الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه. (١)

ونقله الدارمي عن عمر مرسلاً عن النبي ، وعن أبي بكر وعمر موقوفاً أنّ رسول الله وأبا بكر وعمر قالوا : لا يتوارث أهل دينين. ونقل عن عمر قال : لا يتوارث أهل ملّتين. (٢)

ولكن الاستدلال غير تام دلالة وسنداً.

أمّا الدلالة فقد أُشير إليه في غير واحد من روايات أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، وحاصله : انّ الحديث بصدد نفي التوارث لا الإرث من كلّ جانب ويصدق نفي التوارث بعدم توريث الكافر من المسلم دون العكس ، فلو قيل : ما تضارب زيد وعمرو ، كفي في صدقه عدم الضرب من جانب واحد ، فيقال : لم يكن هنا تضارب بل ضرب من جانب واحد ، فالنبي بصدد نفي التوارث وهو لا ينافي الإرث من جانب واحد ، وهذه الروايات وإن مرّت الإشارة إليها لكن نأت بواحد منها.

أخرج الكليني عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ انّه قال : فيما روي الناس عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ انّه قال : لا يتوارث أهل ملّتين ، قال : «نرثهم ولا يرثونا ، انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدة». (٣)

هذا كلّه حول دلالة الرواية ، وأمّا السند فقد تفرّد بروايته عمرو بن شعيب وأبوه وجدّه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أفيمكن ترك الكتاب بالخبر الذي تفرد به هؤلاء؟!

على أنّ عمرو بن شعيب مطعون به ، فقد ترجم له ابن حجر في «التهذيب» ترجمة ضافية على نحو يسلب سكون النفس إلى روايته ، حيث قال : قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد : حديثه عندنا واه.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٩١٢ ، الحديث ٢٧٣١.

(٢) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٩.

(٣) لاحظ الرواية الثامنة.

٢٠١

وقال علي عن ابن عيينة : حديثه عند الناس فيه شيء.

وقال أبو عمرو بن العلاء : كان يعاب على قتادة وعمرو بن شعيب انّهما كانا لا يسمعان شيئاً إلاّ حدّثا به.

وقال الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : له أشياء مناكير ، وإنّما يكتب حديثه يعتبر به فأمّا أن يكون حجّة فلا.

إلى أن قال : وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : إذا حدّث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه فهو كتاب ، ومن هنا جاء ضعفه. (١)

فمن قرأ ترجمته المفصّلة في هذا الكتاب وأقوال العلماء المتضاربة في حقّه ، يقف على أنّه لا يمكن تقييد الكتاب وتخصيصه بروايته.

٢. حديث أُسامة

أخرج البخاري عن أبي عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة بن زيد انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم. (٢)

أخرج مالك عن عمرو بن عثمان بن عفان ، عن أُسامة بن زيد ، انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : لا يرث المسلم الكافر. (٣)

أخرج مسلم بنفس هذا السند انّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم. (٤)

وأخرجه البيهقي في سننه (٥) ، إلى غير ذلك من المصادر.

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : أنّه خبر واحد تفرّد بنقله أُسامة بن زيد كما

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٨ / ٤٨ برقم ٨٠.

(٢) فتح الباري : ١٢ / ٤٠ برقم ٦٧٦٤.

(٣) الموطأ : ٢ / ٥١٩ ، الحديث ١٠.

(٤) صحيح مسلم : ٥ / ٥٩ ، كتاب الفرائض.

(٥) سنن البيهقي : ٦ / ٢١٨.

٢٠٢

تفرد بنقله من نقل عنه ، وطبيعة المسألة تقتضي أن يقوم بنقلها غير واحد من الصحابة والتابعين لا سيّما في العهد النبوي ومن بعده حيث إنّ شرائح كبيرة من المجتمع كانت تبتلي بتلك الظاهرة ، فتفرّد أُسامة بسماع الحكم دون غيره يورث الشك بالرواية.

وثانياً : أنّ ابن شهاب في سند البخاري عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (١) ، مع أنّ أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ومنهم علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ كانوا يروون ويفتون على خلاف ذلك ، فقد اشتهر أنّ آل محمّد متفردون بهذا الرأي.

