الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-062-2
الصفحات: ٦٢٨

نعم بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور فنّد هذا النوع من الطلاق ، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية. كما أنّ عدداً من مفتي أهل السنّة عمِد إلى تفنيد هذا النوع من الطلاق ، في هذا الإطار يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم ، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (١)

٤. تغيّر الأحكام بالمصالح

ولابن قيم الجوزية كلام مسهب في تحليل إمضاء عمر الطلاق ثلاثاً ، وهو يعتمد على تغيّر الأحكام بالمصالح ، ويخلط الصحيح بالسقيم ، وإليك ملخّص كلامه :

قال : الأحكام نوعان :

نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمّة ، كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم.

والنوع الثاني : ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ـ ثمّ أتى بأمثلة كثيرة في باب التعزيرات ـ وقال : ومن ذلك أنّه رضى الله عنه ـ يريد عمر بن الخطاب ـ لمّا رأى الناس قد

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ٣٨٦ ، الطبعة الثالثة ـ ١٣٧٦ ه‍.

١٠١

أكثروا في الطلاق ، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلاّ بعقوبة ، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها ، وذلك :

إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس.

وإمّا ظنّاً أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال.

وإمّا لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة.

ـ إلى أن قال : ـ فلمّا رأى أمير المؤمنين أنّ الله سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً ، بأن حال بينه وبين زوجه وحرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم ، وبغضه له ، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. وقال :

فإن قيل : كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.

قيل : نعم ، لعمر الله كان يمكنه ذلك ، ولذا ندم في آخر أيامه وودَّ أنّه كان فعله ، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر : أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا صالح بن مالك ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب : ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث : أن لا أكون حرّمت الطلاق ، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي ، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.

وليس مراده من الطلاق الذي حرّمه ، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه الله تعالى وعلم من دين رسول الله جوازه ، ولا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه ، ولا الطلاق قبل الدخول ، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث ـ إلى أن قال : ـ ورأى عمر أنّ المفسدة تندفع

١٠٢

بإلزامهم به فلمّا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلاّ شدّة ، أخبر أنّ الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها ، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأبي بكر وأوّل خلافة عمر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من تقسيم الأحكام إلى نوعين ، صحيح. ولكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني ، فأيّ فرق بين حكم الواجبات والمحرّمات وقوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وكيف يتغيّر حكم وصفَ رسول الله خلافه لعباً بالدين؟

وأمّا ما ذكره من الاحتمالات الثلاثة ، فالاحتمال الأوّل هو المتعيّن وهو الموافق لكلام الخليفة نفسه ، وأمّا الاحتمالان الأخيران ـ أي جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال ، أو قام مانع عن إمضائه ـ فلا يعتمد عليهما ، ويبدو أن الدافع إلى تصوّر هذين الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة وتبرير عمل الخليفة بأي نحو كان.

٥. تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان

إنّ الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان وتبدّل الظروف ، عبارة عن الأحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح ، وتركت خصوصياتها وأشكالها إلى رأي الحاكم الإسلامي ، فهذا النوع من الأحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره وشكله وكيفيته ، ولم يترك للحاكم الإسلامي أيّ تدخّل فيه ، والأحكام

__________________

(١) إعلام الموقعين : ٣ / ٣٦ ، وأشار إليه أيضاً في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» : ١ / ٣٣٦.

١٠٣

الواردة في الأحوال الشخصية من هذا القبيل ، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب والمصاهرة والرضاع والعدد ، فليس له أن يحرّم ما أحلّ الله عقوبة للخاطئ وبالعكس ، وإنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم وغيره.

وأمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الأحكام التي تركت خصوصياتها وأشكالها إلى الحاكم ، ليصون مصالح الإسلام والمسلمين ، بما تقتضيه الظروف السائدة ، وإليك نزراً يسيراً منها ، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر :

١. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة ، السلام والمهادنة والصلح مع العدو ، وأُخرى تقتضي ضد ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصّة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ، ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه :

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). (١)

وقوله سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (٢)

٢. العلاقات الدولية التجارية : فقد تقتضي المصلحة عقد اتّفاقيات

__________________

(١) النساء : ١٤١.

(٢) الممتحنة : ٩٨.

١٠٤

اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسّسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له ، الفقيه المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتّفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانجلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الأُمّة المسلمة الإيرانية ، لأنّها خوّلت لانجلترا حقّ احتكار التنباك الإيراني.

