الصوت اللغوي في القرآن

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الصوت اللغوي في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥

أو « أص » وكذلك في قوله تعالى : ( ق ) فإنك تقول « قاف » لا « ق » ولا « إق » وهكذا في الحروف الثنائية كقوله تعالى : ( طس ) وفي الحروف الثلاثية كقول تعالى : ( ألم ) وكذلك في الحروف الرباعية كقوله تعالى : ( ألمر ) وكذلك في الحروف الخماسية كقوله تعالى : ( كهيعص ) فكلها تنطق بأسماء تلك الحروف أصواتاً ، لا بأشكالها الهجائية رسوماً ، مما يقرب منها البعد الصوتي المتوخى ، بينما كتبت في المصاحف على صورة الحروف لا صورة الأصوات.

وقد علل الزركشي ( ت : ٧٩٤ هـ ) المؤشر الأخير بالوقوف عند خط المصحف بأشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم الخط والهجاء « ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لا ستقامة اللفظ ، وبقاء الحفظ » (١).

وأشار الشيخ الطوسي ( ت : ٤٦٠ هـ ) إلى جزء من صوتية هذه الحروف بملحظ الوقف عندها فقال : « وأجمع النحويون على أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب ، كما بني العدد على الوقف ، ولأجل ذلك جاز أن يجمع بين ساكنين ، كما جاز ذلك في العدد » (٢).

هذه لمحات صوتية في خضم دلالات الحروف المقطعة في فواتح السور القرآنية ، وقفنا عند الصوت اللغوي فيها ، وأشرنا إلى البعد الإعجازي من خلالها ، وليس ذلك كل شيء في أبعادها ، فقد تبقى من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، وخير الناس من قال فيها بكل تواضع : الله أعلم ، كما قال ذلك مالك بن بني في حديثه عنها.

« لقد حاول معظم المفسرين أن يصلوا إلى موضوع الآيات المغلقة إلى تفاسير مختلفة مبهمة ، أقل أو أكثر استلهاماً للقيمة السحرية التي تخص بها الشعوب البدائية : الكواكب ، والأرقام والحروف ، ولكن أكثر المفسرين تعقلاً واعتدالاً ، هم أولئك الذين يقولون في حال كهذه بكل تواضع : الله أعلم » (٣).

__________________

(١) الزركشي ، البرهان : ١|١٧٢.

(٢) الطوسي ، التبيان : ١|٥٠.

(٣) مالك بن بني ، الظاهرة القرآنية : ٣٣٣.

١٠١

وفوق هذا وذاك قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام فيما ينسب إليه :

« إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي » (١) وتبقى التأويلات سابحة في تيارات هذه الحروف المتلاطمة ، والتفسير الحق لها عند الله تعالى ، ولا يمنع ذلك من كشف سيل الحكم والإشارات والتوجيهات ، والملامح اللغوية بعامة ، أو الصوتية المتخصصة ، أو الإعجازية بخاصة في هذه الحروف ، فهو ليس تفسيراً لها بملحظ أن التفسير هو الكشف عن مراد الله تعالى من قرآنه المجيد ، بقدر ما هو إشعاع من لمحاتها ، وقبس من أضوائها ، يسري على هداه السالكون.

( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً ) و ( فوق كل ذي علم عليم )

صدق الله العظيم

____________

(١) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : ١|٣٢.

١٠٢

الفصل الرابع

الصوت اللغوي في الأداء القرآني

١ ـ أصول الأداء القرآني

٢ ـ مهمة الوقف في الأداء القرآني

٣ ـ نصاعة الصوت في الأداء القرآني

٤ ـ الصوت الأقوى في الأداء القرآني

٥ ـ توظيف الأداء القرآني في الأحكام

١٠٣

١٠٤

أصول الأداء القرآني :

لعل أقدم إشارة تدعو إلى التأمل في أصول الأداء القرآني ، ما روي عن الإمام علي عليه‌السلام في قوله تعالى : ( ورتّل القرآن ترتيلا ) (١).

انه قال : « الترتيل تجويد الحروف ، ومعرفة الوقوف » (٢).

وفي رواية ابن الجزري أنه قال : « الترتيل معرفة الوقوف ، وتجويد الحروف » (٣) ونقف عند هاتين الظاهرتين : معرفة الوقوف ، وتجويد الحروف.

الأول : الوقف ، قال عبدالله بن محمد النكزاوي ( ت : ٦٨٣ هـ ) : « باب الوقف عظيم القدر جليل الخطر ، لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ، ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل » (٤) وهو بيان موضع الوقف عند الاستراحة لغرض الفصل ، إذ لا يجوز الفصل بين كلمتين حالة الوصل ، فتقف عند اللفظ الذي لا يتعلق ما بعده به ، ويحدث غالباً عند آخر حرف من الفاصلة ، كما يحدث في سواه. وقد عرفه السيوطي ( ت : ٩١١ هـ ) تعريفاً صوتياً فقال : « الوقف : عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمناً يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية

__________________

(١) المزمل : ٤.

