سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

والمواصفات المعينة لم يُمنح له ذلك المنصب قط. وتقع العصمة والسكينة القلبية ، والاعتماد والتوكل في طليعة هذه الخصال والمواصفات ، ومع هذه الأوصاف والخصال يستحيل أن يدور في خلده مثل تلك التصورات الخاطئة.

ولقد قال العلماء : إنّ المسيرة التكاملية عند الانبياء تبدأ من فترة الطفولة والصبا ، فان الغشاوات والحجب تبدأ تتساقط وتنقشع الواحدة تلو الاُخرى منذ ذلك الوقت ، ويستمر ذلك حتّى تصل الاحاطة العلمية لديهم حدَّ الكمال فلا يشكّون في شيء يرونه أو يسمعونه أبداً ، ومن حاز هذه المراتب لا يمكن أن يتطرق الشك والحيرة والتردّد إلى قلبه وعقله مطلقاً.

إنَّ آيات سورة « الضحى » وخاصة عبارة « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » تفيد فقط بأن هناك من قال مثل هذه العبارة للنبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا مَن هو قائلها؟ وكم تركت هذه العبارة مِن تأثير في نفسية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحيته فهي ساكتة عن كل ذلك؟

وذهب بعضُ المفسّرين إلى أن قائلها هم بعضُ المشركين ، ولهذا الاحتمال لا تكون جميع الآيات مرتبطة ببدء الوحي ، لأنه لا أحد غير « علي » و « خديجة » كان يعرف في بدء البعثة بنزول الوحي ، ليتسنّى له أن يعترض على رسول اللّه ، ويعيّره بانقطاعه عنه بعد ذلك ، فإن أمر المبعث والرسالة ـ كما سنقول ذلك فيما بعد ـ بقي خافياً على أكثر المشركين لمدة ثلاثة اعوام تماماً ، فهو لم يكن مكلَّفاً بابلاغ رسالته إلى عامة الناس ، إلى أن نزَل قولُه تعالى : « فاصدَعْ بما تؤمر » الّذي أمره اللّه فيه بالجهر بأمر رسالته لعامة الناس بلا استثناء.

إختلافُ المؤرخين في مسألة « انقطاع الوحي » :

لم يرد في القرآن الكريم أيُ ذكر مطلقاً لمسألة ( انقطاع الوحي ) بل لم ترد به إشارة أيضاً ، إنما نلاحظها في كتب السيرة والتفسير فقط ، ويختلف كُتّاب السيرة والمؤرّخون في علة ( انقطاع الوحي ) هذا ، ومدته اختلافاً كبيراً يجعلنا لا نعتمد على أي واحد منها ، وها نحن نشير اليها بشكل مّا :

٣٨١

١ ـ ان اليهود سألوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اصحاب الكهف ، وعن الروح ، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسّلام : ساُخبركم غداً ، ولم يستثن ، فاحتبس عنه الوحي (١).

بناء على هذا لا يمكن ان نربط هذه المسألة ببدء الوحي ومطلع عهد الرسالة لان اتصال علماء اليهود واحبارهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق قريش وسؤالهم اياه حول هذه الاُمور الثلاثة ، وقع في حدود السنة السابعة من البعثة يوم توجه وفد من قريش إلى المدينة ليسألوا علماء اليهود عن صحة ما جاء به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاقترح اليهود عليهم ان يسألوا النبي عن تلك الاُمور الثلاثة (٢).

٢ ـ قالت خولة وهي امرأة كانت تخدم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات ، فمكث نبي اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ ، فلمّا خرج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيت كنست خولة تحت السرير فاذا جروٌ ميّت فأخذته والقته خلفَ الجدار فأنزلَ اللّهُ تعالى هذه السورة ولما نزل جبرئيل سأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التأخر فقال : « أما علمت أنّا لا ندخلُ بيتاً فيه كلبٌ ولا صورةٌ » (٣).

٣ ـ إن المسلمين قالوا : يا رسول اللّه ، مالكَ لا ينزلُ عليكَ الوحيُ؟ فقال : « وكيف ينزِلُ عليّ وأنتمْ لا تقصُّون أظفاركُمْ ولا تأخذونَ من شواربكم »؟ (٤)

فنزلَ جبرئيلُ بهذه السورة.

٤ ـ اهدى عثمان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنقود عنب وقيل عِذق تمر فجاء سائلٌ فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدّمه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً ثم عاد السائل فأعطاه وهكذا ثلاث مرات فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ملاطفاً لا غضبان : أسائلٌ أنت يا فلان أم تاجر؟ فتأخر الوحيُ أياماً فاستوحش فنزلت

__________________

١ ـ روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ١٥٧ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣١٠ و ٣١١.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٠١.

٣ ـ تفسير القرطبي : ج ١٠ ، ص ٨٣ و ٧١ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٣٤٩.

٤ ـ نفس المصدر.

٣٨٢

السورةُ (١).

٥ ـ إن جرواً لأحد نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد أقربائه حال دون نزول الوحي عليه (٢).

٦ ـ إنّ رسولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل جبرئيلَ عن تأخّر الوحي قال جبرئيل ، لا املِكُ من نفسي شيئاً إنّما أنا عبدٌ مأمورٌ (٣).

