سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

شوهدت آثار ذلك الحزن على محيّاه ، وملامح وجه الشريف ، ولكن لما لم يكن مأذوناً بالافصاح بالحقائق ، لذلك كان يتجنب ردع الناس عن تلك المفاسد ، ومنعهم عن تلك الانحرافات.

بدء الوحي :

لقد امر اللّه ملكاً من ملائكته بأن ينزل على امين قريش وهو في غار حراء ويتلو على مسمعه بضع آيات كبداية لكتاب الهداية والسعادة ، معلناً بذلك تتويجه بالنبوة ، ونصبه لمقام الرسالة.

كان ذلك المَلَك « جبرئيل » ، وكان ذلك اليوم هو يوم المبعث النبوي الشريف الّذي سنتحدث عن تاريخه في المستقبل.

ولا ريب أن ملاقاة المَلك ومواجهته أمرٌ كان يحتاج إلى تهيّوء خاصّ ، وما لم يكن محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتلك روحاً عظيمة ، ونفسية قوية لم يكن قادراً قط على تحمّل ثقل النبوة ، وملاقاة ذلك الملك العظيم.

أجل لقد كان « أمين قريش » يمتلك تلك الروح الكبرى ، وتلك النفس العظيمة وقد اكتسبها عن طريق العبادات الطويلة ، والتأمّل العميق الدائم ، إلى جانب العناية الالهية.

ولقد روى أصحاب السير والتاريخ انه راى رؤىً عديدة قبل البعثة كانت تكشف عن واقع بَيّن واضح وضوح النهار (١).

ولقد كانت الذّ الساعات وأحبها عنده بعد كل فترة ، تلك الساعات الّتي يخلو فيها بنفسه ، ويتعبَّد فيها بعيداً عن الناس.

ولقد قضى على هذا الحال مدة طويلة حتّى أتاه ـ في يوم معين ـ ملك عظيم بلوح نصبَهُ أمامه وقال له : « إقرأ » ، وحيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان اُمياً لم يدرس أجاب المَلَك بقوله : « ما أنا بقارئ ».

__________________

١ ـ صحيح البخاري : ج ١ كتاب العلم ص ٢٢ ، بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ١٩٤.

٣٢١

فاحتضنه ذلك المَلك ، وعصره عَصرة شديدة ، ثم طلب منه أن يقرأ فأجابه بالجواب الأول.

فعصره المَلك ثانية عصرة شديدة وتكرّر هذا العمل مرات ثلاث احس بعدها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه أنه قادر على قراءة ما في ذلك اللوح ، فقرأ ساعتها تلك الآيات الّتي تشكل ـ في الحقيقة ـ ديباجة كتاب السعادة البشرية ، واساس رقيها.

لقد قرأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى : « إقرَأ باْسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلقَ. خَلَقَ الإِنْسانَ مِنْ عَلَق * إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكرمُ. الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَم. عَلَّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » (١).

وبعد أَنْ انتهى جبرئيل من أداء مُهِمتِه الّتي كُلِّفَ بها من جانب اللّه تعالى ، وبلّغ إلى النبي تلكم الآيات الخمس ، انحدر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جبل حراء ، وتوجه نحو منزل خديجة (٢).

ولقد أوضحت الآيات المذكورة برنامج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجمالا ، وبيّنت وبشكل واضح ان اساس الدين يقوم على القراءة والكتابة ، والعلم والمعرفة ، واستخدام القلم.

ظاهرة القضايا الغيبيّة في منظار الماديّين :

لقد تسبّب التقدمُ العظيم والمتزايد الّذي تحقق في ميدان العلوم الطبيعية في سلب الكثير من العلماء القدرة على فهم وادراك القضايا المعنوية والخارجة عن اطار العلوم الطبيعية والتالي أدى إلى تحديد وتضييق آفاق الفكر عندهم.

فاذا بهم اصبحوا يتصورون أن الوجود يتلخص في هذا الكون المادي ، وانه ليس في الوجود من شيء سوى المادة وان كل ما لا يمكن تفسيره وتبريره بالقوانين والقواعد المادية فهو أمر باطل ، ومن نسج الخيال!!

__________________

١ ـ العلق : ١ ـ ٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٣٦ و ٢٣٧.

٣٢٢

إن هذا الفريق ـ لتسرعه في اصدار الحكم في الاُمور المتعلقة ـ بالغيب وقضايا ما وراء الطبيعة ، وحصر أدوات المعرفة بالحس والتجربة ـ انكروا عالم الوحي ، بحجة أنّ الحس والتجربة لا يقودانهم إلى ذلك العالم ، ولا يخبرانهم عن مثل تلك الموجودات ، فلكونها بالتالي لا تخضع لمبضع التشريح ، ومجهر الإختبار أنكروها بالمرة ، وكانت النتيجة أن أدوات المعرفة المعروفة ( الحسّ والتجربة ) حيث انها لا تهدي إلى عالم ما وراء المادة فاذن لا وجود خارجي لذلك العالم ولحقائقه أبداً!

إنَّ هذا النمط من التفكير نمط جدُّ ضيق ومحدود ، مضافاً إلى انه يتسم بالغرور والغطرسة ، فهو من باب « استنتاج عدم الوجود من عدم الوجدان » في خطوة متعجلة فجّة!!

فمادامت هذه الحقائق الّتي يعتقد بها الالهيّون المؤمنون باللّه لا يمكن التوصل اليها عن طريق الادوات الفعلية المتعارفة بينهم للادراك والمعرفة فهي اذن لا اساس لها من الواقع!!