(٢) السيوطي ، ١|٢٣٠.

(٣) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر.

(٤) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٣٠.

١٠٥

الإعراض ، ويكون في رؤس الآي وأوساطها ، ولا يأتي في وسط الكلمة ، ولا فيما اتصل رسماً » (١). ولا يصح الوقف على المضاف دون المضاف إليه ، ولا المنعوت دون نعته ، ولا الرافع دون مرفوعه وعكسه ، ولا الناصب دون منصوبه وعكسه ، ولا إن أو كان أو ظن وأخواتها دون اسمها ، ولا اسمها دون خبرها ، ولا المستثنى منه دون الاستثناء ، ولا الموصول دون صلته ، اسمياً أو حرفياً ، ولا الفعل دون مصدره ، ولا حرف دون متعلقه ، ولا شرط دون جزائه ، كما يرى ذلك ابن الأنباري (٢).

وهذا التوقف عن الوقف قد لا يراد ببعضه التحريم الشرعي ، وإنما المراد هو عدم الجواز في الأداء القرآني ، مما تكون به التلاوة قائمة على أوصولها ، والملحظ الصوتي متكاملاً في التأدية التامة لأصوات الحروف.

والمقياس الفني لذلك : أن الكلام إذا كان متعلقاً بما بعده فلا يوقف عليه ، وإن لم يكن كذلك فالمختار الوقوف عليه.

ولنأخذ كلمة « نعم » في موضعين من القرآن في حالتي الوقوف وعدمه :

أ ـ قال تعالى : ( ونادى اصحاب الجنة اصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) (٣).

فالاختيار الفني الوقوف الطبيعي عند نعم ، لأن ما بعدها غير متعلق بها ، إذ ليس « فأذن مؤذن » في الآية من قول أهل النار.

ب ـ وقال تعالى : ( أو ءاباؤنا الأولون * قل نعم وأنتم داخرون ) (٤).

فالاختيار الأدائي عدم الوقف عند « نعم » بل وصلها بما بعدها ، لتعلقه بما قبلها ، وذلك لأنه من تمام القول وغير منفصل عنه.

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٤٤.

(٢) المصدر نفسه ١|٢٣٢.

(٣) الأعراف : ٤٤.

(٤) الصافات : ١٧ ـ ١٨.

١٠٦

لذلك فقد عبر الزركشي عن الوقف بأنه « فن جليل ، وبه يعرف كيف آداء القرآن ، وبه تتبين معاني الآيات ، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات » (١).

وقد نقل السيوطي : أن للوقف في كلام العرب أوجهاً متعددة ، والمستعمل منها عند أئمة القراء تسعة : السكون ، والروم ، والأشمام ، والإبدال ، والنقل ، والأدغام ، والحذف ، والإثبات ، والإلحاق (٢).

وهذه المفردات كلها مصطلحات فنية تتعلق بالصوت ، وتنظر إلى التحكم فيه ، أو تعتمد على إظهار الصوت بقدر معين.

فالسكون : عبارة عن ترك الحركة على الكلم المحركة وصلاً.

والروم : النطق ببعض الحركة أو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب أكثرها.

والإشمام : عبارة عن الإشارة إلى الحركة من غير تصويت.

والإبدال : فيما آخره همزة متطرفة بعد حركة أو ألف ، فإنه يوقف بإبدالها حرف مد من جنس ما قبلها.

والنقل : فيما آخره همزة بعد ساكن ، فتنقل حركتها إليه ، فتتحرك بهاء ثم تحذف الهمزة.

والإدغام : فيما آخره همزة بعد ياء أو واو زائدين ، فإنه يوقف عليه بالإدغام بعد إبدال الهمز من جنس ما قبله.

والحذف : إنما يكون في الياءات الزوائد عند من يثبتها وصلاً.

والإثبات : في الياءات المحذوفات وصلاً عند من يثبتها وقفاً.

والإلحاق : ما يلحق آخر الكلم من هاءات السكت عند من يلحقها.

في : عم ، وفيم ، وبم ، ومم. والنون المشددة مع جمع الإناث ،

__________________

(١) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ١|٣٤٢.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١|٢٤٨.

١٠٧

نحو : هن ، ومثلهن. والنون المفتوحة ، نحو العالمين ، والدين ، والمفلحون ، والمشدد المبني ، نحو: « ألا تعلو عليّ » ، و « خلقت بيدي » ، و « مصرخي » و « يديّ » (١).