ثم ان هناك أقوالا اُخرى يمكنُ الحصول عليها من مراجعة التفاسير (٤).

ولكنَ الطبريّ نقَلَ وجهاً آخر تمسَكَ به المغرضون والمرضى من الكُتّاب واعتبروه دليلا على طروء الشك على قلب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أنّ الوحي انقطع عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حادثة ( حراء ) فقالت خديجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أرى ربَّك إلاّ قد قلاك!!

فنزلَ الوحيُ يقولُ : « ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » (٥).

وممّا يدلُّ على أَهداف هذا النوع من الكُتّاب ، المريضة ، أو عدم تتبّعهم واستقصائهم ، أنهم تمسكوا من بين جميع الأقوال بهذا الاحتمال ، واستندوا إليه للحكم على شخصية كرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي لم يَر في حياته أي أثر للشك والحيرة مطلقاً.

وإننا مع ملاحظة النقاط التالية يمكننا أن نقف على بطلان هذا الاحتمال وتفاهته :

١ ـ لقد كانت السيدة خديجة من النساء اللواتي أحببن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حباً صادقاً وعميقاً ، فهي الّتي وفت لزوجها حتّى النفس الأخير ،

__________________

١ ـ تفسير روح المعاني : ج ٣٠ ، ص ١٥٧.

٢ ـ غرائب القرآن في هامش تفسير الطبري : ج ٣٠ ، ص ١٠٨.

٣ ـ تفسير ابو الفتوح الرازي : ج ١٢ ، ص ١٠٨.

٤ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، تفسير سورة الضحى.

٥ ـ تفسير الطبري : ج ٣٠ ، ص ١٤٨.

٣٨٣

ووقفت ثروتها الطائلة لتحقيق أهدافه ، وكانت في عام البعثة قد قضيت خمسة عشر عاماً من حياتها الزوجية ، ولم تر خديجة طوال هذه الفترة من زوجها الا التقوى والطهر ولم تلمس منه إلا كَرَم الصفات ونبل الاخلاق فقد كانت من المصدقين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أول يوم وكانت تراعي نهاية الأدب في تكليمها معه وعشرتها اياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف تتكلم مثل هذه المرأة المؤمنة الوفية ، مع زوجها بغليظ القول ، وتوجه له مثل هذه الكلمة غير المهذَّبة ، بل والجارحة؟؟!

٢ ـ إنّ آية : « ما وَدعَّكَ رَبُّك وَما قلى » لا تدل على أن « خديجة » قالت مثل هذا الكلام لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل غاية ما تفيده هذه الآية هي أنَّ مثل هذا الكلام قد وُجّه إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا مَن هو القائل ، ولماذا قال هذا الكلام؟ فليس ذلك معلوماً.

٣ ـ إن ناقل هذه الرواية يصف « خديجة » تارة بأنها طمأنت النبيّ ، وسكّنت من روعه إلى درجة أنها منعته عن الإنتحار ، ولكنه يصفها تارة اُخرى بانها قالت له : بأن اللّه عاداه وقلاهُ ، ألا ينبغي هنا أن نقول : « كن ذكوراً ثم أكذب »؟!

٤ ـ إذا كان الوحيُ قد انقطع بعد حادثة جبل ( حراء ) ونزول بضع آيات من سورة « العلق » إلى أن نزلت سورة « الضحى » ، يتوجب ـ في هذه الصورة ـ ان تكون سورة « الضحى » ثاني سورة من حيث الترتيب التاريخي لنزول السُور في حين أنَّ تاريخ نزول الآيات والسور القرآنية يفيد أنها السورةُ الحادية عشَرة من سُور القرآن الكريم. لأن فهرس السور القرآنية حسب نزولها هو كالتالي :

١ ـ العلق.

٢ ـ القلم.

٣ ـ المزمِّل.

٤ ـ المدّثر.

٥ ـ تبّت ( المَسَد ).

٣٨٤

٦ ـ التكوير.

٧ ـ الاعلى.

٨ ـ الانشراح.

٩ ـ والعصر.

١٠ ـ والفجر.

١١ ـ والضحى (١).

نعم إنفرد اليعقوبي من بين المؤلفين باعتبار سورة الضحى ـ في تاريخه (٢) ـ السورة الثالثة من حيث تاريخ النزول ، وحتّى هذا الرأي لا ينسجم مع القصة المذكورة ( انقطاع الوحي ).

الإختلاف في مدة انقطاع الوحي :

لقد تعرّض تحديد مدة انقطاع الوحي بشكله المزعوم لإبهام كبير ، فقد ذكر ذلك بصور مختلفة في التفاسير والأقوال التالية هي :

٤ ـ أيّام.

١٢ ـ يوماً.

١٥ ـ يوماً.

١٩ ـ يوماً.

٢٥ ـ يوماً.

٤٠ ـ يوماً.