٣. الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلال البلاد وصيانة حدودها من الأعداء ، قانون ثابت لا يتغيّر ، فالمقصد الأسنى لمشرّع الإسلام ، إنّما هو صيانة السيادة من خطر الأعداء وأضرارهم ، ولأجل ذلك أوجب تحصيل قوة ضاربة ، وإعداد جيش عارم جرّار ، ضدّ الأعداء كما يقول سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (١) ، فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة ، أمّا كيفيّة الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغيّر بتغيّره ، ولكن في إطار القوانين العامة ، فليس هناك في الإسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد الإجباري ، الذي أصبح من الأُمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص ، لأحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ، ونقل أحاديث في ذلك الباب عن الرسول الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأئمّة الإسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت نوعاً من أنواع التطبيق لذلك الحكم ، الغرض منه تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور ، وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبّق في العصر الحاضر ، فإنّها

__________________

(١) الأنفال : ٦٠.

١٠٥

تخضع تفرضها لمقتضيات العصر نفسه. (١)

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ، ويصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والأُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.

٤. نشر العلم والثقافة واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي ، واللّجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة : فقد ألزم الإسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الإنسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أيّ لون من الأُميّة ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم

__________________

(١) قال المحقق في «الشرائع» : ١٥٢ : وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة.

وقال الشهيد الثاني : في «المسالك» في شرح عبارة المحقّق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء الله تعالى. الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما.

فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال والتدرّب للجهاد ، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وغيره أخذاً بالملاك المتيقّن.

١٠٦

بحوائج عصره.

فربّ علم ، لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في طليعة العلوم اللازمة ، التي فيها صلاح المجتمع ، كالاقتصاد والسياسة.

٥. حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الأُمور الداخلية ورفع المستوى الاقتصادي و... من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله ، مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الإسلام ، هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.

٦. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال ، وهو قوله سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، وقد فرع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ، ومن هنا حرّموا بيع (الدم) وشراءه.

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم وشرائه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام ، بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل ، وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له ، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

١٠٧

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً ـ عليه‌السلام ـ سئل عن قول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذلك والدين قُلٌّ ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامْرؤٌ وما اختار». (١)

هذا ولمّا كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثاً ، مثيراً للفساد ، عبر التاريخ ، قام ابن قيم ـ مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر ـ ببيان ما ترتّب عليه من شماتة أعداء الدين به ، وها نحن ننقل نصّ كلامه :

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع

إنّ ابن القيم ـ كما عرفت ـ كان من المدافعين المتحمّسين عن فتيا الخليفة ، وقد برّر حكمه بأنّ المصلحة يوم ذاك كانت تقتضي الأخذ بما التزم به المطلّق على نفسه ، وقد عرفت ضآلة دفاعه ووهن كلامه ، ولكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة ، وأنّ تصحيح التطليق الثلاث ، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا وبيئاتنا ، وصار سبباً لاستهزاء الأعداء ، بالدين وأهله ، وأنّه يجب في زماننا هذا الأخذ بمُرّ الكتاب والسنّة ، وهو أنّه لا يقع منه إلاّ واحد.

ولكنّه غفل عمّا هو الحق في المقام وأنّ المصلحة في جميع الأزمنة كانت على وتيرة واحدة ، وأنّ ما حدّه سبحانه من الحدود ، هو المطابق لمصالح العباد ومصائرهم ، وأنّ الشناعة والاستهزاء اللَّتين يذكرهما ابن قيم الجوزية إنّما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيَع والاجتهاد تجاه النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول ومن دون أن يكون هناك حرج أو كلفة ، ولأجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكمة رقم ١٦. لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن : ٣ / ٢٦٥ ـ ٢٧٥.

١٠٨

لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالأحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة ، وإليك نصّ كلامه :

هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الأزمنة وأمّا في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحلّلون ممّا هو رمد بل عمى في عين الدين ، وشجىً في حلوق المؤمنين ، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها ، وتمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلّهم من أقبح القبائح ويعدّونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيّرت منه اسمه ، وضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل ، وقد زعم أنّه قد طيّبها للحليل ، فيا لله العجب! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون؟! وأيّ مصلحة حصلت لها ولمطلِّقها بهذا الفعل الدون؟!

أترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب ، والتيس الملعون قد حلّ أزرارها وكشف النقاب ، وأخذ في ذلك المرتع ، والزوج أو الولي يناديه : لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع ، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ، وربّ العالمين ، أنّك لست معدوداً من الأزواج ، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضاً ولا فرح ولا ابتهاج ، وإنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب ، الذي لو لا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب ، فالناس يُظهرون النكاح ويُعلنونه فرحاً وسروراً ، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ، ونجعله أمراً مستوراً بلا نثار ولا دف ، ولا خوان ولا اعلان ، بل التواصي بهس ومس والاخفاء والكتمان ، فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها.

والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك ، فانّه لا يُمسك بعصمتها ، بل

١٠٩

قد دخل على زوالها ، والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكناً لصاحبه ، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم ، وتتم بذلك المصلحة التي شرّعه لأجلها العزيز الحكيم.

فسل التيس المستعار : هل له من ذلك نصيب ، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟! وسله : هل اتّخذ هذه المصابة حليلة وفراشاً يأوى إليه؟ هل رضيت به قط زوجاً وبعلاً تعول في نوائبها عليه؟! وسل أُولي التمييز والعقول : هل تزوّجت فلانة بفلان؟! وهل يعد هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ رجلاً من أُمّته نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً ، ولم يرتكب في عقده محرماً ولا قبيحاً؟! وكيف يشبهه بالتيس المستعار ، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟! وكيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران ، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟! وسل التيس المستعار : هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق ، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟! وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك ، أو حدّثت نفسها به هنالك؟! وهل طلب منها ولداً نجيباً واتّخذته عشيراً وحبيباً؟!

وسل عقول العالمين وفطرهم : هل كان خير هذه الأُمّة أكثرهم تحليلاً ، وكان المحلّل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به : هل تجمّل أحد منهما لصاحبه كما يتجمّل الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال؟ وسل المرأة : هل تكره أن يتزوّج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى ، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى ، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته؟! وسل التيس المستعار : هل سأل قط عمّا يسأله عنه مَن قصد حقيقة النكاح ، أو يتوسل إلى بيت أحمائه

١١٠

بالهدية والحمولة ، والنقد الذي يتوسّل به خاطب الملاح؟ وسله : هل هو «أبو يأخذ» أو «أبو يعطي»؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد : خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟

وسله عن وليمة عرسه ، هل أولم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه وأتاه؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون ، أم جاءه ـ كما جرت به عادة الناس ـ الأصحاب والمهنئون؟ وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية ، أم لعن الله المحلِّل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ (١)

يلاحظ عليه : أنّ العار الذي ـ على زعمه ـ دخل الإسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً ، وأنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً ، وأمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانينه المشرقة ، وأرسخها وأتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الإسلام أبداً ، وذلك :

أوّلاً : أنّه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الذي لا يتحمّله أكثر الرجال.

وثانياً : أنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد ، لأنّ التجارب المتكرّرة ، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الأخلاق والروحيات فلا يُقدِم على الطلاق إلاّ إذا كان آيساً من الزواج المجدّد وقلّما يتّفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً ـ

__________________

(١) اعلام الموقّعين : ٣ / ٤٣٤١. ولاحظ إغاثة اللهفان له أيضاً : ١ / ٣١٢.

١١١

فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلّل جداً ، وهذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد ، ثلاثاً ، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق ويريد إعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق ـ وهو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الذي يلصق العار بهما ويترتّب عليه ما ذكره ابن قيم الجوزية في كلامه المسهب.

وفي كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الأجير للتحليل ، ويتزوّج لتلك الغاية ، وهو تصوير خاطئ جداً ، بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوّج لأجلها سائر النساء ، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق ، وأين ذلك ممّا جاء في كلامه؟!

١١٢

١٧

الطلاق المعلّق

١١٣
١١٤

الطلاق المعلّق

ينقسم الطلاق إلى منجَّز ومعلّق ، والأوّل هو الطلاق الخالي في صيغته عن التعليق ، والثاني على خلافه فيكون مضمون صيغة الطلاق ، مقروناً بحصول أمر آخر ، سواء أكان ذلك الأمر ، فعلَ المطلِّق أو فعلَ المطلَّقة أو غيرهما. إذا عرفت ذلك فنقول :

هل يشترط في صحّة الطلاق ، التنجيز ، أو يصحّ مع التعليق أيضاً ، كما إذا قال : أنت طالق إن طلعت الشمس ، أو أنت طالق إن قدم الحاج؟

والجواب : إنّ الطلاق المعلّق على قسمين :

١. قسم يعلّق على غير وجه اليمين وهذا كما في المثالين السابقين ، ومثلهما ما إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق.

٢. قسم يعلّق على وجه اليمين وهو الذي يُقصد به الحثّ أو المنع ، كما إذا قال : إن كلّمتِ فلاناً فأنت طالق ، أو إن ذهبت إلى دار عدوي فأنت طالق ، وربّما يكون المقصود حمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف فيقول مثلاً عند نقطة التفتيش : «ليس في حقيبتي ما هو ممنوع ولو كان فزوجتي طالق».

ونركز على البحث في القسم الأوّل ونحيل البحث في القسم الثاني ، إلى المسألة الآتية.

