مطارحات في الفكر والعقيدة

مطارحات في الفكر والعقيدة

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-046-3
الصفحات: ١٦٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

جواب الحجة الثانية :

وأمّا عن حجتهم الثانية ، وهي ـ كما عرفت ـ التمسك بعناوين الأبواب فنقول في جوابها : إنّها ينبغي أن تكون تلك الحجة للكليني بعد عكسها لا عليه.

ولتوضيح ذلك نقول : إنّه عنون قدس سره في الكافي باباً بعنوان ( الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب ) وقد أودع فيه جملة من الروايات نذكر منها :

١ ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ على كل حقٍّ حقيقةً ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (١).

وواضح أنّ المراد من الترك لما خالف الكتاب هو ترك العمل به بعد ثبوت كون المخالفة على نحو اليقين وليس المخالفة المشكوك فيها والتي يمكن معالجتها.

٢ ـ وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « كل شيء مردود إلى الكتاب والسُنّة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » (٢).

٣ ـ وعنه عليه‌السلام قال : « خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى ، فقال : أيّها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » (٣).

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ٥٥ / ١.

(٢) اُصول الكافي ١ : ٥٥ / ٣.

(٣) اُصول الكافي ١ : ٥٦ / ٥.

١٢١

وإذا كانت مذاهب العلماء تعرف من خِلال أبوابهم كما يدعي هؤلاء ، فَلِمَ لا يكون مذهب الكليني هو رد كل حديث لا يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحكم عليه بأنه من زخرف القول ، وأنّه لم يقله نبيٌّ ولا وصيٌّ ؟

ومن ثم فإن الباب الذي عقده الكليني في اُصول الكافي بعنوان : « إنّه لم يجمع القرآن كله إلاّ الأئمة عليهم‌السلام وإنّهم يعلمون علمه كله » لا دلالة في العنوان على وجود نقص في آيات القرآن الكريم الموجود عندنا ولا زيادة فيها في ما جمعه الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا ما أوضحه الكليني نفسه في أحاديث الباب المذكور ، وربما قد لا يتفطن لذلك إلاّ النابه الذكي.

فقد جاء في الحديث الأول من الباب المذكور بسند صحيح عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « ما ادّعى أحدٌ من النّاس أنّه جمع القرآن كله كما اُنزِل إلاّ كذابٌ ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والأئمة من بعده عليهم‌السلام » (١).

وفهم هذا الحديث على حقيقته لا يتم إلاّ ببيان جهتين :

الاُولى : إثبات أنّ للإمام عليٍّ عليه‌السلام مصحفاً.

والاُخرى : بيان ماهية هذا المصحف. فنقول :

أمّا إثبات أنّ للإمام عليٍّ عليه‌السلام مصحفاً ، فهذا ما صرّح به أعلام العامّة أنفسهم ، فقد أخرج السجستاني بسنده عن ابن سيرين قال : « لما توفي النبي صلّى الله عليه ( وآله ) وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء الا لِجُمْعَةٍ

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١٧٨ / ١.

١٢٢

حتى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل » (١).

وقد صَرّح بهذا ابن النديم (٢) ، كما ذُكر في اتقان السيوطي ، وسنن أبي داود ، وحلية الأولياء لأبي نعيم ، والأربعين للخطيب البغدادي وغيرها فيما تتبعه السيد حسن الصدر (٣).

إذن ، هناك من وافق الكليني من العامّة بأنّ للإمام عليٍّ عليه‌السلام مصحفاً جمع فيه آيات القرآن الكريم ، ولم يسبقه أحدٌ من الصحابة إلى ذلك كما هو صريح رواية ابن سيرين.

وأمّا عن طبيعة هذا المصحف الشريف وماهيّته ، فإنَّ ذلك يُعرف من تدبّر رواية الكافي المتقدمة ، فإنَّ عبارة ( كما اُنْزِل ) و ( كما نَزَّله الله تعالى ) فيهما إشارة واضحة إلى أنّ طريقة الجمع كانت على ترتيب نزول الآيات ، وليس على الترتيب المتعارف اليوم من وجود بعض السور المدنية التي تحتوي على آيات مكية ، وبالعكس.

ولتوضيح ذلك نضرب المثال التالي ، فنقول :

إنّ آية التطهير وهي قوله تعالى : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ) (٤) لا يوجد نصٌ واحد في جميع كتب الحديث والتفسير قط يشير إلى نزولها مع آية اُخرى ، بل جميع النصوص المرويّة في المقام لدى الفريقين تصرح بنزولها مستقلة ، ومن كان له أدنى

__________________

(١) المصاحف : ١٦.

(٢) فهرست ابن النديم : ٤١.