ولكن بعد دراسة فلسفة النزول التدريجي للقرآن الكريم سنرى أنّ انقطاع الوحي وتوقفه لم يكن حدثاً إستثنائياً ، لأنّ القرآن الكريم أعلن منذ أول يوم أن المشيئة الالهيّة تعلّقت بأن ينزل القرآن بصورة تدريجية ، منجّمة إذ يقول تعالى : « وَقُرآناً فرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ على مكْث » (٣).

__________________

١ ـ تاريخ القرآن للزنجاني : ص ٥٨.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٣٣.

٣ ـ الاسراء : ١٠٦.

٣٨٥

ويكشفُ القرآن النقاب ـ في موضع آخر ـ عن سرِّ نزول القرآن تدريجاً إذ قال : « وَقال الَّذينَ كَفَرُوا لَولا نُزّلَ عليه الْقُرانُ جُمْلَةً واحِدَة كَذلِكَ لِنُثبِّتَ بِهِ فَؤادَكَ وَرتّلناهُ تَرْتيلا » (١).

ومع ملاحظة طريقة نزول الآيات والسور القرآنية هذه يجب أنْ لا يُتَوقع نزولُ الآيات كل يوم وكلَّ ساعة ، وأن ينزل جبرئيلُ على النبيّ على الدَّوام ، ويأتي إليه بالآيات دون انقطاع ، بل إنّ الآيات القرآنية كانت تنزل على رَسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فواصل زمنية مختلفة وفقاً للاحتياجات ، وبحسب الأسئلة المطروحة على النبي ، ولأسرار اُخرى في النزول التدريجي شرحها علماء الإسلام (٢).

وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يُسمى بانقطاع الوحي ، بل كل ما كان في الأمر هو أنّه لم يكن ثمّة ما يوجب النزول الفوري ، والمتلاحق للوحي.

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٢ ـ راجع للوقوف على هذه المسألة معالم الحكومة الإسلامية : ص ١٢٢ ـ ١٢٤.

٣٨٦

١٤

الدَعْوَةُ السِرِّيَّة ودَعوَةُ الأقربين

إستمرّ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو إلى دينه سِرّاً مدة ثلاثة أعوام. فهو في هذه السنوات عَمَد إلى بناء الكوادر واعدادها بدل توجيه الدعوة إلى عامّة الناس ، فإنَّ اعتبارات معيّنة في ذلك الوقت كانت توجبُ أنْ لا يجهَر بدعوته ولا يُعْلِنَ عن رسالته ، ويكتفي بالاتصالات الفردية السِّرية ويدعو اشخاصاً معينين إلى دينه.

وقد كانت هذه الدعوة السرِّية هي السبب في أن ينجذب إلى الدّين الإسلامي جماعة من الناس ، وتواجه دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم بالقبول ، وقد سجَّل التاريخ أسماء هؤلاء السابقين الذين آمنوا برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في هذه الفترة من عهد الرسالة ، وتاريخ الإسلام ، واليك بعضهم :

١ ـ السيدة خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

٢ ـ علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٣ ـ زيد بن حارثة.

٤ ـ الزبير بن العوام.

٥ ـ عبد الرحمان بن عوف.

٦ ـ سعد بن أبي وقاص.

٣٨٧

٧ ـ طلحة بن عبيداللّه.

٨ ـ أبوعبيدة الجراح.

٩ ـ أبو سلمة.

١٠ ـ الأرقم بن أبي الارقم.

١١ ـ عثمان بن مظعون.

١٢ ـ قدامة بن مظعون.

١٣ ـ عبد اللّه بن مظعون.

١٤ ـ عبيدة بن الحارث.

١٥ ـ سعيد بن زيد.

١٦ ـ خباب بن الأرتّ.

١٧ ـ أبو بكر بن أبي قحافة.

١٨ ـ عثمان بن عفان.

وغيرهم من الذين قبلوا دعوة النبي ، وآمنوا بنبوته في هذه الفترة (١).

ولقد كان أقطاب قريش واسيادها منهمكين ـ طيلة هذه الاعوام الثلاثة ـ في لهوهم ومجونهم ، ومع أنهم كانوا قد عرفوا بعض الشيء عن دعوة النبيّ السرّية إلاّ أنّهم لم يظهروا أيّة ردة فِعل تجاهها ، ولم يقوموا بشيء ضدّها.

ولقد كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه السنوات الّتي تعتبر فترةُ صياغة الفرد يخرج مع بعض أتباعه إلى شعاب مكة للصلاة فيها بعيداً عن أنظار قريش.

واتفق أن رآهم بعض المشركين في ما كانوا يُصلّون في شعب من شعاب مكة ، واستنكروا عملهم هذا ، وأدّى ذلك إلى منازعة عابرة بينهم وبين المشركين جرح على أثرها أحد المشركين على يدي « سعد بن أبي وقاص » أحد المسلمين ، ومن هنا قرّر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتخاذ بَيْت « الأرقم بن أبي الأرقم » محلاً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٤٥ و ٢٦٢.

٣٨٨

للعبادة بدل شعاب مكّة ، ليستطيع القيام فيه بالتبليغ والعبادة بحريّة وأمان ، بعيداً عن أعين المشركين (١).

ولقد كان « عمّار بن ياسر » و « صهيب بن سنان » الروميّ ممّن آمنوا برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك البيت (٢).