ان الّذي لا شك فيه هو : ان الماديين لم يدركوا مقالة العلماء الالهيين حتّى في مسألة اثبات الصانع الخالق فكيف بالعوالم الاُخرى لما فوق الطبيعة ، ولو أنّ الفريقين تحاورا في جوّ علمي مناسب ، بعيداً عن الأغراض والعصبيّات ، لكان من المتوقع ان تزول الفواصل بين الماديين والالهيين في اقرب وقت ، وأين يرتفع هذا الاختلاف الّذي قسَّم العلماء إلى فريقين على طرفي نقيض.

لقد اقام المؤمنون الموحِّدون عشرات الأدلة والبراهين القاطعة على وجود الله تعالى ، واثبتوا بأَنَّ هذه العلوم الطبيعية هي نفسها تقودنا إلى الخالق العالم القادر ، وان هذا النظام العجيب السائد في ظواهر الكائنات الطبيعيّة وبواطنها لدليل قاطع ، وبرهانٌ ساطع على وجود مبدع هذا النظام ، وأن جميع أجزاء هذا الكون الماديّ ، من ذراته إلى مجراته ، يسير وفق قوانين دقيقة متقنة ، ولا تستطيع الطبيعة الصماء العمياء ابداً أن تكون مبتكرة لهذا النظام البديع ، ومبدعة لهذا الترتيب الدقيق.

٣٢٣

وهذا هو بنفسه برهان « نظام الوجود » أو ( برهان النظم ) الّذي ألّف العلماء الالهيون الموحدون حوله عشرات الكتب والدراسات.

وحيث ان ( برهان النظم ) هذا ممّا يفهمه جميع الناس على مختلف مراتبهم ومداركهم ، لذلك ركزت عليها الكتب الاعتقادية دون سواها ، وسلك كلُ واحد من العلماء طريقاً معيناً وخاصاً لتقريره ، وبيانه ، كما ودرست الأدلة والبراهين الاُخرى الّتي لا تتسم بمثل هذه الشمولية ، في الكتب ، والمؤلفات الفلسفية والكلاميّة بصورة مفصلة ومبسوطة.

إنّ للعلماء الالهيين بيانات وأدلة في مجال ( الروح المجردة ) ، وعوالم ما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقيا ) نشير إلى بعضها هنا :

الروح المجردة :

إن الاعتقاد بالروح من القضايا الشائكة الطبيعة الّتي استقطبت اهتمام العلماء وشغلت بالهم بشدة.

فهناك فريقٌ ـ ممّن اعتاد أن يُخضِعَ كل شيء لمبضع التشريح ـ ينكر وجود ( الروح ) ، ويكتفي بالاعتقاد بالنفس ذات الطابع المادي ، والعاملة ضمن نطاق القوانين الطبيعية فقط.

ووجود « الروح » والنفس غير المادية ( اي المجردة المستقلة عن المادة ) من القضايا الّتي عُولجت ودُورست من قِبَل المؤمنين باللّه ، والمعتقدين بالعام الروحاني ، بصورة دقيقة ، وعميقة.

فهم أقاموا شواهِدَ عديدةً على وجود هذا الكائن ( غير الماديّ ) وهي أدلة وبراهين لو تمَّ التعرّف عليها والنقاش حولها في جوّ علمي هادئ مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يقوم عليه منطق الالهيين ـ في هذا المجال ـ من قواعد واُسس ، لأدّى ذلك إلى التصديق الكامل بها.

على أن ما يقوله الالهيّون في مجالات اُخرى مشابهة مثل ( الملائكة ) و ( الوحي ) و ( الإلهام ) يقوم هو الآخر على الأساس الّذي شيدوه ومهدوه وبرهنوا

٣٢٤

عليه قبل ذلك بالأدلة المحكمة ، المتقنة (١).

ظاهرة الوحي عِند الماديّين :

يُعتبَر الاعتقاد بالوحي أساساً لجميع الرسالات ، والأديان السماوية ، وتقوم هذه الظاهرة ( ظاهرة الوحي ) على أن الّذي يوحى إليه يمتلك روحاً قوية تقدر على تلقي المعارف الالهية من دون واسطة ، أو بواسطة ملَك من الملائكة.

ويلخصُ العلماء المختصُّون تعريفَهم للوحي على النحو التالي : « الوَحيُ تعليمُهُ تعالى مَنْ اصْطفاهُ مِنْ عِباده كُلَ ما أرادَ اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعِلم ولكِنْ بطريقة خَفيّة غير مُعْتادَة للبَشر ».

ولكن الماديين ـ كما قلنا ـ لم يستطيعوا هضم هذه الحقيقة ، وادراك هذه الظاهرة على حالها ، وصورتها الغيبية بسبب ما ذكرناه من منهجهم ونظرتهم إلى الاُمور والكائنات فذهبوا في تفسير ظاهرة الوحي ـ الّتي هي كما اسلفنا من قضايا الغيب ومن عوالم ما فوق الطبيعة ـ مذاهب مختلفة ترجع برمتها إلى الرؤية المادية للوجود.

واليك أبرز هذه التفاسير الماديّة لظاهرة الوحي الغيبية :

أبرز النظريات المادية لظاهرة الوحي :

١ ـ قالوا : الوحي هي القدرة الفكرية ، والنفسية والعقلية الّتي تحصل للإنسان بسبب التمرينات والرياضات الروحية الّتي على اثرها تنفتح عليه أبوابٌ من الغيب ، فيخبر عن امور طالما تتفق مع الواقع على نحو ما يحصل للمرتاضين الهنود (٢).

فالانبياء بسبب اعتزالهم للمجتمع ـ على غرار ما يفعل المرتاضون ـ وإقبالهم

__________________

١ ـ ولقد جاء تفصيل هذه البراهين والأدلّة في الكتب الفلسفية مثل : « الإشارات » و « الأسفار ». ولقد اشرنا إلى بعض هذه الأدلّة في كتاب ( اللّه خالق الكون ) فراجع.

٢ ـ وهم الّذي يمارسون علمية اليوجا.