وثالثاً : أنّ الدارمي نقل الحديث عن علي بن الحسين ، عن أُسامة بحذف عمرو بن عثمان من السند. (٢)

وقد نقل المرتضى في «الانتصار» أنّ الزهري [ابن شهاب] نقله عن عمرو بن عثمان ولم يذكر علي بن الحسين ، فالاختلاف في السند يوجب الطعن في الرواية. (٣)

ورابعاً : أنّ أحمد بن حنبل ينقل عن مالك ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة بن زيد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا يرث المسلم الكافر» (٤) الظاهر في عدّ سماعة من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، مباشرة خلافاً لما رواه البخاريّ الظاهر في سماعة عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهذا أيضاً اختلاف واضطراب في الرواية ، يحطّ من الاعتماد عليها.

٣. حديث عامر الشعبي

عن عامر الشعبي انّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبا بكر وعمر قالوا : لا يتوارث أهل

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٠٨

(٢) سنن الدارمي : ٢ / ٣٧٠.

(٣) نقله المرتضى في الانتصار : ٥٩٠.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٢٠٨.

٢٠٣

دينين.

ولكن الرواية مرسلة ، لأنّ الشعبي (١) ولد بالكوفة سنة ١٩ ه‍ ـ وقيل : سنة ٢١ ه‍ ، ورأى الإمام عليّاً وصلّى خلفه ، فكيف ينقل عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟! والمعروف أنّ الشعبي كان من الموالين لبني أُميّة أعداء أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، فكيف يمكن الاعتماد على روايته؟!

٤. الاستدلال بالآثار المروية عن الصحابة

وقد استدلّ بالروايات الموقوفة على الصحابة من دون أن تسند إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهي كثيرة :

١. أخرج الدارمي عن عامر الشعبي ، عن عمر قال : لا يتوارث أهل ملّتين. (٢)

٢. عن عامر انّ المغيرة بنت الحارث توفيت باليمن وهي يهودية ، فركب الأشعث بن قيس وكانت عمّته إلى عمر في ميراثها ، فقال عمر : ليس ذلك لك ، يرثها أقرب الناس منها من أهل دينها ، لا يتوارث ملّتان. (٣)

٣. عن ابن سيرين ، قال عمر بن الخطاب : لا يتوارث ملّتان شتّى ولا يحجب من لا يرث. (٤)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الآثار : أنّها موقوفات لم تسند إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فهي حجّة على أصحابها على أنّ قوله : «لا يتوارث أهل ملّتين» أو قوله : «لا يتوارث ملّتان شتّى» لا يصلح دليلاً على عدم توريث المسلم من الكافر ، لما عرفت من أنّه يهدف إلى نفي التوارث ، ويكفي في صدقه عدم توريث الكافر من المسلم.

__________________

(١) انظر موسوعة طبقات الفقهاء : ١ / ٤١٤ برقم ١٨١.

(٢) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ ؛ سنن البيهقي : ٦ / ٢١٨.

(٣) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ ؛ سنن البيهقي : ٦ / ٢١٨.

(٤) سنن الدارمي : ٢ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ ؛ سنن البيهقي : ٦ / ٢١٨.

٢٠٤

نعم فهم الخليفة وأضرابه ، نفي الإرث من كلّ جانب ، ففهمهم حجّة على أنفسهم دون غيرهم.

ولذلك يمكن أن يقال : انّ الحرمان من كلا الطرفين كان سنّة للخليفة لمصلحة رآها ، وليس ذلك ببعيد ، فإنّ له نظيراً غير هذا المورد.

أخرج مالك في موطّئه عن الثقة عنده انّه سمع سعيد بن المسيب يقول : أبى عمر بن الخطاب أن يورث أحداً من الأعاجم ، إلاّ أحداً ولد في العرب. (١)

قال مالك : وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو ووضعته في أرض العرب ، فهو ولدها يرثها إن ماتت وترثه إن مات. (٢)

وبذلك يعلم أنّ ما نسب إلى سعيد بن المسيب انّه قال : مضت السنّة أن لا يرث المسلم الكافر. (٣) فلعلّ مراده من السنّة هو سنّة الخلفاء لا سنّة الرسول ، وإلاّ لنسبها إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وأمّا ما رواه البيهقي في سننه عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب انّ عمر بن الخطاب قال : لا نرث أهل الملل ولا يرثونا. (٤)

فهو مخدوش ، لأنّ المعروف انّ سعيد بن المسيب ممّن يقول بالإرث ، وقد نقله عنه غير واحد من الفقهاء.

