الصوت اللغوي في القرآن

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الصوت اللغوي في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥

الفصل السادس

الدلالة الصوتية في القرآن

١ ـ مظاهر الدلالة الصوتية

٢ ـ دلالة الفزع الهائل

٣ ـ الإغراق في مدّ الصوت واستطالته

٤ ـ الصيغة الصوتية الواحدة

٥ ـ دلالة الصدى الحالم

٦ ـ دلالة النغم الصارم

٧ ـ الصوت بين الشدة واللين

٨ ـ الألفاظ دالة على الأصوات

٩ ـ اللفظ المناسب للصوت المناسب

١٦١

١٦٢

مظاهرالدلالة الصوتية :

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، وتوهج العبارة في منظار حياتهم ، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، وتناغم الحروف في تركيبه ، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، ومع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، وتسيغه النفس ، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة ، والذي يشرأب له العنق ، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة ، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وأيجاباً.

وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، والتي كونت كلمة معين في النص ، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ؛ وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.

إن إيقاع اللفظ المفرد ، وتناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس

١٦٣

موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : « التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها » (١). فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الانذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث ... إلخ.

ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، وإما في البعد الصوتي الخاص ، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، وإما بإقبال العاطفة ، وإما بريادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، وحيناً تهيء النفس ، وحيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ؛ وهكذا.

هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، ومجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.

قال الخطابي ( ت : ٣٨٣ ـ ٣٨٨ هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : « لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم ، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، ولا أجزل ، ولا أعذب من ألفاظه » (٢).

__________________

(١) إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ٤٦.

(٢) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٢٧.

١٦٤

وهذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، والتأثير النفسي للكلمة ، والمدلول الأنفعالي بالحدث ، وتلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، وقد يطول الوقوف عند استقصائها.

وكان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، وتمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، وقد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، وذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال وأزعم ، وقد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، وشبيهه به ، وبذلك يتأتى للباحث والمتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، وعظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، وقاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها.

سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، وهي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، وهذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية.

دلالة الفزع الهائل :

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختيار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، والشدة ، والهدة ، والاشتباك ، والخصام ، والعنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل.

١ـ قف عند مادة صرخ في القرآن ، وصرخة الصّيحة الشديدة عند الفزع ، والصراخ الصوت الشديد (١). لتلمس عن كثب ، وبعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى : ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً ) (٢). مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، والاضطراب قد تجاوز

__________________

(١) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٢.

(٢) فاطر : ٣٧.

١٦٥

مداه ، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، ولا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، والقنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، وتراصف إيقاعه ، من توالى الصاد والطاء ، وتقاطر الراء والخاء ، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوي « والاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة : افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها ، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق ، ويوافق التاء في المخرج » (١).

والإصراخ هو الإغاثة ، وتبلية الصارخ ، وقوله تعالى : ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) (٢).تعني البراءة المتناهية ، والإحباط التام ، والصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، ولا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، ولا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة ، وتلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، ولا هم بمغيثيه.

والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغث ، فهو من الأضداد ، وفي المثل : عبد صريخه أمة ، أي ناصره أذل منه (٣). وقد قال تعالى : ( فلا صريخ لهم ولا هم ينفذون ) (٤). فيا له من موقف خاسر ، وجهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، ولا إجارة مما وقعوا فيه.

والاستصراخ الإغاثة ، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به (٥).

قال تعالى : ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) (٦). طلب للنجدة في فزع ، ومحاولة للإنقاذ في رهب ، والاستعانة على العدو بما يردعه عن

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٤١٠.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

(٣) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٣.

(٤) ياسين : ٤٣.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ٤|٣.

(٦) القصص :١٨.

١٦٦

الإيقاع به ، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، وفزع متواصل ، وتشبث بالخلاص.

٢ـ وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة «صرخ » يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى : ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ) (١). لتبرز « متشاكسون » وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، والجدل القائم ، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، والواو والنون للمد والترنم ، والتأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، والعنف والفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

٣ـ وتأمل مادة «كبّ» في القرآن ، وهي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى : ( فكبت وجوههم في النار ) (٢). فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج ، والوجه أشرف مواضع الجسد ، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن.

والأكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى : ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدا ) (٣).

والكبكبة تدهور الشيء في هوة (٤). قال تعالى : ( فكبكبوا فيها هم والغاون ) (٥).

__________________

(١) الزمر : ٢٩.

(٢) النمل : ٩٠.

(٣) الملك : ٢٢.

(٤) الراغب ، المفردات : ٤٢٠.

(٥) الشعراء : ٩٤.

١٦٧

وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) بقوله : « إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى » (١).

وقال العلامة الطيبي ( ت: ٧٤٣ هـ ) :

« كرر الكب دلالة على الشدة » (٢).

ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، وتفخيم الدلالة ، وهذا أمر مطرد في القرآن ، وقد يمثله قوله تعالى : ( فغشيهم من اليم ماغشيهم )(٣).

والمادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب.

الإغراق في مدّ الصوت واستطالته :

هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمد والتشديد وبالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، وأعظمها وقعاً ؛ فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها وأحقيتها بالتلبث والرصد والتفكير.

من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ؛ الصّاخة. وقد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة. كافة.

هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، واصطكاك السمع بصداها المدوي ، وأخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة.

الحاقة الطامة والصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، والأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ١|٤١.

(٢) الطيبي ، التبيان في علم المعاني والبديع والبيان : ٤٧٤.

(٣) طه : ٧٨.

١٦٨

جلجلة الصوت ، وشدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ ودلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، وهو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمصاقبة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت والمعنى الحقيقي ، فقوله تعالى : ( الحاقة * ما الحاقة * ومآ أدراك ما الحاقة ) (١). إشارة إلى يوم القيامة ، وعلم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : ٢٠٧ هـ ) : « الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء » (٢).

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) « الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، وسميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود. وقيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته » (٣).

وقيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله. ويقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة (٤). فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، وبه فسّر أبو عبيدة ( ت : ٢١٠ هـ ) قوله تعالى : ( فإذا جآءت الصآخة ) (٥). فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخ يصخ ، وإما أن تكون مصدراً وقال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع، أى : تصمها فلا تسمع.

وقال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، ومنه سميت القيامة.

ويقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة (٦).

__________________

(١) الحاقة : ١ ـ ٣.

(٢) الفراء ، معاني القرآن : ٣|١٧٩.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٤) ظ : الطريحي ، مجمع البحرين : ٥|١٤٧.

(٥) عبس : ٣٣.

(٦) ابن منظور، لسان العرب : ٤|٢.

١٦٩

وقال الطريحي ( ت : ١٠٨٥ هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها وتصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع (١). والمعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الرغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق (٢).

فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز. فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء (٣). وإليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء(٤). وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة (٥). قال تعالى : ( فإذا جآءت الطامة الكبرا ) (٦).قال الطبرسي ( ت: ٥٤٨ هـ ) « وهي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو وتغلب ، ومن ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى » (٧).

ولعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، ولأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، وأية داهية أعظم من القيامة لا سيما وهي توصف هنا بالكبرا.

إن موافقة أصوات الحاقة والصاخة والطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة والوقع والتلاؤم البنيوي والمعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة.

ودلالة هذه الصيغة في : دابة ، وكافة ، على الشمول والكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى : ( وما من دآبة في

__________________

(١) الطريحي ، مجمع البحرين : ٢|٤٣٧.

(٢) الراغب ، المفردات : ٢٧٥.

(٣) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣٤.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١٥|٢٦٣.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٣.

(٦) النازعات : ٣٤.

(٧) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٤.

١٧٠

الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) (١) فشمل الخلائق كلها ، وأصناف الأجناس المرئية وغير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم وقوله تعالى : ( ومآ أرسلناك إلا كآفة للنّاس بشيرا ونذيرا ) (٢). يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، ولم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان والمكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، والنذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.