١١٥

فنقول : إنّ للشروط تقسيمات :

١. ما تتوقّف عليه صحّة الطلاق ككونها زوجة ـ ويقول : إن كنت زوجتي فأنت طالق ـ وما لا تتوقف عليه كقدوم الحاج.

٢. ما يعلم المطلق بوجوده عند الطلاق ، كتعليقه بكون هذا اليوم يوم الجمعة ، وأُخرى ما يشكّ في وجوده.

٣. ما يذكر في الصيغة تبركاً ، لا شرطاً وتعليقاً كمشيئته سبحانه ، كما إذا قال : إن شاء الله فأنت طالق.

ومورد البحث هو القسم الثاني ، أمّا الأوّل فالطلاق معلّق على مثل هذا الشرط لبّاً ، سواء تكلم به أو لا ، وأمّا الثالث فانّما يذكر تبركاً ، لا اشتراطاً ، وهو كثير الدوران على لسان المسلمين.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ بطلان الطلاق المعلّق من متفردات الفقه الإمامي ، وإليك بعض كلمات فقهائنا :

١. قال السيد المرتضى : ممّا انفردت الإمامية به القول بأنّ الطلاق لا يقع مشروطاً وإن وجد شرطه ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوقعوا الطلاق عند وقوع شرطه الذي علّقه المتلفظ. (١)

٢. قال الشيخ في «الخلاف» : إذا قال لها أنت طالق ، إذا قدم فلان ، فقدم فلان لا يقع طلاقه ، وكذلك لو علّقه بشرط من الشروط أو بصفة من الصفات المستقبلة فانّه لا يقع أصلاً ، لا في الحال ولا في المستقبل حين حصول الشرط والصفة وقال جميع الفقهاء : انّه يقع إذا حصل الشرط. (٢)

__________________

(١) الانتصار ، كتاب الطلاق ، المسألة ١٦.

(٢) الخلاف : الجزء ٤ ، كتاب الطلاق ، المسألة ١٢.

١١٦

وبما انّ المسألة عندنا موضع وفاق نقتصر على هذا المقدار ، وقد وافقَنا فيها الظاهريّة ، قال ابن حزم ـ الذي يُمثِّل فقهُه ، فقه الظاهريين ـ : إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو ذكر وقتاً ما ، فلا تكون طالقاً بذلك لا الآن ولا إذا جاء رأس الشهر. برهان ذلك : انّه لم يأت قرآن ولا سنّة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علّمنا الله الطلاق على المدخول بها وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علّمنا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (١)

وقال السبكي : قد أجمعت الأُمّة على وقوع المعلّق كوقوع المنجّز ، فإنّ الطلاق ممّا يقبل التعليق ، ولا يظهر الخلاف في ذلك إلاّ عن طوائف من الروافض ، ولما حدث مذهب الظاهريّين المخالفين لإجماع الأُمّة المنكرين للقياس خالفوا ذلك ـ إلى أن قال ـ : ولكنّهم قد سبقهم الإجماع. (٢)

أدلّة القائل بالبطلان

الأوّل : الطلاق المشروط غير مسنون

إنّ تعليق الطلاق بالشرط غير مسنون ، والمشروع في كيفية الطلاق غيره ، فيجب أن لا تتعلّق به حكم الفرقة ، لأنّ الفرقة حكم شرعي ، والشرع هو الطريق إليه ، وإذا انتفى الدليل الشرعي ، انتفى الحكم الشرعي.

الثاني : مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية

ثبوت الزوجية متيقّن ، فلا ينتقل عنه إلى التحريم إلاّ بيقين ولا يقين في

__________________

(١) المحلّى : ١٠ / ٢١٣ ، المسألة ١٩٧٠.

(٢) الدرة المضيئة : ١٥٥ ـ ١٥٦.

١١٧

الطلاق المشروط. (١)

وإلى الأخير أشار الشيخ الطوسي أيضاً في خلافه فقال : الأصل بقاء العقد ، وإيقاع هذا الضرب من الطلاق يحتاج إلى دليل ، والشرع خال من ذلك. (٢)

وإلى الوجه الأوّل يشير ابن حزم فيقول : وبرهان عدم الصحة انّه لم يأت قرآن ولا سنّة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علّمنا الله الطلاق على المدخول بها ، وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علمنا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (٣)

