الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

الرجال دون النساء مع كونهما في رتبة واحدة ، وذلك في الصور التالية :

١. لو مات وترك بنتاً ، وأخاً وأُختاً ، فالفاضل عن فريضة البنت يرد إلى الأخ ، ويحكم على الأُخت بالحرمان.

٢. لو مات وترك بنتاً ، وابن أخ ، وابن أُخت ، فالقائل بالتعصيب يعطي النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا شيء لابن أُخته مع أنّهما في درجة واحدة.

٣. لو مات وترك أُختاً ، وعمّاً ، وعمّة ، فالفاضل عن فريضة الأُخت يرد إلى العم ، لا العمّة.

٤. لو مات وترك بنتاً ، وابن أخ ، وبنت أخ ، فإنّهم يعطون النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا يعطون شيئاً لبنت الأخ مع كونهما في درجة واحدة.

فالآية تحكم بوراثة الرجال والنساء معاً وبوراثة الجميع ، والقائل بالتعصيب يورّث الرجال دون النساء والحكم به أشبه بحكم الجاهلية المبني على هضم حقوق النساء كما سيوافيك بيانه.

وحمل ظهور الآية في مشاركة الرجال والنساء ، على خصوص الميراث المفروض ، لا الميراث لأجل التعصيب كما ترى ، لأنّه حمل بلا قرينة في الآية ، وعلى خلاف إطلاقها.

والحاصل : أنّ نتيجة القول بالتعصيب هو توريث الرجال وإهمال النساء على ما كانت الجاهلية عليه.

قال العلاّمة الصافي في تفسير قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) قد أبطل الله بهذه الآية النظام الجاهلي المبنيّ على توريث الرجال دون النساء ، مثل توريث الابن دون البنت ، وتوريث الأخ دون الأُخت ،

٢٢١

وتوريث العم دون العمّة ، وابن العم دون بنته ، فقرّر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث ، إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة ، كالابن والبنت ، والأخ والأُخت ، وابن الابن وبنته ، والعم والعمّة وغيرهم ، فلا يوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلاّ وهي ترث من الميت بحكم الآية ... فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم من طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة ، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً ... ومثل هذا النظام ـ الذي تجلّى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها ـ يقتضي أن يكون عامّاً لا يقبل التخصيص والاستثناء. (١)

قال السيد المرتضى : توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة ، من أحكام الجاهلية ، وقد نسخ الله بشريعة نبيّنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أحكام الجاهلية ، وذمّ من أقام عليها واستمرّ على العمل بها بقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) (٢) وليس لهم أن يقولوا إنّنا نخصّص الآية التي ذكرتموها بالسنّة ، وذلك أنّ السنّة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يُخصَّص بها القرآن ، كما لم يُنسخ بها ، وإنّما يجوز بالسنّة أن يخصّص وينسخ إذا كانت تقتضي العلم واليقين ، ولا خلاف في أنّ الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علماً ، وأكثر ما يقتضيه غلبة الظن ، على أنّ أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة ، وأنّه بالقربى والرحم ، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب. (٣)

__________________

(١) مع الشيخ جاد الحق ، شيخ الأزهر : ١٦١٥.

(٢) المائدة : ٥.

(٣) الانتصار : ٢٧٨.

٢٢٢

الآية الثانية

الضابطة في الميراث هي الأقربية

قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقال فى (١) آية أُخرى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً). (٢)

وجه الاستدلال : أنّ الآية ظاهرة في أنّ ذوي الأرحام والقرابة بعضهم أحقّ بميراث بعضهم من غيرهم ، والمروي عن جماعة من المفسّرين انّ الآية ناسخة لما قبله من التوارث بالمعاقدة والهجرة وغير ذلك من الأسباب ، فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة ، فانّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كان قد آخى بين المهاجرين والأنصار.

ثمّ إنّ وجه الأولوية هو الأقربية ، فكلّ من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث ، سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم ، وسواء كان عصبة أو غير ذي عصبة. (٣)

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) الأحزاب : ٦.

(٣) مجمع البيان : ٢ / ٥٦٣.

٢٢٣

قال العلاّمة الطباطبائي : جعل الولاية بين أُولي الأرحام والقرابات ، وهي ولاية الإرث ، فانّ سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.

والآية تنسخ ولاية الإرث بالمؤاخاة التي أجراها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بين المسلمين في أُول الهجرة ، وتُثبت الإرث بالقرابة ، سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن ، وكان عصبة أو لم يكن ، فالآية مطلقة كما هو ظاهر. (١)

وقد استدلّ بالآية بعض الفقهاء والمفسّرين في مورد الإرث وفسروه بالنحو التالي الموافق لما ذكرنا.

