سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

إنه يقول هذا الكلام عن اُمّه الّتي وصفها القرآن الكريم بأن اللّه تعالى اصطفاها على نساء العالمين (١).

إنه يفَضِّل تلاميذه الذين لم يؤمنوا به في قلوبهم ذرة من خردل ، والذين خذلوه ليلة الهجوم عليه من جانب اليهود (٢) ـ كما يقول الانجيل ـ على اُمه الصدّيقة.

كما إن الانجيل يقول : إن المسيح حوّل الماء إلى الخمر في عرس (٣) بل يقول إنه عليه‌السلام : شرب الخمر (٤) ، والحال أن الإنجيل يصرّح بحرمة الخمر في مواضع عديدة.

هذا هو « عيسى » النبي الطاهر وحواريوه حسب رواية الانجيل!! (٥).

أما القرآن الكريم فيقول عنه غير ما يقوله : « الانجيل » وإليك بعض ما جاء في الكتاب العزيز حول « المسيح » عليه‌السلام.

قال اللّه تعالى : « وَآتينا عِيْسى بْن مَريَم البيّنات وأيَّدْناهُ برُوْح القُدُس » (البقرة : ٧٨).

وقال تعالى أيضاً : « إنّما المسيحُ عيْسى بنُ مريم رَسُول اللّه وكلمته » (النساء : ١٧١).

ويكفي في عظمة المسيح عليه‌السلام وعلو شأنه أنه عليه‌السلام كلَّم الناس في المهد صبياً وقال : « إنّي عَبْدُ اللّه آتاني الكتابَ وَجَعَلني نَبِيّاً. وَجَعَلني مُبارَكاً أيْنَ ما كُنْتُ وَأوْصانِي بِالصَّلاة والزّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً. وبرّاً بِوالِدَتي وَلَمْ يَجْعَلني

____________

١ ـ آل عمران : ٤٢.

٢ ـ انجيل متّى : الاصحاح السابع والشعرون ١ ـ ٦ انظر كيف وافق يهوذا الاسخريوطي وهو أحد الحواريين مع المتآمرين ضدّ المسيح ، وأيضاً راجع نفس السفر : الاصحاح السادس والعشرين : وراجع انجيل متّى : الاصحاح العاشر أيضاً.

٣ ـ إنجيل يوحنا : الاصحاح الثاني : ١ ـ ١١.

٤ ـ إنجيل لوقا : الاصحاح الأول ١٥ وغيره.

٥ ـ على أنّ خرافات التوراة والانجيل لا تنحصر في ما ذكرناه هنا ، وللتوسع راجع : أنيس الأعلام تأليف فخر الإسلام ، والهدى إلى دين المصطفى للعلامة البلاغي.

٢٤١

جَبّاراً شَقِيّاً. والسَّلامُ عَليَّ يَوْم وُلدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَومَ اُبْعَثُ حيّاً. ذلِكَ عِيْسى بْن مَرْيَم قَوْل الْحَقِّ الَّذيْ فيه يَمْترُون » (مريم : ٣٠ ـ ٣٤).

هذه هي مواقف القرآن الكريم من الأنبياء الكرام ، والرسل العظام ، وتلك هي مواقف « التوراة » و « الانجيل » المشينة ، المسيئة إلى شخصيّة سفراء اللّه مبلّغي رسالاته ، فكيف يُعقل ان يكون القرآن الكريم مقتبساً من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين؟!

ثم لو أنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد اطّلع على هذه القضايا والقصص قبل إخباره بنبوّته فلماذا لم يرشح منها شيء في أحاديثه قبل الرسالة وقد عاش بين قومه طويلا.

قال اللّه سبحانه في معرض الردّ والجواب على اقتراح المشركين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يأتي لهم بقرآن غير الّذي جاء به : « قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلوْتُهُ ولا أدْريكُمْ به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أفلا تعْقِلُونَ » (١).

فالآية تؤكد على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آياً من آياته ، فكل ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد ان بعثه بالرسالة (٢).

__________________

١ ـ يونس : ١٦.

٢ ـ للتوسّع راجع مفاهيم القرآن : ج ٣ ص ٣٢١ ـ ٣٢٣.

٢٤٢

٨

فَترة الشَباب

في حياة النبيّ الأكرم

يجب ان يكون قادة المجتمع أقوياء شجعان ، لايرهبون أحداً ، ولا يخافون شيئاً ، يمتلكون قوة روحية كبرى ، ويتمتّعون بصبر عظيم. وإرادة قوية ، صلبة.

فكيف يستطيع الضعفاء والجبناء والمتردّدون ، وضعاف النفوس قيادة المجتمع ، والخروج به من المآزق والمشاكل ، وكيف يستطيعون أن يقاوموا اعداءهم ويحفظوا كيانهم وشخصيّتهم من عدوان هذا أو ذاك؟!

