الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

يُمضى طلاقه ، وقالت فرقة : لا ينفذ ولا يقع ، والذين قالوا : ينفذ ، قالوا : يؤمر بالرجعة ، وهؤلاء افترقوا فرقتين ، فقوم رأوا انّ ذلك واجب ، وأنّه يجبر على ذلك ، وبه قال مالك وأصحابه ، وقالت فرقة : بل يندب إلى ذلك ولا يجبر ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد. (١)

وفي الموسوعة الفقهية : اتّفق جمهور الفقهاء على وقوع الطلاق البدعي ، مع اتّفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلق لمخالفته السنّة المتقدّمة.

فإذا طلق زوجته في الحيض وجب عليه مراجعتها ، رفعاً للإثم لدى الحنفية في الأصح عندهم ، وقال القدوري من الحنفية : إنّ الرجعة مستحبة لا واجبة.

وذهب الشافعي إلى أنّ مراجعة من طلقها بدعياً سنّة ، وعبر الحنابلة عن ذلك بالاستحباب. (٢)

الرابع : ما هو المراد من القُرء؟

اتّفق الفقهاء على أنّ المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، غير أنّهم اختلفوا في معنى «القرء» الذي يجمع على قروء ، فالشيعة الإمامية على أنّ المراد منه هو الأطهار الثلاثة.

وقد تبعوا في ذلك ما روي عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ ؛ روى زرارة عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : إنّي سمعت ربيعة الرأي يقول : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة بانت منه ، وإنّما القرء ما بين الحيضتين وزعم انّه أخذ ذلك برأيه ، فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «أخذه عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ» قال : قلت له : وما قال فيها عليّ ـ عليه‌السلام ـ؟ قال : «كان يقول : إذا

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٦٤.

(٢) الموسوعة الفقهية : ٢٩ / ٣٥.

١٤١

رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ولا سبيل عليها وإنّما القرء ما بين الحيضتين». (١)

روى زرارة قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ سمعت ربيعة الرأي يقول : من رأيي انّ الاقراء التي سمّى الله عزّ وجلّ في القرآن إنّما هو الطهر فيما بين الحيضتين ، فقال : «إنّما بلغه عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ» فقلت : أكان عليّ ـ عليه‌السلام ـ يقول ذلك ، فقال : «نعم ، إنّما القرء الطهر الذي يُقرأ فيه الدم ، فيجمعه ، فإذا جاء المحيض دفعه». (٢)

وذهب أصحاب سائر المذاهب إلاّ من عرفت إلى أنّ المراد منها هي الحيضات والتحقيق في محلّه ، وإنّما ذكرنا ذلك مقدّمة لتفسير الآية الآتية.

الخامس : عدم احتساب الحيضة من العدّة

إذا طلق زوجته في الحيض والنفاس فلا تحسب تلك الحيضة من الإقراء الثلاثة عند القائلين بصحّة الطلاق ، بل تحسب الحيضة الثانية بعد انقضاء الأُولى بالدخول في طهرها ، وعلى هذا الأصل ذكر بعض الباحثين بأنّ الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض هو انّ ذلك يُطيل على المرأة العدة ، فانّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها ، فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتتم مدة طهرها ، ثمّ تبدأ العدة من الحيضة التالية. (٣)

هذا على مذهب أهل السنّة من تفسير القروء ، وبالتالي العدّة بالحيضات.

وتطول العدة أيضاً على القول بتفسير «القرء» بالطهر ، إذا لا تحتسب الحيضة من عدتها فتنتظر حتّى تطهر من حيضها وتبدأ العدة من يوم طهرت.

__________________

(١) الوسائل : ١٥ ، الباب ١٥ من أبواب العدد ، الحديث ٤ ، ولاحظ الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١٥ ، الباب ١٤ من أبواب العدد ، الحديث ٤.

(٣) نظام الطلاق في الإسلام : ٢٧.

١٤٢

السادس : طلاق عبد الله بن عمر هو الأصل

إنّ دليل القائل بالجواز في حال الحيض رواية عبد الله بن عمر ، وقد وردت بألفاظ كثيرة ، حتّى أوجدت في الرواية اضطراباً ، وسيوافيك صورها ومعالجة اضطرابها وانطباقها على المختار.