قال السرخسي في مبسوطه : والميراث يبنى على الأقرب ، قال الله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وزيادة القرب تدلّ على قوة الاستحقاق.

وقال أيضاً : فإن كان بعضهم أقرب فهو بالميراث أحقّ.

وقال أيضاً : وميراث ذوي الأرحام يبنى على القرب. (٢)

وممّا يدلّ على أنّ مفاد الآية هو منع القريب البعيد هو انّ بعض فقهاء السنة تمسك بالآية على أُولوية بعض العصبة على بعض ، مثلاً : قدّموا الأخ على ابن الأخ ، والعم على ابن العم ، حتّى أنّهم يقدّمون الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب ، كما أنّ العمّ لأبوين يقدّمونه على العمّ لأب ، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب ، تمسّكاً بالآية. (٣)

وبما انّ الآية وردت في سورتين مدنيتين ، فهي تؤكد على نسخ ما كان شائعاً في الجاهلية من تقديم الأقوياء على الضعفاء ، والرجال على النساء في الميراث ،

__________________

(١) الميزان : ٩ / ١٤٢.

(٢) المبسوط : ٢٩ / ١٣٩ ، ٣٠ / ١٣ و ٢٠.

(٣) تفسير القرطبي : ٨ / ٥٨ و ٥٩.

٢٢٤

وتضع ملاكاً جديداً ، هو الأقربية للميت ، فالأقرب يرث ويمنع غيره من دون فرق بين الرجل والمرأة.

وعلى ضوء ذلك فكيف يرث الأخ أو العم مع وجود الأقرب ـ أعني : البنت أو الأُخت ـ وهما أقرب إلى الميّت من الأخ والعم ، لأنّ البنت تتقرّب إلى الميّت بنفسها ، والأخ يتقرّب إليه بالأب ، والأُخت تتقرّب إلى الميّت بالأب ، والعمّ يتقرّب إليه بواسطة الجد ، والأُخت تتقرّب بواسطة ، والعم يتقرّب بواسطتين ، وأولاده بوسائط.

وممّا يدل على أنّ الآية في بيان تقديم الأقرب فالأقرب ـ مضافاً إلى ما مرَّ من أنّها وردت ناسخة للتوارث بمعاقدة الإيمان والتوارث بالمهاجرة اللَّذين كانا ثابتين في صدر الإسلام ـ أنّ عليّاً كان لا يعطي الموالي شيئاً مع ذي رحم ، سمّيت له فريضة أم لم تسم له فريضة وكان يقول :

«(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قد علم مكانهم فلم يجعل لهم مع أُولي الأرحام». (١)

وروى زرارة عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) : إنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض ، لأنّ أقربهم إليه رحماً أولى به ، ثمّ قال أبو جعفر : أيّهم أولى بالميت وأقربهم إليه؟ أُمّه؟ أو أخوه؟ أليس الأُمّ أقرب إلى الميّت من إخوته وأخواته؟ (٢)

وروي عن زيد بن ثابت أنّه قال : من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء. (٣)

وربما يثار على الاستدلال بالآية استفساران :

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل : ١٧ ، الباب ٨ من أبواب موجبات الإرث ، الحديث ١٠ و ١١ و ١٢.

٢٢٥

الأوّل : تخصيص الآية بما دلّ على ميراث العصبة

إنّ قوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) لا يعدو إمّا أن يكون مطلقاً أو عاماً ، فالمطلق يُقيّد والعام يخصص بما ورد من توريث العصبة بعد استيفاء ذوي الفروض فروضهم وإن كانوا بُعَداء.

يلاحظ عليه : ـ بعد غضّ النظر عن الضعف الطارئ على أدلّة التعصيب سنداً ودلالة كما سيوافيك ـ انّ الآية المباركة تأبى على التخصيص والتقييد ، لأنّها تحكي عن تشريع صدر استجابةً لميول ورغبات البشر ، وهو انّ الإنسان أرأف وأميل بالوارث الأقرب من الأبعد ، فتخصيص مثل ذلك التشريع يأباه الطبع السليم ، مثل قوله سبحانه : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، أو قوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ، وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٣) وأمثالها.

والشاهد على إبائها التخصيص والتقييد انّه لو قيل (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) إلاّ في مورد كذا لما استحسنه الطبع ولاستهجنه ، مثل ما إذا قيل (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) إلاّ في مورد كذا ..