دَعْوةُ الأَقْرَبيْن :

يشرع العقلاء من الناس من اصحاب البرامج الواسعة والمشاريع الكبرى اعمالهم الكبرى ـ عادة ـ من بدايات صغيرة ونقاط محددة ، فإذا حقّقوا نجاحاً في هذه البدايات بادروا إلى توسيع نطاق نشاطهم فوراً ، وهكذا جنباً إلى جنب مع النجاحات الّتي يحقّقونها في كل خطوة يوسّعون دائرة العمل ، ويجتهدون في تحقيق المزيد من النجاح ، والتكامل لما هم بصدده.

ولقد سأل أحد الشخصيات زعيماً في دولة كبيرة من الدول الكبرى المعاصرة : ما هو سرّ نجاحكم في الاعمال الإجتماعية وما هو الأمر الّذي يساعدكم على النجاح في مشاريعكم؟

فأجابه ذلك الزعيم قائلا : ان طريقة عملنا نحن الغربيّين تختلف عن طريقتكم انتم أهل الشرق ، فنحن دائماً نخطّطُ لمشاريع كبرى ونبدأ من مكان صغير ، وبعد إحراز النجاح نعمد إلى توسيع نطاق العمل ، وإذا اكتشفنا في منتصف الطريق خطأ برنامجنا غيّرنا اُسلوب عمَلنا ، وعَدلنا إلى طريقة اُخرى ، وبدأنا بعمل آخر.

أما أنتم الشرقيون فتدخلون ساحةَ العمل في برامجكم الكبرى من مكان كبير ، وتبدأون من نقطة واسعة ، وتحاولون تطبيق مشروعكم جملة واحدة ، فاذا واجهتم في خلال العمل طريقاً مسدودة لم يكن في إمكانكم ان ترجعوا من

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦١.

٢ ـ هذا البيت كان عند جبل الصفا ، وكان معروفاً إلى مدة ب‍ « دار الخيزران » اُسد الغابة : ج ٤ ، ص ٤٤ ، السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٩٢ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٢٨٣.

٣٨٩

منتصف الطريق إلاّ بتحمل خسائر كبرى فادحة.

هذا مضافاً إلى ان أنفسكم كأنها قد عُجنت بالعجلة ولذلك تودُّون قطفَ ثِمار جهودكم ونتيجة عملكم في الحال دونما صبر وترقّب وانتظار ، وهذه هي بنفسها طريقة تفكير إجتماعيّة خاطئة ، من شأنها أن تجعل الإنسان أمام طُرق مسدودة كثيرة وغريبة.

هذا ما قاله ذلك الغربيّ.

ولكن الّذي نتصوره ونعتقده نحن هو : أن هذه الطريقة من التفكير لا ترتبط لا بالشرق ولا بالغرب ، بل هي ميزة العقلاء الاذكياء من الناس ، فانهم يعتمدون هذا الاُسلوب لا نجاح مهامّهم ، وتحقيق مقاصدهم.

ولقد اتبع قائد الإسلام الاكبر الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الطريقة في عمله الرسالي فركّز جهدَه على الدعوة السرّية إلى دينه مدة ثلاثة أعوام من دون تعجُّل ، وكان يعرضُ دينه على كل من وجده أهلا للدعوة ، ومستعدّاً من الناحية الفكرية للتبليغ.

فرغم أنّه كان يهدف إلى تشكيل دولة عالمية كبرى ينضوي تحت لوائها ( لواء التوحيد ) جميع أفراد البشرية ، إلاّ أنه لم يعمد إلى الدعوة العامة طيلة هذه الأعوام الثلاثة ، بل لم يوجّه الدعوة الخاصة حتّى إلى أقاربه ، إنّما اكتفى بالاتصال الشخصي بمن وجده مؤهلا وصالحاً للدعوة ، ومستعدّاً لقبول الدِّين ، حتّى أنّه استطاع في هذه الأعوام الثلاثة أن يكسب فريقاً من الأتباع من الذين اهتدوا إلى دينه وقبِلُوا دعوته.

وقد كان زعماء قريش ـ كما اسلَفنا ـ منهمكين طوال هذه الأعوام الثلاثة في اللذّة والهوى وكان فرعون « مكة » وطاغيتها : « أبو سفيان » وجماعته كلما سَمِعوا بالدَّعوة اطلقوا ضحكة استهزاء وقالوا لانفسهم : إنّها أيّام وتنطفئ بعدها شعلة الدعوة هذه فوراً تماماً كما انطفأت من قبل دعوة « ورقة » و « اميّة » ( الَّلذين أخَذا يحبّذان إلى العرب التوجه نحو المسيحية ونبذَ الوثنية بعد أن قرءا الانجيل والتوراة ) وبالتالي لن يمرّ زمانٌ حتّى يُنسى هذا الاُمر ، ويغدو خبراً بعد أثر ، بل

٣٩٠

لا شيء يُذكر.