الصيغة الصوتية الواحدة :

وظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، والأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، وبصوتيته على كنه معناه ، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، والقائم الذي لا يجحد.

هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، ويبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، ولا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، وحادث يثيرك برواجفه .. الصدى الصوتي ، والوزن المتراص ، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في :

الواقعه | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت ، والدلالة المنتزعة من اللفظ ، وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.

١ ـ الواقعة ، قال تعالى : ( إذا وقعت الواقعه * ليس لوقعتها كاذبة ) (٣).

____________

(١) هود : ٦.

(٢) سبأ : ٢٨.

(٣) الواقعة : ١ ـ ٢.

١٧١

وقال تعالى : ( فيؤمئذ وقعت الواقعة ) (١).

قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً.

والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر (٢).

وقال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه ، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب والشدائد (٣).

وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) في تفسيره للواقعة : « والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها ، والمعنى إذا حدثت الحادثة ، وهي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها » (٤). وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الواقعة : الداهية ، والواقعة النازلة من صروف الدهر ، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة (٥)

وباستقراء هذه الأقوال ، ومقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، وسقوط الشيء من الأعلى ، والواقعة هي النازلة الشديد ، والواقعة هي الداهية ، وهي الحادثة ، وهي الصيحة ، وهي اسم من أسماء يوم القيامة ، وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب ، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، وأطلاقه بزنة الفاعل ، وإسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته وهدته ، وصيحته وداهيته.

٢ـ القارعة ، قال تعالى : ( القارعة * ما القارعة * ومآ ادراك ما القارعة ) (٦).

وقال تعالى : ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) (٧).

قال الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) : والقارعة : القيامة. والقارعة : الشدة.

__________________

(١) الحاقة : ١٥.

(٢) الخليل ، العين : ٢|١٧٦.

(٣) الراغب ، المفردات : ٥٣٠.

(٤) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٢١٤.

(٥) ابن منظور ، لسان العرب : ١٠|٢٨٥.

(٦) القارعة : ١ ـ ٣.

(٧) الحاقة : ٤.

١٧٢

وفلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده. وقوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة.

وكل شيء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤيب الهذلي (١).

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشرق كل يوم تقرع

قال الطبرسي : وسميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن (٢). والقارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، وتقرع أعداء الله بالعذاب (٣).

وأنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة (٤).

وبمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، وقوارع الدهر شدائده ، وكل شيء ضربته فقد قرعته ، والقارعة تقرع القلوب بالفزع ، وقلوب العباد بالمخافة ، وأعداء الله بالعذاب ، وهي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، وكلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، وتفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات والمشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، وهي مجاورة لها في الشدة والهول والصدى والإيقاع.

٣ ـ الآزفة ، قال تعالى : ( أزفة الآزفة * ليس لها من دون الله كاشفة ) (٥).

وقال تعالى : ( وأنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٦).

قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة ... فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها (٧).

__________________

(١) الخليل ، العين : ١|١٥٦.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٣٤٢.

(٣) المصدر نفسه : ٥|٥٣٢.

(٤) المصدر نفسه : ٥|٣٤٣.

(٥) النجم : ٥٧ ـ ٥٨.

(٦) المؤمن : ١٨.

(٧) الراغب ، المفردات : ١٧.

١٧٣

وقال الطبرسي : ( وأنذرهم يوم الأزفة ) (١). أي الدانية. وهو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب (٢).

قال الزمخشري : والآزفة القيامة لأزوفها (٣).

وفي اللغة : الآزفة القيامة ، وإن استبعد الناس مداها (٤).

والآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته (٥).

ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، وصفير الزاي من الأسنان ، وانحدار الفاء من أسفل الشفة ، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت ، ومع هذه الرقة في الصوت والمعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه ، فادناه يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، والحالات الحرجة ، والهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.

٤ ـ الراجفة والرادفة ، قال تعالى : ( يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة ) (٦) وتبدأ القيامة بالراجفة ، وهي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) وهي النفحة الثانية (٧).

وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك (٨).قال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) « الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، وهي النفحة الثانية ؛ أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لا قترابها. وقيل الراجفة : الأرض والجبال من قوله ـ يوم ترجف الأرض والجبال ـ والرادفة

__________________

(١) المؤمن : ١٨.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٣) الزمخشري ، أساس البلاغة : ٥.

(٤) ابن منظور ، لسان العرب : ١|٣٤٦.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤|٥١٨.

(٦) النازعات : ٦ ـ ٧.

(٧) الفراء ، معاني القرآن : ٣|٢٣١.

(٨) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : ٤|٤٦٧.

١٧٤

السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك » (١). وقال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، وهي التي يبعث معها الخلق(٢).

وبمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق وانتشارهم .. إلخ.

بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف ، والتزلزل والاضطراب ، وتغيير الكون ، وتبدل العوالم ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) (٣).

فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة ، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.

٥ ـ الغاشية ، قال تعالى : ( هل أتاك حديث الغاشية ) (٤). وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس والحسن وقتادة (٥).

قال الراغب ( ت : ٥٠٢ هـ ) الغاشية كناية عن القيامة وجمعها غواش (٦).

وقال الزمخشري ( ت : ٥٣٨ هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها ، يعني القيامة (٧).

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢١٢.

(٢) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٣٠.

(٣) ابراهيم : ٤٨.

(٤) الغاشية : ١.

(٥) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٧٨.

(٦) الراغب ، المفردات : ٣٦١.

(٧) الزمخشري ، الكشاف : ٤|٢٤٦.

١٧٥

وقال ابن منظور ( ت : ٧١١ هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، وقيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم (١).

وبمقارنة هذه الأقوال ، وضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، وتعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، وقد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، وتلبسهم أهوالها .. إلخ.

إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، والنوازل ، والقوارع ، والوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها ، وشمولها وإحاطتها :

( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسئل أيان يوم القيامة * فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر ) (٢).

دلالة الصدى الحالم :

تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، وتوحي بمؤداها مجردة عن التصنيع والبديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة وأضاءة ، وما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، وما أروع تواليه في آياته الكريمة ، ولنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة « رحم » في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، ولمح من هديها.

قال تعالى : ( أؤلائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) (٣).

__________________

(١) ابن منظور ، لسان العرب : ١٩|٣٦٢.

(٢) القيامة : ٥ ـ ١٢.

(٣) البقرة : ١٥٧.

١٧٦

وقال تعالى : ( لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ) (١).

وقال تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) (٢).

وقال تعالى : ( كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريا ) (٣).

وقال تعالى : ( قال رب أغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك ) (٤).

وقال تعالى : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمها كما ربياني صغيرا ) (٥).

فأنت تنادي من صدى « الرحمة » بأزيز حالم ، وتحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، ويستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا والغبطة والبهجة ، رافلاً بالخير والإحسان والحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم وعليهم ، ولمغفرة من الله تعالى ورحمة خير مما تجمع خزائن الأرض وكنوزها ، وهذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذو الخلق العظيم ، والمخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لإن لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم وغلظتهم ، وهذا زكريا تتداركه رحمة من الله وبركات في أوج احتياجه وفزعه إلى الله عزّ وجل : ( إذ نادى ربه نداءً خفيا ) (٦).

فيهب له يحيى ( والله يختص برحمته من يشاء ) (٧).

ووقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين ( وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمها كما ربياني صغيرا ) (٨). فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة وأرقاها ، توجيه رحيم ، واستعارة هادفة ، وعاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، وخفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً وحنواً وحدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارىء ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة ورعاية ، مواساة ومعاناة ، في حالتي الصحة والسقم ، الرضا والغضب ،

__________________

(١) آل عمران : ١٥٧.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) مريم : ١ ـ ٢.

(٤) الأعراف : ١٥١.

(٥) الإسراء : ٢٤.

(٦) مريم : ٣.