٣٢٥

على الرياضة الروحية تحصل لهم المقدرة على الإخبار بالغائبات ، والكائنات الخفية على غيرهم.

والجواب على هذه النظرية هو : أن دراسة حالات المرتاضين تكشف لنا عن أنهم طالما يخطأون في إخباراتهم أخطاء فاضحة ، بينما لم يُعهَد من نبيٍّ أنه أخطأ في إخباراته ، وإنباءاته.

هذا اولاً

وثانياً : ان ما يفعله المرتاضون لا ينطوي على أية أهداف اصلاحية عليا للمجتمع البشري ، بل غاية همّهم هو : عرض الافعال العجيبة على الناس وربما تسلية المتفرجين ، بينما يهدف الأنبياء إلى إصلاح المجتمعات البشرية وقيادتها إلى ذرى الكمال والتقدم.

وثالثاً : ان المرتاضين لا يثقون بما يخبرون به ، كما لم يُعرَف إلى الآن أن أحداً منهم طلَع على المجتمع البشريّ ببرنامج كامل وشامل للحياة البشرية الفردية والاجتماعية ، بينما نجد الأنبياء يخبرون الناس بما اُمروا به وهم على إيمان كامل ، ويقين ثابت منه ، هذا إلى جانب أنهم يحملون إلى البشرية برامج اجتماعية وحيوية جامعة الاطراف ، كاملة الأبعاد ، رفيعة الأهداف ، عميقة الغايات ، ترجع اليها كلُ فضيلة وكل خير تعرفه المجتمعات إلى الآن.

ورابعاً : انّ أعمال المرتاضيين وما تحصَلُ لهم من قوى وينفتح عليهم من آفاق ، محدودة ، بينمنا لا تقف طاقاتُ الانبياء وآفاق علومهم ، وأبعاد أعمالهم عند حدّ.

فلا يمكن ابداً تفسير وتعليل ظاهرة ( الوحي ) وما يحصل للرسل والانبياء على اثره من اُموره تتخطى حدود العالم المادي المحدود ، بالرياضة الروحية الّتي يمارسها المرتاضون وما يحصل لهم على أثرها من امور.

٢ ـ قالوا : انَّ ( الوحي ) نوعٌ من النبوغ ، أو أنه ناشئ من النبوغ ، وأن الانبياء هم نوابغ اجتماعيون لا اكثر.

وقد شرحوا نظريتهم هذه قائلين : بأن نظام الخليقة قد ربى في أحضانه نوابغَ

٣٢٦

صالحين ، اهتدوا بفعل نبوغهم الفكري الرفيع إلى أفكار وقيم رفيعة ودعوا مجتمعاتهم إلى الأخذ بها ، والسير على هديها ، لتحقيق الخير والعدالة ، فكان لهم بذلك اكبر نصيب في إرشاد البشرية إلى سعادتها ، فكل ما طرحوه من أفكار ، وكل ما عرضوه على تلك المجتمعات باسم الدين أوالقانون ليست ـ في الحقيقة ـ سوى نتيجة ما تمتعوا به مِن نبوغ ، وفكر خارق ، ولا علاقة له بعالم آخر غير هذا العالم المادي المألوف.

وقالوا : وان ممّا يساعد على تقوية هذا النبوغ اُمور ابرزها :

الحبُّ ، التعرضُ للظلم الطويل ، الطفولة وما يكتنفها من ضعف وعجز ، الوحدة ، السكوت ، التربية الاُولى ، والعيش في صورة الأقلية وما يرافقها من ظروف إجتماعية غير مؤاتية.

فان جميع هذه الاُمور أو بعضها تدفع بالشخص إلى الأنطوائية ، والتفكير والتأمل ، للاهتداء إلى مخرج من المشاكل والصعوبات ، ومخلص من الظروف الصعبة ، والأحوال الشاقة.

ويُجاب على هذه النظرية بأن أصحاب هذه النظرية حكموا على هذه القضية على أساس موقف اتخذوه سَلفاً فهُم حَصَروا الأشياء في المادة والامور المادية ثم فسّروا ما يرتبط بعالم الغيب بذلك ، فجاء تفسيرهم لهذه الظاهرة الغيبية تفسيراً ماديّاً ، غفلة منهم عن ان مثل هذا التفسير والتعليل لا يليق بظاهرة ( الوحي ) الّتي تجسد أعلى قضيّة في سلّم الحقائق العلمية والفلسفية ، ويرجع اليها أعظم القوانين والبرامج للسعادة البشرية.

نحن لا ننكر أن لما ذكروه من العوامل تاثيراً في تقوية عملية « التفكير » لدى الإنسان إلى درجة ايجاد ما يسمى بظاهرة التوابغ لديه ، إلاّ أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الامر نبيّاً خضعت جميع النبواغ البشرية لعظمة تعاليمه الّتي أتى بها طوال أربعة عشر قرناً.

نبياً لم يزل ما جاء به من معارف عقلية وفلسفية ، وقوانين ترتبط بعالم الطبيعة وبالنظام الاجتماعي وآداب السلوك تحافظ على قوتها ، وعمقها وأصالتها ولمعانها

٣٢٧

كل المحافظة رغم كل ما احرزه البشر في ضوء نشاطه الفكري والعقلي من تقدم ، في المعارف والعلوم.

هذا مضافاً إلى أن نسبة هؤلاء الأنبياء جميع ما عرضوه على المجتمعات البشرية إلى العالم الآخر واصرارهم على أنها من جانب اللّه تعالى وليست من نسيج افكارهم يناقض نظرية هذه الطائفة ، الّتي تفسر النبوة بالنبوغ.

لنقرأ معاً الآية الّتي يقول اللّه تعالى فيها حاكياً عن رسول الإسلام محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنْ أتَّبعُ إلاّ مَا يُوحى إليّ » (١).