(٣) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ، للسيد حسن الصدر : ٣١٦.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

١٢٣

حظٍّ في متابعة كتب الحديث والتفسير يسلّم بهذه الحقيقة. وهي إمّا أنْ تكون نزلت في بيت أم سلمة وهو الارجح لكثرة الروايات في ذلك ، وإما في بيت عائشة ، كما هو صريح الروايات الخاصة بحديث الكساء ، إذْ فيها تصريح كل منهما : ( نزلت هذه الآية في بيتي ) ثم تقرأ الآية ، ولكنك ـ على الرغم من كثرة الروايات البالغة درجة التواتر والتي تصرح بهذه الحقيقة (١) تجد أنّ الآية في سورة الأحزاب قد اتّصلت بكلام من الذكر الحكيم ، فكانت جزءَ آيةٍ لا آية ، حتى صار الجزآن آية واحدة ، وهي : ( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّةِ الأولى وَأقِمْنَ الصَّلاةَ وَءَآتِينَ الزَّكاةَ وَأطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجَس أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيراً ) ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة ( وَاذْكُرْنَ ما يُتلَى فِي

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٢ : ٥ ـ ٧. والجامع لاحكام القرآن ١٤ : ١٨٢. وتفسير ابن كثير ٣ : ٤٩٢. والبحر المحيط ٧ : ٢٢٨. والدر المنثور ٣ : ٦٠٣ ـ ٦٠٤. وفتح القدير ٤ : ٢٧٩. ومسند أحمد ٦ : ٩٢. وسنن الترمذي ٥ : ٣٥١ / ٣٢٠٥ و ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٧ و ٥ : ٦٩٩ / ٣٨٧١. وصحيح مسلم ٤ : ١٨٧٤ / ٣٧. والمعجم الكبير للطبراني ٣ : ٤٦ / ٢٦٦٢ ، و ٣ : ٤٧ / ٣٦٦٦. و ٣ : ٤٩ / ٢٦٦٨ ، و ٢٣ : ٢٨١ / ٦١٢ ، و ٢٣ : ٣٣٣ / ٧٦٨ ، و ٢٣ : ٣٣٤ / ٧٧٣ ، و ٢٣ : ٣٣٦ / ٧٧٩ ، و ٢٣ : ٣٩٦ / ٩٤٧. ومشكل الآثار ١ : ٣٣٣. ومستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦. ومصابيح السُنّة ٢ : ٢٧٧. وجامع الاُصول ١٠ : ١٠٠. ومجمع الزوائد ٩ : ١٦٧. وكنز العمال ١٣ : ١٦٣ / ٣٦٤٩٦. وترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام في تاريخ دمشق ـ بتحقيق المحمودي ـ : ٦١ ـ ٧٧ الأحاديث من (٧٧) إلى ( ١١١ ). وتاريخ بغداد ١٠ : ٢٧٨ / ٥٣٩٦ في ترجمة عبدالرحمن بن عليّ المروزي.

ويعلم من جميع هذه المصادر العاميّة أنّ آية التطهير آية مستقلة. وأمّا مصادر الشيعة فقد اتفقت على ذلك أيضاً. اُنظر : تفسير فرات الكوفي : ١٢١. وتفسير الحبري : ٢٩٧ ـ ٣١١. وتفسير التبيان ٨ : ٣٣٩. ومجمع البيان ٨ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣. واُصول الكافي ١ : ١٨٧ / ١. واكمال الدين ١ : ٢٧٨ / ٢٥ باب ٢٤. وسعد السعود : ١٠٦. والعمدة : ١٩. ونهج الحق ١ : ٨٨. والصراط المستقيم ١ : ١٨٧. وغاية المرام : ٢٥٩. والميزان ١٦ : ٣١١.

١٢٤

بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللهِ وَالحِكمَةِ إنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) (١).

ويلاحظ هنا اُمور عدّة ، نكتفي بذكر واحدٍ منها ، وهو :

إنَّ صدر الآية الاُولى ـ وهي الثالثة والثلاثون من سورة الأحزاب ـ يختلف عن ذيلها اختلافاً كليّاً ، فلسان الصدر لسان الانذار والتهديد والوعيد ، ولسان الذيل لسان المدح والثناء والتعظيم.

فلو رفع الذيل ووصلت الآية الرابعة والثلاثون بصدر الثالثة والثلاثين لما حصل أدنى اختلاف في النظم البياني ، ولا البلاغي ، ولا الإيقاعي ، ولا النغمي المعهود في فواصل الآيات ، ولجاء المعنى تامّاً خالياً من أدنى ملاحظة يمكن أن تترتب على رفع ذيل الثالثة والثلاثين. وهذا يدل على أنّ آية التطهير لم تكن في أصل النزول جزء آية بل آية تامة وإنّ وضعها في هذا المكان من سورة الاحزاب إمّا أنْ يكون بتوقيفٍ من النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بتصويب من جامعي القرآن الكريم بعده.