إن لعظمة القائد الروحية ، ولقواه البدنية والنفسية تأثيراً عظيماً وعجيباً في أتباعه وأنصاره ، فعند ما اختار الإمام اميرُ المؤمنين عليه‌السلام أحدَ اصحابه المخلصين لولاية « مصر » كتب إلى أهل « مصر » المظلومين الذين ذاقوا الأَمرّين على ايدي ولاتهم السابقين كتاباً ذكر فيه شجاعة هذا الوالي الجديد ، الروحية وقدرته النفسية الفائقة ، وإليك فيما يلي بعض الفقرات من ذلك الكتاب الّذي يعكس الشروط والمواصفات الواقعية في القائد :

« أما بعدُ فقَد بَعثتُ اليكم عَبداً مِن عباد اللّه لا ينامُ أيّام الخوف ، ولا ينكُل عن الأعداء ساعات الروع ، أشدّ على الفُجار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابقَ الحق ، فإنه سَيْفٌ مِن

٢٤٣

سُيوف اللّه ، لا كليلُ الظَبَّة ، ولا نابِي الضريبة » (١).

رسولُ اللّه وقدرتُه الروحيّة :

لقد كانت آثار الشجاعة ، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه ، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة ، وقبيلة هوازن من جهة اخرى ، وتدعى « حرب الفجار » ، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَبل.

فها هو « ابن هشام » ينقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كُنْتُ اُنبّلُ عَلى أعْمامِيْ » (٢).

إن مشاركته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدرته الروحية الكبرى وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام في حق النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ إتّقيْنا برَسُول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ » (٣).

وسوفَ نشير ـ وبعون اللّه عند ذكر جهاد المسلمين للكفار والمشركين ـ إلى نظام العسكرية الإسلامية وكيفية جهاد المسلمين وقتالهم لأعدائهم الّتي تمَّت بأجمعها بتوجيه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في نفسه من الابحاث الشيّقة في تاريخ الإسلام.

حُروبُ الفِجار :

إنَّ الحديث بتفصيل هذه الوقائع وعن تكتيكات هذه الحوادث التاريخيّة

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرقم ٣٨.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٦ ، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة « انبل » مشدّدة « اُنبِّل » : « إذا ناولته النبل يرمي » راجع مادّة نبل.

٣ ـ نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه الرقم ٩.

٢٤٤

خارج عن إطار هذه الدراسة ، بيد أننا ـ مع ذلك ـ نعمد إلى بيان أسباب هذه الحروب الّتي شارك في إحداها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بناء على رواية بعض المؤرخين وحوادثها على نحو الاجمال بغية اطلاع القارئ الكريم.

كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال والاغارة ، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم ، واضطراب اُمورهم ، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام ( هي شهر رجب ، ذوالقعدة ، ذوالحجة ، محرم ) ليتسنى لهم ـ في هذه المدة ـ أن يقيموا أسواقهم ، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء (١).

ولهذا كانت أسواق « عكاظ » و « مجنَّة » و « ذو المجاز » تشهد طوال هذه الاشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة ، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب ، يتبايعون ، ويتفاخرون.

فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى ، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية ، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة ، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجل.

ولكنَ هذه الحرمة قد هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب ، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم ، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب « الفجار » ، وفي ما يلي نشير إليها على نحو الاجمال :

الفِجارُ الأوَّل :

ووقعت الحربُ فيها بينَ قبيلتي « كنانة » و « هوازن » وجاء في سبب نشوب

__________________

١ ـ يُستفاد من قوله تعالى في الآية ٣٦ من سورة التوبة : « إنَّ عِدَّة الشّهور عِندَ اللّه اثنا عَشَر شَهْراً في كِتابِ اللّه يَوْم خلَقَ السَّماواتِ والأَرْض مِنْها أربعةٌ حُرُم » أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية ، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة « إبراهيم الخليل » عليه‌السلام.

٢٤٥

هذه الحرب أن رجلا يدعى « بدر بن معشر » كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق « عكاظ » يحضر فيه ، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول : أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.

فقام رجلٌ من قبيلة اُخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها ، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان ، ولكنهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ (١).

الفِجار الثّاني :

وكان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى أمرأة من « بني عامر » وهي جميلة ، عليها برقع ، فقالوا لها : إسْفري لننظر إلى وجهِك ، فلم تفعلْ ، فقام غلامٌ منهم ، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها ، فضحكوا ، فصاحت المرأة قومها ، فأتاها الناسُ ، واشتجروا حتّى كاد ان يكون قتالٌ ، ثم اصطلحوا ، وانفضُّوا بسلام.