بهذا التصوّر ، وبهذه العقليّة واجَهت زعامة « مكة » دعوة النبي في البداية ، ولهذا لم يقم زعماء قريش خلال هذه السنوات الثلاث بأيّ عَمل عدائيّ ضدّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ظلّوا ينظرون إليه بنظر الإحترام ، ويُراعون معه قواعد الأدب والسلوك ، وكان النبيّ هو أيضاً لا يتعرض لأصنامهم وآلهتهم في هذه الأعوام الثلاثة بسوء ولا يتناولها بالنقد والاعتراض بصورة علنية ، بل كان مركّزاً جهده على الاتصال الشخصي بذوي البصائر من الأشخاص وهدايتهم إلى دينه الحنيف.

ولكن منذ أنْ بدأ النبيُّ دعوة الأقربين وأخذ ينتقد وثنيّتهم ، ويذكر أوثانهم بسوء ويعترض على تصرفاتهم اللإنسانية أصبح حديث الألسن. ومنذ ذلك اليوم ايضاً بدأت يقظة قريش ، وعرفوا أمر محمَّد يختلف عن أمر « ورقة » و « اُميّة » اختلافاً بيناً وانه لبين الدعوتين فرقا كبيراً ، ولهذا بدأت المعارضة والمخالفة السرّية والعلنية ، لدعوة النبيّ.

وقد بدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكسر جدار الصمت بدعوة أقربائه إلى دينه ثم شرع بعد ذلك بدعوة الناس أجمعين.

على أنه ما من شك في أنّ الاصلاحات العميقة الّتي يراد لها ان تترك أثراً في جميع شؤون الناس وكل مناحي حياتهم ، وتغيّر مسير المجتمع تحتاج قبل أيّ شيء إلى قوتين :

١ ـ قوةُ البيان ، بأن يستطيع الداعية والمصلح بيان الحقائق الّتي جاء بها من أفكاره الخاصة ، أو ما تلقّاه عن طريق آخر إلى الناس باسلوب جذاب ، يأسر القلوب ، ويسحر العقول.

٢ ـ القوةُ الدفاعيةُ الّتي يستطيع تشكيل خطّ دفاعي منها عند التعرض لهجوم الأعداء والخصوم ، وفي غير هذه الصورة ستنطفئ شعلة الدعوة ويفشل المصلح في خطاه الاُولى.

ولقد كان البيان لدى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعلى مرتبة من

٣٩١

الكمال فكان قادراً كأقوى خطيب على بيان تعاليم دينه للناس في غاية الفصاحة والبلاغة. ولكنه كان يفتقر في الأيام الاُولى من دعوته إلى عنصر ( القوة الثانية ) ، أي ( القوة الدفاعية ) ، الرادعة الحامية ، لأنه استطاع في السنوات الثلاث الاُولى من رسالته أن يضم إلى دعوته قرابة أربعين شخصاً ، وذلك في الظروف السرّية الشديدة ، ولا ريب ان تلك القلة القليلة من الاتباع لم تكن قادرة على أن تتولّى مسؤولية الدفاع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحماية رسالته.

من هنا عَمَد رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبهدف تحصيل القوّة الدفاعية المطلوبة وتشكيل النواة المركزية إلى دعوة أقربائه إلى دينه قبل التوجّه بالدعوة إلى عامة الناس ، ليتمكَّن من هذا الطريق ، أن يزيل النقصَ من جهة عدم وجود القوة الثانية ، ويكوّن منهم سياجاً قوياً يحفظه ، ويحفظ رسالته من الأخطار المحتملة.

على أن فائدة هذه الدعوة كانت على الأقل دفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القربى والرحم على فرض انهم لم يؤمنوا برسالته ، ولم يقبلوا دعوته.

هذا مضافاً إلى انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد ان أي إصلاح وتغيير لابد أن يبدأ من إصلاح الداخل وتغييره ، فما لم يستطع الإنسان من إصلاح أبنائه واقربائه وردعهم عن قبائح الأفعال لا يمكن لدعوته أبداً أن تؤثر في الأجانب والأبعدين ، لأنَّ المناوئين سيعترضون عليه لدعوته في هذه الحالة ، ويشيرون إلى أفعال أبنائه وعشيرته.

من هنا أمره اللّه تعالى بأن يدعو عشيرته الأقربين إذ خاطبه قائلا : « وَأَنْذِرْ عَشِيرتَكَ الأَقْرَبين » (١).

كما أنه خاطبه بصدد دعوة الناس عامّة بقوله : « فَاصْدَعْ بِما تُؤْمرُ وَأعْرضْ عَن المُشْركين. إنّا كَفيْناكَ المُسْتَهْزئينَ » (٢).

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٤.

٢ ـ الحجر : ٩٤ و ٩٥.

٣٩٢

كيفيّة دَعوة الأقربيْن :

كانت طريقة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوة عشيرته الأقربين طريقة جميلة وذكيّة جدّاً ، فقد تجلّت في ذلك حقيقة أوضحت اسرار هذه الدعوة في ما بعد اكثر فأكثر.