وستجد في غضون البحث نماذج قرآنية كافية لهذه المؤشرات الصوتية تطبيقياً ، وذلك في مواضعها من البحث ، وكل بحيث يراد.

ولما كان الوقف هو الأصل في هذا المبحث ، فإن موارده في الأداء القرآني متسعة الأطراف ، ومتعددة الجوانب ، ولما كانت الفاصلة القرآنية تشكل مظهر الوقف العام والمنتشر في القرآن ، فقد سلطنا الضوء الكاشف على جزئياتها في أصول الأداء القرآني بمختلف صورها ، واعتبرنا ذلك المورد الأساس للآداء بالنسبة للفاصلة فحسب ، على أننا قد خصصنا الفواصل بفصل منفرد بالنسبة للصوت اللغوي ، ولمّا كان مبنى الفواصل على الوقف ، وتلك ظاهرة صوتية في الآداء ، فإننا قد أضفنا أليها ظاهرة أخرى في رد الأصوات إلى مخارجها ، وتنظيم النطق بحسبها في إحداث الأصوات ، وهي ظاهرة ترتيب التلاوة صوتياً ، وبذلك اجتمع موردان هما الأصل في علم الآداء القرآني الوقف والتجويد منفرين بالمبحثين الآتيين :

مهمة الوقف في الأداء القرآني :

يأتي الوقف دون الوصل في وسط الآية ، وضمن فقراتها ، وعند فواصلها ، ولما كان مبنى الفواصل القرآنية على الوقف في مختلف صورها مرفوعة ومجرورة ومنصوبة اسماً كانت أم فعلاً ، مفرداً أم مثنى أم جمعاً ، مذكراً ومؤنثاً ، فإن الوقف في مجالها متميز الأبعاد ، ومتوافر العطاء ، فقد عرضنا إليه في هذا الحقل للدلالة عليه فيما سواه مضافا الى ما تقدم في المبحث السابق ، ففيه الغنية إلى موارده.

شاع في فواصل الآيات القرآنية مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس ، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون ، وقارن فيما يأتي : من الآيات ، وهي تقف عند السكون صوتاً في غير الدرج ، ةإن كانت فواصلها متعاقبة على

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ١|٢٤٩ ـ ٢٥٠ وقارن في كتب التجويد.

١٠٨

الرفع والجر أو الج والرفع من حيث الموقف الأعرابي ، والرسم الكتابي :

اولاً : مقابلة المجرور والمرفوع طرداً وانعكاساً والمجرور بالمفتوح :

أ ـ قال تعالى : ( لا يَسَّمَّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب * فاستفتهم اهم اشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ) (١).

فالكلمة «جانب » وهي مجرورة في الفاصلة الأولى تتبعها « واصب » في الفاصلة الثانية ، وهي مرفوعة. والكلمة « ثاقب » مرفوعها تتبعها في الفاصلة التي تليها « لازب » وهي مجرورة ، وقد جاءت الفواصل جميعها على نبرة صوتية واحد نتيجة الوقف عندها.

ب ـ قال تعالى : ( ففتحنا أبواب السّماء بماء مّنهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر ) (٢).

فالكلمة « منهمر » وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها « قدر » وهي مفتوحة. والكلمة « دسر » وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها « كفر » وهي مفتوحة ، وقد تمت تسويتها الصوتية على وتيرة نغمية واحدة ضمن نظام الوقف في الفواصل فنطقت ساكنة.

ج ـ وفي سورة الرعد ، ورد اقتران المنون المجرور بالمنصوب ، يليه المجرورغير المنون ، في قوله تعالى :

( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال هو الذّى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السّحاب الثّقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصّواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) (٣).

__________________

(١) الصافات : ٨ ـ ١١.

(٢) القمر : ١١ ـ ١٤.

(٣) الرعد : ١١ ـ ١٣.

١٠٩

فالكلمة « وال » منونة وهي مجرورة تبعتها في الفاصلة التي تليها « الثقال » وهي مفتوحة منصوبة ، تليها « المحال » وهي مجرورة غير منونة.

وبدت الآيات في تراصفها الصوتي مختتمة باللام الساكنة ، دون تنوين أو فتح أو كسر بفصيلة الوقف.

ثانياً : ولا تتحكم هذه القاعدة في الفواصل التي تلتزم حرفاً واحداً في أواخرها ، كما في الأمثلة السابقة بل تتعداها إلى أجزاء أخرى من الفواصل ، المختلفة الخواتيم ، وقارن بين الآيات التالية الذكر :

أ ـ ورد اقتران المجرور بالمرفوع المنوّن ، واقتران المرفوع المنون بالمنصوب في قوله تعالى :

( وجعلوا لله أندادا لّيضلّوا عن سبيله قل تمتّعوا فإنّ مصيركم إلى النّار * قل لّعبادى الّذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ممّا رزقناهم سرّا وعلانية مّن قبل أن يأتي يوم لاّ بيع فيه ولا خلال * الله الذى خلق السّماوات والأرض وأنزل من السّماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقا لّكم وسخّر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار ) (١).