الفِجارُ الثالِث :

وسببه أن رجلا من « كنانة » كان عليه دَيْنٌ لرجل من « بني عامر » ، وكان الكناني يماطل ، فوقع شجارٌ بين الرجل ، واستعدى كل واحد منهما قبيلته ، فاجتمع الناسُ ، وتحاوروا حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ ، ثم اصطلحوا.

الفِجارُ الرابع :

وهي الحرب الّتي ـ قيل أنه ـ شارك فيها النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقد ادّعى البعض انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يومذاك في الخامسة عشرة ، أو الرابعة عشرة من عمره.

__________________

١ ـ ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت ، وستعرف هذا في الابحاث القادمة.

٢٤٦

وقال بعضٌ : انه كان في العشرين من عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الاقوال صحيحة (١).

وقيل في سببه : أن « النعمان بن المنذر » ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق « عكاظ » في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب ، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من أقمشة « الطائف » الجميلة المزر كَشة ممّا يحتاج إليه ، فأجارها « عروة الرجال الهَوازني » في تلك السنة ، ولكن « البراض بن قيس الكناني » انزعج لمبادرة « عروة » إلى ذلك ، فشكاه عند « النعمان بن المنذر » ولم يجد اعتراضه وشكواه ، فحسد على « عروة » حسداً شديداً ، فتَربَّص به حتّى غدر به في اثناء الطريق ، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.

وكانت قريش يومذاك حليف كنانه ، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن ، وأسرعوا في الخروج من « عكاظ » وتوجهوا نحو الحرم ( والحرم هو اربعة فراسخ من كل جانب من مكة ، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة ) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشاً وحليفتها فوراً ، وادركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال ، ولما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت « قريش » وحليفتُها فرصة الليل ، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.

ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والاخرى وتقاتل هوازن ، وقد شارك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه.

وقد استمر الامر على هذه الحال مدة أربع سنوات ، حتّى ان وُضعَت نهاية

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ١ ، ص ٣٥٨ و ٣٥٩ ، السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٤ الهامش ، تاريخ الخميس : ج ١ ، ص ٢٥٩.

٢٤٧

لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن (١).

وقد أسلفنا أن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية ، وحيث أن حرب « الفجار » استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع ، خاصة انه لما سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مشهده يومئذ فقال : « ما سَرّني أنّي أَشْهدهُ ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي عرضوا ( اي قريش ) عَلَيْهم ( اي على هوازن ) أنْ يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ ( اي الّذي قتل عروة ) فأَبُوا » (٢).

ويحتمل أن تكون مشاركته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة اربعة اعوام ، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.

وبذلك لا يبقى مجال لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أيام تلك الحرب.

حِلْفُ الْفُصُول :

لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف « الفُضُول » ، وكان هذا الحِلفْ يهدف الى الدفاع عن حقوق المظلومين ، وكان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت اسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل ، واسماؤهم ـ كما نقلها المؤرخ المعروف « عماد الدين ابن كثير » ـ هي عبارة عن : « فضل بن فضالة » ، و « فضل بن الحارث » ، و « فضل بن وداعة » (٣) ، وحيث أن الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف ( وهو الدفاع عن حقوق المظلومين ) مع حلف « الفضول » لذلك سمّي هذا الاتفاق

__________________

١ ـ سيرة ابن هشام : ج ١ ، ص ١٨٤ ـ ١٨٧ ، الأغاني : ج ٢٢ ، ص ٥٦ ـ ٧٥.

٢ ـ الأغاني : ج ٢٢ ، ص ٧٣.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ١ ، ص ٢٩٠.

٢٤٨

وهذا الحلف بحلف « الفُضول » أيضاً.

فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من « زبيد في مكة في شهر ذي القعدة ، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه « العاص بن وائل » ، وحبس عنه حقه ، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً ، وطلب منهم أن ينصروه على العاص ، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة ، فنادى بأعلى صوته :

يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه

بِبطن مكة نائي الدار والنَفَر

ومُحرمٌ أشعثُ لم يَقض عُمْرتَه

يا للرِّجال وبَيْن الحجر والحَجَر

إن الحرامَ لِمَن تمَّت كرامتُه

ولا حَرام لِثوب الفاجر القذر

فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش ، وهيّجت غيرتهم ، فقام « الزُبير بن عبد المطّلب » وعزم على نصرته ، وأيّده في ذلك آخرون ، فاجتمعوا في دار « عبد اللّه بن جَدْعان » وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مَشوا إلى « العاص بن وائل » فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وقد أنشدَ الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعراً فقال :

إنَ الفُضُولَ تَعاقَدُوا وتَحالَفوا

ألاّ يقيمَ بِبطن مَكَّة ظالمُ

أمرٌ عَليْهِ تَعاقَدُوا وتواثقُوا

فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ

وقال أيضاً :

حَلفْت لَنعْقَدن حلفاً عليهمْ

وإن كُنّا جميعاً أهلَ دار

نسمّيه « الفُضُولَ » إذا عَقَدْنا

يَعُزُّبه الغَريبُ لِذي الجوار

ويعْلَمُ منْ حَوالي البيتِ أنّا

اُباة الضَيْم نَمنَعُ كُلَّ عار (١)

وقد شارك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم ، وقد نُقِلت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل حديثين منها في

__________________

١ ـ البداية والنهاية : ج ١ ، ص ٢٩٠.