الثاني : حرمان الرجال من الميراث في الفقه الإمامي

إذا دلّت الآية على المشاركة ، فكما أنّ حرمان النساء مخالف لها ، فكذلك حرمان الرجال مع أنّه ثابت في القول بعدم التعصيب ، وذلك كما في المثال التالي :

إذا مات الرجل عن بنت وعم أو ابن عم ، فإنّ التركة كلّها للبنت عندهم

__________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) التوبة : ١٢٠.

٢٢٦

ولا حظّ لهما. وهو حرمان الرجال دون النساء عكس القول بالتعصيب ، ويشتركان في الحرمان ومخالفة الذكر الحكيم.

يلاحظ عليه : أنّ الحرمان في المثال لأجل عدم الاستواء في القرابة. ألا ترى أنّ ولد الولد (ذكوراً كانوا أو إناثاً) لا يرثون مع الولد ، لعدم التساوي في الدرجة والقرابة ، وإن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء ، وإذا كانت القرابة والدرجة مراعاة بين العم وابنه ، فلا يساوي ـ العم ـ البنت في القربى والدرجة ، وهو أبعد منها كثيراً.

وليس كذلك العمومة والعمّات وبنات العم وبنو العم ، لأنّ درجة هؤلاء واحدة وقرباهم متساوية والمخالف يورِّث الرجال منهم دون النساء ، فظاهر الآية حجّة عليه وفعله مخالف لها ، وليس كذلك قولنا في المسألة التي وقعت الإشارة إليها ، وهذا واضح فليتأمّل. (١)

__________________

(١) الانتصار : ٢٨٣.

٢٢٧

الآية الثالثة

توريث الأُخت مشروط بعدم وجود الولد

قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (١)

إنّ ظاهر قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هو انّ توريث الأُخت من الأخ مشروط بعدم وجود الولد له مع أنّه يلزم في بعض صور التعصيب توريث الأُخت مع وجود الولد (البنت) للميّت ، وذلك فيما إذا كان التعصيب بالغير كأُخت أو أخوات لأبوين ، أو أُخت وأخوات لأب ، فإنّهنّ عصبة بالغير من جانب الأب فلو مات عن بنت وأُخت لأبوين أو لأب ، فالنصف للبنت ، والنصف الآخر للعصبة وهي الأُخت أو الأخوات مع أنّ وراثة الأُخت مشروطة بعدم الولد في صريح الآية. قال الخرقي : والأخوات مع البنات عصبة ، لهنّ ما فضل ، وليس لهنّ معهنّ فريضة مسمّاة.

وقال ابن قدامة في شرحه : والمراد بالأخوات هاهنا ، الأخوات من الأبوين ،

__________________

(١) النساء : ١٧٦.

٢٢٨

أو من الأب ، وإليه ذهب عامّة الفقهاء إلاّ ابن عباس ومن تابعه ، فإنّه يروى عنه أنّه كان لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة فقال في بنت وأُخت : للبنت النصف ولا شيء للأُخت. فقال ابن عباس : أنتم أعلم أم الله ، يريد قول الله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...) فإنّما جعل لها الميراث بشرط عدم الولد.

ثمّ إنّ ابن قدامة ردّ على الاستدلال بقوله : إنّ الآية تدل على أنّ الأُخت لا يفرض لها النصف مع الولد ، ونحن نقول به ، فإنّ ما تأخذه مع البنت ليس بفرض ، وإنّما هو بالتعصيب كميراث الأخ ، وقد وافق ابن عباس على ثبوت ميراث الأخ مع الولد مع قول الله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) وعلى قياس قوله «ينبغي أن يسقط الأخ لاشتراطه في توريثه منها عدم ولدها». (١)

حاصل كلامه : أنّ الأُخت ترث من الأخ النصف في حالتي وجود الولد وعدمه ، غاية الأمر عند عدم الولد ترث فرضاً ، وعند وجوده ترثه عصبة.

يلاحظ عليه : أنّ المهم عند المخاطبين هو أصل الوراثة ، لا التسمية تارة بالفرض وأُخرى بالتعصيب ، فانّ الأسماء ليس بمطروحة لهم ؛ فإذا كان الولد وعدمه غير مؤثّر فيها ، كان التقييد لغواً ، وما ذكره من أنّها ترث النصف عند الولد تعصيباً لا فرضاً أشبه بالتلاعب بالألفاظ ، والمخاطب بالآية هو العرف العام ، وهو لا يفهم من الآية سوى حرمان الأُخت عند الولد وتوريثها معه باسم آخر ، يراه مناقضاً.

