سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

ولم يكن قدمضى على بداية هجرة المسلمين التدريجية هذه زمان طويل الا وفطن زعماء قريش لسرها ، وخطرها عليهم فاخذوا يمنعون من اي تنقل وسفر يقوم به المسلمون ، وقرروا ان يعيدوا إلى مكة كلَ من وجدوه في اثناء الطريق ، كما قرروا ان يحبسوا زوجة كل مسلم يريد الهجرة وله زوجة قرشية ويمنعوها عنه ، ولكنهم كانوا يتجنبون اراقة الدماء في هذا السبيل ، بل وكان يقتصر إذاهم على الحبس والتعذيب ولا يتعداهما.

ولكن هذه المحاولات الّتي قام بها زعماء قريش لوقف الهجرة إلى المدينة لم تثمر لحسن الحظ.

فقد استطاعت مجاميع كبيرة من المسلمين النجاة بنفسها من أيدي قريش واللحاق بزملائهم واخوانهم في يثرب حتّى انه لم يبق في مكة من المسلمين إلاّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام وعدد قليل من المسجونين ، أو المرضى من المسلمين.

وقد زاد اجتماع المسلمين في يثرب من مخاوف قريش ، وضاعف من قلقها ، ولهذا اجتمع كلُ رؤساء القبائل المكية في « دارالندوة » اكثر من مرة للتشاور في كيفية القضاء على الإسلام وطُرحت في ذلك المجلس خطط متنوعة ، واقترحت اُمور كثيرة لتحقيق هذه الغاية ولكنها فشلت برمتها بتدبير رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمته ، وسياسته الدقيقة.

وأخيرا هاجر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من « مكة » إلى « المدينة » في شهر ربيع الأول سنة ١٤ من البعثة.

اجل لقد تضاعف قلق قريش منذ أن حصل محمّد على قاعدة ثانية خارجة عن نطاق هيمنة المكيين وسيطرتهم واصبحوا حيرى لا يدرون ماذا يفعلون ، لان جميع خططهم للمنع من انتشار الإسلام واتساع رقعته ، قد باءت بالفشل.

لقد أمر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة والالتحاق

٥٨١

بالانصار وقال لهم : « إنَّ اللّه قد جعل لكم داراً وإخواناً تأمنُون بها » (١) (٢).

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٢٦.

٢ ـ لقد انتهينا من تسجيل حوادث السنوات الثلاث عشرة من البعثة ، وقد حاولنا ذكر كل ما كان معلوماً مشهوراً من تواريخها ، ولكن لا يمكن اعتبار تواريخ كل تلك الحوادث اُموراً مقطوعاً بها من هنا ذكرنا الحوادث المثبة في الفصل ٢٤ من دون ادراج تواريخ لها في الاغلب ولكن حيث أن الوقائع الحادثة بعد الهجرة وقعت في أوقات معينة معلومة لذلك فاننا سنرفق ذكر كل حادثة بتاريخ وقوعها في الفصول القادمة.

٥٨٢

حوادث السنة الاُولى من الهجرة

٢٥

قصّة الهجرة

كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في « دارالندوة » لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبة من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها ، ومن خلال تضافر الجهود على حلها ، ورفعها أو دفعها.

وفي السنوات الثانية عشرة ، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً ، فقد حصل المسلمون على مركز هام ، وقاعدة صلبة في يثرب ، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدفاع عنه ، وكلُ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير ، الّذي بات يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية.

وفي شهر ربيع الاوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة الّتي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إلاّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وأبوبكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين ، أو المرضى ، أو العجزة ، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة إلى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في « دار الندوة » حضرها رؤساء قريش

٥٨٣

وزعماؤها وبدأ متكلمهم (١) يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة الّتي تمت بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم اضاف قائلا :

يا معشر قريش إنه لم يكن أحدٌ من العرب أعَزَّ مِنّا ، نحن أهل اللّه تفد إلينا العرب في السنة مرتين ، ويكرموننا ، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامعٌ ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا « محمّد بن عبد اللّه » فكنّا نسمّيه ( الأمين ) لصلاحه ، وسكونه ، وصدق لهجته ، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه ، وأن أخبار السماء تاتيه ، فسفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبّاننا ، وفرق جماعتنا ، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا ، وقد رأيت فيه رأياً ، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فان طلبت بنو هاشم بدمه (٢) اعطيناهم عشر ديات.