٢٤٩

هذا المقام.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لقد شَهدْتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ ».

كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف : « ما اُحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم ».

ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه ، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة « الوليد بن عتبة » الأموي (١) على المدينة.

فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه‌السلام ، ويبدو أنَ « الوليد » تحامل على الحسين في حقه لسلطانه ، فقال له الإمامُ السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط ، ولم يسكت على ظلم أبداً :

« أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ حَقّي ، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول » (٢).

فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم « عبد اللّه بن الزبير » ، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلا : وأنا أحْلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أوْ نَمُوتَ جَميعْاً.

وبلغت كلمة الحسين السبط عليه‌السلام هذه إلى رجال آخرين ك‍ « المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري » و « عبد الرحمان بن عثمان » فقالا مثل ما قال « ابن الزبير » ، فلما بلغ ذلك « الوليد بن عتبة » أنصف الحسين عليه‌السلام من حقه حتّى رضي (٣).

__________________

١ ـ من قبل عمّه معاوية.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٢.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٢٩٣.

٢٥٠

٩

من فترة الشباب

إلى مزاولة التجارة

يحمل القادة الالهيون العظماء وأصحاب الرسالات السماوية على كواهلهم مسؤوليات كبرى ، ومهام عظمى تلازم ـ في الأغلب ـ التعرض للمتاعب والمصاعب ، والعذاب ، وتحمل الأذى ، بل وربما التعرض للقتل والاغتيال ، وكلما كبرت الاهداف ، عظمت المشاكل ، والمتاعب.

وعلى هذا الاساس ، فان نجاح القادة الرساليّين يتوقف على مدى صبرهم واستقامتهم في وجه الاتهامات والمضايقات ، وفي وجه الأذى والعذاب ، لأن الصبر والتحمل في جميع مراحل الجهاد والعمل هو الشرط الاساسيّ للوصول إلى المقصود ، وإلى تحقيق الهدف المنشود والغاية المطلوبة.

من هنا ليس لقائد حقيقي أن يخشى كثرة العدو ، وليس له ان ينسحب ، أو يضعف لقلّة الاتباع والمؤيدين وبالتالي ليس له أن يقلق للنوائب فتخور عزيمته ، أو ترخو إرادته ، مهما عظمت حلق البلاء واشتدت ، ومهما تزايدت ، أو تواترت.

إنّنا نقرأ في تاريخ الأَنبياء وقصصهم اُموراً يعسر على الإنسان العاديّ هضمها ، ويصعب تصوُّرها.

فعن نوح النبيّ عليه‌السلام نقرأ أنه دعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً ، ولم تنتج هذه الدعوة الطويلة المضنيةُ سوى قلة من المؤمنين والمؤيدين الذين لم

٢٥١

يتجاوز عددهم الواحد والثمانين ، وهذا يعني أنه لم يوفق في كل اثنى عشر عاماً الا لهداية شخص واحد.

إنَّ إرادة الصبر ، وقوَّة التحمّل ، والتصبر تظهر لدى الإنسان شيئاً فشيئاً ، فلابدّ أن تتلاحق حوادثٌ صعبةٌ ، ولابد أن يمرَّ المرء بنوائب مزعجة حتّى تأنس روحُه بالامور الثقيلة ، والقضايا الصعبة.

لقد قضى رسولُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شطراً من حياته قبل البعثة في رعي الغنم في الصحاري والقفار ، ليكون بذلك صبوراً في تربية الناس الذين سيكلَّف بقيادتهم وهدايتهم ، وليستسهل كل صعب في هذا المجال.

إن ادارة المجتمع البشريّ من أصعب الأمور الّتي تواجه القادة ، ورجال الاصلاح. والمقدرة على الإدارة هذه لا تسنح ولا تتهيَّأ لأَحد إلاّ بعد مزاولة الاُمور الصعبة ، وممارسة الأعمال الشاقة ، وربما يكون قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برعي الغنم من هذا الباب ، ولهذا جاء في الحديث.

« ما بَعثَ اللّهُ نَبيِّاً قَطُّ حَتّى يَسْتَرْعيْه الغَنم ليُعلّمهُ بذلِكَ رعْيَةَ النّاسِ » (١).