فانّ المفسرين كتبوا عند قوله تعالى : « وانذر عشيرتك الاقربين » وكذا الأغلبية القريبة للاجماع مِنَ المؤرخين أن اللّه أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنْ ينذر عشيرته الأقربين ويدعوهم إلى دينه ورسالته فأمر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب الّذي كان آنذاك في ربيعه الثالث عشر أو الخامس عشر بأن يُعدَّ طعاماً ولبناً ، ثم دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمساً وأربعين رجلا من سراة بني هاشم ووجوههم ، وعزم على أن يبوح لضيوفه ويكشف لهم من امر رسالته في خلال تلك الضيافة إلاّ أنه ـ وللأسف ـ ما أن أنتهوا من الطعام حتّى بادر أبو لهب فتكلّم بكلمات سخيفة قبل أن يتحدّث النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا جعل الجوّ غير مناسب لأنْ يطرَح النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوع رسالته عليهم ، فانفض المجلسُ دون تحقيق هذا الغرض.

ولما كان من غد أمر النبيُّ علياً عليه‌السلام باعداد الطّعام واللّبن ثانية ، وكرّر دعوة تلك الجماعة ، إلى ضيافة اُخرى ، وبعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

« إنَّ الرائد لا يَكذبُ أهْلهُ وَاللّه الَّذي لا إله إلا هُو إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ خاصّة وإلى النّاس عامّة واللّه لَتمُوتُنَّ كما تَنامُونَ وَلَتُبْعَثُنَّ كَما تَسْتَيقظُون وَلَتُحاسبُنَّ بِما تَعْمَلُونَ وإنها الجَنَّة أبداً وَالنّارُ أبداً ».

ثم قال :

« يا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب انّي وَاللّه ما أعلَمُ شابّاً في العَربَ جاء قومَهُ بأَفضَل ممّا جِئتُكُمْ به ، انّي قَدْ جِئْتُكم بِخير الدُّنيا والآخِرة وَقَدْ أَمرَني اللّه عَزَّوجلَّ أن ادْعوكُمْ إليه فأيّكُمْ يُؤمن بي ويؤازرُني عَلى هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي وَ

٣٩٣

وَصِيّي وَخَليفَتي فِيكُم »؟

ولما بلغَ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه النقطة ـ وبينما أمسك القومُ وسكتُوا عَن آخرهم إذ كان كلُ واحد منهم يفكِّرُ في ما يؤولُ إليهِ هذا الامرُ العظيمُ ، وما يكتنفهُ من أخطار ـ قام « عليّ » عليه‌السلام فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يكسر بكلماته الشجاعة ـ جدار الصمت والذهول ـ :

أنا يا رَسوُل اللّه أكونُ وَزيركَ عَلى ما بَعَثَكَ اللّه ».

فقال له رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إجلسْ ، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يحجم القومُ عن تلبية مطلبه ، ويقوم « عليّ » ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ ، ويأمره رسولُ اللّه بالجلوس حتّى إذا كان في المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشريته الاقربين وقال :

« إنَّ هذا أخي وَوَصيّي وَخَليفَتي فيكُمْ ( أو عَليْكُمْ ) فاسْمَعُوا لهُ ، وَأطِيْعُوا ».

فقامَ القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب « قد أمرك أن تسمع لا بنكَ وتطيعَ وجعله عليك أميراً » (١).

إنَ ما كتبناه هو ـ في الحقيقة ـ خلاصةٌ لحديث مفصَّل رواه اكثر المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة ، ولم يشكّك في صحّته أحدٌ ، بل اعتبروه من مسلَّمات التاريخ ، الا « ابن تيمية » الّذي اتخذ موقفاً خاص من أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين.

خِيانةٌ تاريخيّةٌ وجنايَةٌ أدبيّة!!

إن تحريفَ الحقائق وقلبَها ، أو إخفاء الوقائع لهُو حقاً من أوضح مصاديق

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٦٢ و ٦٣ ، تاريخ الكامل : ج ٢ ص ٤٠ و ٤١ ، مسند أحمد : ج ١ ، ص ١١١ ، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٣ ص ٢١٠ و ٢١١.

٣٩٤

الخيانة والجناية.

ولقد سلَكَ فريقٌ من الكُتّاب المتعصبين عبر التاريخ للاسف مثل هذا الطريق المقبوح ، وأسقطوا مؤلّفاتهم العلميّة والتاريخيّة بارتكابهم خطيئة التحريف في جملة من الحقائق ، من الاعتبار ، وهم يخالون ان عملهم قادر على ان يبقي الحقائق في هالة الإهمال والغموض.

إلاّ أنّ أمر هؤلاء قد انكشف مع انْقضاء الزّمن ، وتكامُل العِلْم ، ودَفع بفريق من أهل التحقيق والإنصاف إلى أن يمزقوا بأطراف اقلامهم حجب الزيف والتحريف ويُظهروا الوقائع والحقائق على حقيقتها.

وإليك في ما يأتي بعض هذا الخيانات :

١ ـ لقد ذكر محمَّد بن جرير الطبري ( المتوفى عام ٣١٠ هـ ) في تاريخه حادثة دعوة الأقربين بشكل مفصَّل وعلى النحو الّذي مرّ على القارئ الكريم.