فقال رجلٌ مجهول حضر ذلك المجلس ووصف نفسه بانه نجدي : ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة ، فمن هذا الّذي يبذل نفسَه للقتل منكم؟ فانه إذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.

فقال أبو البختري : نلقيه في بيت ونلقي إليه قوته حتّى يأتيه ريبُ المنون.

فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى : وهذا رأيٌ أخبث من الآخر ، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء موسمٌ من مواسم العرب استغاثوا بهم ، واجتمعوا عليكم فاخرجوه.

فقال ثالث : نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا ، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافا ، ثم نضربُ البعيرَ بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إرباً إرباً.

فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلا : أرايتم إن خلص به

__________________

١ ـ وروي انه كان المتكلم : أبوجهل.

٢ ـ وفي رواية : بديته.

٥٨٤

البعير سالماً إلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه ، فصبأ (١) القوم إليه واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةٌ ، فليسيرنَّ حينئذ اليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت اياد ومن كان قبلكم.

فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس ، وفجأة قال أبو جهل ( وعلى رواية : قال ذلك الشيخ النجدي ) : ليس هناك من رأي إلاّ أن تعمدوا إلى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلا قوياً ثم تسلّحوه حساماً عَضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إرباً إرباً فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميعُ هذا الرأي ، واتفقوا عليه ، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كل مكان (٢).

الإمدادات الغيبية والعنايات الالهية :

لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورن أن رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد ، والخطط والمؤامرات ، ولم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ ـ كغيره من الأنبياء ـ يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي ، وان اليد الّتي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح ، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة ، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.

يقول المفسرون : بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي « جبرئيل » ، على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ

__________________

١ ـ صبأ فلان : اي خرج من دين إلى دين غيره وكانت العرب تسمّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصابئ لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام وتسمي المسلمين : الصباة .. وهو جمع الصابىء.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٧ و ٢٢٨ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٨٠ ـ ٤٨٢.

٥٨٥

قرأ عليه قول اللّه تعالى : « وَإذْ يَمْكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُثْبِتوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أو يُخْرجُوكَ وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُر اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرينِ » (١).

وعندئذ اُمِرَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة ، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين وبالنظر إلى المراقبة الدقيقة الّتي كانوا يقومون بها لجميع التحركات ، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر إلى بُعد المسافة بين مكة والمدينة.

فاذا لم يكن رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل إلى أتباعه وأصحابه.

ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرته والاختلاف الّذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيرة في غيره من الوقائع.

وقد استطاع مؤلف « السيرة الحلبية » أن يُوفّق إلى درجة مّا ، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص ، ولكنه لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف فى بعض الموارد في هذا الصعيد.

على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ ، وخروجه من منزله ، ثم من مكة بنحو مؤداه إسناد نجاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلاصه إلى عامل الاعجاز ، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة ، والمعجزة.

في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية ، والتحسبات ، والتدابير الحكيمة ، وإن إرادة اللّه تعالى تَعَلّقت بان ينجّي نبيّه

____________

١ ـ الانفال : ٣٠. ليثبتوك أي ليسجنوك.

٥٨٦

الكريم ، عن طريق الأسباب العادية المألوفة ، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإعمال قدرته تعالى الغيبية.

ويدل على هذا المطلب أنَّ النبيّ توسل بالعِلل الطبيعية ، والوسائل والأسباب العادية ( كمبيت شخص في فراش النبيّ ، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره ) ، وبهذا الطريق نجّى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وتخلصّ من أيدي اعدائه ، العازمين على إراقة دمه.

ملك الوحي يخبر رسول اللّه :

لقد اخبر ملك الوحي « جبرئيل » رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة ، وتقرر ـ بغية إفشال عملية الملاحقة ـ ان يبيت شخصٌ في فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتصوّر المشركون أنَّ النبيّ لا يزال في منزله ، ولم يخرج بعد ، وبالتالي يركّزوا كلّ إهتمامهم على محاصرة البيت ، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة ، ونواحيها.