لقد قضى النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شطراً من عمره الشريف في هذا المجال ، وينقل كثيرٌ من ارباب السير والمؤرخين هذه العبارة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ما مِنْ نَبيّ إلاّ وَقَدْ رَعى الغَنم » قِيْلَ : وَأَنتَ يا رَسُول اللّه؟

فقال : « أنا رَعيْتُها لأَهْل مَكَّة بِالقَراريْطِ » (٢).

إنَ شخصية عظيمة يُفتَرضُ فيها أن تواجه ـ في المستقبل ـ أشخاصاً عنودين كأبي جهل وابي لهب ، وأن تصنع ممن انحطت أفكارهم حتّى أنهم سجدوا لكل حَجر ومَدر ، أفراداً لا يخضعون لأي شيء سوى ارادة الحق ومشيئته ، لابدَّ أن تتسلح قبل ذلك بسلاح الصبر ، وتتجهز بأداة التحمل ، وتتزود مسبقاً بقدرة الاستقامة على طريق الهدف ، وهذا لا يكون إلاّ بتعويد النفس على هذه

__________________

١ ـ سفينة البحار : مادّة نبأ.

٢ ـ السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ، ص ١٦٦.

٢٥٢

الصفات ، وحملها على مشاق الاعمال :

سبب آخر لرعي الغنم :

ويمكن أن نذكر هنا سَبباً آخر أيضاً وهو ان رجلا حرّ النفس والعقل كرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجري في شرايينه وعروقه دماء الغيرة والشجاعة كان يشق عليه ان يشاهد كل ذلك الظلم والحيف الّذي كان يمارسه طغاة مكة ، وعتاة قريش وزعماؤها الظالمون القساة بحق الضعفاء ، والمحرومين ، وكذا كان يشق عليه ان يرى تظاهرهم بالعصيان والفسوق في حرم اللّه ، وعند بيته المعظم.

إن اعراض سُكّان مكة عن عبادة اللّه الواحد الحق ، وطوافهم حول تلك الأصنام الخاوية هي ـ بلا ريب ـ أسوأ واقبح ما يكون في نظر الرجل الفاهم ، والعاقل العالم ، واثقل ما يكون عليه.

من هنا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي ردحاً من الزمن في الصحاري والقفار وعند سفوح الجبال الّتي كانت يومئذ بعيدة بطبيعة الحال عن تلك المجتمعات الفاسدة وأحوالها وأوضاعها ، ليستريح ( أو يتخلص ) بعض الشيء من آلامه الروحية الناشئة مِن رؤية تلك الأوضاع المزرية ، والأحوال المشينة.

على أَنَّ هذا الأمر لا يعني أن للرجل المتقي أن يسكت على الفساد والظلم ، ويقرّ عليهما.

ويفرّق بين حياته وحياة الآخرين ويعتزل عنهم ويتخذ موقف اللامبالاة تجاه الأوضاع المنحرفة ، والاحوال الشاذة ، بل ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان مأموراً من جانب اللّه سبحانه بالسكوت والانتظار ، لانه لم تكن ظروف « البعثة » والهداية قد توفرت وتهيأت بعد لذلك اتخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل هذا الموقف.

* * *

٢٥٣

سببٌ ثالث :

ولقد كان هذا العمل ( أي الاشتغال برعي الاغنام في البراري والقفار وعند السهول وسفوح الجبال ) فرصة جيدة لأن يتمكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النظر في خلق السماوات والتطلع في النجوم والكواكب وأحوالها وأوضاعها ، وبالتالي الامعان في الآيات الأنفسية والآفاقية التي هي جميعاً من آيات وجود اللّه تعالى ، ومن مظاهر قدرته وحكمته وعلمه وإرادته.

ان قلوب الأنبياء والمرسلين مع أنها منوَّرة بمصابيح المعرفة المشرقة ومضاءة بأنوار الايمان والتوحيد منذ بدء فطرتها ، وخلقتها ، ولكنهم مع ذلك لا يرون انفسهم في غنىً عن النظر في عالم الخلق ، والتفكر في الآيات الالهية ، إذ من خلال هذا الطريق يصلون إلى أعلى مراتب الايمان ، ويبلغون اسمى درجات اليقين ، وبالتالي يتمكنون من الوقوف على ملكوت السماوات والأرضين.

إقتْراحُ أبي طالب :

لقد دفع وضع ( محمَّد ) المعيشي الصعب « أبا طالب » سيد قريش وزعيمها الّذي كان معروفاً بالسخاء وموصوفاً بالشهامة ، وعلو الطبع ، وإباء النفس إلى ان يفكر في عمل لابن أخيه ، كيما يخفف عنه وطأة ذلك الوضع.