فالألفاظ : « النار » وهي مجرورة دون تنوين ، و « خلال » وهي مرفوعة منونة ، و « الأنهار » وهي منصوبة مفتوحة ، وقد تلاقت الكسرة والضمة والفتحة في سياق قرآني واحد ، دون تقاطع النبر الصوتي ، أو اختلاف النظام الترتيلي.

ب ـ وقد جاء التنوين في حالة الجر إلى جنب الرفع غير المنون في فاصلتي قوله تعالى :

( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) (٢). فالكلمتان « خبير » وهي مجرورة منونة مختتمة بالراء ، اتبعتها في الفاصلة التي تليها « الحميد » وهي مرفوعة دون

__________________

(١) إبراهيم : ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) فاطر : ١٤ ـ ١٥.

١١٠

تنوين مختتمة بالدال ، انسجما صوتياً مع اختلاف الفاصلة والهيأة نتيجة لهذا الوقف الذي قرب من الصوتين.

ثالثاً : ولا يقف فضل الوقف على ما تقدم بل يظهر بمظهر جديد آخر في تقاطر العبارات وتناسقها ، وهي مختلفة في المواقع الإعرابية ، وكأنها في حالة إعرابية واحدة وإن لم تكن كذلك ، نتيجة للصوت الواحد في الوقوف على السكون في آخر الفاصلة.

أ ـ في سورة المدثر ، يقترن المرفوع المنون ، بالمجرور المنون ، يليه المنصوب المنون ، ولا تحس لذلك فرقاً في سياق واحد في قوله تعالى :

( كأنهم حمر مستنفرة * فرّت من قسورة * بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشّرة ) (١). فالكلمات : « مستنفرة » مرفوعة منونة ، تلتها « قسورة » مجرورة منونة ، تلتها « منشرة » منصوبة منونة ، ولم تنطق صوتياً عند الوقف بكل هذه التفصيلات ، بل وقفنا على الهاء.

ب ـ وفي سورة القيامة يقترن الاسم المنصوب في الفاصلة بالظرف مع الاسم المجرور بسياق واحد متناسق يكاد لا يختلف في نبر ، ولا يختلط في تنغيم ، قال تعالى : ( بلا قادرين علا أن نسوي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسئل أيان يوم القيامة ) (٢).

فالألفاظ : «بنانه » مفعول به منصوب مضاف إلى الهاء ، و « أمامه » ظرف مضاف إلى الضمير ، و « القيامة » مجرورة مضاف إليه. وجاءت الأصوات متقاطرة بالهاء عند الوقف.

أما الوقف في وسط الآية ، وفي نهاية الجملة ، وعند بعض الفقرات من الآيات ، فإنه يخضع لقواعد إعرابية حيناً ، وتركيبة حيناً آخر ، وقد أشرنا إليها فيما سبق ، ولا يترتب عليها كبير أمر في الأصوات ، لهذا كانت الإشارة مغنية ، وكان التفصيل في الوقف عند الفواصل لارتباطه بالصوت اللغوي.

__________________

(١) المدثر : ٥٠ ـ ٥٢.

(٢) القيامة : ٤ ـ ٦.

١١١

نصاعة الصوت في الأداء القرآني :

ونريد بالنصاعة إخراج الصوت واضحاً لا يلتبس به غيره من أصوات العربية ، وإعطاء الحرف حقه من النطق المحقق غير مشتبه بسواه ، وهذا جوهر الأداء ، وقد سماه القدامى بعلم التجويد ، ولعل تسمية علم الآداء القرآني بـ « التجويد » ناظرة إلى قول الإمام علي عليه‌السلام المتقدم : « الترتيل معرفة الوقوف ، وتجويد الحروف » (١) فأخذ عنه هذا المصطلح بإعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله ، وتلطيف النطق به على كمال هيئته ، من غير إسراف ولا تعسف ، ولا إفراط ولا تكلف » (٢).

وهذه القاعدة تبنى على مخارج الحروف صوتياً ، وقد تقدم أنها سبعة عشر مخرجاً عند الخليل ، وستة عشر مخرجاً عند تابعيه ، بإسقاط مخرج الحروف الجوفية.

ومخرج الحرف للتصويت به دون لبس ، أفاده ابن الجزري ( ت : ٨٣٣ هـ ) في تعريفه له من الخليل عملياً ، يقول : « واختيار مخرج الحرف محققاً أن تلفظ بهمزة الوصل وتأتي بالحرف بعده ساكناً أو مشدداً ، وهو أبين ، ملاحظاً فيه صفات ذلك الحرف » (٣).