ونظير هذا بالضبط قوله تعالى ( اليَوْمَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) (٢) فقد اتفق الطرفان على نزول هذه الآية الكريمة في غدير خمٍّ بعد إتمام البيعة لأمير المؤمنين عليه‌السلام بروايات كثيرة لا مجال لدفعها بحال من الأحوال (٣). بينما نجد هذا القول

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) المائدة ٥ : ٣.

(٣) نسب الخوارزمي الحنفي في كتابه مقتل الإمام الحسين ٧ ١ : ٤٨ رواية نزول هذه الآية الكريمة ـ بعد البيعة للإمام عليٍّ عليه‌السلام مباشرة ـ إلى عدد من الصحابة ، وقال ما هذا نصه : « روى هذا الحديث ـ أي الحديث الخاص بنزول الآية بعد البيعة في غدير خم كما نقله الخوارزمي

١٢٥

الكريم هو جزء من آية من سورة المائدة ، على أنّ الجزء المتقدم عليه والذي بعده هو في بيان أحكام اللحوم.

فلو اتّصل الجزءان معاً ، ورفع ما يخص إتمام الدين ، لكان المعنى تامّاً ، والنظم سالماً من أدنى ملاحظة تقال.

أمّا ما هو السرّ في جعل تلك الآيات أجزاء آياتٍ اُخرى ؟ فيمكن توضيحهُ فيما يأتي ، فنقول :

لا يخفى على أحد له حظ من العلم ، أنّ قوله تعالى : ( إنَّمَا وَلِيُكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والذَّيِنَ آمَنُوا الذَّيِنَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ ) (١). قد نزل في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالاتفاق على أثر التصدّق بخاتمه عليه‌السلام ، وهو راكع لله عزّ وجل (٢).

__________________

نفسه قبل هذا الكلام مباشرة ـ من الصحابة : عمر ، وعليّ ، والبرّاء بن عازب ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيدالله ، والحسين بن عليّ ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر ، وأبو أيّوب ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، وبريدة بن الحصيب ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبدالله ، وأبو رافع مولى رسول الله واسمه : اسلم ، وحبشي بن جنادة ، وزيد بن شراحيل ، وجرير بن عبدالله ، وأنس ، وحذيفة بن أُسيد الغفاري ، وزيد بن أرقم ، وعبدالرحمن ابن يعمر الدؤلي ، وعمرو بن الحمق ، وعامر بن شرحبيل ، وناجية بن عمر ، وجابر بن سمره ، ومالك بن الحويرث ، وأبو ذويب الشاعر ، وعبدالله بن ربيعة ».

(١) المائدة ٥ : ٥٥.

(٢) من طريف ما يذكر عن بعض المفسرين أن أحد المنافقين المتسترين على نفاقهم من الصحابه قد تصدق على أثر نزول هذه الآية بأربعين خاتماً وكلها في اثناء الصلوات أملاً على أن ينزل بحقّه ما نزل بحق الإمام عليّ عليه‌السلام ، قيل ـ والعهدة على الراوي القائل ـ فنزلت بحقه : ( لا صدق ولا صلى ) !!

وفي ( دفاع عن الكافي ) ، للسيد ثامر العميدي ١ : ١٠٢ ـ ١١٢ ، تفصيل أسماء علماء العامّة من المحدثين والمفسرين الذين صرحوا بنزول الآية في الإمام عليٍّ عليه‌السلام.

١٢٦

والسؤال : لماذا لم يذكر الله عز وجل أمير المؤمنين عليه‌السلام باسمه الشريف في هذه الآية ، بينما عبّر عنه بصورة الجمع ، مما كان ذلك مدعاة لحثالة من النواصب أن يصرفوها عن الإمام عليّ عليه‌السلام ما استطاعوا ؟!

والجواب على الاِيجاز والاختصار ـ وهو للسيد شرف الدين في مراجعاته الخالدة ـ : إنّ الجمع هنا يفيد التعظيم حيث يستوجب ، ونكتة ألطف وأدق وهي إنّما جاء التعبير بالجمع مع إرادة المفرد بقياً منه تعالى على كثير من النّاس الذين لا يطيقون سماعها بصيغة المفرد ، فالحكمة اقتضت مراعاة هؤلاء ؛ لكي لا يصدر منهم ما تخشى عواقبه من التضليل والتمويه.

ولا يبعد أنْ تكون آية التطهير وآية إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب سبحانه ، قد وضعت على ما هي عليه اليوم لنفس تلك الحكمة ، هذا مع القول بالترتيب التوقيفي الذي لم يثبت تواتره ، وأما مع القول الآخر ، فإنَّ ذا الحجى يدرك غايته.