ومن هنا اقترح على ابنه أخيه « محمَّد » العمل والتجارة بأموال « خديجة بنت خُويلد » الّتي كانت امرأة تاجرة ، ذات شرف عظيم ، ومال كثير ، تستأجر الرجال في مالها أوتضاربهم اياه بشيء تجعله لهم منه.

فقد قال أبو طالب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن أخي هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها اكثر الناس وهي تبحث عن رجل أمين ، فلو جئتها فوضعتَ نفسَك عليها لأسرعتْ اليك ، وفضَّلتك على غيرك ، لما يبلغها عنك من طهارتك.

ولكن إباء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلوّ طبعه ، منعاه من الإقدام

٢٥٤

بنفسه على هذه الأمر من دون سابق عهد ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّه : فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك ، لأنّها تعرف بأنه المعروف بالأمين بين الناس.

فبلغ « خديجة » بنت خويلد ، ما دار بين النبيّ وعمه « أبي طالب » ، فبعثت إليه فوراً تقول له : إنّي دعاني إلى البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك ، وأنا اعطيك ضعفَ ما اُعطي رجلا من قومك وابعثُ معكَ غلامين يأتمران بأمرك في السفر.

فاخبر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه بذلك فقال له ابو طالب : « إنّ هذا رِزقٌ ساقهُ اللّهُ إليك » (١).

هل عَمِلَ النبيُّ أجيراً لخديجة؟

وهنا لابدّ من التذكير بنقطة في هذا المجال وهي :

هل عمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجيراً في أموال خديجة ، أم أنه قد عمل في تجارتها بصورة اُخرى كالمضاربة ، وذلك بأن تعاقد النبي مع خديجة على أن يتاجر بأموالها على أن يشاركها في ارباح تلك التجارة؟

انّ مكانة البيت الهاشميّ ، وإباء النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومناعة طبعه ، كل تلك الاُمور والخصال توجب أن يكون عملُ النبيّ في أموال خديجة قد تمَّ بالصُورة الثانية ( أي العمل في تجارتها على نحو المضاربة لا الإجارة ) ، وتؤيّد هذا المطلب امور هي :

أولا : انه لا يوجد في اقتراح أبي طالب أيّة اشارة ولا أي كلام عن الإجارة ، بل قد تحاور أبو طالب مع إخوته ( أعمام النبيّ ) في هذه المسألة من قبل وقال : « امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتّى نسألها ان تعطي محمَّداً ما لا يتجربه » (٢).

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٢ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٣٢ و ١٣٣ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٢٤.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٢.

٢٥٥

ثانياً : ان المؤرخ الأقدم المعروف باليعقوبي كتب في تاريخه : ان النبي ما كان أجيراً لأحد قط (١).

ثالثاً : ان الجنابذي صرّح في كتابه « معالم العترة » بأن « خديجة » كانت تضاربُ الرجال في مالها ، بشيء تجعله لهم منه ( اي من ذلك المال أومن ربحه ) (٢).

* * *

تهيّأت قافلة قريش التجارية للسفر إلى الشام ، وفيها أموال « خديجة » أيضاً ، في هذه الاثناء جعلت « خديجة » بعيراً قوياً وشيئاً من البضاعة الثمينة تحت تصرّف وكيلها ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وامرت غلاميها ( ميسرة وناصح ) اللذين قررت ان يرافقاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان يمتثلا أوامراه ، ويطيعاه ، ويتعاملا معه بأدب طوال تلك الرحلة ، ولا يخالفاه في شيء (٣).

وأخيراً وصلت القافلة إلى مقصدها واستفاد الجميع في هذه الرحلة التجارية أرباحاً ، إلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربح اكثر من الجميع ، كما أنه ابتاع أشياء من الشام لبيعها في سوق « تهامة ».

ثم عادت تلك القافلة التجارية إلى « مكة » بعد ذلك المكسب الكبير ، والحصول على الربح الوفير.

ولقد تسنيّ لفتى قريش « محمَّد » أن يمرّ ـ للمرة الثانية في هذه السفرة ـ على ديار عاد وثمود.

وقد حمله الصمتُ الكبير الّذي كان يخيّم على ديار واطلال تلك الجماعة العاصية المتمردة في نقلة روحانية إلى العوالم الاُخرى اكثر فاكثر ، هذا مضافاً إلى أن هذه الرحلة جدّدت خواطره وذكرياته في السفرة الاُولى ، فقد تذكّر يوم طوى مع عمه « ابي طالب » هذه الصحاري نفسها وهذه القفار ذاتها ، وما كان يحظى

____________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٩ نقلا عن معالم العترة.

٣ ـ قالت خديجة لهما : إعلما أنني قد أرسلتُ اليكما أميناً على أموالي وأنّه أمير قريش وسيّدها ، فلا يدٌ على يده ، فإن باع لا يُمنع وإن ترك لا يؤمر وليَكُنْ كلامُكما له بلطف وأدب ولا يعلو كلامكما على كلامه. ( بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٩ ).