فتقول في الباء والتاء والثاء « ابّ ، اتّ ، اثّ » وهكذا بقية الحروف ، فتتحكم الذائقة الصوتية في نطق الحروف على أساس منها كبير ، والدليل على ذلك تقسيم الحروف على أساس مخارجها عند علماء الأداء القرآني تبعاً لعلماء اللغة ، فكل حيّز ينطلق منه الصوت يشكل مخرجاً في أجهزة النطق ، وذلك عند اندفاع الأصوات إلى الخارج من مخارج الحلق ومدارجه.

وقد أورد السيوطي ( ٩١١ هـ ) ، ملخصاً في مخارج الأصوات استند فيه إلى ابن الجزري ( ت : ٨٣٣ هـ ) وكان ابن الجزري ذكياً في جدولته للأصوات من مخارجها ، إذ ـ فاد من كل ما سبقه ، ونظمه جامعاً تلك

____________

(١) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر.

(٢) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآني : ١|٢٨١.

(٣) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر : ١|١٩٨.

١١٢

الإفادات ، وهي ليست له إلا في إضافات من هنا وهناك ، استند إلى ترتيب الخليل ( ت : ١٧٥ هـ ) وبرمجة سيبويه ( ت : ١٨٠ هـ ) وذائقة ابن جني (ت : ٣٩٢ هـ ).

ولا ضير في ذكر مخارجه مع الجزئيات المضافة لا على الأصل فهو واحد ، بل في تحسين العرض ، وضبط حيثيات المخارج على النحو الآتي :

الأول : الجوف ، للألف والواو والياء الساكنين بعد حركة تجانسهما.

الثاني : أقصى الحلق ، للهمزة والياء.

الثالث : وسطه ، للعين والحاء المهملتين.

الرابع : أدنى الحلق للفم ، للغين والخاء.

الخامس : أقصى اللسان مما يلي الحلق وما فوقه من الحنك للقاف.

السادس : أقصاه من أسفل مخرج القاف قليلاً ، وما يليه من الحنك.

السابع : وسطه ، بينه وبين وسط الحنك ، للجيم والشين والياء.

الثامن : للضاد المعجمة ، من أول حافة اللسان ، وما يليه من الأضرس من الجانب الأيسر ، وقيل : الأيمن.

التاسع : اللام من حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه ، وما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى.

العاشر : للنون من طرفه ، أسفل اللام قليلاً.

الحادي عشر : للراء من مخرج النون ، لكنها أدخل في ظهر اللسان.

الثاني عشر : للطاء والدال والتاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا مصعداً إلى جهة الحنك.

الثالث عشر : لحروف الصفير: الصاد والسين والزاي ، من بين طرف اللسان ، وفويق الثنايا السفلى.

الرابع عشر : للضاء والثاء والذال ، من بين طرفه وأطراف الثنايا العليا.

١١٣

الخامس عشر : للفاء ، من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا.

السادس عشر : للباء والميم والواو غير المديّة بين الشفتين.

السابع عشر : الخيشوم للغنة في الادغام والنون أو والميم الساكنة (١).

لقد اتسم تشخيص هذه المخارج بالدقة ، وتعيين المواضع بما يقرّه علم التشريح حديثاً ، من حيث الضبط لجزئيات المدارج ، فهي تتلاءم تماماً مع معطيات هذا العلم بعد مروره بتجارب الأجهزة المختبرية ، ونتائج جراحة مخارج الأصوات ضمن معادلات دقيقة لا تخطئ.

ولا يكتفي ابن الجزري في هذا العرض حتى يضيف اليه مفصلا صوتيا في خصائص الحروف ، وملامح الأصوات ، وسمات الاشتراك والانفراد في المخارج والصفات.

يقول ابن الجزري ( ت : ٨٣٣ هـ ) فالهمزة والهاء اشتركا مخرجاً وانفتاحاً واستفالاً ، وانفردت الهمزة بالجهر والشدة ، والعين والحاء اشتركا كذلك ، وانفردت الحاء بالهمس والرخاوة الخالصة ، والغين والخاء اشتركا مخرجاً ورخاة واستعلاءً وانفتاحاً ، وانفردت الغين بالجهر ، والجيم والشين والياء اشتركت مخرجا وانفتاحا واستفالا ، وانفردت الجيم بالشدة ، واشتركت مع الياء في الجهر ، وانفردت الشين بالهمس والتفشي ، واشتركت مع الياء في الرخاوة ، والضاد والظاء اشتركا صفة وجهراً ورخاوة واستعلاءً ، وإطباقاً ، وافترقا مخرجاً ، وانفردت الضاد بالاستطالة ، والطاء والدال والتاء اشتركت مخرجاً وشدة ، وانفردت الطاء بالأطباق والاستعلاء ، واشتركت مع الدال في الجهر ، وانفردت التاء بالهمس ، واشتركت مع الدال في الانفتاح والاستفال ، والظاء والذال والثاء اشتركت مخرجاً ورخاوة ، وانفردت الظاء بالاستعلاء والأطباق ، واشتركت مع الذال في الجهر ، وانفردت الثاء بالهمس ، واشتركت مع الذال انفتاحاً واستفالاً ، والصاد والزاي والسين اشتركت مخرجاً ورخاوة وصفيراً ، وانفردت الصاد