أو يقول سبحانه : « إنْ هُوَ إلاّ وَحْي يُوحى » (٢).

٣ ـ يقولون : إنّ الوحي هو ظهور الشخصية الكامنة في النبي وايحاؤها لما ينفعه وينفع قومه المعاصرين له ، إليه.

وربما قالوا : إنَّ معلومات « محمَّد » وافكارَه وآمالَه وَلَدتْ لديه إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفيّة على مخيلته السامية ، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملَك ماثلا له وهو يتلو على سمعه ما حدّث به بعد ذلك.

وتوضيح هذه النظرية هو : ان لكل إنسان شخصيتين :

١ ـ الشخصية الظاهرة العادية وهي الّتي تخضع للحواس الخمس وتعمل بها.

٢ ـ الشخصية الباطنية وهي الّتي تعمل عندما تتعطل الحواس ، ويتعطل الشعورُ الظاهري :

وهذه الشخصية هي الّتي تحرك جميع أعضاء الجسم الانساني الّتي لا تخضع لارادته كالكبد والقلب ، والمعدة وغيرها ، كما انها هي مصدر الكثير من الإلهامات الطيبة في الظروف الحرجة.

ثم قالوا : وهذه الشخصية الباطنية قد اصبحت مدركة بالحس ، فان المنوَّم

__________________

١ ـ الأنعام : ٥٠.

٢ ـ النجم : ٤.

٣٢٨

مغناطيسياً يظهر بمظهر العقل الراجح ، والفكر الثاقب والنظر البعيد ، ويقوم بما لا يقوم به في حالته العادية.

وقد انتهى هؤلاء الماديّون من خلال تحقيقاتهم وتجاربهم إلى : ان شخصية الإنسان الباطنية ارقى من شخصيته العادية ، وإن ما يتوصَّل إليه الإنسان من أفكار عالية رفيعة جداً ، وما قد يتمتع به من روح قوية هو من مظاهر هذه الشخصية وفعاليتها.

فقالوا : وان هذه الشخصية هي الّتي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من اللّه ، وقد تظهر لهم متجسّدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء!!!

فالوحي عند هؤلاء الباحثين في الروح على الاسلوب التجريبي لا يكون بنزول ملك من السماء على الرسول فيبلغه كلاماً عن الله بل يكون في تجلي روح الإنسان عليه بواسطة شخصيته الباطنة فتعلمه ما لم يكن يعلم ، وتهديه إلى خير الطرق لهداية نفسه وترقية اُمته (١).

ولكن هذه النظرية هي الاُخرى تنبع من الغُرور العلميّ الّذي اصاب هذا النمط من العلماء الَّذين يحاولون تفسير كل ظواهر هذا العالم بالتفسير المادي ، وهو لا شك ينشأ من عِلمهم المحدود القاصر عن إدراك حقائق الوجود.

إننا لا نشك في وجود ما يسمى بالشخصية الباطنيّة لدى الإنسان فهو ممّا سبق إلى كشفه والتنويه به الفلاسفة الإسلاميّون من قبل ولكن كيف وعلى أيّ اساس حقَّ لهؤلاء ان يفسروا ظاهرة ( الوحي الالهيّ ) والنبوة بهذا الامر؟

هذا أولاً

وثانياً : انَّ تجلي الشخصيّة قلّما يحدث في الاشخاص الأصحّاء ، بل هو يحدث في الاغلب عند المتعبين القلقين ، والسكارى ، والمصابين بالهزيمة والنكسة ، لأن نافذة ( اللاوعي ) عند غيرهم من الاصحاء تنسد بسبب اشتغالهم الشديد بقضايا الحياة اليومية وهمومها ، ولا يبقى للشخصية الباطنية مجال للنشاط والفعالية ، كما

__________________

١ ـ دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي : ج ١٠ ، مادّة وحي.

٣٢٩

هو العكس عند المتعبين والسكارى والمرضى الذين يقل اهتمامهم بالحياة اليومية فيترك ( الوعيُ ) مكانه للاوعي ، وتترك الشخصية الظاهرية المعطّلة مكانها للشخصية الباطنية.

ولذلك نجد بين آلاف العلماء والمفكرين مفكراً أو عالماً واحد اتفق له في بداية عمره أن اهتدى بصورة لا شعورية إلى فكرة خاصة أونظرية معينة من دون سابق تفكير أو استدلال قائم على الشعور.

وخلاصة القول أن تجلّي الشخصية الباطنية في الحياة الإنسانية قضية نادرة جداً ، وهي لا تحدث إلاّ في ظروف خاصة مثل : المنامات والاحلام وغيرها من التحولات الحياتية الّتي تقلل من توجّه الإنسان إلى العالم الخارجيّ وتصرفُ التفاته وتوجُّهَه إلى الشخصية الباطنية.

ولكن هذه الحالة وهذه الشرائط ( أي الغفلة عن هموم الحياة اليومية الخارجية ) لم تحصل للانبياء قط.

فالنبي الأكرم محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان طوال ( ٢٣ سنة ) وهي أعوام الرسالة ، مشتغلا كل الاشتغال بقضايا الحياة اليومية ، فالنشاطات السياسية ، والتبليغية وقضايا الدعوة والقيادة كانت تهيمن على كل توجهه واهتمامه وتملأ ، عقله وروحه ونفسه.

فالكثير من آيات الجهاد ترتبط بساحات القتال والجهاد ، وهذا يعني انه كان مشدوداً بروحه وعقله كله إلى تلك الاُمور.

وثالثاً : انَ هذه النظرية يمكن أن تصدق على نبوة الانبياء لو كان هؤلاء الأنبياء أفراداً متعبين ، منهزمين ، منتكسين ، مرضى ، معتزلين عن الحياة ليقال حينئذ ان هذه الحالات والظروف مهَّدت لانقطاعهم عليهم‌السلام عن هموم الحياة ، وقضاياها ، وبالتالي مهَّدت لفعالية الشخصية الباطنية وعملها.