إذا عرفت هذه الأُمور ، فلنذكر الدليل على بطلان الطلاق.

الاستدلال بالكتاب على شرطية الطهر

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). (١)

والآية ظاهرة في أنّ المسلم إذا أراد أن يطلّق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدة بحيث يكون الوقت الذي تطلّق فيه جزءاً من العدة ، فلو طُلِّقت في حالة الحيض ، فانّها لا تحسب منها بالاتّفاق.

قال القرطبي : معنى فطلقوهنّ لعدتهنّ ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن ، وحصل الإجماع على أنّ الطلاق في الحيض ممنوع ، وفي الطهر مأذون فيه. (٢)

توضيح ذلك : انّ الآية دالّة على شرطية الطهارة من الحيض مطلقاً ، سواء فسرت ثلاثة قروء ـ وبالتالي قوله : «لعدتهن» ـ بالأطهار الثلاثة ، أو بالحيضات

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) تفسير القرطبي : ١٨ / ١٥٣.

١٤٣

الثلاث.

وذلك انّه إذا قلنا بأنّ المراد من قوله «لعدتهن» هي الأطهار الثلاثة ، فاللام في قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) عندئذ ظاهرة في الغاية والتعليل والمعنى فطلقوهن لغاية أن يعتددن ، والأصل هو ترتّب الغاية على ذيها بلا فصل ولا تريّث (ما لم يدلّ دليل على الخلاف) ، مثل قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١) وقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٢) ، واحتمال كون اللام للعاقبة التي ربّما يكون هناك فصل بين الغاية وذيها ، مثل قوله سبحانه : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٣) غير صحيح ، لأنّ موردها فيما إذا كانت النتيجة مرتبة على ذيها ترتّباً قهرياً غير إرادي كما في الآية ، ومثل قولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد من قوله : «لعدتهن» هو الحيضات الثلاث فبما انّ الطلاق في حال الحيض حرام تكليفاً في عامة المذاهب الفقهية ، فلا يصحّ تفسير اللام بالظرفية إن طلقوهن في عدتهن (الحيضات) أو بالغاية فطلقوهن لغاية اعتدادهنّ بعد الطلاق ، لما عرفت من أنّ الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من الثلاث ، فلا محيص من تفسير الآية بتقدير كلمة «مستقبلات لعدتهن» كما تقول : «لقيته لثلاث بقين من الشهر» تريد مستقبلاً لثلاث ، وبما انّ المراد ب «عدتهن» هو الحيضات الثلاث ، فيكون المراد بمستقبلها ، هو أيّام الطهر من الحيض ، أي طلقوهن في حال كونهن مطهرات ، مستقبلات لعدتهنّ ، أي الحيضات الثلاث.

__________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) النحل : ٦٤

(٣) القصص : ٨.

١٤٤

قال القرطبي : معنى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي من قَبْل عدتهن أو لقبل عدتهن ، وهي قراءة النبي كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره : فَقَبْل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء هو الحيض.

هذا ولكن الحقّ هو الوجه الأوّل ، فانّ لازم ذلك اختصاص الطلاق بآخر الطهر ، ويترتّب عليه انّه لو طلق في أوّل الطهر لا يصلح ، إذ لا يكون عندئذ مستقبلاً للعدة ، لأنّ المفروض انّ الحيض لم يقبل بعد ، ولعلّ هذا دليل على عدم صحّة تفسير (لِعِدَّتِهِنَ) بالحيضات وتعيّن تفسيرها بالأطهار.

وعلى كلّ تقدير فالآية ظاهرة في شرطية الطهارة في صحّة الطلاق ، سواء أفسرت «العدّة» بالأطهار أو بالحيضات.

الاستدلال بالسنّة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ على اشتراط الطهارة.

روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «كلّ طلاق لغير السنّة فليس بطلاق ، أن يطلّقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق». (١)

هذا ما لدى الشيعة وأمّا ما لدى السنّة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبد الله بن عمر ، حيث طلّق زوجته وهي حائض ، وقد نقلت بصور مختلفة نأتي بها. (٢)

__________________

(١) الوسائل : ١٥ ، الباب ٨ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٩ ، وغيره.