__________________

(١) انظر السيوطي ، الاتقان : ١|٢٨٣ وانظر مصدره.

١١٤

بالأطباق والاستعلاء ، واشتركت مع السين في الهمس ، وانفردت الزاي بالجهر ، واشتركت مع السين في الانفتاح والاستغال. فإذا أحكم القارىء النطق بكل حرف على حدته موفّى حقه ، فليعمل نفسه بأحكامه حالة التركيب لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد ، بحسب ما يجاورها من مجانس ومقارب ، وقوي وضعيف ، ومفخّم ومرقق ، فيجذب القوي الضعيف ، ويغلب المفخم المرقق ، ويصعب على اللسان النطق بذلك على حقه ، إلا بالرياضة الشديدة ؛ فمن أحكم صحة التلفظ حالة التركيب ، حصل حقيقة التجويد « (١).

حقاً لقد أعطى ابن الجزري مواطن تنفيذ الأداء القرآني على الوجه الأكمل بما حدده من خصائص كل حرف في المعجم ، وما لخصه من دراسة صوتية لمواضع الأصوات ومدارجها في الانفتاح والاستفال ، والجهر والهمس ، والشدة والرخاوة ، والتفشي والاستطالة يساعد على تفهم الحياة الصوتية في عصره ، ولا يكتفي بهذا حتى يربطها بعلم الأداء في حالة تركيب الحروف ، وتجانس الأصوات قوة وضعفاً.

بقي القول أن علم الأداء القرآني يرتبط بالأصوات في عدة ملاحظ كالوقف وقد تقدم ، والإدغام وسيأتي ، ونشير هنا إلى ملحظين هما الترقيق والتفخيم ، فالترقيق مرتبط بحروف الاستفال ( الحروف المستفلة ) لأنها مرققة جميعاً. والتفخيم مرتبط بحروف الاستعلاء ( الحروف المستعلية ) لأنها مفخمة جميعاً ، وقد سبقت الإشارة في موضعها إلى الامالة والاشمام.

وما قدمناه ـ عادة ـ قد يصلح مادة أساسية للاستدلال على صلاحية الرأي القائل بأن علم الأداء القرآني في قسيميه الأساسيين : عبارة عن جزء مهم من كلي الصوت اللغوي في القرآن ، لارتباطه بعلم الأصوات ارتباطاً متماسكياً لا يمكن التخلي عنه ، فهو ناظر إلى مخارج الحروف وتجويدها ، والمخارج بأصنافها تشكل مخططاً تفصيلياً لأجهزة الصوت ، وكل حرف ينطلق من حيزه صوتاً له مكانه وزمانه ، ساحته ومسافته.

__________________

(١) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر : ١|٢١٤.

١١٥

الصوت الأقوى في الأداء القرآني :

في الأداء القرآني يحدث أن يحتل صوت مكان صوت ، أو يدغم صوت في صوت ، فيشكلان صوتاً واحداً ، ويكون الصوت المنطوق هو الأقوى في الإبانة والإظهار ، وهو الواضح في التعبير ، حينئذ يكون المنطوق حرفاً ، والمكتوب حرفين ، والمعول عليه ما يتلفظ به أداءّ ، وينطق بجوهره صوتاً ، ذلك ما يتحقق بعده الصوتي في ظاهرة الادغام.

إن رصد هذه الظاهرة أصواتياً في التنظير القرآني مهمة جداً لمقاربتها من ظاهرة « المماثلة » عند الأصواتيين.

الادغام عند النحاة : أن تصل حرفاً ساكناً بحرف مثله متحرك من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف فيصير اتصالهما كحرف واحد (١).

وعند علماء القراءات : هو اللفظ بحرفين حرفاً كالثاني مشدداً ؛ وينقسم إلى كبير وصغير ، فالكبير ما كان أول الحرفين متحركاً ، سواء كانا مثلين أم جنسين ، أم متقاربين ، وسمي كبيراً لكثرة وقوعه ، ووجهه : طلب التحقيق.