ولكن تاريخ الأنبياء يشهد بوضوح لا إبهام فيه ، بانهم كانوا ـ طيلة حياتهم الرسالية ـ رجالا مجاهدين ، لا يهمهم إلاّ اصلاح المجتمعات وقيادة الجماعات وحل المشكلات الاجتماعية ، ورفع مستويات الناس معنوياً وفكرياً وكانوا

٣٣٠

يعملون لتحقيق هذه الأهداف ليل نهار ، بلا سأم ولا ملل ، ولا تعب ولا نصب.

فكيف يمكن القول والحال هذه بان الشخصية الباطنية تجلّت لديهم واوحت اليهم بحقائق وقيم وافكار؟

إن تفسير ( الوحي الالهي ) الّذي يُلقى إلى الانبياء ويكشف لهم عن أدق الحقائق وارفعها ، وأعظم المناهج واكملها ، بتجلّي الشخصية الباطنية ، ناشئ من اعتقاد هذا الفريق من العلماء بأصالة المادة ، أو بعبارة اخرى : حصر الوجود في المادة ، ومن هنا حاولوا إلْباس كل شيء حتّى الامور المعنوية والغيبية : اللباس الماديّ ، واغلقوا على أنفسهم باب عوالم الغيب ، وعمدوا إلى التفتيش عن علة مادية حتّى لظاهرة ( الوحي ) الّتي لا تُقاس بمقاييس العالم المادّي.

هذا مضافاً إلى أن تفسير ( الوحي الالهيّ ) عن طريق نظرية تجلّي الشخصية الباطنية ، وخاصة في شأن رسول الإسلام « محمَّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه اشكالات ومؤاخذات اخرى تجعل هذه النظرية في عداد الاساطير!!

وإنّ ابرز هذه الاشكالات الواردة على هذه النظرية في مجال رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي : أنّ هذه النظرية ليست رأياً جديداً وتهمة جديدة توجه إلى نبوة رسول الإسلام.

فان نظرية « الشخصية الباطنية ، والوحي النفسي الذاتي » هي نظرية متبلورة ومتقدمة لتهمة ( الجنون والصَرع ) التي كان يَرمي بها العربُ الجاهليّون رسولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!!

فقد كان المشركون في بدء الدعوة يقولون : ان ما يقوله « محمَّد » وما يتكلم به ليس إلا افكاره القلقة المضطربة الناشئة عن خياله ، وانّ القرآن هي تلك الأفكار المضطربة الّتي تسربت إلى فضاء عقله من دون ارادة منه ولا اختيار!!

لنستمع إلى القرآن الكريم وهو ينقل عنهم هذا الاتهام :

« بَلْ قالُوا اضغاثُ أَحلام » (١).

__________________

١ ـ الأنبياء : ٥.

٣٣١

ولكن القرآن الكريم يردّ على هذه المزعمة الواهية بقوله :

« وَالْنَّجْم إذا هَوى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنطِقُ عَنِ الْهَوى. إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمهُ شَدِيدُ الْقُوى » (١).

ان القرآن الكريم يشجب في هذه الآيات المنتظمة انتظاماً رائعاً وبديعاً هذه المزعمة ( أي مقولة أن القرآن وليدُ الخيال لدى محمَّد ) ، ويردُّ الأمر إلى الوحي الالهي ، والتوجيه الربانيّ العُلويّ.

إن نظرية الوحي النفسيّ وتَجلّي الشخصية الباطنية الّتي طلع بها الماديون في عصرنا ما هيَ في الحقيقة إلاّ غطاء لمزعمة المشركين وتهمة الجنون والخيال ، الّتي سبق أن رمى بها أعداء الرسالة الإسلامية ومعارضوها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك التهمة الّتي يذكرها القرآن الكريمُ بقوله : « وَقالُوا يَا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَليْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمجنُونٌ » (٢).

وهي تهمة كان يوجهها المعارضون دائماً إلى المصلحين وأصحاب الرسالات (٣) وقد اتخذت هذه التهمة صبغة علمية جديدة ، وتبلورت في نظرية : « الوحي النفسيّ ، وتجلّي الشخصية الباطنية ». ان القرآن الكريم يرد على هذه المزاعم والتصورات الباطلة حول عمليّة الوحي ومسألة النبوّة ويرد على نسبة الكهانة وماشابه ذلك كالخبر المنقول عن اهل السير بمحاولة القاء النبي نفسه من شاهق في بداية الوحي الّذي يشبه نسبة الجنون إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول تعالى : « إنّه لقولُ رَسُول كريم. ذي قوّة عند ذي العرش مكين. مُطاع ثمَّ امين. وَما صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون. ولقدْ رآهُ بالاُفقِ المُبين. وَمَا هُو بِقول شَيْطان رَجيم. فَايْنَ

__________________

١ ـ النجم : ١ ـ ٥.

٢ ـ الحجر : ٦ ، وايضاً راجع الآيات التالية : سبأ : ٨ ، الصافّات : ٣٦ ، الدخان : ١٤ ، الطور : ٢٩ ، القلم : ٢ ، التكوير : ٢٢.

٣ ـ إذ يقول القرآن في هذا الصدد : « كَذلِكَ ما أتى الَّذينَ مِنْ قَبلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنونٌ. أتواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » ( الذاريات : ٥٢ و ٥٣ ).

٣٣٢

تَذْهَبُونَ إن هو إلاّ ذكرٌ للعالمين. لِمَنْ شاء مِنْكُمْ أن يستقيم » (١).