وما نسبه إلى ابن عباس من أنّه كان يرى ميراث الأخ مع الولد ، غير ثابت ، وعلى فرض تسليمه فهو ليس بحجة.

__________________

(١) المغني : ٦ / ٢٢٧.

٢٢٩

الاستدلال بالسنّة

على

نفي التعصيب

١. روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال : مرضت بمكّة مرضاً فأشفيت (١) منه على الموت فأتاني النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يعودني فقلت : يا رسول الله : إنّ لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنتي أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال : لا ، قلت : فالشَّطرُ؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال : الثلث كبير ، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكفّفون الناس. (٢)

وفي لفظ مسلم في باب الوصية بالثلث : «ولا يرثني إلاّ ابنة لي واحدة». (٣) والرواية صريحة في أنّه كان يدور في خلد سعد ، أنّها الوارثة المتفرّدة والنبيّ سمع كلامه وأقرّه عليه ، ولم يرد عليه بأنّ لك وارثاً آخر وهم العصبة ، بل قرره على ذلك فيكون المال للبنت فالنصف فرضاً والنصف الآخر بالردّ.

وقد كان السؤال والجواب بعد نزول آيات الفرائض.

__________________

(١) أي فأشرفت وقاربت.

(٢) صحيح البخاري : ٨ / ١٥٠ ، كتاب الفرائض ، باب ميراث البنات.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٤ ، باب الوصية بالثلث ، ص ٧١.

٢٣٠

٢. روى البيهقي عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال : كان علي ـ عليه‌السلام ـ يعطي الابنة النصف والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة (١).

ورواه الدارمي عن حيان بن سليمان قال : كنت عند سويد بن غفلة فجاءه فسأله عن فريضة رجل ترك ابنته وامرأته قال : أما أُنبئك قضاء عليّ؟ قال : حسبي قضاء عليّ. قال : قضى عليّ لامرأته الثمن ولابنته النصف ، ثمّ رد البقية على ابنته. (٢)

٣. روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنه قال : : من ترك مالاً فلأهله. (٣)

وليس الأخ ، أو الأُخت من أهل الرجل وإنّما أهله أولاده وزوجته.

٤. وربّما يستدل بما روي عن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : والمرأة تحوز ثلاث مواريث : عتيقها ولقيطها وولدها الذي تلاعن عليه. (٤)

وجه الاستدلال ظاهر في الرواية انّ الأُمّ ترث ما يتركه ولدها كلّه ، لأنّ الأب ممنوع من الإرث للملاعنة ونفي الولد عنه فيكون المال كله للأُمّ سدسه أو ثلثه بالفرض والباقي بالردّ ، لأنّ سهم الأُمّ هو السدس أو الثلث ، وقد حكم على الفاضل عن التركة بالرد عليها دون العصبة. إلاّ أن يقال : إنّ عدم الرد لعدم وجود العصبة شرعاً (بحكم اللعان) فلا يصحّ الاستدلال به على ما إذا كانت هناك عصبة.

__________________

(١) السنن الكبرى : ٦ / ٢٤٢ ، باب الميراث بالولاء.

(٢) سنن الدارمي ، كتاب الفرائض ، باب فيمن أعطى ذوي الأرحام دون الموالي ، ص ٢٨٨.

(٣) صحيح البخاري : ٨ / ١٥٠ كتاب الفرائض باب قول النبي : من ترك مالاً فلأهله ؛ كنز العمال : ١١ / ٧ الحديث ٣٠٣٨٨ ؛ جامع الأُصول : ٩ / ٦٣١ قال : رواه الترمذي.

(٤) مسند أحمد : ٣ / ٤٩٠ ؛ سنن ابن ماجة : ٢ / ٩١٦ ، باب ما تحوزه المرأة ، ثلاث مواريث رقم ٢٧٤٢ ؛ وفي جامع الأُصول : ٩ / ٦١٤ ، برقم ٧٤٠١ ... ولدها الذي لاعنت عنه. أخرجه أبو داود والترمذي.