وإذا ما عرفت هذا ، فاعلم أنّ المراد برواية الكافي هو جمع القرآن الكريم على ترتيب نزول آياته ، ويدل عليه ما أخرجه الشيخ المفيد بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « اذا قام قائم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضربت فساطيط لمن يُعَلِّم الناس القرآن على ما انزله الله جلّ جلاله ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ؛ لأنه يخالف التأليف » (١) أيّ : الترتيب.

ومعلوم من لسان روايات كثيرة أنّ مصحف الإمام المهدي ( عجلّ الله

__________________

(١) الإرشاد ، للمفيد ٢ : ٣٨٦.

١٢٧

تعالى فرجه الشريف ) هو عين المصحف الذي جمعه جدّه الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، ومن هنا يتضح المراد من عنوان باب الكافي والحديث الذي ورد فيه ، وهو ـ والله العالم ـ أنّ جمع القرآن الكريم على ترتيب نزوله لم يتم على يد أحدٍ غير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن ادعى ذلك غير الإمام عليّ وولده عليهم‌السلام وحفظه على ذلك الترتيب فهو كاذب. وليس المراد أنّه لم يجمع أحد القرآن الكريم مطلقاً غير الإمام عليّ عليه‌السلام ، فافهم.

روايات التحريف في أهم كتب العامّة :

ولكن هلمّ معي ننظر معاً ما في الصحيحين من روايات ، فهل يمكن لمنصف عاقل ان يتأولها بغير ما هو ظاهر من معناها بل وصريح فيه أيضاً.

ولعمري إذا لم تكن تلك الروايات مكذوبة على الله ورسوله ، فإنّ رواتها في الصحيحين لا يمكن إثبات نزاهتهم من خرافة تحريف القرآن الكريم ، وأما عن مذاهب العامّة فلم يسلم منهم أحد إلاّ بقدر همل النعم لما تقدم من إجماعهم على صحة ما في الصحيحين ، بل وتصريحهم بأن خبرهما لا سيما البخاري يفيد القطع ، ولو كان فوق القطع أمر أعلى حجّة من القطع لنحلوه ـ على الأقل ـ إلى ما اجتمع عليه الشيخان !

أمثلة أضغاث الباطل في كتب الصحاح :

وسوف نضرب لك من أضغاث الباطل المسكوت عنه ـ حتى صار حقاً ؛ لأنه من ( الصحيحين ) ـ بعض الامثلة ، وعلى ذلك فقس ما سواه إلاّ ما ندر.

١ ـ في صحيح البخاري في كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا بالإسناد إلى عمر بن الخطاب ، قال : ( .. ثم كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله :

١٢٨

أنْ لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) (١).

والغريب في هذه الآية أنّا وجدناها حديثاً من أحاديث أبي هريرة في صحيح مسلم في كتاب الإيمان باب بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم (٢). ولا يخفى أنّ في هذا المورد ما يقطع بتهافت الصحيحين !!

٢ ـ في صحيح مسلم في كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات بالإسناد إلى عائشة ، قالت : « كان فيما اُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخت بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن » (٣).

أقول : وكانت عائشة تفتي دون سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودون سائر الصحابة : بجواز رضاعة الكبير استناداً لآية الرضاع المزعومة ، وقد حصل هذا فعلاً لسهلة بنت سهيل حيث أرضعت من كان ذا لحية وشهد بدراً وهو سالم حليف زوجها أبي حذيفة ؛ لكي يصير له ابناً من الرضاعة ؛ حتى يذهب ما كان في نفس أبي حذيفة من دخول سالم عليها (٤) !!!

٣ ـ في صحيح البخاري في كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا بالإسناد إلى عمر ، قال : « فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم ورجمنا

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٣٠٠ ـ ٣٠٤ / ٢٥.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٨٠ / ١١٣.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ١٠٧٥ / ١٤٥٢.

(٤) المصدر نفسه.

١٢٩

بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله» (١) !!!.

وفي موضع آخر من صحيح البخاري في كتاب الأحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم ، والقول قول عمر : « لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي » (٢) !!!.

وآية الرجم في فتح الباري بشرح صحيح البخاري هي : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله » (٣) والظاهر أنّ هذه الآية لم تحفظ كما ينبغي أن تحفظ ؛ لأنّها وردت بألفاظ اُخر لا يعنينا أمرها.

أقول : هب أنَّ عفريتا من الجنّ ـ اسمه ( نسخ التلاوة ) ـ ابتلع هذه الرواية أفلا يدلّ قول عمر : ( فاخشى إن طال بالناس زمان ... ) وقوله : ( لولا أن يقول الناس زاد عمر .. ) على أنّه كان يرى أنّ المصحف الماثل بين يديه ناقص من آية الرجم ، أو لا يدل على ذلك ؟!

« أفهنالك مجال للشك ؟ ( إنَا نَحنُ نَزَلنَا الذِكرَ وإنّا لَهُ لحافِظُون ) » !!