بيد أنه حرّف في تفسيره (١) وكَتمَ ، فهُو عند تفسير قوله تعالى : « وأنذِرْ عَشِيْرتَكَ الأَقرَبين » يذكرُ كلّ ما ذكره في تاريخه ، ولكنّه يغيّر ويبدّل في قول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : « على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي » ، فهو يكتب في تفسيره هكذا : « على أنْ يكونَ كذا وكذا ».

ولا ريب انَّ في تغيير عبارة « أخي ووصيّي وخليفتي عَليكم ( أوفيكم ) إلى : « كذا وكذا » غرضَاً مريضاً ، وهو بالتالي خيانة تاريخية فاضحة.

على أن الطبريّ لم يكتف بهذا القدر من التغيير في الكلام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل غيّر حتّى في الجملة الّتي تعقبتها وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن قام عليُّ عليه‌السلام للمرة الثالثة وأعلن عن استعداده لمؤازرة النبيّ بعد إحجام القوم وسكوتهم : « إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي » حيث أبدلها بعبارة : « إنَّ هذا أخي وكذا وكذا »!!!

إن على المؤرخ أن يكون حراً وشهماً في كتابة الحقائق وروايتها ، فيثبتها

____________

١ ـ تفسير الطبري : ج ١٩ ، ص ٧٤.

٣٩٥

ويرويها كما هي ، بكل شجاعة ، وصَلابَة.

ولا ريب ان الّذي دفع بالطبريِّ إلى أن يرتكب مثل ذلك التبديل والتغيير هو تعصّبه المذهبي ، فهو لا يعتبر الإمام عليّاً خليفة رسول اللّه بلا فصل ، وحيث أن تينك الكلمتين : « خَليفتي ووَصيّي » تصرّحان بخلافة « عليّ » للنبيّ ووصايته بلا فصل لذلك يغيّر ويبدّل حتّى ينتصر لمذهبه بالتحريف في شأن نزول هذه الآية أيضاً.

٢ ـ ولقد فعل ابن كثير ( المتوفى عام ٧٣٢ هـ ) نظير هذا في تاريخه (١) وكذا في تفسيره ( ج ٣ ص ٣٥١ ) وسلك نفس الطريق الّذي سلكه ـ من قبل ـ سلفُه الطبري ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة النقل!!!

ونحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً ، لأنه قد اعتمد ـ في رواياته التاريخية ، في تاريخه وتفسيره معاً ـ تاريخ الطبري ، لا تفسيره ولا شك أنّه قد مرَّ على هذه القصة في تاريخ الطبريّ ، ولكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ ـ في هذه الحادثة ـ وعَمَد ـ بصورة غير متوقعة ـ إلى نقل رواية التفسير!!!

٣ ـ والأغرب من تينك الخيانتين ما ارتكبه ـ في عصرنا الحاضر ـ وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور « هيكل » في كتابه « حياة محمَّد » ، وفتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر.

والعجب ان « هيكل » هاجم ـ في مقدمته ـ جماعة المستشرقين بشدة وانتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية ، واختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر عنهم في هذا السبيل فهو :

أولاً : نقل الواقعة المذكورة ( دعوة الاقربين المعروفة بحادثة يوم الدار أو حديث بدء الدعوة ) في الطبعة الاُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة ومقتضبة جداً واكتفى من الجملتين الحساستين بذكر واحدة منهما فقط وهي : قولُ النبي مخاطباً

__________________

١ ـ البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٤٠.

٣٩٦

الحضور في ذلك اليوم : « مَنْ يُؤازرني يكونُ أخِيْ وَوصيّي وخليِفَتِي » بينما حذف بالمرة الجملة الّتي قالها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لِعَلي بعد أن قام للمرة الثانية وأعلن موازرته للنبيّ وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ هذا أخيْ وَوَصيّي وَخَلِيْفتي »!!!

ثانياً : انَّه خطى في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة ، خطوة أبعد حيث حذَف كلتا الجملتين معاً وبهذا قد وجّه ضربة كبرى إلى قيمته ككاتب. وقيمة كتابه ، كدراسة تاريخية!!

النبوة والإمامة توأمان :

إن الاعلان عن وصاية عليّ عليه‌السلام وخلافته في مطلع عهد الرسالة وبداية أمر النبوّة يفيد ـ بقوة ووضوح ـ انَّ هذين المنصبين ليسا بأمرين منفصليْن ، ففي اليوم الَّذي يعلِنُ فيه رسولُ اللّه عن رسالته ونبوَّته ، يعيّن خليفته ووصيَّه من بعده ، وهذا يشهد ـ بجلاء ـ بأن النبوَّة والإمامة يشكِّلان قاعدة واحدة ، وأن هذين المنصبين إن هما الاّ كحلقتين متصلتين لا يفصل بينهما شيء.

كما أن هذه الحادثة تكشف ـ من جانب آخر عن مدى الشجاعة الروحية الّتي كان يتحلّى بها الإمام اميرُ المؤمنين « عليُّ بن أبي طالب » عليه‌السلام ، حيث قام ـ في مجلس أحجم فيه الشيوخ الدُهاة والسادة المجرِّبون عن قبول دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوفاً وتهيّباً ـ وأعلن بكل شجاعة مؤازرته للنبيّ ، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ورسالته وهو آنذاك غلامٌ في ربيعه الثالث أو الخامس عشر ، وما حابى أعداء الرسالة ولا ماشاهم كما فعل المصلحون من الساسة والزعماء المتخوّفون على مصالحهم ومراكزهم آنذاك!!!