٢٣١

إلى هنا تمّ الاستدلال بما رواه أهل السنّة وليعلم إنّ القول بالتعصيب يقتضي كون توريث الوارث مشروطاً بوجود وارث آخر ، وهو مخالف لما علم الاتّفاق عليه ، لأنّه إمّا أن يتساوى مع الوارث الآخر فيرثان ، وإلاّ فيمنع وذلك كما في المثال الآتي :

إذا خلّف الميّت بنتين ، وابنة ابن ، وعمّ. فبما أنّ العمّ من العصبة بالنفس والابنة عصبة بالغير يرد الفاضل إلى العمّ. ولا شيء لبنت الابن. ولكنّه لو كان معها أخ أي ابن الابن ، فهي تتعصّب به ، وبما أنّه أولى ذَكَر بالميّت يكون مقدماً على العم ويكون الفاضل بينهما أثلاثاً ، للإجماع على المشاركة ، لقوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (١) ، وهذا هو ما قلناه من أنّه يلزم أن يكون توريث الابنة مشروطاً بالأخ وإلاّ فيرث العم.

قال الخرقي في متن المغني : «فإن كنّ بنات ، وبنات ابن ، فللبنات الثلثان وليس لبنات الابن شيء إلاّ أن يكون معهنّ ذكر فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظّ الأُنثيين»

وقال ابن قدامة : «فإن كان مع بنات الابن ، ابن في درجتهنّ كأخيهنّ أو ابن عمّهنّ ، أو أنزل منهنّ كابن أخيهنّ أو ابن ابن عمّهنّ أو ابن ابن ابن عمّهن ، عصبهنّ في الباقي فجعل بينهم للذكر مثل حظّ الأُنثيين». (٢)

الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

لقد أُثر عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ أنّ الفاضل عن الفروض للأقرب ، وفي

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) المغني : ٦ / ٢٢٩.

٢٣٢

ذلك روايات متضافرة لو لم نقل أنّها متواترة ، ولعل الشهيد الثاني لم يتفحّص في أبواب الإرث فقال : ترجع الإمامية إلى خبر واحد (١) ، ويظهر من الروايات أنّه كان مكتوباً في كتاب الفرائض لعليّ ـ عليه‌السلام ـ.

١. روى حماد بن عثمان قال : سألت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ عن رجل ترك أُمّه وأخاه؟ قال : «يا شيخ تريد على الكتاب؟» قال : قلت : نعم. قال : «كان علي ـ عليه‌السلام ـ يعطي المال للأقرب ، فالأقرب». قال : قلت : فالأخ لا يرث شيئاً؟ قال : «قد أخبرتك أنّ علياً ـ عليه‌السلام ـ كان يعطي المال الأقرب فالأقرب». (٢)

٢. روى زرارة عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في رجل مات وترك ابنته وأُخته لأبيه وأُمّه؟ فقال : «المال كلّه للابنة وليس للأُخت من الأب والأُمّ شيء». (٣)

٣. روى عبد الله بن خداش المنقري أنّه سأل أبا الحسن عن رجل مات وترك ابنته وأخاه؟ فقال : «المال للابنة». (٤)

٤. عن بريد العجلي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : رجل مات وترك ابنة وعمّه؟ فقال : «المال للابنة وليس للعم شيء ، أو قال : ليس للعم مع الابنة شيء». (٥)

٥. ما رواه حسين الرزاز قال : أمرت من يسأل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ المال لمن هو؟ للأقرب أو العصبة؟ فقال : «المال للأقرب والعصبة في فيه التراب». (٦)

٦. ما رواه العياشي في تفسيره عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال :

__________________

(١) المسالك ، كتاب الفرائض عند شرح قول المحقق : ولا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب.

(٢) الوسائل : ١٧ ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث : ٦ و ١.

(٣) الوسائل : ١٧ ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث : ٦ و ١.

(٤) الوسائل : ١٧ ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين الحديث : ٣ و ١٤. ولاحظ الحديث ٤ و ٥ و ٧ من ذلك الباب.

(٥) الوسائل : ١٧ ، الباب ٥ من أبواب ميراث الأبوين الحديث : ٣ و ١٤. ولاحظ الحديث ٤ و ٥ و ٧ من ذلك الباب.

(٦) الوسائل : ١٧ ، الباب ٨ من أبواب موجبات الإرث ، الحديث ١ ، وفي السند : صالح بن السعدي وهو ممدوح ، والحسين الرزاز مجهول ، وفي التهذيب : ٩ / ٢٦٧ رقم ٩٧٢ «البزاز» مكان الرزّاز وهو أيضاً مجهول.