٢٥٦

فيها من عمه من الحدب والعناية.

وعند ما اقتربت قافلة قريش إلى « مكة » ، وصارت عند مشارفها ، التفت « ميسرة » غلامُ خديجة ، إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « يا محمَّد لقد ربحنا في هذه السفرة ببركتك ما لم نربح في اربعين سنة ، فاستقبل بخديجة وابشرها بربحنا » فأخذ النبي باقتراح ميسرة ، وسبق القافلة العائدة في الدخول إلى مكة ، وتوجه نحو بيت « خديجة » بينما كانت خديجة جالسة في غرفتها ، فلما رأت النبي مقبلا عليها ، نزلت من منظرتها وركضت نحوه واستقبلته ، وأدخلته في غرفتها ، فخبّرها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما ربحوا ، ببيان جميل ، وكلام بليغ ، فسرت « خديجة » بذلك سروراً عظيماً ، ثم قدم « ميسرة » في الأثر ، ودخل عليها ، وأخبرها بكل ما رآه وشاهده من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك السفرة من الكرامة والخير ، والخُلق العظيم ، والخصال الكريمة ، ومن الاُمور الّتي كانت برمتها تدل على عظمة شخصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمو خصاله (١) ، ومن جملة ما حدثها به ميسرة هو أنه لما وقع بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين رجل تلاح وجدال في بيع قال له ذلك الرجل : إحلف باللات والعُزى ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حلفتُ بهما قط ، وإني لأمرُّ فاعرضُ عنهما (٢).

وحدثها أيضاً بأنه لما مرّ ببصرى نزلا في ظل شجرة ليستريحها فقال راهبٌ كان يعيش هناك لما رأى النبيّ يستريح في ظل تلك الشجرة : « ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ » سأل عن اسمه ، فأخبره ميسرة باسمه فقال : « هو نبيّ وهو آخر الأنبياء ، إنه هو هو ومُنزّلِ الانجيل ، وقد قرأت عنه بشائر كثيرة » (٣).

__________________

١ ـ الخرايج : ص ١٨٦ ، بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٥.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٣٠ وفي بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٨ : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إليك عني ثكلتك اُمّك فما تكلّمت العربُ بكلمة اثقل عليَّ من هذه الكلمة.

٣ ـ بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ١٨ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٣٠ ، الكامل لابن الأثير : ج ٢ ، ص ٢٤ و ٢٥.

٢٥٧

خَديجة زَوجةُ الرَّسول الاُولى :

حتى قبل ذلك اليوم لم تكن حالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاقتصادية ووضعه المالي يُحسدُ عليه ، فقد كان بحاجة إلى مساعدة عمّه « أبي طالب » المالية ، ولم يكن شغله على النحو الّذي يكفي لضمان نفقاته ، من جانب ، وتمكينه من اختيار زوجة وشريكة حياة وتكوين عائلة ، من جانب آخر.

ولكن هذه السفرة إلى الشام وبخاصة على نحو الوكالة والمضاربة في أموال امرأة جليلة ، معروفة في قريش ( أعني خديجة ) ساعدت وإلى حدّ كبير على تثبيت وضعه الاقتصادي وتقوية بنيته المالية.

ولقد اعجبت « خديجة » بعظمة فتى قريش وسموّ أخلاقه ، ومقدرته التجارية حتّى أنها أرادت أن تعطيه زيادة على ما تعاقدا عليه ، تقديراً له ، واعجاباً به ، ولكنه اكتفى بأخذ ما تقرر في البداية ثم توجه إلى بيت عمه « أبي طالب » وقدّم كل ما أخذه من « خديجة » إلى عمه « أبي طالب » ليوسّع به على أهله.

ففرح « أبو طالب » بما عاين من ابن اخيه ، وبقية أبيه « عبد المطلب » ، وأخيه « عبد اللّه » وأغرورقت عيناه بالدموع ، وسرّ بما حقق من نجاح وما حصل عليه من ربح من تلك التجارة سروراً كبيراً ، واستعدّ أن يعطيه بعيرين يسافر عليهما ويتاجر ، وراحلتين يُصلح بهما شأنه ، ليتسنى له بأن يحصل على ثروة ومال يعطيه لعمه ليختار له زوجة.