ولقد كانت فائدة هذا العمل اي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اغتنام الفرصة والخروج من مكة ، والاختفاء في مكان مّا من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته ، ويبغون قتله.

والآن يجب أن نرى مَن الّذي تطوَّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفدى النبيّ بنفسه ، ووقاه بحياته؟

ستقولون حتما : إن الّذي سبق جميع المسلمين إلى الايمان برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقي من بدء بعثته وإلى ذلك الحين يذب عنه ، هو الّذي يتعيَّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل ، ويقي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحياته في هذه اللحظة الخطيرة ، وهذا المضحّي بحياته ونفسه ، هو « عليّ » ليس سواه احد ، انه تقدير صحيح ، وحدس مصيب.

فليس غير « علي » يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

٥٨٧

ولهذا قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام :

« يا عليّ إنَّ قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي ، وإنّه اُوحيَ إليّ عن ربّي أن اهجرَ دار قومي ، فنُم عَلى فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عَليهم أثَري فما أنت قائل وصانع؟؟

فقال علي عليه‌السلام أوْ تَسلَمَنَّ بِمَبيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟

قال : نعم ، فتبسّم عليّ عليه‌السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سلامته ، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي ، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك ، واقع فيه بحيث مرادك ، وإن توفيقي إلاّ باللّه.

ثم رقدَ عليّ عليه‌السلام على فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر ، ولما مضى شطرٌ من الليل حاصرَ رَصَدُ قريش ـ وهم اربعون رجلا ـ بيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جرّدوا سيوفَهم ، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتطلّعون إلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مضجعه ، فيظنون أنَّ النائمَ فى الفراش هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهنا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كل جانب ، ويراقبون كلّ شيء ، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ايدي تلك الزمرة المنحطة ، فقرأ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة ( يس ) لمناسبة مطلعها لظروفه حتّى بلغ إلى قوله تعالى : « فهم لا يبصرون » (١) وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله ، وذهب إلى المكان الّذي كان من المقرر ان يختبيء

__________________

١ ـ يس : ٩.

٥٨٨

فيه على النحو الّذي سيأتي تفصيله.

وأما كيف استطاع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يخترق الحصار البشريَ المشدَّد الّذي ضُرِبَ على بيته ، ويتجاوز رصدَ قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إلاّ أنه يستفاد من رواية نقلها المفسرُ الشيعيُ المعروفُ المرحومُ عليُ بن ابراهيم في تفسيره : قول اللّه تعالى : « وَإذْ يَمْكُرُ بِك الذين كَفَرُوا » ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.

ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة (١) بان المحاصرين لمنزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يقظين حتّى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به.

إن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شك ، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟

ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته ، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً ، ولم يكن في الأمر اي اعجاز.

لقد كان يريد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باضجاع علي عليه‌السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز والكرامة.

وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الّذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل ، وذلك بمغادرة

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٨ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٠٠.

٥٨٩

بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.

ولكن يمكن ان يكون لتوقّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت حتّى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون إدّعاء هذا الموضوع ( وهو خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيت في الليل ) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر منزله قبل فرض الحصار عليه ، وقبل غروب الشمس (١).

إقتحام الاعداء لبيت الوحي :

طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في إقتحامه ، والهجوم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إرباً إرباً!

وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال : لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل ، فإنَّ في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم ، ولا نأمن أن تقع يدٌ خاطئة ، فنحرسه الليلة ، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

وربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتّى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً.

وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً ، وانفجر الصبحُ ، ودبّ في المشركين شوقٌ غريبٌ ، مع اقتراب ساعة الصفر ، فقد كانوا يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريباً ، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينما هم يهمّون بأخذ من كان راقداً في الفراش بسيوفهم ، إذا بهم يواجهون علياً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ٢ ، ص ٢٩.

٥٩٠

عليه‌السلام يثب في وجوهم وهو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخضر ، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة : ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟؟

فقالوا له بغضب : أين محمّد؟

فقال عليه‌السلام : اَجَعَلتموني عليه رقيبا؟!