٢٣٣

«اختلف علي بن أبي طالب وعثمان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذو قرابة لا يرثونه ، ليس لهم سهم مفروض ، فقال عليّ : ميراثه لذوي قرابته ، لأنّ الله تعالى يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال عثمان : اجعل ماله في بيت مال المسلمين. (١)

٧. ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن محمد بن الحسن الصفار ، عن السندي ، عن موسى بن حبيش ، عن عمّه هاشم الصيداني ، قال : كنت عند العباس وموسى بن عيسى ، وعنده أبو بكر بن عيّاش ، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، وعلي بن ظبيان ، ونوح بن درّاج تلك الأيام على القضاء ، قال : فقال العباس : يا أبا بكر أما ترى ما أحدث نوح بن درّاج (٢) في القضاء ، أنّه ورث الخال ، وطرح العصبة ، وأبطل الشفعة ، فقال أبو بكر بن عياش : ما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب والسنّة ، قال : فاستوى العبّاس جالساً فقال : وكيف قضى بالكتاب والسنّة؟ فقال أبو بكر : إنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لما قُتل حمزة بن عبد المطلب بعث علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ فأتاه بابنة حمزة فسوّغها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الميراث كلّه ، فقال له العباس : يا أبا بكر فظلم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جدّي؟ فقال : مه أصلحك الله ، شرع لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ما صنع ، فما صنع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلاّ الحقّ. (٣)

هذا بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وغيرهم ومن أراد الإحاطة بكلّ ما روي فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.

__________________

(١) الوسائل : ١٧ ، الباب ٨ من أبواب موجبات الإرث ، الحديث ٩.

(٢) هو اخو جميل بن درّاج : كان قاضياً في الكوفة ، ترجمه النجاشي عند ترجمة ابنه ، أيوب في رجاله وقال : «صحيح الاعتقاد» أي شيعي إماميّ.

(٣) تهذيب الأحكام : ٦ / ٣٥٦ ، ذيل الحديث ٦٣ ، باب في الزيادات في القضايا والأحكام ط الغفاري. ونقله ملخصاً في الوسائل ، الباب ٨ من أبواب موجبات الإرث ، الحديث ٣.

٢٣٤

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب

لقد اتّضح الحق وتجلّى بأجلى مظاهره ، بقي الكلام في دراسة أدلّة المخالف ، فقد استدلّ بوجوه :

الأوّل : لو أراد سبحانه توريث البنات ونحوهنّ أكثر ممّا فرض لهنّ لفعل ذلك والتالي باطل ، فإنّه تعالى نصّ على توريثهنّ مفصّلاً ولم يذكر زيادة على النصيب.

بيان الملازمة أنّه تعالى لما ورّث الابن الجميع لم يفرض له فرضاً ، وكذا الأخ للأب والعم وأشباههم ، فلولا قصر ذوي الفروض على فرضهم لم يكن في التنصيص على المقدار فائدة.

وحاصله : أنّ كل من له فرض لا يزاد عنه وإلاّ كان الفرض لغواً وكل من لم يفرض له يعطى الجميع.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بالنقض بورود النقيصة على ذوات الفروض عند أهل السنّة إذا عالت الفرائض على السهام ، كما سيوافيك شرحه فإنّهم يدخلون النقص على الجميع مثل باب الديون ، فربّما يكون سهم البنت والأُخت أقل من النصف ، فإذا جاز النقص فما المانع من الزيادة ، بل الأمر في النقصان أولى ، لأنّ النقصان ينافي الفرض بخلاف الزيادة عليه بدليل آخر ، فإنّ فيه إعمال الدليلين والأخذ بمفادهما.

٢٣٥

وثانياً : بالحلّ إنّ تحديد الفرض بالنصف إنّما يكون لغواً إذا لم تترتّب عليه فائدة مطلقاً ، ولكنّه ليس كذلك لترتّب الثمرة عليه فيما إذا كان معه وارث ذو فرض كالأُم ، فإنّ كيفية الرد على الوارثين لا تعلم إلاّ بملاحظة فرضهما ثم الرد عليهما بحسب تلك النسبة فلو لم يكن سهم البنت والبنتين منصوصاً في الذكر الحكيم لما عُلِمت كيفيّة الرد عليهما وعلى الأُمّ.

وبالجملة : أنّه وإن كان لا تظهر للقيد ثمرة إذا كان الوارث هو البنت أو الأُخت وحدها ، ولكنّه ليس كذلك إذا كان معه وارث آخر وهو ذو فرض مثلها كالأُمّ ، فإنّ الرد عليهما يتوقّف على ملاحظة فرضهما ثمّ الرد بتلك النسبة.

وثالثاً : أنّ التصريح بالفرض لأجل التنبيه على أنّها لا تستحق بالذات إلاّ النصف أو الثلثين ، وإنّما تأخذ الزائد بعنوان آخر وهو عند ما لم يكن معه وارث مساو بخلاف الابن أو الأخ ، فإنّ كلاّ يستحق المال كلّه بالذات.