ومن لم تكن له عين بصيرة

فلا شك أن يرتاب والصبح مسفرٌ

٤ ـ في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير ، بالإسناد إلى أنس في خبر إرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعين صحابيا من القراء إلى بعض القبائل العربية كرعل ، وذكوان ، وعصيّة ، وبني لحيان. قال البخاري « قال قتادة :

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٣٠٠ ـ ٣٠٤ / ٢٥.

(٢) صحيح البخاري ٩ : ١٢٥.

(٣) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٩ : ٦٥ و ١٢ : ٢٦١.

١٣٠

وحدثنا أنس أنهم قرأوا بهم قرآناً : ( ألا بلغوا عنا قومنا بأنّا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم رفع بعد ذلك » (١) !

والعجيب في هذا الخبر أنّ البخاري قد صرح فيه أنَّ الأعراب قد غدروا بجميع القّراء وقتلوهم حين بلغوا بئر معونة.

بمعنى أنّهم إمّا لم يتمكنوا من أداء مهمتهم ، لأنّهم قُتِلوا قبل ذلك ، وأمّا أنّهم أدّوا مهمتهم ثم قتلوا قبل الوصول إلى المدينة.

والسؤال المحير هنا : كيف عَلِمَ أنس بهذه الآية التي قرأوها ولم يصل أحد منهم إلى المدينة ليخبر أنس بهذه الآيات النازلة ! التي قرأت ثم رفعت ؟ هذا مع أنّ الخبر موقوف على أنس ولم يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يقال مثلاً أنّه من أخبار صاحب الوحي عليه‌السلام ، وهل بعد هذا يكون خبر الواحد الموقوف على صحابي من القرآن ؟

والسؤال الآخر : كيف رفع هذا القرآن ؟ من المكتوب ( وهو المصحف ) ؟ أم من القلوب ؟ والاحتمال الأول باطل ، إذْ لا نصّ عليه ولو برواية مكذوبة ، والثاني كذلك زيادة على عدم رفعه من قلب أنس أو غيره بدليل روايته ونقله.

٥ ـ في صحيح البخاري في باب من لم ير بأساً أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا. بالإسناد إلى عائشة قالت : « سمع النبي صلى الله عليه ( وآله ) وسلم قارئاً يقرأ من الليل في المسجد فقال : يرحمه الله ، لقد ذكرني كذا وكذا آية ، أسقطتها من سورة كذا وكذا » (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٦٧ ذيل الحديث / ٢٦١.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٢٤٠.

١٣١

ولست أدري هل توجد أعظم من هذه الفرية ؟. فالنبي يسقط آيات من القرآن !!!

وَمَن يَتَّبِع في أَمْرِهِ رأيَ جَاهلٍ

يُقِدْهُ إلى أمْرٍ مِنَ الغَيِّ مُنكَرِ

فَعَوِّدْ مَقَال الصِّدقِ نَفْسَكَ وارْضِهِ

تُصَدَّق ، وَلا تَرْكَنْ إلى قَوْلِ مُفتَري

٦ ـ في صحيح مسلم في كتاب الزكاة عن أبي موسى الأشعري ، أنّه قال لقرّاء أهل البصرة ـ يعني بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنين ـ : « .. وإنّا كنّا نقرأ سورةً كنّا نشبّهها في الطُول والشِدَّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التُّراب » (١).

والغريب جداً من مسلم صاحب الصحيح أنه أخرج هذه الآية المزعومة على انها حديث ولم يتعرض لنقدها (٢). والأغرب من كل هذا انه نسب إلى ابن عباس ( ترجمان القرآن ) انه قال بشأن ( لو كان لابن آدم ) : « فلا أدري أمن القرآن هو ، أم لا » (٣) ؟.

٧ ـ في صحيح البخاري وصحيح مسلم من كتاب الزكاة بالإسناد إلى أبي موسى الاشعري ، قال : « وكنا نقرأ سورة نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة » (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٦ / ١٠٥٠.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٥ / ١٠٤٨ / ١١٦ و ١١٧.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٥ / ١١٨.

(٤) صحيح البخاري ٨ : ١١٥. وصحيح مسلم ٢ : ٧٢٦ / ١٠٥٠ ( ١١٩ ) كتاب الزكاة. ومسند

١٣٢

أقول : إنَّ ضياع سور من القرآن في تلك المدعيات الباطلة ، أو إسقاط اُخَر منه ونحو ذلك مما مرَّ ليس بأعظم من المفتريات الاَُخَر التي احتضنتها روايات كتب الذين يتبجحون بالصراحة ويزعمون أنّهم لا يسكتون عن الباطل بل يشهّرون بأصحابه ويكفرونهم !!

من أمثال ما روي عن ابن عمر أنَّه قال : « لا يقولن أحدكم : قد أخذت القرآن كُلّه ، وما يدريه ما كُلّه ؟ قد ذهب منه قرآن كثير !! ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر » (١).