(٧) البقرة : ١٠٥.

(٨) الإسراء : ٢٤.

١٧٧

الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق « وقل رب ارحمها » مجازاة على تربيته صغيراً ، والرحمة ، وارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب وإلى القلب ، ومن الشغاف إلى الشغاف ، وهنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة والنقاء والحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة والقهر والإستطالة ، وإنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي.

« والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال ، ومن الآدميين رقة وتعطف » (١).

فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة ( الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم ) (٢). ونشر الرقة بين البشر في الطباع ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) (٣).

ولو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملاءمتها للمعنى صوتياً في الرقة واللحمة والتناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى : ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء ) (٤). ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) (٥). ولولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم.

فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، وجدد الرحمة بالرقة والمودة والعطف الكريم.

__________________

(١) الراغب : المفردات : ١٩١.

(٢) الفاتحة : ٢ ـ ٣.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) آل عمران : ٦.

(٥) الأنفال : ٧٥.

١٧٨

دلالة النغم الصارم :

أصوات الصفير في وضوحها ، وأصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، وكان ذلك ـ فيما يبد ولي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، واصطكاكها في جهاز السمع ، ووقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق وذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، وهي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، وعن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، وأزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الاستعمالية ، ومؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى.

وسأقف عند ثلاث صيغ قرآنية ختمت بحروف الصفير ، لرصد أبعادها الصوتية ؛ هي : « رجز » و « رجس » و « حصحص ».

١ـ الرجز ، في مثل قوله تعالى : ( أولآئك لهم عذاب من رجز أليم ) (١).

وقوله تعالى : ( لئن كشفت عنا الرجز ) (٢).

وقوله تعالى : ( فلمّا كشفنا عنهم الرجز ) (٣).

ويظهر في أصل الرجز الاضطراب لغة ، فتلمس فيه الزلزلة في ارتجاجها ، والهدة عند حدوثها ، والنازلة في وقوعها ، ولما كان القرآن العظيم يفسر بعضه بعضها ، فإننا نأنس على هذه المعاني في كل من قوله تعالى :

( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء ) (٤).

وقوله تعالى : ( فأرسلنا عليهم رجزاً من السّماء بما كانوا يظلمون ) (٥).

__________________

(١) سبأ : ٥.

(٢) الأعراف : ١٣٤.

(٣) الأعراف : ١٣٥.

(٤) البقرة : ٥٩.

(٥) الأعراف : ١٦٢.

١٧٩

وقوله تعالى : ( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كاموا يفسقون ) (١). ونستظهر في الرجز الإرسال والإنزال من السماء بضرس قاطع وأمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذير والإنذار.

٢ ـ وحينما نقارن لفظ « الرجز » بمثيله معنى ومبنى « رجس » وهي مكونة كتكوينها في الراء والجيم ، والسين كالزاي من حروف الصفير شديدة الاحتكاك في مخرج الصوت ، ولها ذات الإيقاع على الأذن ؛ حينما نقارن صوتياً ودلالياً بين الصوتين نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت ، ونجد المعاني متقاربة في الإفادة ، فقد قيل للصوت الشديد : رجس ورجز ، وبعير رجاس شديد الهدير ، وغمام راجس ورجاس شديد الرعد.

قال تعالى : ( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ) (٢).

وقال تعالى : ( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) (٣).

كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالياً في ترصد العذاب وصبّه وإنزاله ، وهذا لا يمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعاني الأخرى لإرادة الدنس والقذارة ومرض القلوب ، وحالات النفس المتقلبة ، نرصد ذلك في كل من قوله : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) (٤).

وقال تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) (٥).

وقال تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (٦).

وقال تعالى : ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وما توا وهم كافرون ) (٧).

__________________

(١) العنكبوت : ٣٤.

(٢) الأعراف : ٧١.

(٣) يونس : ١٠٠.

(٤) المائدة : ٩٠.

(٥) الحج : ٣٠.

(٦) الأحزاب : ٣٣.

(٧) التوبة : ١٢٥.

١٨٠