ورابعاً : إنّ المفهوم في المقام أشبه بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة فيه.

الثاني : قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ).(١)

وجه الاستدلال : أنّه سبحانه حكم بتوريث الأُخت ، نصف ميراث أخيها مع عدم الولد وحكم بتوريث الأخ ميراث الأُخت ـ إذا لم يكن لها ولد ـ أجمع بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها) فلو ورثت الأُخت ـ نصفه بالفرض ونصفه الآخر بالردّ لأجل القرابة ـ الجميع كما هو مذهبكم لن تبقَ للفرق بين الأخ والأُخت ثمرة أصلاً.

الجواب : أنّ التقييد بالنصف مع أنّها ربّما ترث الكلّ لأجل التنبيه ، على أنّها

__________________

(١) النساء : ١٧٦.

٢٣٦

لا تستحق بالذات إلاّ النصف وأنّ الأصل القرآني هو استحقاق الذكر ضعف سهم الأُنثى وهو النصف ، وأنّها إن ورثت المال كله فإنّما هو لأجل طارئة خاصة ، على أنّ التصريح بالفرض لأجل تبيين ما يتوقّف عليه تقسيم الفاضل ، بينها وبين من يشاركه في الطبقة كالإخوة أو الأخوات من الأُمّ ، فإنّ الباقي يردّ عليهما بنسبة سهامهما فلو لم يكن هناك تحديد بالنصف فمن أين تعلم كيفيّة الرد.

الثالث : قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). (١)

وجه الاستدلال : أنّ زكريا ـ عليه‌السلام ـ لمّا خاف أن ترثه العصبة ، سأل الله سبحانه أن يهبه وليّاً حتى يرث المال كلّه ، لا وليّة حتى ترث المال نصفه ويرث الموالي الفاضل ، ولو لا ذلك لما أكّد على كون الولد الموهوب من الله ذكراً ، في قوله سبحانه : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).

يلاحظ عليه : أنّ المقصود من قوله «وليّاً» هو مطلق الأولاد ذكراً كان أو أُنثى ، وذلك على مساق إطلاق المذكّر وإرادة الجنس ، وهو شائع في القرآن الكريم.

مثل قوله سبحانه : (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بشهادة قوله تعالى في آية أُخرى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). (٢)

بل يمكن أن يقال إنّه طلب ذرّية مثل مريم لقوله سبحانه قبل هذه الآية : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا

__________________

(١) مريم : ٦٥.

(٢) آل عمران : ٣٨.

٢٣٧

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا ...) (١) أي في هذه الحال التي رأى فيها الكرامة من مريم سأل الله سبحانه أن يرزقه ذريّة طيّبة (مثل مريم) فلو لم نقل إنّه سأل أُنثى مثل مريم ، ليس لنا أن نقول إنّه طلب الذكر.

ولو سلمنا أنّه طلب الذكر لكنّه لم يطلب لأجل أنّه لو رزق الأُنثى ترثه العصبة وإنّما سأله الذكر للحبّ الكثير له ، أو لأنّه أولى بالإدارة من الأُنثى كما لا يخفى.

الرابع : الروايات والآثار الواردة في هذا المجال ولعلّها أهم المدارك والمصادر لهذه الفتيا.

الرواية الأُولى : في أنّ بقية المال لأولى رجل ذكر

روى البخاري عن مسلم بن إبراهيم ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر. (٢)

__________________

(١) مريم : ٨٧.

(٢) صحيح البخاري : ٨ / ١٥١ ، باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن ؛ وص ١٥٢ ، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة ، ورواها عن سليمان بن حرب (مكان مسلم بن إبراهيم) ورجال السند في غيرهما ، واحد ، وباب ابني عم أحدهما أخ والآخر زوج ص ١٥٣ ، رواها عن أُمية بن بسطام ، عن يزيد بن زريع عن روح عن عبد الله بن طاوس.

وصحيح مسلم : ٥ / ٥٩ ، باب ألحقوا الفرائض بأهلها عن ابن طاوس عن ابن عباس برقم ١٦١٥.

وصحيح الترمذي في الفرائض باب ميراث العصبة برقم ٢٠٩٩.

وسنن أبي داود في الفرائض باب ميراث العصبة برقم ٢٨٩٨.

ولاحظ السنن الكبرى : ٦ / ٢٣٨ باب العصبة ؛ جامع الأُصول : ٩ / ٦١٠٤ برقم ٧٤٢١.