بهذا البيان تبيَّنَ بطلان هذا التفسير وجميع التفاسير الاُخرى الّتي تحاول إعطاء ( الوحي ) طابعاً مادياً مألوفاً ، شأنه شأن غيره من الظواهر الغيبيّة ، ونحن استكمالا لهذا البحث نشير إلى ما هو الحقُ في هذا المجال ، ممّا يؤيّد الواقع والعقل والدين :

ظاهرةُ الوحي في منظار العقل والدين :

لا شك أن حياة كل فرد من افراد الإنسان تبدأ من « الجهل » ثم يأخذ الإنسان بالدخول في مجال العلم شيئاً فشيئاً ، إلى ان تنفتح عليه بالتدريج نوافذُ على الواقع الخارج عن ذهنه.

فيبدأ الإنسانُ بالتعرف على الحقائق عن طريق الحواسّ الظاهرية ، ثم على أثر التكامل في جهازه العقليّ والفكري يهتدي إلى الحقائق الخارجة عن مجال الحس واللمس ، فيغدو عقلانياً استدلاليّاً ، ويقف على طائفة من الحقائق الكليّة والقوانين العلمية.

وربما يظهر بين أفراد النوع الإنساني أصحابُ نفوس عالية يقفون عن طريق الالهام ومن خلال بصيرة خاصة على حقائق واُمور لا يُهتدى اليها حتّى عن طريق الاستدلال والبرهنة!

ومن هنا قسّم العلماء ادراك البشر إلى ثلاثة أنواع : « إدراك العامّة » « إدراك المفكرين وأرباب الاستدلال » « إدراك العرفاء واصحاب البصائر والنفوس الكبرى ».

وكأَنَّ أصحاب الظاهر يستعينون على اكتشاف الحقيقة بالحس ، والمفكرين يستعينون بالاستدلال والبرهنة ، وأصحاب البصائر والمعرفة بالإلهام والاشراق وبالفيض عليهم من العالم الأعلى.

__________________

١ ـ التكوير : ٢٠ ـ ٢٨.

٣٣٣

ان النوابغ في مجال الأخلاق ، وان عقول العلماء الخلاقة ، وأفكار الفلاسفة العظيمة كلها تؤيّد وتشهد بأن ما يحصلون عليه ، وما يطلعون به على المجتمع البشري ممّا لم يعرفوه من قبل ما هي الا شرارات مضيئة وملهمة تخطر لهم ، ثم يعمدون إلى تنميتها وبلورتها بالتجربة ، أو بالاستدلال والبرهنة والتأمل.

قنواتُ المعرفة الثَلاث :

من هذا الكلام نستنتج أن أمام بني البشر ثلاث طرق للوصول إلى مقاصدهم ؛ فالطريق الأول يستفيد منه جماهير الناس غالباً ، بينما يستفيد طائفة خاصة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودون قلةٌ تكاملت عقولُهم ، وتسامت أرواحهم. وهي كالتالي :

١ ـ الطريق التجريبي والحِسي ، والمقصود منه ذلك القسم من الإدراكات والمعلومات الواردة إلى محيط الذهن البشريّ عن طريق الحواس الظاهرية كالمرئيات ، والمشمومات والمطعومات وغيرها ممّا يستقرُّ في محيط إدراكنا بواسطة الأجهزة المختصة بها.

وقد استطاع البشر اليوم ، وبفضل اختراع التلسكوبات والميكروسكوبات واجهزة التلفاز والراديو ان يقدّم خدمة كبرى للبشرية في مجال الإدراكات الحسية ويمهِّد لمزيد من سيطرتها على البعيد والقريب.

٢ ـ الطريقُ التعقُّلي الإستدلالي : فان المفكرين يتوصِّلون إلى كشف طائفة من القوانين الكليّة الخارجة عن الحس عن طريق عملية التفكير والتأمل وتشغيل جهاز العقل ، وإقامة سلسلة من المقدمات البديهية الواضحة ، وبذلك يمكن الوصول إلى قمم المعرفة والكمال العلمي.

إنَّ انكشاف القوانين العلميّة الكليّة ، والمسائل الفلسفية ، والمعارف المرتبطة بصفات اللّه وأفعاله سبحانه والقضايا المطروحة في علم العقيدة والأديان ناشئ برمَّته من جهاز العقل ، وحركته ، وناتج من عملية التفكير ، والإستدلال المذكورة.

٣ ـ طريق الإلهام : وهذا هو الطريق الثالث لمعرفة الحقائق ، وهو فوق نطاق

٣٣٤

الحس والتعقل.

إنه نوعٌ جديدٌ من المعرفة ونمط متميّز من إدراك الحقائق ، ليس محالا من وجهة نظر العلم وان كان يصعُب على أصحاب الاتجاه المادّي القبول به لكونه طريقاً غير حسي ولا تعقّلي.

وأما من جهة الاُصول العِلمية فلا مجال لإنكاره ، ولا مبرّر لعدّه من المحالات.

ان طريق التعرُّف على حقائق الكون الخارج عن الذهن ـ في منهج المادّيين ، وأصحاب النزعة المادية ـ ينحصر في قناتين لا اكثر ، وهما اللّذان سبق ذكرُهما ، في حين أنّ هناك ـ حسبَ نظرة الأديان والشرائع الكبرى وحسب نظرة الفلاسفة والعرفاء الالهيين ـ قناة ثالثة أيضاً.

بل إنَّ هذا الطريق الثالث ـ كما أسلفنا في مسألة الوحي ـ أكثر واقعية ، وأقوى أسُساً ، وأوسع آفاقاً عند من يدَّعون الرسالة ، والنبوة من جانب اللّه سبحانه ، وإن نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاء وطراوةً بفضل هذا الطريق ، وفي ضوء هذه القناة.

وكلّما حصل إرتباط بين اللّه ، وبين فرد من أفراد النوع الإنساني على نحو خاص اُلقيت الحقائق في وجوده من دون توسط الحواس الظاهرية ، وإعمال الفكر ، واستخدام جهاز العقل.