كما روى ابن أبي داود ، وابن الأنباري ، عن ابن شهاب ـ كما في منتخب كنز العمال ـ أنّه قال : « بلغنا أنه كان أُنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يُعلم بعدهم ولم يكتب » (٢) !!

وأما عن إنكار ابن مسعود لسورة الفاتحة والمعوذتين فحدّث ولا حرج ، حتى قال السيوطي : « قال ابن حجر : فقول من قال : أنّه كُذب عليه ( أي على ابن مسعود ) مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة ، قلت : وإسقاطه من مصحفه أخرجه أبو عبيد بسند صحيح » (٣). على أن هذه الرواية الموصوفة بالصحة عن العامّة ، قد كذّبها الشيعة منذ أقدم العصور كما سنشير إليه وقد

__________________

أحمد ٣ : ١٢٢ و ٢٤٣ و ٤ : ٣٦٨ و ٦ : ٥٥. وسنن الدارمي ٢ : ٣١٩. ومجمع الزوائد ١٠ : ٢٤٣. والبرهان للزركشي ٢ : ٤٣. والاتقان للسيوطي ٣ : ٨٣.

(١) الإتقان في علوم القرآن ٣ : ٨١ ـ ٨٢. ولا جرم على من كذّب على ابن عمر في هذا بعد أن كذب على أبيه بأنّ قرآنه مليون حرف ! كما مرّ.

(٢) منتخب كنز العمال ( مطبوع بهامش مسند أحمد ) ٢ : ٥٠.

(٣) الاتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٣.

١٣٣

ردها من العامّة السيالكوتي في حاشيته (١).

كما ان سورة الخلع ، وسورة الحفد قد كان أبو حفص عمر يقرأهما في صلاته وقنوته كما صرح بذلك السيوطي في تفسيره (٢) فإذا ما أضفنا هذا إلى الرواية المسندة إليه بوجود مليون حرف في القرآن علمنا أنَّ آية الرجم التي عقلها ووعاها كما تقدم عن الصحاح إنما هي من القرآن المزعوم الذي هو في لغة الاعداد ومنطق الارقام يزيد على حروف كتاب الله العزيز حسب آخر إحصائية ب‍ ( ٦٧٨٨٢٠ ) حرفاً ، أي بما يعادل القرآن الكريم ثلاث مرات !! ولهذا ذهب ابن عمر ـ بعد أن انطلت عليه هذه الاكاذيب ـ إلى القول بضياع الكثير من القرآن كما مرّ آنفاً !

وأخيراً ، لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الفضل بن شاذان ( ت ٢٦٠ ه‍ ) وهو من فضلاء وفقهاء أصحاب الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، قد أنكر على العامّة رميهم الصحابة بمثل هذه المفتريات الباطلة وعدّها من باب الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣). فانظر إلى تحرّج الأصحاب.

ومن لطيف ما احتج به الفضل رحمه الله تعالى على العامّة بكتابه الإيضاح أنّه أورد ما نسبوه إلى عائشة بأنها قالت « لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها » (٤) !!

__________________

(١) حاشية السيالكوتي على شرح المواقف ٨ : ٢٥١ من المجلد الرابع.

(٢) الدر المنثور ، للسيوطي ٨ : ٦٩٦.

(٣) الإيضاح ، للفضل بن شاذان : ٢٢٩.

(٤) لقد أورد هذا الخبر المضحك المبكي ابن حزم في المحلى ١١ : ٢٣٥ المسألة رقم ٢٢٠٤ وقال :

١٣٤

فقد أنكر عليهم الفضل بن شاذان بما حاصله :

بانه ما استطاعت الاِنس والجنّ على أن تأتي بمثل القرآن ولو في آية من آياته ، ولا تمكن أعداء القرآن من تحريفه ، فكيف استطاع داجنكم أن يأكل من القرآن ، ويبطل فرضه ويسقط حجته ؟!

وأغرب ما وقفت عليه هو أنَّ الزمخشري في كشّافه ـ لمّا لم يستطع أن يجد تأويلا أو تبريراً مقنعاً يبين من خلاله كيف استطاع هذا الداجن الشيطان أن يتسلل إلى بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفعل فعلته ـ حاول التملّص من الخبر واتهام الروافض في تلفيقه ؟ (١).

أقول : بعد أن عرفت من أخرجه من الصحاح والصحابة ، ومن ردّه وهو ( الفضل بن شاذان ) من ( الرافضة ) ، فاعلم أنّا مع الزمخشري في اعتقاد تلفيقه فافهم.

هذا ، وقد ذكر السيد الميلاني في ( التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف ) كلمات عِدّة من أعلام العامّة المتقدمين والمتأخرين يصرحون بأنَّ هذه زيادات موضوعة من بعض الزّنادقة.