وفي الحاوي : وحكي عن معاذ بن جبل ومعاوية انّ المسلم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم ، وبه قال محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب ومسروق والنخعي والشعبي وإسحاق بن راهويه. (٥)

__________________

(١) الموطأ : ٢ / ٥٢٠ برقم ١٤.

(٢) الموطأ : ٢ / ٥٢٠ برقم ١٤.

(٣) نقله المرتضى في الانتصار : ٥٨٩.

(٤) سنن البيهقي : ٦ / ٢١٩.

(٥) الحاوي : ٨ / ٧٨.

٢٠٥

ونقله أيضاً النووي في شرح صحيح مسلم. (١)

إلى هنا تمت دراسة أدلّة المانعين ، وهي على أقسام :

١. غير تامّة دلالة ، أعني : ما يركز على نفي التوارث بين المسألتين الذي يصدق بنفي الإرث من جانب الكافر فقط.

٢. تامّة سنداً ودلالة ، مثلما أخرجه البخاري ، لكنّه خبر واحد لا يقاوم الكتاب.

٣. غير تامّة سنداً كرواية عمرو بن شعيب ، وقد عرفت ضعفها.

٤. آثار موقوفة ليست حجّة إلاّ على أصحابها.

بقي للمانعين دليل آخر وحاصله : انّ الإرث من آثار الولاية ، ولا ولاية بين الكافر والمسلم.

٥. انقطاع الولاية بين الكافر والمسلم

استدلّ القائل بنفي التوريث مطلقاً بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) فإنّ الآية بصدد بيان نفي الولاية من الكفّار والمسلمين ، فإن كان المراد به الإرث فهو إشارة إلى أنّه لا يرث المسلم الكافر ، وإن كان المراد به مطلق الولاية ففي الإرث الولاية لأحدهما على الآخر. (٣)

وقال ابن حجر : إنّ التوارث يتعلّق بالولاية ، ولا ولاية بين المسلم والكافر ، لقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٤). (٥)

__________________

(١) شرح صحيح مسلم : ١١ / ٥٢.

(٢) الأنفال : ٧٣.

(٣) المبسوط للسرخسي : ٣٠ / ٣٠.

(٤) المائدة : ٥١.

(٥) فتح الباري : ١٢ / ٥٠.

٢٠٦

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : بأنّ الإرث من آثار الولاية في العتق وضمان الجريرة ، فميراث المعتَق للمعتِق لأجل الولاء ، وهكذا الأمر في ضمان الجريرة.

وأمّا الوراثة في غير هذين الموردين فلم يعلم أنّه من آثار الولاية ، بل من آثار النسب والسبب.

والذي يدلّ على ذلك انّ التوارث أمر عقلائي لا يختصّ بأصحاب الشرائع ، بل يعمّ قاطبة البشر ، والملاك عند الجميع هو العلقة التكوينية بين أصحاب النسب أو الاعتبارية في السبب ووجود الولاية بين الوالد والولد أو غيرهما وإن كان أمراً ثابتاً مع العلقة التكوينية ، لكن ليس كلّ مقرون بها يكون موضوعاً للوراثة.

والذي يوضح ذلك انّ الفقهاء يذكرون عند بيان أسباب الإرث ، السببَ والنسَب مقابل الولاء.

أسباب ميراث الورى ثلاثة

كل يفيد ربّه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب

ما بعدهن من مواريث سبب(١)

وثانياً : أنّ كون الولاية هي السبب للميراث يخالف ما عليه الحنفية ومن تبعهم من أنّ المسلم ، يرث المرتد مع انقطاع الولاية بين المسلم والمرتد.

قال النووي في شرح المهذب : قال أبو حنيفة والثوري : ما اكتسبه قبل الردة ورث عنه ، وما اكتسب بعد الردة يكون فيها. (٢)

__________________

(١) المجموع : ١٧ / ٤٨.

(٢) المجموع : ١٧ / ٥٧.

٢٠٧

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : أمّا المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلى وغيرهم ، بل يكون ماله فيئاً للمسلمين.

وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق : يرثه ورثته من المسلمين ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف. (١)

وقال في الشرح الكبير عن أحمد ما يدلّ على أنّ ميراث المرتد لورثته من المسلمين ، يروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود (رض) ، وبه قال سعيد بن المسيب وجابر بن زيد والحسن وعمر بن عبد العزيز وعطاء والشعبي والحكم والأوزاعي والثوري وابن شبرمة وأهل العراق وإسحاق. (٢)

ومن غريب القول : إنّ المسلم لا يرث الكافر ولكن الكافر يرث عتيقه المسلم ، وهو منقول عن أحمد كما في الموسوعة الفقهية. (٣)

ونكتفي بهذا المقدار من البحث ، ولعلّ فيه غنى وكفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وأمّا الكلام في الفروع الأُخرى ، أعني :

١. حجب المسلم الكافر.

٢. إذا أسلم الكافر قبل القسمة وبعدها.

٣. اشتراط عدم حجب المسلم الكافر في عقد الذمّة.

فنحيل الكلام فيها إلى مجال آخر ، فإنّ هذه الفروع اختلفت فيها كلمة الفريقين بخلاف الفرع الأوّل ، فجماهير أهل السنّة على المنع والإمامية على الجواز ، وقد دام هذا الخلاف إلى يومنا هذا ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً.

__________________

(١) شرح النووي لصحيح مسلم : ١١ / ٥٢.

(٢) المغني : ٧ / ١٦٧.

(٣) الموسوعة الفقهية : ٣ / ٢٥ ، مادة إرث نقله عن العذب الفائض : ١ / ٣١.

٢٠٨

٢٢

الميراث بالقرابة

أو

بالتعصيب

٢٠٩
٢١٠

الميراث بالقرابة

أو

بالتعصيب

الميراث بالتعصيب من خصائص الفقه السنّي وليس في الفقه الإمامي منه عين ولا أثر ، بل هو منكر عند الإمامية أشدّ الإنكار كما سيوافيك ، ولإيضاح المقام نقدّم أُموراً

الأوّل : العَصَبة في اللغة والاصطلاح

العَصَبَة جمع عاصب كطلبة جمع طالب ، وهو مأخوذ من العَصَب وهو الطيّ الشديد ، يقال : عصب برأسه العمامة ، شدّها ولفّها عليه ، ومع كونها جمعاً لكن تطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وتجمع أيضاً على عَصَبات.

ويطلق على الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أُنثى ، وسُمُّوا عصبة لأنّهم أصابوا به ، أي أحاطوا بالميت ، فالأب طرف والابن طرف والأخ طرف ، والعم طرف ، وهؤلاء كلّهم عَصَبَة ، لأنّهم يحيطون بالميت كإحاطة العمامة بالرأس.

وفي مصطلح الفقهاء : العصبَة ، هو الوارث بغير فرض وتقدير ، فإذا كان

٢١١

معه ذو فرض أخذ بما فضل عنه قلّ أو كثر ، وإن انفرد ، أخذ الكل ، وإن استغرقت الفروض المال ، سقط. (١)

الثاني : أقسام العصبة

تنقسم العصبة عندهم إلى قسمين :

الأوّل : العصبة النَّسَبيّة.

الثاني : العصبة السببيّة.

أمّا القسم الأوّل فهو على ثلاثة أصناف :

أحدها : العصبة بنفسه وهي كلّ ذكر لا يدخل في نسبته إلى الميت أُنثى ، وتنحصر في أربعة.

أ. البنوة ، وتسمّى جزء الميت.

ب. الأُبوة ، وتسمّى أصل الميت.

ج. الأُخوة ، وتسمّى جزء أبيه.

د. العمومة ، وتسمّى جزء الجد.

ثانيها : عصبة بغيره ، وهي الأُنثى التي يكون فرضها النصف حال الانفراد ، والثلثين إذا كان معها أُخت أو أكثر ، فإذا كان معها أو معهن أخ صار الجميع حينئذ عصبة به ، وهي أربع :

١. البنت أو البنات.

٢. بنت أو بنات الابن.

__________________

(١) المغني : ٦ / ٢٢٦.

٢١٢

٣. الأُخت أو الأخوات الشقيقات.