وهذا النوع من الإلقاء يسمى حيناً بالالهام ، وبالاشراق حيناً آخر.

ولكن كلما نتج من إرتباط الإنسان بما وراء الطبيعة سلسلة من التعاليم العامّة والأنظمة والبرامج الشاملة اُطلِق على هذا النوع من الإلقاء عنوان ( الوحي ) ، وسمِّيَ الآتي بها ( ملَك الوحي ) والآخذ لها ( نبيّاً ).

هذا وقد يوجب الإلهام الثقة والاطمئنان للملهَم إليه ، ولكنّهُ لا يمكن أن يكون مبعث الإطمئنان والثقة عند الآخرين (١).

__________________

١ ـ وانما قلنا « قد » أي يمكن أن يوجب الاطمئنان ولم نقطع بذلك لأنّ مصدر هذه الالهامات

٣٣٥

من هنا اعتبر العلماء « الوحيَ » الطريقَ المطمئنة الوحيدة إلى المعرفة العامة ... الوحي الّذي ينزل على الانبياء الذين ثبتت نبوّتهم بالدلائل القاطعة ، من المعجزة وغيرها.

أنواع الوحي واصنافه :

إن في مقدور الروح الإنسانية بسبب ما تملك من كمالات أن تتصل بالعوالم الروحانية من الطرق المختلفة ، ونحن هنا نشير إلى هذه الطرق الّتي جاء ذكرها في أحاديث قادة الإسلام وائمته ، باختصار :

١ ـ تارة يتلقى الحقائق السماوية العليا على نحو الالهام ، فيتخذ ما يتم إلقاؤه في النفس عبر هذا الطريق حكم ( العلوم البديهية ) الّتي لا يتطرق اليها أي ريب وشك.

٢ ـ وقد يسمع عبارات وكلمات من جسم معين ( كالجبل والشجرة ) كسماع موسى عليه‌السلام كلام اللّه من الشجرة.

٣ ـ وربما تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار.

٤ ـ وقد ينزلُ عليه ملَكٌ من جانب اللّه بكلام خاص.

وقد نزل القرآن الكريم على النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الطريق ، وقد صرح القرآن الكريم نفسه بهذا عند قوله تعالى : « نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين عَلى قلبك لِتكُونَ مِنَ المُنذَرين. بِلسان عَربيٍّ مُبِيْن » (١).

أساطيرُ مختَلفة :

لقد كتب المؤرخون والكتاب عن حياة كثير من الشخصيات العالمية ، وضبطوا كل

__________________

ليست معلومة وواضحة ، ولا يمكن الاعتماد على مطلق الواردات القلبية والفجائية الّتي لا تستند إلى اُصول معلومة.

وبعبارة اُخرى : يجب الفصل والتمييز بين الإلهامات الرحمانية والالقاءات الشيطانية بواسطة الموازين العقلية والشرعية.

١ ـ الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥ ، وقد اُشير في سورة الشورى الآية ٥١ إلى هذه الطرق الأربع جميعها.

٣٣٦

ما جلَ اودقَّ في هذا المجال ، وربما تحمّلوا عناء الرحلات الطويلة والأسفار الشاقة لتكميل دراساتهم ، وكتاباتهم.

غير أن التاريخ لا يعرف شخصية مثل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضبطت تفاصيل سيرته الدقيقة ، واهتم اتباعه وأصحابه ومحبّوه بكل شاردة وواردة في حياته الشريفة.

إنَّ هذا الولع الشديد بتسجيل كل شيء ـ مهما صغر ـ من حياة النبيّ الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته العطرة كما ساعد على ضبط جميع الجزئيات والتفاصيل في هذا المجال ، تسبب في بعض الموارد في إلصاق بعض الزوائد بحياة النبي الاكرم وشخصيته العظيمة ، الطاهرة.

ومثل هذا لا يبعد عن المحبّين الجهلاء فكيف بالأعداء الألداء العارفين.

من هنا يتعيّن على كل مؤلف يكتب عن سيرة شخصية من الشخصيات أن لا يغفل عن مبدأ ( الحذر والإحتياط ) في تحليله لحوادثها ، وقضاياها ، فلا يغفل عن تقييم كل ما جاء حولها من روايات وقصص في ضوء الموازين التاريخيّة الدقيقة.

واليك بقية ما جرى في واقعة نزول ( الوحي ) في حراء :

بقية حادثة نزول الوحي :

استنارت نفس رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه الكبرى بنور « الوحي » المبارك ، وتعلّم كل ما ألقى عليه ملَك الوحي في ذلك اللقاء العظيم ، وانتقشت تلك الآيات الشريفة في صدره حرفاً حرفاً ، وكلمة كلمة.

وقد خاطبه نفس ذلك الملك بعد تلاوه تلكم الآيات بقوله :

يا محمَّد ... أنت رسولُ اللّه ... وأنا جبرئيل.

وقيل : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع هذا النداء عند نزوله من غار حراء وقد اضطرب رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذين الحدَثين ، اضطرب لعظمة المسؤولية الكبرى الّتي اُلقيت على كاهله.

٣٣٧

وكان هذا الاضطراب طبيعياً بعض الشيء ، وهو لا ينافي بالمرة يقينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيمانهُ بصدق ما اُنزلَ عليه لأن الروح مهما بلغت من العظمة والسمّو والقوة والصلابة ، ومهما كانت قوة ارتباطها بعالم الغيب ، وبالعوالم الرُّوحانية العُليا فانَّها عندما تواجه لأول مرّة ملَكاً لم تره من قبل ، وذلك في مثل المكان الّذي التقى النبيُ ( فوق الجبل ) لابُدَّ أنْ يحصل لها مثل هذا الاضطراب ، ولهذا زال ذلك الاضطراب عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما بعد.