فغضِبَ القوم غضَباً شديداً ، وكاد الغيظ يخنقهم ، فقد ندموا على إنتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الّذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة ، فاقبلوا عليه يلومونه ويوبخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة ، ووجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم ، وحيث أنهم كانوا يتصوّرون بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إما مختبئ في مكة ، أو أنه لا يزال في طريق المدينة ، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.

النبيُّ في غار ثور :

ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمضى هو وأبوبكر ليلة الهجرة وليلتين اخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة (١).

وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا ، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.

فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة كانت بالصدفة ، فقد رأى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر في الطريق ، فاصطحبه معه إلى غار ثور.

__________________

١ ـ حيث ان الطريق المؤدي إلى المدينة تقع في شمال مكة ، فاختبأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منطقة مقابلة أي في اسفل مكة ، ليعمي بذلك على قريش فلا يتبعوا أثره.

٥٩١

وروى فريق آخرٌ أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر ، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إلى غار ثور (١).

وقال فريق ثالث : أن أبابكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج من قبل فأرشدهُ « عليّ » إلى مخبأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى كل حال فان كثيراً من المؤرخين يعُدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه ، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون عنها بكثير من الاسهاب والاطناب ، وبمزيد من الاكبار والاعجاب.

قريش تفتش عن النبيّ :

لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها ، فقد بادرت إلى بث العيون والجواسيس في طرقات مكة ، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبةً شديدةً ، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان ، وفي طريق مكة ـ المدينة خاصة.

ومن جانب آخر جعلت مائة ابل لمن يأخذ نبي اللّه ، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبر صحيح.

وعمد جماعةٌ من قريش إلى ملاحقة رسول اللّه والتفتيش عنه في شمال مكة ، حيث الطريق المؤدي إلى المدينة ، على حين أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد اختبأ ـ كما قلنا ـ في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة.

وتصدت مجموعة اُخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفيقه!!

وكان الّذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال هذه قدم محمّد ، فما زال بهم حتّى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال : ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان ، إما أن يكونا صعدا إلى السماء أو دخلا تحت الأرض ، فان بباب هذا الغار ـ كما ترون عليه ـ نسجُ

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٠٠.

٥٩٢

العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار (١) ، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى ، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة.

التفاني في سبيل الحق :

ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه‌السلام من تفان في سبيل الحق ، والحقيقة.

إن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم.

إن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية ، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحق ، واحيائه ، واقامته هم ولا شك من عشاق الحق والحقيقة الصادقين.

انهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم ، وهذا هو الّذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة ، والعيش الموقت ، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.

إنّ مبيت عليّ عليه‌السلام في فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة الرهيبة لَنمُوذجٌ بارزٌ من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق ، والعشق الصادق للحقيقة ، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلاّ حبّ « عليّ » لبقاء الإسلام الّذي يكفل سعادة المجتمع ، ويضمن ازدهار الحياة ، لا غير.

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٩ تاريخ الخميس ، ج ١ ، ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨ وغيرها ، ولقد ذكر عامة المؤرخين هذه الكرامة هنا ، ولا ينبغي ـ نظراً لما ذكرناه في قصة الفيل وهلاك ابرهة وجنده بواسطة الابابيل ، تأويل مثل هذا الكرامات.

٥٩٣

إن لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم ، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه ، فان الآية التالية نزلت ـ حسب رواية اكثر المفسرين ـ في هذا المورد : « وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغآء مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رؤوفٌ بِالْعِباد » (١).

ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الامام علي عليه‌السلام وإلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار ، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ اليها (٢).

إنَّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلا أنه سرعان ما تمزق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الاوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للامام أمير المؤمنين عليه‌السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب ، ولكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد « سمرة بن جندب » الّذي ادرك عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم انضمّ بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي ، الحاقد على أهل البيت.

فقد طلب منه معاوية باصرار أن يَرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن

__________________

١ ـ البقرة : ٢٠٧.

٢ ـ مسند احمد : ج ١ ، ص ٨٧ ، وكنز العمال : ج ٦ ، ص ٤٠٧ ، وقد نقل كتاب الغدير : ج ٢ ، ص ٤٧ ـ ٤٩ طبعة لبنان مصادر نزول هذه الآية في شأن علي عليه‌السلام على نحو التفصيل ، فراجع.