٤. الأُخت أو الأخوات لأب.

فكلّ صنف من هذه الأصناف الأربعة يكون عصبة بغيره وهو الأخ ويكون الإرث بينهم للذكر مثل حظ الأُنثيين.

ثالثها : العصبة مع الغير وهي كلّ أُنثى تحتاج في كونها عاصبة إلى أُنثى أُخرى وتنحصر العصبة مع الغير في اثنتين فقط من الإناث ، وهي :

أ. الأُخت الشقيقة أو الأخوات الشقيقات مع البنت أو بنت الابن.

ب. الأُخت لأب أو الأخوات لأب مع البنت أو بنت الابن ، ويكون لهن الباقي من التركة بعد الفروض.

وأمّا القسم الثاني ، أي العصبة السببية هو المولى المعتِقُ ، ذكراً كان أم أُنثى ، فإذا لم يوجد المعتِق فالميراث لعصبته الذكور. (١)

الثالث : أقسام نسبة الفروض مع مجموع التركة

الفروض الستة المقدرة في كتاب الله ، تارة تتساوى مع مجموع التركة ، كبنتين وأبوين ، وحينئذ لا عول ولا تعصيب ، حيث تأخذ البنتان الثلثين ، والأبوان الثلث.

وأُخرى تنقص الفروض عن التركة ، كبنت واحدة ، فإن فرضها النصف أو بنتين فإن فرضهما الثلثان ، فهل يردّ الباقي إليها أو إليهما بالقرابة كما عليه الإمامية ، أو يردّ إلى العصبة كما عليه فقهاء السنّة ويسمّى الميراث بالتعصيب؟

وثالثة تزيد الفروض على مجموع التركة ، كزوج وأبوين وبنت ، فإنّ فرض

__________________

(١) فقه السنّة : ٣ / ٤٤٢ ، ط بيروت.

٢١٣

الزوج الربع والبنت النصف والأبوين الثلث ، والتركة لا تتحمل ربعاً ونصفاً وثلثاً ، وهذا هو العول الذي سيوافيك حكمه في المسألة الآتية.

الرابع : إيضاح التوريث بالتعصيب

المراد من التعصيب هنا هو توريث العصبة مع ذي فرض قريب ، كما إذا كان للميت بنت أو أكثر ، وليس له ولد ذكر.

أو لم يكن له أولاد أصلاً لا ذكور ولا إناث ، وله أُخت أو أخوات وليس له أخ ، وله عمّ.

فانّ مذاهب السنة تجعل أخ الميت شريكاً مع البنت أو البنات ، في المثال الأوّل ، كما تجعل العم أيضاً شريكاً مع الأُخت أو الأخوات كذلك في المثال الثاني.

هذا ما لدى السنّة ، وأمّا الإمامية فالإرث بالتعصيب باطل مطلقاً وإنّما الميراث بالفرض المسمى في كتاب الله ، أو بالقرابة أو الأسباب التي يورث بها من الزوجيّة والولاء.

ففي المثالين المذكورين إن بقي من الفرض يجب رده على صاحب الفرض القريب ، فالتركة عندهم بكاملها للبنت أو للبنات وليس لأخ الميت شيء ، وإذا لم يكن له أولاد ذكور ولا إناث وكان له أُخت أو أخوات ، فالمال كلّه للأُخت والأخوات ولا شيء للعمّ ، لأنّ الأُخت أقرب منه ، والأقرب يحجب الأبعد.

وبالجملة ليس للتعصيب دور في الميراث وإنّما يدور الميراث على الفروض والقرابة والسببية : الزوجية والولاء.

٢١٤

الخامس : ضابطة الميراث عند الفريقين

إنّ الضابطة لتقديم بعض الأقرباء النسبيّين على البعض الآخر عند الإمامية أحد أمرين :

١. كونه صاحب فريضة في الكتاب ، قال سبحانه : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). (١)

٢. القربى إذا لم يكن صاحب فريضة ، فالأقرب إلى الميّت ، هو الوارث للكلّ ، أو لما فضل عن التركة ، قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٢)