إلى غير ذلك من الروايات المكذوبة عند العامّة ، والتي تمس القرآن الكريم صراحة (٢).

__________________

هذا حديث صحيح ! كما أخرجه الدميري في حياة الحيوان ١ : ٤٦٤ عن عائشة مصرّحاً بوجوده في السنن الأربعة.

(١) الكشّاف ، للزمخشري ٣ : ٢٤٨.

(٢) للوقوف على المزيد من تلك الروايات المكذوبة في كتب العامّة. راجع : دفاع عن الكافي للسيد ثامر العميدي ٢ : ٤٤٠ ـ ٥٠٤ ففيه مائة مثال من أمثلة صور التحريف عند العامّة وفي كتبهم.

١٣٥

المبحث الثاني

البَدَاءُ وعلم الله تعالى

إعلم بأنَّ إنكار اليهود للنسخ إنّما هو لاعتقادهم بأنّه خلاف الحكمة ولا يصدر إلاّ عن جهلٍ بالمصالح والمفاسد ، وهذا هو ما صرّح به الغزالي ، والرازي وغيرهما من رؤوس الاشاعرة (١).

ولما كان البداء ـ بمعناه السلبي ـ يلتقي مع فهم اليهود للنسخ ، فعدّوه أيضاً دالاً على خلاف الحكمة كالنسخ ايضاً.

بل تذرعوا في إنكار النسخ بكونه بَدَاء ، والبَدَاء إنّما يتصور بحق من يجهل عواقب الاُمور ، والله تعالى منزّه عنه. وهذا القدر مصرّح به في كتب الأشاعرة وغيرهم (٢).

__________________

(١) المستصفى ، للغزالي ١ : ١١١. والمحصول ، للرازي ١ : ٥٤٣. ومنتهى الوصول والأمل ، لابن الحاجب : ١٥٤ ـ ١٥٥. والتحصل من المحصول ، للارموي ٢ : ١٠. والتقرير والتحبير ، لابن أمير الحاج ١ : ٣٥٢. وتفسير ابن كثير وتفسير الآلوسي وغيرهما عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة البقرة المباركة.

(٢) اُصول السرخسي ٢ : ٥٤ ـ ٥٥ و ٢ : ٥٩. والأحكام في أصول الأحكام ، للآمدي ٣ : ١٠٢. وتفسير القرطبي ٢ : ٦٤. والمنخول للغزالي : ٢٨٨. والأحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم ٤ : ٤٧. والبرهان ، للزركشي ٢ : ٣٠. والإتقان ، للسيوطي ٣ : ٦٧. والملل والنحل ، للشهرستاني ١ : ٢١١.

١٣٦

الافتراء على الشيعة بتعريف البَدَاء

فإذا علمت هذا ، فاعلم أنَّ خصوم الشيعة تدّعي زوراً بأنّ البداء عند الشيعة يستلزم تغيير علم الله عزّ وجل ، وهذا لا يجوز ، بل وذهبوا إلى أنّ لازمه الجهل على الله تعالى ؛ لأنّ معنى البداء لغة ظهور الشيء بعد خفائه.

بل افترى بعضهم على الشيعة بوقاحة عجيبة فقال ما نصه : « والبداء عند الشيعة أن يظهر ويبدو لله عزّ شأنه أمر لم يكن عالماً به ».

وهذا المفتري هو محمّد مال الله البحريني افترى ذلك في كتابه ( موقف الشيعة من أهل السُنّة ) ص٢٨ ، وكرّر هذا الافتراء في كتابه ( الشيعة وتحريف القرآن ) ص ١٢ بلا أدنى تغيير مشيراً في هامش الكتابين إلى كتاب أصل الشيعة واصولها ص ٢٣١ مع حصر ما ذكره بين قوسين لإعلام القارئ بنقل هذا الكلام من كتاب ( أصل الشيعة واُصولها ) للشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء رحمه‌الله.

وللأسف أنْ نجد عند غيره هذا الافتراء نفسه (١).

تزييف هذا التعريف وبيان وقاحة مفتريه :

ولكنّك إذا ما عدت إلى ( أصل الشيعة واُصولها ) ستجد الشيخ آل كاشف الغطاء قد قال ما نصه : « ومما يشنع به الناس على الشيعة ويزدرى

__________________

(١) الشيعة والسُنّة ، لاحسان إلهي ظهير : ٦٣. وأحوال أهل السُنّة في ايران ، لعبد الحق الاصفهاني : ٨٦. وبطلان عقائد الشيعة ، لمحمّد عبدالستار التونسوي : ٢٣.

١٣٧

به عليهم أمران :

الأول : قولهم بالبداء ، تخيّلا من المشنعين : أن البَدَاء الذي تقول به الشيعة هو عبارة عن أن يظهر ويبدو لله عز شأنه أمراً لم يكن عالماً به » !