٢٣٨

وهذه الرواية ، هي الرواية المعروفة برواية طاوس بن كيسان اليماني (المتوفّى سنة ١٣٢).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة سنداً ، لأنّ الروايات تنتهي إلى عبد الله بن طاوس بن كيسان اليماني وقد وثّقه علماء الرجال (١) ، لكن يعارض توثيقهم مع ما ذكره أبو طالب الأنباري (٢) في حقّ هذه الرواية قال : حدثنا محمد بن أحمد البربري ، قال : حدثنا بشر بن هارون ، قال : حدثنا الحميري ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قاربة بن مضرب (٣) قال : جلست عند ابن عباس وهو بمكة ، فقلت : يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاوس مولاك يرويه : إنّ ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر؟ قال : أمن أهل العراق أنت؟ قلت : نعم ، قال : أبلغ من وراءك أنّي أقول : إنّ قول الله عزّ وجلّ : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) وقوله : (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وهل هذه إلاّ فريضتان ، وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا ، ولا طاوس يرويه عليّ ، قال قاربة بن مضرب : فلقيت طاوساً فقال : لا والله ما رويت هذا على ابن عباس قط وإنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم ، قال سفيان :

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٥ / ٢٦٨ ؛ برقم ٤٥٨ سير أعلام النبلاء ، حوادث عام ١٣٢ ، وغيرهما.

(٢) هو عبيد الله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري. قال النجاشي : شيخ من أصحابنا «أبو طالب» ثقة في الحديث ، عالم به ، كان قديماً من الواقفة توفّي عام ٣٥٦ (رجال النجاشي برقم ٦١٥ طبع بيروت).

(٣) وأمّا رجال السند ففي تعليقة الخلاف أنّه لم يتعرّف على البربريّ ، وأمّا بشر بن هارون لعلّه تصحيف بشر بن موسى ، إذ هو الراوي عن الحميدي على ما في تاريخ البغدادي : ٨٦. والحميدي هو عبد الله بن الزبير القرشي توفّي بمكة ٢١٩ كما في تذكرة الحفّاظ : ٢ / ٤١٣ ، وسفيان هو سفيان بن عيينة ، وأبو إسحاق هو : عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي.

٢٣٩

أراه من قبل ابنه عبد الله بن طاوس فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك (١) وكان يحمل على هؤلاء القوم حملاً شديداً ـ أي بني هاشم ـ. (٢)

إنّ سليمان بن عبد الملك الأموي المرواني هو الذي قتل أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي الحنفية بالسم ظلماً وخداعاً ، فكيف يكون حال من يواليهم؟!

وثانياً : أنّ وراثة العصبة ليست من المسائل التي يقل الابتلاء بها ، بل هي ممّا تعمّ البلوى بها في عصر النبيّ وعصور الخلفاء ، فلو كان هناك تشريع على مضمون هذه الرواية لما خفي على غيره ونقله الآخرون ، وقد عرفت أنّ الأسناد ينتهي إلى عبد الله بن طاوس.

وثالثاً : أنّ فقهاء المذاهب أفتوا في موارد على خلاف مضمون هذا الخبر ، وقد أشار إليها فقيه الطائفة الشيخ الطوسي ، نذكر قسماً منها.

١. لو مات وخلّف بنتاً وأخاً وأُختاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ للبنت النصف والنصف الآخر للأخ والأُخت (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) مع أنّ مقتضى خبر ابن طاوس أنّ النصف للأخ فقط لانّه أخذاً بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما يفي فهو لأولى رجل ذكر».

٢. لو أنّ رجلاً مات وترك بنتاً ، وابنة ابن ، وعمّاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ النصف للبنت والنصف الآخر لابنة الابن والعم ، مع أنّ مقتضى الخبر أن يكون النصف الآخر للعم وحده لأنّه أولى ذكر. (٣)

__________________

(١) سليمان بن عبد الملك بن مروان سابع خلفاء بني أُمية ، بويع سنة ٩٦ وتوفّي سنة ٩٨ ، وهو ابن خمس وأربعين سنة ، وكان خاتمه بيده يختم رسائله بخاتمه صيانة عن التزوير.

(٢) التهذيب : ٩ / ٢٦٢ ؛ الخلاف : ٢ ، المسألة ٨٠.

(٣) الخلاف : ٤ / ٦٨ ، المسألة ٨٠ ؛ والتهذيب : ٩ / ٣٠٦ ط الغفاري.

٢٤٠