وأمّا عند أهل السنّة فالملاك بعد الفرض ، هو التعصيب ـ بالمعنى الذي عرفت ـ بعد أصحاب الفرض ، وإن بعد عنهم ، كالأخ عند ما يموت عن بنت أو بنتين ، أو العم عند ما يموت عن أُخت أو أُختين فيرث الأخ أو العم ، الفاضلَ من التركة ، بما أنّهما عصبة ، ويُردّ عندنا إلى أصحاب الفروض ، وربّما لا يترتّب على الخلاف ثمرة ، كما في الموردين التاليين :

كما لو اجتمع الأب مع الابن ، فالأب يأخذ فرضه وهو السدس ، وما بقي يأخذه الابن بالاتّفاق لكن عندنا بالقرابة وعند أهل السنّة بالعصبة.

ومثله لو اجتمع الأب مع ابن الابن فبما أنّ الأولاد تنزل منزلة الآباء فللأب السدس والباقي لابن الابن عندنا بالقرابة وعندهم بالتعصيب.

لكن تظهر الثمرة في موارد أُخر. كما إذا كانت العصبة بعيدة عن ذي فرض ، كالأخ فيما إذا ترك بنتاً أو بنات ، ولم يكن له ولد ذكر ، أو العم فيما إذا ترك

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) الأنفال : ٧٥.

٢١٥

أُختاً أو أخوات ولم يكن له أخ ، فعلى مذهب الإمامية لا يرد إلى البعيد أبداً ، سواء كان أخاً أو عمّاً ، لأنّ الضابط في التقديم والتأخير هو الفرض والقرابة ، وأمّا الأخو العم فهما ليسا من أصحاب الفروض قطعاً ، كما أنّهما بعيدان عن الميّت مع وجود البنت أو الأُخت ، فيرد عليهما الفاضل ، فالبنت ترث النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة ، وهكذا الصورة الأُخرى.

وأمّا على مذاهب أهل السنّة ، فبما أنّهم حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب ، يردّون الفاضل إلى الأخ في الأوّل ، والعم في الثاني.

قال الشيخ الطوسي : القول بالعصبة باطل عندنا ولا يورث بها في موضع من المواضع ، وإنّما يورث بالفرض المسمّى أو القربى ، أو الأسباب التي يورث بها من الزوجية والولاء ، وروي ذلك عن ابن عباس ، لأنّه قال فيمن خلّف بنتاً وأُختاً : إنّ المال كلّه للبنت دون الأُخت (١) ، ووافقه جابر بن عبد الله في ذلك.

وروى موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي ، روى عنه الأعمش ولم يجعل داود الأخوات مع البنات عصبة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأثبتوا العصبات من جهة الأب والابن. (٢)

السادس : عدم الثمرة فيما إذا كان قريب مساو لا فرض له

إذا بقى من سهام التركة شيء ـ بعد إخراج الفريضة ـ وكان بين الورثة من لا فرض له لا فرق بين القولين ولا تترتب عليهما ثمرة.

وبعبارة أُخرى : إذا اجتمع من لا فرض له مع أصحاب الفرض ففيها يردّ الفاضل على المساوي الذي ليس له سهم خاص في الكتاب ، سواء قلنا

__________________

(١) وهي عصبة بالغير أي الأخ.

(٢) الخلاف : ٤ / ٦٢ ، كتاب الفرائض ، المسألة ٨٠.

٢١٦

بالتعصيب أم لا. وإليك بعض الأمثلة :

١. إذا ماتت عن أبوين وزوج.

٢. إذا مات عن أبوين وزوجة.

فالزوج في الأوّل ، والزوجة في الثاني ، والأُمّ في كليهما من أصحاب الفروض دون الأب ، فما فضل بعد أخذهم ، فهو لمن لا فرض له ، أي الأب ، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللآُمّ الثلث ، والباقي للأب لأنّه لا فرض له ، نعم الأب من أصحاب الفروض إذا كان للميّت ولد قال سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) (١) بخلاف الأُمّ فهي مطلقاً من ذوات الفروض.

قال الخرقي في متن المغني : وإذا كان زوج وأبوان ، أُعطي الزوج النصف والأُم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب ، وإذا كانت زوجة أُعطيت الزوجة الربع ، والأُمّ ثلث ما بقي ، وما بقي للأب.