(٢) راجع للوقوف على تلك الصور ، السنن الكبرى : ٧ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

١٤٥

الأُولى : ما دلّ على عدم الاعتداد بتلك التطليقة

١. روى أبو الزبير قال : سألت جابراً عن الرجل يطلّق امرأته وهي حائض؟ فقال : طلّق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض ، فأتى عمر رسول الله فأخبره بذلك فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ليراجعها فانّها امرأته.

٢. روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه قال في الرجل يطلّق امرأته وهي حائض ، قال ابن عمر : لا يعتدّ بها.

الثانية : ما يتضمّن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقاً صحيحاً

١. يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته وهي حائض؟ فقال : تعرف عبد الله بن عمر؟ قلت : نعم ، قال : فانّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فأتى عمر ـ رضى الله عنه ـ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فسأله ، فأمره أن يراجعها ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها. قال ، قلت : فيعتدّ بها؟ قال : نعم ، قال : أرأيت إن عجز واستحمق.

٢. يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته ، وهي حائض؟ قال : تعرف ابن عمر؟ إنّه طلّق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأمره أن يراجعها ، قلت : فيعتد بتلك التطليقة؟ قال : فمه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

٣. يونس بن جبير قال : سمعت ابن عمر قال : طلّقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فذكر ذلك له ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها ، قال : فقلت لابن عمر : فاحتسبت بها؟ قال : فما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

١٤٦

٤. أنس بن سيرين قال : سمعت ابن عمر يقول : طلَّقت امرأتي وهي حائض ، قال : فذكر ذلك عمر للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال ، فقال : ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها. قال : فقلت له ـ يعني لابن عمر : يحتسب بها؟ قال : فمه؟

٥. أنس بن سيرين : ذكر نحوه غير أنّه قال : فليطلّقها إن شاء. قال : قال عمر ـ رضى الله عنه ـ : يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال : نعم.

٦. أنس بن سيرين قال : سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق؟ فقال : طلّقتها وهي حائض. فذكر ذلك لعمر ـ رضى الله عنه ـ فذكره للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : مره فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها لطهرها. قال : فراجعتها ثمّ طلّقتها لطهرها. قلت : واعتدّت بتلك التطليقة التي طلّقت وهي حائض؟ قال : ما لي لا أعتدّ بها ، وإن كنت عجزت واستحمقت.

٧. عامر قال : طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة ، فانطلق عمر إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأخبره ، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثمّ يستقبل الطلاق في عدّتها ثمّ تحتسب بالتطليقة التي طلّق أوّل مرّة.

٨. نافع عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنّه طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأتى عمر ـ رضى الله عنه ـ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فذكر ذلك له فجعلها واحدة.

٩. سعيد بن جبير عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة.

الثالثة : ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين

١. ابن طاوس عن أبيه : أنّه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال : أتعرف عبد الله بن عمر؟ قال : نعم. قال : فإنّه طلّق امرأته حائضاً ، فذهب عمر ـ رضى الله عنه ـ إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فأخبره الخبر ، فأمره أن

١٤٧

يراجعها. قال : لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه.

٢. منصور بن أبي وائل : إنّ ابن عمر طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأمره النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يراجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت طلّقها.

٣. ميمون بن مهران عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته في حيضها ، قال : فأمره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن يرتجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت فإن شاء أمسك قبل أن يجامع.

٤. سئل أبو الزبير عن رجل طلّق امرأته حائضاً؟ قال : طلّق عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فسأل عمر ـ رضى الله عنه ـ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض؟ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ليراجعها ، فردّها عليّ وقال : إذا طهرت فليطلّق أو ليمسك ، قال ابن عمر : وقرأ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في قبل عدّتهنّ.

وبعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الإشكالات التي تواجه كلاً منها ومعالجتها.

معالجة الصور المتعارضة

لا شك أنّ الروايات كانت تدور حول قصة واحدة ، لكن بصور مختلفة ، فالحجة بينها مردّدة بين تلك الصور والترجيح مع الأُولى لموافقتها الكتاب وهي الحجّة القطعية ، وما خالف الكتاب لا يحتج به ، فالعمل على الأُولى.

وأمّا الصورة الثالثة ، فيمكن إرجاعها إلى الأُولى لعدم ظهورها في الاعتداد والصحّة ، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربّما يتوهّم منه ، الرجوع إلى الطلاق الملازم

١٤٨

لصحّته ، لكن ليس بشيء.