والادغام الصغير : ما كان الحرف الأول فيه ساكناً ، وهو واجب وممتنع وجائز، والذي جرت عادة القراء بذكره هو الجائز(٢).

والادغام عند الأصواتيين العرب عرفّه ابن جني ( ت : ٣٩٢ هـ ) بأنه : « تقريب صوت من صوت » (٣).

وهو عنده : إما تقريب متحرك من متحرك ، فهو الادغام الأصغر ، وهو تقريب الحرف من الحرف ، وإدناؤه منه من غير ادغام يكون هناك. وإما تقريب ساكن من متحرك فهو الادغام الأكبر لأن الصوت الأول شديد الممازجة للثاني ، لأنك إنما أسكنت المتحرك لتخلطه بالثاني وتمازجه به (٤).

__________________

(١) ظ : ابن يعيش ، المفصل : ١٠|١٢١.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٦٣ و ٢٦٧.

(٣) ظ : ابن جني ، الخصائص : ٢|١٣٩.

(٤) ظ : المصدر نفسه : ٢|١٤٠.

١١٦

ونقف عند قول ابن جني وقفة قصيرة لتحديد الصوت الأقوى. فتقريب الحرف من الحرف يحصل من غير إدغام فلا حديث لنا معه ، وإنما يعنينا الحديث عن الادغام وهو ما يتحقق بالأكبر دون الأصغر ، ويحدث بتقريب الساكن من المتحرك. لهذا فسيكون حديثنا متأطراً بالادغام الأكبر دون سواه فيما بعد.

والتقريب الذي تحدث عنه ابن جني هو عين المماثلة عند الأصواتيين المحدثين ، لأن المماثلة عبارة عن عملية استبدال صوت بآخر تحت تأثير صوت ثالت قريب منه في الكلمة أو في الجملة كما يعرفها جونز(١).

والمماثلة نوعان : رجعية وتقدمية ، وذلك بحسب كونها من الأمام إلى الخلف ، أو من الخلف إلى الأمام.

والنوع الأول هو الأكثر شيوعاً من الآخر مع أن كلاً منهما يمكن أن يحدث في لغة واحدة (٢).

والمماثلة الرجعية تنجم من تأثر الصوت الأول بالثاني في صيغة افتعل في نحو ( إذتكر) حينما تتفانى الذال والتاء ، ويندكان تماماً ليحل محلهما الدال مشدداً ، فتكون (إدّكر) في مثل قوله تعالى : ( وادّكر بعد أمة ) (٣) فقد تلاشى الصوت الأول وهو الذال في الصوت الثاني وهو التاء ، وعادت التاء دالاً لقرب المخرج مع تشديدها لتدل على الاثنين معاً ، وهذا هو تطبيق المماثلة في الادغام.

« وتتخذ المماثلة صورة تقدمية فيما ينطقه بعض الناس للفظة ( إجتمع ) بـ ( إجدمع ) فالتاء قد جاورت الجيم مجاورة مباشرة ، فقد صوت التاء صفته كمهموس ، ليصبح مجهوراً في صورة نظيره الدال » (٤).

__________________

(١) ظ : خليل العطية ، في البحث الصوتي عند العرب : ٧١ وانظر مصدره.

(٢) ظ : إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ١٢٦.

(٣) يوسف : ٤٥.

(٤) إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية : ١٢٨.

١١٧

والذي يتضح من هذا أن الصوت القوي هو الذي يحتل مساحة النطق بدل الصوت الضعيف ، نتيجة الملائمة الصوتية في الأكثر مجاورة واحتكاكاً ، بينما علل « موريس جرامونت » ظاهرة المماثلة بالتفسير العضوي المرتبط بجهاز النطق فيقول : « أما الوجه الذي تتم به الظاهرة فهو ذو طابع خارجي لا يعتمد على جوهر الصوت ، فإذا ما تحدثنا عنه من الوجهة النفسية العضوية لم نجد للمماثلة الرجعية من تعليل سوى إسراع بحركات النطق عن مواضعها ، وبأن المماثلة التقدمية التزام هذه الحركات والجمود عليها .. ومع ذلك فهذه التفرقة ثانوية ، أما الشيء الأساسي فهو أن هناك صوتاً يسيطر على صوت آخر ، وأن الحركة تتم في اتجاه أو في آخر ما إذا كان الصوت المسيطر موجوداً في الأمام أو في الخلف. ولا شك أن الصوت المؤثر هو ذلك الذي تتوفر فيه صفات : أن يكون أكثر قوة ، وأكثر مقاومة ، أو أكثر استقراراً ، أو أكثر امتيازاً ، وأنما تتحد هذه الصفات سلفاً طبقاً لنظام اللغة ، وعلى ذلك يمكن التنبؤ بالوجه الذي تتم عليه ظاهرة المماثلة ، الأمر الذي يستبعد معه هوى المتكلم ، ولتبسيط الأمر يمكننا أن نحدد القضية كلها في كلمة واحدة هي ( القوة ). فالمماثلة تخضع لقانون واحد هو قانون : ( الأقوى ) ... وليست المماثلة ونقيضها المخالفة هما اللذان يخضعان وحدهما له ، تخضع له جميع الظواهر التي يكون فيها تغير الأصوات ناشئاً عن وجود صوت آخر (١).