٥٩٤

علي عليه‌السلام ، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ ( أي عبد الرحمان بن ملجم المرادي ) ، ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع الّذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل « سمرة » بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتّى بلغ اربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عند ما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية (١).

وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً ان ( عبد الرحمان بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِدَ بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها وانصارها للحوادث ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الّذي وقع في عهده المشؤوم ، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حجُبُ الجهل والافتراء مرة اُخرى ، واعترف اغلبُ المفسرين الأجلّة (٢) والمحدّثين الافاضل ـ في العصور والادوار المختلفة ، بأن الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل علي عليه‌السلام ومفاداته النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه (٣).

__________________

١ ـ لاحظ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ٤ ، ص ٧٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة : ج ١٣ ، ص ٢٦٢ ، ولقد أعطى ابن ابي الحديد حقّ الكلام حول هذه الفضيلة.

٣ ـ سمرة بن جندب من العناصر المجرمة في الحكومة الاموية ، ولم يكتف سمرة بتحريف الحقائق وقلبها بما ذكرناه ، بل أضاف إلى ذلك ـ حسب رواية ابن ابي الحديد ـ أمراً آخر أيضاً إذ قال : ونزل في شأن « عليّ » قول اللّه : « وَمِنَ الناس من يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُنيا ويشهدُ اللّه على ما في قلبهِ وَهُو ألَدُّ الخِصام » ( البقرة : ٢٠٤ ).

ومن جرائم هذا الرجل انه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه العراق ثمانية آلاف

٥٩٥

كلام من ابن تيمية :

احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الّذي مات في سجن بدمشق عام ٧٢٨ من علماء السنّة ، تعود إليه اكثر معتقدات الوهابيين ، وأفكارهم.

ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأميرالمؤمنين ، وعامة أهل بيت النبوة ، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه « منهاج السنة ».

وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثر من علماء عصره إلى تكفيره ، والتبرّي منه.

ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ (١).

ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج والجاهلين ، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال ، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.

هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة « المبيت ».

يقول : ان مبيت « عليّ » في فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تعدّ

__________________

ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم وعندما سأله معاوية : هل تخاف ان تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟

أجاب قائلا : لو قتلتُ اليهم مثلَهم ما خشيت!!

هذا ومخازي هذا الرجل اكثر من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل.

وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الّذي رد على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام » ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.

١ ـ راجع السيرة الحلبية : ج ٢ ، ص ٢٦٣ وسبعة الجاحظ في العثمانية.

٥٩٦

فضيلة لأن عليّاً عرف من طريقين بانه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة :

الأوّل : إخبار رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادق المصدِّق نفسه ايّاه بذلك إذ قال له في نفس تلك الليلة : « نَمْ في فِراشي فإنه لا يَخْلُصُ إليكَ شيء تكرَهُهُ »!!.

الثاني : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات الّتي أودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى أصحابها.

فعلم ـ من ذلك ـ أنهُ لن يُقتل والا لكلّفَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآخرين بها.

فعرف « عليٌ » من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الجواب :

وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إجمالا : إن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعليّ عليه‌السلام لأنه إمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً ، وإما أن كان إيماناً قوياً جدّاً ، وكانت جميع اقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخباراته لديه ـ في ضوء ايمانه ـ كالنهار في وضوحه.

وعلى الفرض الأوّل لم يكن لعليّ يقينٌ بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس ( ولا شك أن عليّاً ليس منهم حتماً ) يقينٌ من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحتّى لوقبلوا به في الظاهر ، فانهم سيساورهم القلق ، ولا يفارقهم الاضطراب ، وإذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر ، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم إحتمالاتٌ كثيرةٌ حول مآل الأمر ومصيره ، وسيتمثل أمامهم شبح الموت المرعب في كل لحظة وآن.

وعلى هذا الفرض لابد أن يقال : بأنَّ عليّاً عليه‌السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إلاّ وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين ، لا أنه بات وهو يتيقن

٥٩٧

النجاة والسلامة.

وأما بناءً على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّ عليه‌السلام فضيلة أعلى واعظم ، لأن ايمانَ الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.

ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قال له : نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروهٌ ، أن ينام في فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلب واثِق بالسلامة ، ونفس مطمئنّة إلى النجاة ، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل إحتمال للخطر.

ولو كان مراد ابن تيمية من قوله : ان عليّاً كانَ واثقاً من سلامته ، لأن الصادق المصدَّق أخبره بذلك هو : إثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه‌السلام فقد اثبت له عليه‌السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة ، وأعلى منقبة ، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخباره.

هذا هو الجواب الاجمالي واليك الجواب التفصيلي :

الجواب التفصيلي :

فنقول عن الدليل الأول : إن عبارة « لا يخلص اليك شيء تكرهه » لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد (١).

نعم روى ابن الاثير المتوفى عام ٦٣٠ (٢) ، والطبري المتوفى عام ٣١٠ (٣) هذه العبارة وكأنّما قد أخذاها عن ابن هشام في سيرته (٤) الّتي نقل فيها تلك العبارة

__________________

١ ـ مثل مؤلّف الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٢٢٧ و ٢٢٨ المولود عام ١٦٨ والمتوفى عام ٢٣٠ ، وكذا المقريزي في امتاع الاسماع ، عند ذكرهم لتفاصيل قضية المبيت.

٢ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٧٢.

٣ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٩٩.

٤ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٤٨٣.

٥٩٨

بالصورة المتقدمة الذكر ، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين ( الطبري وابن الأثير ) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.

هذا مضافاً إلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.

ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام ٤٦٠ في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلا ودقة ، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيط ، الاّ أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة ، فانه رحمه‌الله يصرّح بان عليّاً عليه‌السلام انطلق هو و « هندبن أبي هالة » ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتّى دخلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ :

« إنّهم لن يَصِلُوا مِنَ الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ » (١).

وهذه الجملة تشبه الجملة الّتي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير ، ولكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالها لعليّ عليه‌السلام مطمئِناً إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش ، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.

هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول :

فلقد عدّ عليّ عليه‌السلام عمله هذا ( أي المبيت في فراش رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الليلة الرهيبة ) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول :

وَقَيتُ بنفسي خيرَ مَن وَطأ الحصا

ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبالحجر

محمّد لما خافَ أن يمكُروا بهِ

فَوقّاهُ ربّي ذُوالجلالِ مِن المَكرِ

وَبِتُ اُراعي منهم ما يسوءني

وَقَد وطّنَت نفسي على القتل والأسر

وباتَ رَسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً

هناكَ وَفي حفظِ الاله وفي سَترِ (٢)

__________________

١ ـ الأمالي : ج ٢ ، ص ٨٤.

٢ ـ المصدر السابق وغيره ، هذا مضافاً إلى أنَّ الامام عليه‌السلام نفسه قد استنشد المسلمين مراراً بهذه القضية مستدلا بها على تفانيه في سبيل الإسلام.

٥٩٩

ومع هذه العبارات الصَريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الّذي تدل قرائنُ كثيرةٌ على خطأه ، ويُحتمل ، احتمالا قوياً ، بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق ، وحيث أنه ( ونعني ابن هشام ) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة ، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية أوالثالثة ، في نظره ، وروى الموضوع بنحو يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلة واحدة!!

ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الّذي رواه كثيرٌ من علماء السنة والشيعة وهو : أن اللّه أوحى إلى جبرئيل وميكائيل عليهما‌السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيكما يؤثر أخاه.

وكلاهما كره الموت ، فاوحى اللّه إليهما : عبداي ألا كنتما مثل وليي « عليّ » آخيت بينه وبين « محمّد » نبيي فآثره بالحياة على نفسه؟ أو قال : قد نام على فراشه يقيه بمهجته.

ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه (١).

واما الدليل الثاني الّذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بأداء الامانات والودائع إلى أهلها ، الّتي كانت تَكشف عن ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم بأنه لن يصلَ إليه مكروهٌ ، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إلى أصحابها.

ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلٍّ لهذه المشلكة إذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريح وكامل.

واليك بقيّة قصة الهجرة.

الخطيب وقضية المبيت :

وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبدالكريم الخطيب حول

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٣٩ نقلا عن احياء العلوم للغزالي.

٦٠٠