فانّ المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلّقة الرجعية ، ويؤيّد ذلك أنّ القرآن يستعمل كلمة الرد أو الإمساك ، فيقول : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (١).

وقال سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) (٢) ، وقال سبحانه : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٣) ، وقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٤).

نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلّقة ثلاثاً إذا تزوّجت رجلاً آخر فطلّقها ، قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) (٥).

بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب ، أعني : الصورة الثانية ، فيلاحظ عليها بأُمور :

١. مخالفتها للكتاب ، وما دلّ على عدم الاحتساب.

٢. أنّ غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإنّما إلى رأي ابن عمر وقناعته ، فلو كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد أمر باحتسابها ، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى ذلك في جواب السائل ، فعدم استناده إلى حكم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ دليل على عدم صدور ما يدل على الاحتساب من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نفسه ، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرّض للاحتساب ، لأنّها كلّها تتّفق في عدم حكم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ باحتساب التطليقة ، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه ، وهو ليس حجّة لإثبات الحكم الشرعي.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

(٣) البقرة : ٢٣١.

(٤) البقرة : ٢٣١.

(٥) البقرة : ٢٣٠.

١٤٩

وأمّا الرواية الأُولى لنافع فقد نسب الحكم بالاحتساب في إحدى الصيغتين إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نفسه (الرواية ٨ من القسم الثاني) ، بينما رويت الثانية بصيغة أُخرى تضمّنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية ٢ من القسم الأوّل).

وأمّا رواية أنس فرويت بصيغتين تدلاّن على أنّ الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (الرواية ٤ و ٦ من القسم الثاني) وبصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبيّ (الرواية ٥ من القسم الثاني) ومع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لإثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نفسه.

٣. أنّ فرض صحّة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بإرجاعها وتطليقها في الطهر الذي بعده هذا ، لأنّ القائلين بصحّة الطلاق في الحيض لا يصحّحون إجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده ، بل يشترطون بتوسّط الحيض بين الطهرين وإجراء الطلاق في الطهر الثاني. فالأمر من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بإرجاعها وتطليقها في الطهر الأوّل ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة.

٤. اشتهر في كتب التاريخ أنّ عمر كان يعتبر ولده عاجزاً عن الطلاق ، وظاهره يوحي بأنّ ما فعله لم يكن طلاقاً شرعيّاً.

وبعد ملاحظة كل ما قدّمناه يتّضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والذي يبدو أنّ النص ـ على فرض صدوره ـ لم يتضمّن احتساب التطليقة من قبل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وانّما هي إضافات أو توهّمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث ، ولذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة.

بقيت هنا رواية ثالثة لنافع وهي : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي

١٥٠

حائض ، في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن ذلك؟ فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثمّ تطهر ، ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدّة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يطلّق لها النساء.

فالظاهر انّ الرواية من أدلّة القول بالبطلان ، إذ لا تدلّ على صحّة التطليقة الأُولى إلاّ بادّعاء ظهور «الرجوع» في صحّة الطلاق وقد علمت ما فيه.

وأمّا أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسّط الحيض بين الطهرين حيث قال : «مره فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يطلّق لها النساء» وكان بإمكانه أن يطلقها في الطهر الأوّل حسب مختارنا فلعلّ أمره بمضي طهر وحيض ، لأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق وجعله في غير موضعه فأُرغم أن يصبر طهراً وحيضاً ، فإذا استقبل طهراً ثانياً فليطلّق أو يمسك.

وبعد كلّ هذا لا يصحّ الاعتماد على رواية عبد الله بن عمر ، لاضطراب النقل عنه ، خصوصاً مع ملاحظة الكتاب العزيز الدالّ على وقوع الطلاق في العدّة.

الطلاق في طهر المواقعة

قد عرفت أنّ الطلاق في حالة الحيض والنفاس حرام تكليفاً وباطل وضعاً وإن ذهب جمهور الفقهاء إلى الحرمة التكليفية دون الوضعية.

بقي الكلام في طلاق الزوجة في طهر المواقعة ، فهو أيضاً من الطلاق البدعيّ ، حكمه حكم الطلاق في الحيض والنفاس.