وهذا يدل على أن مقاومة ما تحدث بين الأصوات في المماثلة ، فيحل الأقوى بدل القوي ، ويتغلب عليه فيصوّت به دونه.

وعلى هذا فالإدغام عند العرب في نوعيه هو الأصل في المماثلة عند الأوروبيين ، إذ يتغلب صوت أولي على صوت ثانوي ، فالصوت الأولي هو الأقوى ، لأنه المتمكن المسيطر على النطق ، وأحياناً يحل محلهما معاً صوت ثالث مجاور يمثل الصوتين السابقين بعد فنائهما ، وتلاشي أصدائهما كما في الابدال.

وكان أبو عمرو بن العلاء ( ت : ١٥٤ هـ ) من أبرز القائلين به في

__________________

(١) عبد الصبور شاهين ، أثر القراءات في الأصوات : ٢٣٣ وانظر مصدره.

١١٨

القرآن الكريم وإليه ينسب القول المشهور :

« الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره» (١).

وقد قال ابن الجزري عن عدد ما أدغمه أبو عمرو في القرآن : « جميع ما أدغمه أبو عمرو من المثلين والمتقاربين ، ألف حرف وثلاثمائة وأربعة أحرف » (٢).

والحق أن أبا عمرو بن العلاء قد توسع في الادغام حتى أنكروا عليه إدغامه الراء عند اللام في قوله تعالى :

( يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) (٣) [ إذ قرأها يغفلكم ].

قال الزجاج : إنه خطأ فاحش ؛ ولا تدغم الراء في اللام إذا قلت : « مرلي » بكذا ، لأن الراء حرف مكرر ، ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به ، فأما اللام فيجوز إدغامه في الراء ، ولو أدغمت اللام في الراء لزم التكرير من الراء. وهذا إجماع النحويين (٤).

وقال أبو عمرو بن العلاء بالادغام الكبير لشموله نوعي المثلين والجنسين والمتقاربين ، ويعني بالمثلمين ما اتفقا مخرجاً وصفة ، والمتجانسين ما اتفقا مخرجاً واختلفا صفة ، وبالمتقاربين ما تقاربا مخرجاً وصفة (٥).

وعمد القرّاء رضوان الله عليهم إلى جعل الحروف المدغمة على نوعين من التقسيم (٦).

الأول : الحروف التي تدغم في أمثالها ، واصطلحوا عليه المدغم من

__________________

(١) ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر : ١|٢٧٥.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ١|٢٦٦.

(٣) نوح : ٤.

(٤) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ١|٣٢٢.

(٥) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١|٢٦٣ وما بعدها ، وأنظر مصدره.

(٦) قارن في هذا بين الجزري ، النشر : ١|٢٨٠ وما بعدها + السيوطي ، الاتقان : ١|٢٦٤ وما بعدها + ابن يعيش ، المفصل : ١٠|١٥٠ وما بعدها.

١١٩

الأول : الحروف التي تدغم في أمثالها ، واصطلحوا عليه المدغم من المتماثلين.

الثاني : الحروف التي تدغم في مجانسها ومقاربها ، واصطلحوا عليه المدغم من المتجانسين والمتقاربين.

والنوع الأول يضم سبعة عشر حرفا ، والثاني يضم ستة عشر حرفا ، وسنورد اسم الحرف مع تنظيره القرآني.

أولاً : الادغام بين المتماثلين :

١ـ الباء : تدغم في مثلها في نحو قوله تعالى : ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) (١).

٢ ـ التاء : وتدغم في مثلها في نحو قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ) (٢).

وأما إذا كانت التاء : تاء ضمير فلا تدغم كقوله تعالى : ( ياليتني كنت ترابا ) (٣).

٣ ـ الثاء : تدغم في مثلها في نحو قوله تعالى : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) (٤).

ومن أبرز مصاديقه وضوحاً قوله تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من الله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * ) (٥).

٤ ـ الحاء : تتدغم في مثلها في نماذج كثيرة من القرآن كنحو قوله

__________________

(١) البقرة : ٢١٣.

(٢) البقرة : ١٦.

(٣) النبأ : ٤٠.

(٤) النساء : ٩١.

(٥) المائدة : ٧٣.

١٢٠