وتوضيح الوجه الأوّل : أنّ الطلاق ليس كالبيع والإجارة ، حيث إنّ الأخيرين من الأُمور العقلائية ، التي عليها رحى معاشهم وحياتهم فيُتّبع ما عليه العقلاء في ذينك الأمرين إلاّ إذا دلّ الدليل على اعتبار شيء زائد ، وهذا بخلاف الطلاق فهو وإن كان أمراً عرفياً ، لوجود الطلاق بين الناس قبل بزوغ شمس الإسلام لكن الإسلام تصرف فيه كثيراً ، وحدّ له حدوداً ، يظهر ذلك من مطالعة الآيات الواردة في سورة البقرة ، الآيات ٢٢٦ ـ ٢٣٢ ، والآية ٢٣٧ والآية ٢٤١ ، والآية ٤٩ من سورة الأحزاب ، والآية ٣١ من سورة الطلاق ، كلّ ذلك أضفى على الطلاق حقيقة وماهية ، تختلف مع تلك التي بين العقلاء ، فلا يتمسّك بما في يد العقلاء لتجويز ما شكّ ، بل يجب أن يرجع إلى الشرع ، فان تبيّن حكم الطلاق المعلّق فيُتبع ، وإلاّ فالحكم هو الاحتياط.

يقول الفقيه الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية ـ رضوان الله عليه ـ : إنّ الإمامية يضيّقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود ، ويفرضون القيود الصارمة على المطلِّق والمطلَّقة ، وصيغة الطلاق وشهود ، كلّ ذلك لأنّ الزواج عصمة ومودة ورحمة

__________________

(١) الانتصار : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) الخلاف : ٤ / ٤٥٨.

(٣) المحلّى : ١٠ / ٢١٣ ، المسألة ١٩٧٠.

١١٨

وميثاق من الله ، قال الله تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). (٢) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة ، وهذا العهد والميثاق ، إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكلّ شك ، بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ، ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه. (٣)

هذا كلّه حول الدليل الأوّل ، وأمّا الثاني أي التمسّك بالاستصحاب وبقاء العقد ، فكأنّه مكمّل له ، فإذا شككنا في بقاء العقد ونقضه ، فالاستصحاب هو المحكم ، إلاّ إذا دلّ الدليل على نقض الحالة السابقة.

الثالث : الطلاق المعلّق خارج عن القسمين

دلّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٤) على أنّ الطلاق يجب أن يتمتع بأحد الأمرين : إمساك بمعروف بالرجوع إليها ، أو تسريح بإحسان بتركها على حالها حتى تنقضي عدّتها ، والطلاق بالأجل والشرط ، خارج عن كلا القسمين ، فلو قال في أوّل السنة : أنت طالق في نهاية السنة ، أو أنت طالق عند رجوع الحجاج ، فالمرأة لا مأخوذة ولا متروكة حتّى تنقضي عدّتها ، لاحتمال عدم حصول المعلّق ، فتبقى في الزوجية.

الرابع : المطلّقة أشبه بالمعلّقة

إنّ عناية الإسلام بنظام الأُسرة الذي أُسّه النكاح والطلاق ، تقتضي أن يكون

__________________

(١) النساء : ٢١.

(٢) الروم : ٢١.

(٣) الفقه على المذاهب الخمسة : ٤١٤.

(٤) البقرة : ٢٢٩.

١١٩

الأمر فيها منجّزاً لا معلّقاً ، فإنّ التعليق ينتهي إلى ما لا تحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح والطلاق ، فالمرء إمّا إن يقدم على النكاح والطلاق أو لا ، فعلى الأوّل ينكح أو يطلّق بتاتاً ، وعلى الثاني يسكت حتّى يحدث بعد ذلك أمراً ، والتعليق في النكاح والطلاق لا يناسب ذلك الأمر الهامّ ، فقد قال سبحانه : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). (١)

والله سبحانه يشبّه المرأة التي يترك الزوج أداء حقّها الواجب عليه ، بالمعلّقة التي هي لا ذات زوج ولا أيّم ، فالمنكوحة معلّقاً ، أو المطلّقة كذلك ، أشبه شيء بالمعلّقة الواردة في الآية ، فهي لا ذات زوج ولا أيّم.

الخامس : إجماع أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ

يظهر من مجموع الروايات الواردة في هذه المسألة وما يتلوها ، إجماع أئمّة أهل البيت على بطلان الطلاق المعلّق.

روى بكير بن أعين عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ أنّه قال : «ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها ـ وهي طاهر من غير جماع ـ : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى». (٢)

وأيّ تعبير أوضح من قوله : «وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى» مع شيوع الطلاق المعلق خصوصاً قسم الحلف في أعصارهم.

فإذا أضيف إلى ذلك ما روي عنهم ـ عليهم‌السلام ـ في بطلان الحلف بالطلاق ،

__________________

(١) النساء : ١٢٩.

(٢) وسائل الشيعة : ١٥ ، الباب ١٦ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، الحديث ١.

١٢٠