١٥١

ويدلّ عليه من طرق أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ صحيحة الفضلاء (١) كلّهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ انّهما قالا : «إذا طلّق الرجل في دم النفاس أو طلّقها بعد ما يمسّها فليس طلاقه إيّاها بطلاق». (٢)

وروى أيضاً عمر بن أُذينة ، عن بكير بن أعين وغيره ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ كلّ ذلك لغير السنّة فليس بطلاق ، أن يطلقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها ، قبل أن تحيض فليس طلاقه بطلاق». (٣)

هذا عند الشيعة الإمامية وأمّا فقهاء السنّة فلهم أقوال ثلاثة :

١. إذا أوقع الزوج الطلاق في طهر جامعها فيه ، كان الطلاق عند الجمهور حراماً شرعاً.

٢. قالت الحنفية : مكروه تحريميّاً ، وهو المسمّى طلاقاً بدعيّاً.

٣. ذهبت المالكية إلى القول بتحريم الطلاق في الحيض أو النفاس ويكره في غيرهما. (٤)

وعلى كلّ تقدير فإنّ الطلاق في هذه الحالة حرام تكليفاً ، أو مكروه عند المالكية ولا يضرّ بصحّة الطلاق ، ويمكن الاستدلال على بطلانه في طهر المواقعة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فلقوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

فإن قلنا بأنّ المراد من قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) هي الأطهار الثلاثة فواضح ، سواء

__________________

(١) المراد : زرارة ومحمد بن مسلم وبكير بن أعين وبُريد وفضيل وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى.

(٢) الوسائل : ١٥ ، الباب ٨ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٥ ، ٩.

(٣) الوسائل : ١٥ ، الباب ٨ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٥ ، ٩.

(٤) الفقه الإسلامي وأدلّته : ٧ / ٤٠٢.

١٥٢

قلنا : إنّ اللام بمعنى «في» فإنّ المراد إيقاع الطلاق في الزمان الذي يصلح للاعتداد ، أو بمعنى الغاية والمراد إيقاع الطلاق لغاية الاعتداد ، وعلى كلا الوجهين يجب أن يترتّب الاعتداد على إيقاع الطلاق بلا تريث ، فلا تعمّ الآية الطلاقَ في طهر المواقعة ، لأنّه لا يصلح للاعتداد ، ظرفاً وغاية في عامّة المذاهب.

وأمّا إن قلنا بأنّ المراد بها ، هي الحيضات الثلاث ، فكذلك ، لما عرفت من أنّ المراد بالآية ، هو إيقاع الطلاق مستقبلاً لعدتهن ، وبما انّ الحيضة التي تقدّمها طهر المواقعة ، لا تحسب من العدة ، فالآية لا تعمّ إيقاعه في مثل ذلك الطهر ، لأنّه ليس من أقسام «مستقبلات عدة».

وأمّا السنّة فيمكن الاستدلال برواية ابن عمر أنّه طلّق امرأة له وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فتغيظ فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ثمّ قال : ليراجعها ، ثمّ يمسكها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلّقها ، فليطلّقها قبل أن يمسها ، فتلك العدّة كما أمر الله تعالى.

وفي لفظ : فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء.

وأمّا كيفية الاستدلال : فلأنّ النبي بصدد بيان كيفية إيقاع الطلاق وشروطه ، فأمر بإيقاعها في الطهر الثاني بشرط أن لا يمسّها ، فلو كان الطلاق في الطهر الذي واقعها صحيحاً ، لما خصّه النبي بالطهر المشروط.

وأمّا عدم تجويز إيقاعه في الطهر الأوّل ، فلأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق ، وجعله في غير موضعه فأُرغم أن يصبر طهراً وحيضاً ، كما مرّ.

١٥٣
١٥٤

٢٠

الوصيّة للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

١٥٥
١٥٦

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط ، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحّة ، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية. (١)

وأمّا في مقدار الثلث فتنفّذ وصيته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي ، ومن غير فرق في الأقرب ، بين الوارث وغيره. وأمّا المذاهب الأربعة فأجازت الوصية للأقرب بشرط أن لا يكون وارثاً ، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصية له سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر ، إلاّ بإجازة الورثة.

قال السيد المرتضى : وممّا ظنّ انفراد الإمامية به ، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة ، وليس للوارث (غير الموصى له) ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء (٢) وإن كان الجمهور والغالب ، على خلافه. (٣)

وقال الشيخ الطوسي : تصحّ الوصية للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف

__________________

(١) المغني : ٦ / ٧٨.