صحيح ان « عليّاً » عليه‌السلام كان في ذلك اليوم أصغر الحاضرين سنّاً إلاّ أن معاشرته الطويلة للنبيّ قد هيّأتْ قلبهُ لتقبُّل الحقائق الّتي تردّد شيوخ القوم في قبولها ، بل عجزوا عن دركها وفهمها!!

ولقد اعطى ابو جعفر الإسكافي حق الكلام في هذا المجال إذ قال :

٣٩٧

فهل يُكلِّف عملُ الطعام ، ودعاء القوم صغيرٌ غير مميّز ، وغِر غير عاقل ، وهل يؤتمَن على سرّ النبوة طفلٌ ... وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلاّ عاقل لبيب ، وهل يضع رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده في يده ، ويعطيه صفقة يمينه بالاُخوة والوصيّة ، والخلافة ، الا وهو أهل لذلك ، بالغ حدّ التكليف ، محتمل لولاية اللّه ، وعداوة أعدائه ، وما بال هذا الطفل لم يأنس باقرانه ولم يلصق بأشكاله ، ولم يُرمع الصبيان في ملاعبهم بعد اسلامه ، وهو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته ، وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته بل ما رأيناه الا ماضياً على اسلامه ، مصمماً في أمره ، محققاً لقوله بفعله ، قد صدّق اسلامه بعفافه وزهده ، ولصق برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين جميع من حضرته فهو أمينه واليفه في دنياه واخرته (١).

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢١٥ و ٢٩٥.

٣٩٨

١٥

الدعوة العامّة

كان قد انقضى ثلاث سنوات على بدء البعثة يوم عمد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى دعوة الناس عامة بعد دعوة عشيرته الاقربين.

فقد استطاع خلال السنوات الثلاث الاُولى من عمر الدعوة أن يهدي ـ من خلال الاتصالات السرية ـ مجموعة من الاشخاص إلى الإسلام ولكنّه دعا هذه المرّة وبصوت عال عامة الناس إلى دين التوحيد.

فقد وقف ذات يوم على صخرة عند جبل الصفا ونادى بصوت عال : يا صباحاه ( وهي كلمةٌ كانت العربُ تطلقها كلّما أحسَّت بخطر ، أو بلغها نبأ مُرعب فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الخطر ) (١) فلفت نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا نظر الناس فاجتمع حوله جماعة من أبناء القبائل المختلفة وقالوا : له ما لَكَ؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيتكم إن أخبرتكم أنَّ العدوّ مُصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقونني؟

__________________

١ ـ قال الجزري في النهاية : ج ٢ ، ص ٢٧١ : صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصفا وقال : يا صباحاه ؛ هذه كلمة يقولها المستغيث ، وأصلها إذا صاحوا للغارة لانهم اكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمّون يوم الغارة يوم الصباح ، فكأن القائل : يا صباحاه يقول : قد غشينا العدو.

٣٩٩

قالوا : بلى.

قال : فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

ثم قال : إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى اهله فجعل يهتف : واصباحاه (١).

ولقد كانت قريش تعرف عن دينه بعض الشيء ، قبل هذا ولكنها تملَّكها الخوفُ هذه المرة ، وهي تسمعُ ذلك الانذار القويّ فبادر أحد قادة الكفر إلى تبديد تلك المخاوف فوراً إذ قال لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تبّاً لك ، ألهذا دعوتنا؟ ، وتفرّق على أثرها الناس.

الثباتُ والإستقامة على طريق الهدف :

إن نجاح أيّ شخص مرهونٌ بأمرين :

الأول : الايمان بالهدف.

والثاني : الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك.

إنَّ الإيمان هو المحرِّك الباطني والقوة الخفية الّتي تجر الإنسان شاء أم لم يشأ نحو الغاية الّتي يتوخاها ، وتسهِّل عليه الصعاب ، وتدعوه إلى العمل الدائب لتحقيق مقصوده ، لأن شخصاً كهذا يعتقد إعتقاداً قويّاً بأنَّ سعادته ، ومجده يتوقَّفان على ذلك.

وبعبارة اُخرى : إذا آمن انسان بأن سعادته ومجده يتوقفان على تحقيق هدف معيّن فانه سيندفع بقوة الإيمان نحو تحقيق ذلك الهدف ، متجاوزاً كل الصعاب ، ومتحدياً كل المشكلات في ذلك السبيل.

فالمريض الّذي يرى شفاءه في شرب دواء مرّ مثلا سيستسهل شُربه.

والغوّاص الّذي يعتقد إعتقاداً جازماً بأن ثمّة درراً غالية الثمن تحت أمواج البحر سيلقي بنفسه في قلب تلك الأمواج دونما خوف أو وجل ، ليخرج منها بعد

__________________

١ ـ السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٩٤.

٤٠٠