راجع أصل الشيعة واُصولها :

١ ـ طبعة القاهرة لسنة ١٩٥٨ م ، ص ٢٣١.

٢ ـ طبعة ايران ـ قم لسنة ١٤١٠ ه‍ ، ص ٢٣١ ( اُوفست عن طبعة القاهرة ).

٣ ـ طبعة النجف الاَشرف لسنة ١٩٦٩ م ، ص ١٧٩.

٤ ـ طبعة مؤسسة الأعلمي في بيروت لسنة ١٩٨٣ م ، ص ١٤٨.

٥ ـ طبعة مؤسسة الإمام عليّ عليه‌السلام ، بتحقيق الاُستاذ علاء آل جعفر ، لسنة ١٤١٥ ه‍ ، ص ٣١٣.

فانظر كيف تلاعب بالنص فحذف صدره ، وأطلق ذيله غير آثم ولا متحرج ، مع أنّ الشيخ آل كاشف الغطاء عقّب على ذلك التشنيع في أصل كتابه مباشرة فقال : « وهل هذا الا الجهل الشنيع ، والكفر الفظيع ؟ لاستلزامه الجهل على الله تعالى ، وأنّه محل للحوادث والتغيرات ، فيخرج من حضيرة الوجوب إلى مكانة الامكان .. ».

وهكذا تجد المشنّعين على الشيعة يفترون عليهم بالأباطيل التي لا أصل لها في عقائدهم ولا في تفكيرهم ، منهم البلخي على ما نقله الشيخ

١٣٨

الطوسي في تفسيره (١) ، والغزالي (٢) ، والرازي (٣) ، والآمدي (٤) ، مع أنّ إمامهم الأشعري صرّح بأنّ ( الرافضة ) افترقت في هذا على ثلاث فرق ، ونسب إلى الثالثة أنّها لا تجوّز على الله تعالى البداء قال : « وينفون ذلك عنه » (٥).

نفي الجهل عن ساحته تعالى :

أقول : لا يوجد في تاريخ الشيعة من ينسب البداء ـ بمعنى ظهور الشيء بعد الجهل به ـ إلى الله تعالى قط ، لا قديماً ولا حديثاً ، بل حتى فرق الشيعة البائدة التي كفّرها أئمة اهل البيت عليهم‌السلام مع سائر علماء الإمامية ، لم يؤثر عنهم ذلك الا ما ينقله بعض المتعصبين والمشنعين من مخالفيهم.

نعم نسب هذا إلى فرق المجسمة والمشبهة لما لديهم من المقالات التي هي أشبه بالخرافات منها بالديانات حتى قال بعضهم كما في ملل الشهرستاني : « اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك » (٦) !! تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً ، وكبر مقتا ان يقولوا على الله زوراً وكذباً ما لا يعلمون.

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ١ : ١٣ من المقدمة.

(٢) المستصفى ١ : ١١٠.

(٣) التفسير الكبير للرازي ١٩ : ٦٦.

(٤) الأحكام في اُصول الأحكام ، للآمدي ٣ : ١٠٢.

(٥) مقالات الإسلاميين ، للاشعري : ٣٩.

(٦) الملل والنحل ، للشهرستاني ١ : ٩٦.

١٣٩

هذا ، وإذا ما رجعت إلى كتب الشيعة العقائدية بل وحتى الحديثية ستجد التصريح بخلاف هذا المدّعى تماماً ، مع تكفيرهم لكلِّ من يزعم بأنّ الله سبحانه يبدو له عن جهل.

ففي الكافي بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام « ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له » (١).

وعنه عليه‌السلام « إنّ الله لم يبدُ له من جهل » (٢).

وعنه أيضاً وقد سأله منصور بن حازم ( هل يكون اليوم شيءٌ لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال عليه‌السلام : « لا ، من قال هذا فأخزاه الله ». قلت : أرأيت ما كان وما كائن إلى يوم القيامة ، أليس في علم الله ؟ قال : « بلى ، قبل أن يخلق الخلق » (٣).

علم الله تعالى عند الشيعة الإمامية :

فإذا انضم هذا إلى أقوال علماء الشيعة في علمه تعالى ، علم المقصد بأنّه ليس كما يزعم هؤلاء المفترون ، قال الشيخ المفيد : « إنّ الله تعالى عالم بكل ما يكون قبل كونه ، وأنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه ، ولا معلوم وممكن أن يكون معلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته ، وأنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وبهذا اقتضت دلائل العقول ، والكتاب المسطور والأخبار المتواترة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو مذهب

__________________

(١) اُصول الكافي ١ : ١١٤ / ٩ باب البَدَاء.

(٢) اُصل الكافي ١ : ١١٤ / ١٠ من باب البَدَاء.

(٣) اُصول الكافي ١ : ١١٤ / ١١ باب البَدَاء.

١٤٠