(٢) سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.

(٣) الانتصار : ٣٠٨.

١٥٧

جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : لا وصية للوارث. (١)

وقال الخرقي في متن المغني : «ولا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة ذلك». وقال ابن قدامة في شرحه : إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة ، لم تصح ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ : أجمع أهل العلم على هذا ، وجاءت الأخبار عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بذلك فروى أبو أُمامة قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : «إنّ الله قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث» رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي ، ولأنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحّة وقوّة الملك وإمكان تلافي العدل بينهم بإعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك ، لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم ، ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلّق الحقوق به وتعذّر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى ، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء. (٢)

وحاصل الكلام : انّ فقهاء السنّة يشترطون لنفاذ الوصية أن لا يكون الموصى له وارثاً للموصي عند موت الموصي إذا كان هناك وارث آخر لم يجز الوصية ، فإن أجاز بقية الورثة الوصية للوارث نفذت الوصية ، فتكون الوصية للوارث موقوفة على إجازة بقية الورثة أخذاً بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا تجوز وصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة» ، وقوله : «لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة».

ثمّ إنّ القوم بدل أن يعرضوا المسألة على الكتاب أخذوا بالتفلسف ونحت الحكمة للمسألة كما عرفت في كلام ابن قدامة حيث قال : «لما فيه من ايقاع العداوة والحسد بينهم».

__________________

(١) الخلاف : ٢ كتاب الوصية ١.

(٢) المغني : ٦ / ٨٠٧٩.

١٥٨

وقال بعضهم : لما في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق والنزاع وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة.

لكن هؤلاء غفلوا عن أنّ ما ذكروه من الوجه ليس كلياً ، بل ولا غالبياً ، إذ ربما يكون بعض الورثة أولى ببعض الميراث من غيرهم ، كما إذا كان المورث صاحب كتاب مخطوط أو مطبوع لا يستفيد منه إلاّ الوارث الطالب دون الآخرين المشتغلين بالتجارة ، فهل الإيصاء عندئذ يوجب البغضاء؟

وربما يكون الموصى له عاجزاً مقعداً مستحقاً للإيصاء فهل يثير الإيصاء في المقام البغضاء والحسد ، ولأجل ذلك نرى أنّ قانون الوصية في مصر أخذ برأي الشيعة الإمامية في سنة ١٩٤٦ م ، فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة ، نعم التزم القانون السوري برأي الجمهور وهي انّ الوصية لا تنفذ إلاّ إذا أجازها الورثة.

ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث ، إلاّ إذا أجاز الورثة ، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلاّ أن يعطوه عطية مبتدأة (١) ـ ومع هذا التصريح ـ ينقل الشيخ محمد جواد مغنية : ما زال عمل المحاكم الشرعية السنّية في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث ، ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه. (٢)

يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة : أنّها لا تقاوم الذكر الحكيم ، واتّفاق أئمّة أهل البيت ، ولو صحّت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) الفقه على المذاهب الخمسة : ٤٦٥.

١٥٩

الحياة في البر والإحسان ، لأنّ ذلك يدعو إلى الحسد والبغضاء مع أنّه لا خلاف في جوازه ، وما نقل عن النبي من النهي ، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة. وسيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة.

والأوْلى عرض المسألة على الكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).(١)

المراد من حضور الموت : ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره ، ولم يرد إذا عاين ملك الموت ، لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة ، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له ، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف ، كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف ، فانّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر ، ولا حيف فيه ولا جور.

والآية صريحة في الوصية للوالدين ، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه ، وقد خصّهما بالذكر لأولويّتهما بالوصية ثم عمّم الموضوع وقال : (وَالْأَقْرَبِينَ) ليعمّ كل قريب ، وارثاً كان أم لا.

وهذا صريح الكتاب ولا يصح رفع اليد عنه إلاّ بدليل قاطع مثله ، وقد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين :

١. آية الوصية منسوخة بآية المواريث

قالوا : إنّها منسوخة بآية المواريث ، فعن ابن عباس والحسن : نسخت

__________________

(١) البقرة : ١٨٠.

١٦٠