ثم إنّ الاضطراب والتعب الشديد قد تسبّبا في أن يتوجه النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت « خديجة » عليها‌السلام ، وعندما دخل بيتها ووجدت على ملامحه آثار الاضطراب والتفكير سألته عن ما جرى له ، فحدَّثها بكل ما سمع وراى وقصَّ عليها ما كان من أمر جبرئيل معها ، فعظّمت « خديجةُ » عليها‌السلام أمره ، ودعت له ، وقالت : إبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبداً.

ثم إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي كان يشعر بالجهد والتعب قال لزوجته الوفيّة « خديجة » : دثّريْني ... دَثّريني.

فدثّرته ، فَنام بعض الشيء.

خديجة تذهب إلى ورقة بن نوقل :

لقد تحدثنا في الصفحات الماضية عن « ورقة » وقلنا أنّه كان ممن تنصَّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والانجيل وكان ابن عم خديجة.

فعند ما سمعت « خديجة » زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سمعته منه انطلقت إلى « ورقة » لتخبِّره بما سمعته من زوجها الكريم ، وشرحت له كلَ شيء مما جرى له مع جبرئيل.

فقال « ورقة » في جواب ابنة عمه : إنّ ابن عمّك لصادق ... وإن هذا لبدء النبوة ، وانه ليأتيه الناموس الاكبر ( أي الرسالة والنبوة ) (١).

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٩٥.

٣٣٨

إن ما ذكرناه إلى هنا هو في الحقيقة ملخّص الروايات التاريخية المتواترة الّتي وصلت إليها ، والّتي دُوِّنت في جميع الكتب.

بيداننا نلاحظ بين ثنايا هذه الحادثة اُموراً لا تتفق مع ما نعرفه من أنبياء اللّه ورُسُله العظام ، كما أنها لا تتفق مع ما قرأناهُ إلى الآن عن حياة هذا النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما سنذكره الآن من هذه الزوائد إمّا يجب اعتباره من قبيل الاساطير التاريخية ، أو أنّ علينا تأويله بنوع من التأويل.

وانا لنعجب قبل كل شيء من المفكّر المصريّ الدكتور « هيكل » كيف سمح لنفسه وهو الّذي تحدث في مقدمة كتابه عن مشكلة تسرب الاساطير إلى التاريخ النبويّ ، وقال : بأنّ هناك من دسَّ في السيرة النبوية ، عن عداوة أو جهل ، بعض الاكاذيب.

ولكنه مع ذلك ينقل هنا اُموراً لا أساس لها من الصحّة أبداً ، في حين اعطى فريقٌ من علماء الشيعة ـ كالمرحوم الطبرسي ـ ملاحظات مفيدة في هذا الصعيد.

وإليك في ما يلي بعض هذه الاساطير والقضايا المختلفة ، على أنها لم تكن جديرة بالاشارة ابداً لولا أن بعض المحبّين الجهَلاء ، والأعداء الأذكياء ذكروها في كتبهم ، وكرروها في دراساتهم.

١ ـ قالوا : إنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما دخل منزل خديجة ، كان يفكّر في نفسه : لعلّ بصرَه خدعته ، أو انه كاهن ، أوفيه جنون!!

ولكن لمّا قالت له خديجة : « انّ اللّه لا يفعل بك ذلك يا ابْن عبد اللّه ، إنك تصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتصلُ « الرحم » اطمأنَّ ، وزالَ عنه الشكُ والتردّد ، والقى على « خديجة » نظرَ شكر ومودة ، ثم طلب أن يُزمَّل ، فزمِّلَ فنام!! (١).

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٩٥ ، حياة محمَّد : ص ١٣٤.

٣٣٩

٢ ـ يقول الطبري وغيره من مؤرخي السيرة : ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سمع نداء يقول : « يا محمَّد أنت رسول اللّه » أصابَهُ خوفٌ شديدٌ حتّى أنه همَّ بان يطرح نفسَهُ من أعلى الجبل ، فتبدى له ( ملَك الوحي ) ومنعه عن ذلك!!!

٣ ـ ثم إنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب ليطوف بالكعبة بعد ذلك اليوم ، فرأى « ورقة بن نوفل » وشرح لورقة ما جرى له مع جبرئيل ، فقال له ورقة :

« والّذي نفسي بيده ، إنَّك لنبيَّ هذه الاُمة ، وقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الّذي جاء موسى ولتُكذبَنَّه ، ولتوذينَّه ولتخرجَنَّه ولتقاتلنِه » فأحس « محمَّد » بأن ورقة يصدّقه ، فاطمأن (١).

بُطلانُ هذه المزاعم :

إن الّذي نتصوره هو أن جميع هذه القصص مختلقة من الاساس ، وقد دُسَّت في التاريخ والتفسير عن قصد وهَدف ، أو دخلت فيهما عن غير ذلك.

وذلك :

أولاً : لأننا لتقييم هذه المزاعم يجب ان نلقي نظرة فاحصة إلى تاريخ الأنبياء الماضين وسيرهم.

إنَ القرآن الكريم قصَّ علينا قضاياهم ، وسيرهم ، وقد وردت في هذا المجال روايات وأخبار كثيرة.

وإننا لا نجد أيَ أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحد منهم.

إن القرآن الكريم يقص علينا قصة بدء نزول ( الوحي ) على « موسى » بشكل كامل ويبيّن جميع التفاصيل في قصته عليه‌السلام ولا يذكر أي شيء من الخوف ، والارتعاش ، والوحشة والفزع ، بحيث يحدّث نفسه بالإنتحار على أثر سماع الوحي!! مع أن أرضية الخوف والفزع في مجال « موسى » كانت متوفرة

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٣٨.

٣٤٠