية الثانية :

قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤).

وكلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح :

١. قال الطبري : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : قال أبو العالية : التقية باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال :

__________________

(١) تفسير الخازن : ١ / ٢٧٧.

(٢) السراج المنير. في تفسير الآية.

(٣) تفسير روح البيان : ٥ / ٨٤.

(٤) آل عمران : ٢٨.

٣١٢

التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو لله معصية فتكلم مخافة نفسه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا إثم عليه ، إنّما التقية باللسان. (١)

٢. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع. (٢)

٣. قال الرازي في تفسير قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : المسألة الرابعة : اعلم : أنّ للتقية أحكاماً كثيرة ، ونحن نذكر بعضها :

ألف : إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب : التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة : لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، ولقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «من قتل دون ماله فهو شهيد». (٣)

٤. وقال النسفي : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاؤه ، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة. (٤)

٥. وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

__________________

(١) جامع البيان : ٣ / ١٥٣.

(٢) الكشاف : ١ / ٤٢٢.

(٣) مفاتيح الغيب : ٨ / ١٣.

(٤) تفسير النسفي بهامش تفسير الخازن : ١ / ٢٧٧.

٣١٣

النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان :

الأوّل : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة. (١)

٦. وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق). (٢)

٧. وفسّر المراغي قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) بقوله : أي انّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية : «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».

وإذا جازت موالاتهم لاتّقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة ، لفائدة تعود إلى الأُولى ، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن

__________________

(١) روح المعاني : ٣ / ١٢١.

(٢) محاسن التأويل : ٤ / ٨٢.

٣١٤

بالإيمان ، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ، وفيه نزلت الآية :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (١)

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته ، بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها ، وهو يتردد في الحكم بجوازها ، كما أنّك ـ أخي القارئ ـ لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسّرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدّامة كالباطنية وأمثالهم ، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدّامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة :

قوله سبحانه : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (٢)

وكانت عاقبة أمره أن : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ

__________________

(١) تفسير المراغي : ٣ / ١٣٦.

(٢) غافر : ٢٨.

٣١٥

الْعَذابِ). (١)

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ الله من الموت : (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢).

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

__________________

(١) غافر : ٤٥.

(٢) القصص : ٢٠.

٣١٦

٧

التقيّة في السنّة النبويّة

دلّت الروايات على أنّ الوجوب والحرمة ترتفع عند طروء الاضطرار ، الذي تعدّ التقية من مصاديقه وأوضح دليل على ذلك هو حديث الرفع الذي رواه الفريقان.

١. روى الصدوق بسند صحيح في خصاله عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». (١)

إنّ للحديث دوراً في مبحث البراءة والاشتغال في علم الأُصول ، وقد فصلنا الكلام حوله في بحوثنا الأُصولية. (٢)

وعلى كلّ تقدير فالحديث صريح في أنّ الاضطرار يبيح المحظور.

٢. روى الكليني بسند صحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به». (٣)

٣. روى الكليني عن محمد بن مسلم وزرارة قالوا : سمعنا أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) الخصال : ٤١٧.

(٢) لاحظ إرشاد العقول : ١ / ٣٤٧ ـ ٣٦٤.

(٣) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ١.

٣١٧

يقول : «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له». (١)

٤. وعن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ انّه قال : «وكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (٢)

٥. وعنه ـ عليه‌السلام ـ انّه قال : «ولا حنث ولا كفّارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه». (٣)

٦. وعنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «وانّ التقية لأوسع ممّا بين السماء والأرض». (٤)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الموضوع.

ولك أن تضيف إلى ذلك الاستدلال بالآيات التي رخصت عند الاضطرار ، قال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) ومورد الآية وإن كان الاضطرار لأجل الجوع ، ولكن الموضوع هو الاضطرار ، سواء أكان العامل داخلياً كاضطراره إلى أكل الميتة ، أو خارجياً قاهراً مُلْزِماً على العمل بالخلاف على نحو لو لم يفعله لأدّى إلى إلحاق الضرر بنفسه ونفيسه.

التقية في كلمات العلماء

١. قال ابن عباس : التقيّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل. (٦)

٢. قال الحسن البصري : التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس. (٧)

__________________

(١) الوسائل : ١١ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢.

(٢) الكافي : ٢ / ١٦٨.

(٣) الخصال : ٦٠٧.

(٤) بحار الأنوار : ٧٥ / ٤١٢.

(٥) البقرة : ١٧٣.

(٦) فتح الباري : ١٢ / ٢٧٩.

(٧) تفسير النيسابوري في هامش الطبري : ٣ / ١٧٨.

٣١٨

٣. وقال الرازي : تجوز التقية لصون المال على الأصح كما يجوز صون النفس. (١)

٤. وقال السيوطي : يجوز أكل الميتة في المخمصة وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ، ولو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فانّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه. (٢)

وقد أنكر الشاطبي على الخوارج إنكارهم التقية في القول والفعل ، وعدها من جملة مخالفاتهم للكليات الشرعية أصلية وعملية. (٣)

٥. وقال الطوسي : والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس ، وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده. (٤)

٦. وقال العلاّمة الطباطبائي : الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها في الجملة ، والاعتبار العقلي يؤيده ، إذ لا بغية للدين ولا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحقّ وحياته ، وربما يترتّب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف. (٥)

مجال التقية هو الأُمور الشخصية

عُرِفَتِ الشيعة بالتقية وأنّهم يتّقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عَلِقَ بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرّره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة

__________________

(١) التفسير الكبير : ٨ / ١٣.

(٢) الأشباه والنظائر : ٧٦.

(٣) الموافقات : ٤ / ١٨٠.

(٤) التبيان : ٢ / ٤٣٥.

(٥) الميزان : ٣ / ١٥٣.

٣١٩

التي يتحامل بها على الشيعة.

ونحن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ما يُلحق بالمؤمن الضرر ، يُصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك أيُّ مُلْزم للكتابة أصلاً في هذه الأحوال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة.

والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد جزئيّة خاصة.

إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أنّ أحداً ممّن ينظر إلى الآُمور بلبّه لا بعواطفه يخالفها فيه ، إلاّ أنّ من الأُمور المسلّمة في تاريخ التشيّع ، كثرة التقية على مستوى الفتاوى ، وأمّا على المستوى العمليّ فالشيعة من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكّام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية وقد مرّ تفصيله في بعض الفصول.

٣٢٠