قال ابن قدامة : هاتان المسألتان تسمّيان العُمَريّتين لأنّ عُمَر قضى فيهما بهذا القضاء ، فتبعه على ذلك عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الحسن والثوري ومالك والشافعي ـ رضي الله عنهم ـ وأصحاب الرأي ، وجعل ابن عباس ثلث المال كلّه للآُمّ في المسألتين ، ويروى ذلك عن علي. (٢)

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) المغني : ٦ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧. وهذا ونظائره الكثيرة في الفرائض يعرب عن عدم وجود نظام محدّد في الفرائض في متناول الصحابة ، ومع أنّهم يروون عن النبي أنّ أعلم الصحابة بالفرائض هو زيد بن ثابت وانّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «أفرضهم زيد ، وأقرأهم أُبيّ». لكنّه تبع قضاء عمر ولم يكن عنده شيء في المسألة التي يكثر الابتلاء بها.

٢١٧

٣. ذلك الفرض ولكن كان للآُمّ حاجب ، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللآُمّ السدس ، والكلّ من أصحاب الفرض ، والباقي للأب الذي لا فرض له.

٤. إذا مات عن أبوين وابن وزوج أو زوجة ، فلهما نصيبهما الأدنى ـ لأجل الولد ـ وللوالدين السدسان والباقي للابن الذي لا فرض له.

٥. إذا مات عن زوج أو زوجة وإخوة من الأُمّ ، وإخوة من الأبوين أو من الأب ، فللزوج النصف أو للزوجة الربع ، وللإخوة من الأُمّ الثلث ، والباقي لمن لا فرض له ، أي الإخوة من الأبوين أو الذين يتقرّبون بالأب.

ففي هذه الصورة فالزائد بعد إخراج الفرائض للمساوي في الطبقة الذي لا فرض له. ولعلّ هذه الصورة موضع اتّفاق بين الفقهاء : السنّة والشيعة.

السابع : ترتّب الثمرة إذا لم يكن قريب مساو لا فرض له

إذا لم يكن بين الورثة ـ وراء أصحاب الفروض ـ قريب مساو لا فرض له وزادت سهام التركة عن الفروض ، فهناك رأيان مختلفان بين الفقهاء : الشيعة والسنّة.

١. الشيعة كلّهم على أنّ الزائد يرد إلى أصحاب الفرائض عدا الزوج والزوجة (١) بنسبة سهامهم ، فإذا مات عن أبوين وبنت وليس في طبقتهم من ينتمي إلى الميّت بلا واسطة سواهم ، يرد الفاضل ـ أي السدس ـ عليهم بنسبة

__________________

(١) اتّفقت عليه المذاهب كلّها قال ابن قدامة : «فأمّا الزوجان فلا يرد عليهما ، باتّفاق أهل العلم» المغني : ٦ / ٢٥٧.

٢١٨

سهامهم ، فيرد السدس عليهم أخماساً فللأبوين : الخمسان من السدس ، وللبنت ثلاثة أخماس منه ، ولا تخرج التركة عن هذه الطبقة أبداً.

٢. أهل السنّة يرون أنّه يرد إلى أقرباء الميّت من جانب الأب والابن وهم العصبة.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندرس أدلّة القولين :

٢١٩

دراسة أدلّة نفاة التعصيب

احتجّت الإمامية على نفي التعصيب ـ وانّه لا دور له في الميراث وانّه مع وجود الأقرب وإن كان ذا فرض لا يرد إلى البعيد وإن كان ذكراً ـ بالكتاب والسنّة ، وإليك دراسة ما يدلّ على نفيه من الكتاب :

الآية الأُولى

مشاركة النساء للرجال في الميراث

قال سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). (١)

وجه الاستدلال : انّ ظاهر الآية انّ النساء في درجة الرجال من حيث الاستحقاق وانّ كلّ مورد يرث فيه الرجل ، ترث فيه المرأة إلاّ ما خرج بالدليل كالقاتل والمرتد.

وبعبارة أُخرى : انّه أوجب توريث جميع النساء والأقربين ، ودلّت على المساواة بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث ـ لا في مقداره ـ ، لأنّها حكمت بأنّ للنساء نصيباً كما حكمت بأنّ للرجال نصيباً ، مع أنّ القائل بالتعصيب يُورّث

__________________

(١) النساء : ٧.

٢٢٠