في مثل هذه الظروف بالذات عزم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزماً قاطعاً على أن يتخذ لنفسه شريكة حياة ويكوّن اُسرة ، ولكن كيف وقع الاختيار على « خديجة » الّتي سبق لها أن رفضت كل طلبات الزواج الّتي تقدم بها كبار الاثرياء والشخصيات القرشية مثل « عقبة بن أبي معيط » ، و « أبو جهل » و « أبو سفيان » للزواج بها؟؟! ، وماذا كانت العلل الّتي جمعت هذين الشخصين غير المتشابهين ، من حيث مستوى الحياة ، والثراء؟ وكيف ظهرت تلك الرابطة القوية ، وتلك العلاقة المعنويّة العميقة ، والاُلفة والمحبة بينهما إلى درجة أنَّ

٢٥٨

« خديجة » سلام اللّه عليها وهبت كل ثروتها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينفقها في نشر الإسلام ، وإعلاء كلمة الحق ، وإرساء قواعد التوحيد ، وبث الدين الجديد ، واصبحت تلك الدار المفخمة الّتي كانت تزينها الكراسي المرصّعة ، والستر المطرّرزة ، المصنوعة من أغلى الأقمشة الهندية ، والإيرانية ، ملجأ للمسلمين ، وملتقى لانصار الرسالة؟!!

لابدَّ من البحث عن جذور هذه الحوادث في تاريخ حياة « خديجة » نفسها ، فان من المسلَّم والبديهيّ أن هذا النوع من الفداء ، والتفاني والإيثار لم يكن ثابتاً ليتحقق ما لم يكن لها جذور معنوية وطاهرة.

إن صفحات التاريخ لتشهد بأنّ هذا الزواج كان ناشئاً من إيمان « خديجة » بتقوى عزيز قريش وفتاها الامين « محمَّد » وطهره ، وحبها الشديد لعفته وكرم أخلاقه ، ولهذا قال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقها :

« أفضل نساء الجنة أربع : خديجة ... » (١).

إنها أول إمرأة آمنَتْ برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقد قال علي أمير المؤمنين عليه‌السلام : في خطبته الّتي يشير فيها إلى غربة الإسلام في مبدأ البعثة النبوية الشريفة :

« لَمْ يَجمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذ في الإسْلام غَيرَ رَسُول اللّه وَخَديجَة وأَنا ثالِثُهما » (٢).

ويكتب « إبن الأثير » قائلا : إنّ عفيف الكندي كان إمرأً تاجراً قدم مكة أيام الحج فرأى رجلا قام تجاه الكعبة يصلّي ثم خرجت امراةٌ تصلّي معه ، ثم خرج غلامٌ فقام يصلي معه ، فمضى يسأل العباسَ عمَّ النبيّ عن هؤلاء ، وعن هذا الدين ، فقال العباس :

__________________

١ ـ خصال الصدوق : ج ١ ، ص ٩٦ وغيره.

٢ ـ الكامل : ج ٢ ، ص ٣٧ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي الشافعي : ج ١٣ ، ص ١٩٧ ـ ٢٠١.

٢٥٩

هذا محمَّد بن عبد اللّه ابن أخي زعم أن اللّه ارسله ، وهذه امرأته خديجة آمنت به ، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به ، وأيمُ اللّه ما أعلم على ظهر الأَرض أحداً على هذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة (١).

وينبغي هنا أن نعطي لمحة عن مكانة خديجة في الإسلام تكميلا لهذه الدراسة.

خديجة في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لقد اكتسَبَت « خديجةٌ » بفضل إيمانها العميق بالرسالة المحمدية ، وتفانيها في سبيل الإسلام وبسبب حرصها العجيب على حياة صاحب الرسالة وسلامته ، وعملها المخلص على انجاح مهمته ، ومشاركتها الفعّالة ، في دفع عجلة الدعوة إلى الامام ، ومشاطرتها للنبي في اكثر ما تحمله من محن واذى بصبر واستقامة وحب ورغبة.

لقد اكتسبت خديجة بفضل كل هذا وغيره مكانة سامية في الإسلام ، حتّى ان النبيّ ذكرها في أحاديث كثيرة وأشاد بفضلها ، ومكانتها وشرفها على غيرها من النساء المسلمات المؤمنات ، وذلك ولا شك ينطوي على اكثر من هدف.

فمن جملة الأهداف التي ربما توخاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاشادة بخديجة عليها‌السلام الفات نظر المرأة المسلمة إلى القدوة الّتي ينبغي أن تقتدي بها في حياتها وسلوكها في جميع المجالات والأبعاد ، والظروف ، والحالات.

هذا مضافاً إلى ما يمكن أن تقدمه المرأة وهي نصف المجتمع ( إن لم تكن اكثره أحياناً ) من دعم جدّي للرسالة ، مادياً كان أو معنوياً.

وفيما يلي نأتي ببعض الأحاديث الشريفة الّتي تعكس مكانة خديجة ، ومقامها ، ومدى إسهامها في نصرة الإسلام ودعم دعوته ، وإرساء قواعده.

١ ـ عن أبي زرعة عن ابي هريرة يقول قال رسول اللّه صلى الله عليه [وآله] :

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

٢٦٠