سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٧
الجزء ١ الجزء ٢

في دولة « نمرود بن كنعان ».

وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم يدّعي الاُلوهيَّة ويأمر الناس بعبادته.

وقد يبدو هذا الامر عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي الاُلوهية في الوقت نفسه ، إلاّ أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شان « فرعون مصر » ، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمران عليه‌السلام قواعد العرش الفرعوني بمنطقه القويّ ، وحجته الصاعقة ، فاعترض أنصار فرعون وملأوه على هذا الأمر ، وخاطبوا فرعون بلهجة معترضة قائلين : « أتذَرُ مُوسى وَقَومهُ لِيُفْسِدُوا في الأَرْض وَيَذركَ وآلهَتَكَ » (١).

ومن الواضح جدّاً أن « فرعون » كان يدعي الالوهية فهو الّذي كان يقول : « أَنا رَبُّكُمُ الاَْعْلى » (٢) وهو القائل : « مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ اله غَيْريْ » (٣) ولكنه كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.

بَيْدَ أَنَّ هذه الازدواجية ليست بأَمر غريب عند الوثنيين ، ولا يمنع مانع في منطقهم أن يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم ، ومع ذلك يَدَّعي أنه الهٌ ويدعو الناس إلى عبادته فيكون الهاً معبوداً ، يعبد الهاً أعلى منه ، لأن المقصود من المعبود والاله ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق ويتملك زمام حياتهم بشكل من الإشكال.

هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى.

إن أكبر وسيلة توسَّل بها « نمرودُ » في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.

فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس.

هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر « نمرود » بعضُ من ينتسب إلى « الخليل »

____________

١ ـ الأعراف : ١٢٧.

٢ ـ النازعات : ٢٤.

٣ ـ القصص : ٣٨.

١٢١

عليه‌السلام بوشيجة القربى مثل « آزر » الّذي كان يصنع التماثيل ، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك أيضاً ، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل الّتي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته ، لأنه مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له ، كان يواجه مخالفة أقاربه ايضاً.

لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا له : سوف تنهار حكومتُك ، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة ، الأمر الّذي أيقظ أفكاره النائمة ، فتساءل من فوره ، وهل وُلد هذا الرجل؟ فقيل له : لا ، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء ( وذلك في الليلة الّتي انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليل عليه‌السلام عدو نمرود ، وهادم ملكه ، ومزيل سلطانه وهي الليلة التي حددها وتكهن بها المنجمون والكهنة من انصار نمرود ) ومع ذلك كان جلاوزة « نمرود » يقتلون كل وليد ذكر ، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في مكتبه الخاص.

ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ « الخليل » في نفس الليلة الّتي منع فيها اي لقاء جنسي بين الرجال ، وازواجهم.

لقد حملت اُم إبراهيم به كما حملت اُم موسى به ، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر ، ثم لجأت بعد وضع وليدها العزيز إلى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه ، وراحت تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار ، قدر المستطاع.

وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ « نمروداً » وأراح باله بمرور الزمن ، إذ أيقن بانه قد قضى به على عدو عرشه ، وهادم سلطانه ، وتخلص منه.

لقد قضى « إبراهيم » عليه‌السلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الّذي كان يتصل بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق ، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً ، ودخل « ابراهيم » في المجتمع ، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وانكروه (١).

__________________

١ ـ تفسير البرهان : ج ١ ، ص ٥٣٥.

١٢٢

لقد خرج « إبراهيم » من الغار ، مؤمناً باللّه بفطرته ، وقوّى توحيده الفطري ، بمشاهَدة الأَرض والسماء ، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات من نمو وحركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.

لقد واجه إبراهيم عليه‌السلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال الكواكب وعظمة أمرها ، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة ، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطَّ فكريّاً من سابقتها يعبدون اصناماً منحوتة ، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء الطوائف والجماعات الضالة إذ رأى رجلا يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية ويفرض عليهم عبادته والخضوع له!!

لقد كان إبراهيم عليه‌السلام يرى أَنَّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه الجهات الثلاث المختلفة ، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ « إبراهيم » عليه‌السلام في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره القرآن في هذا المجال.

إبراهيم ومكافحته للوثنية :

كانت ظلمات الوثنية قد خيَّمت على منطقة بابل ( موضع ولادة الخليل ) برمتها.

فالآلهة المدَّعاة ، والمعبودات ( السماوية والارضية ) الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات الشعب ، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة ، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى والتقرب إلى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.

وحيث أَن طريقة الأَنبياء في هداية البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين ، والاحتجاج بالمنطق ، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم ، ويبتغون ايجاد حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين ، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف أو بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.

إن علينا أن نفرق بين الحكومات الّتي يريد الأنبياء تأسيسها ، وحكومة

١٢٣

الفراعنة والنماردة.

ان هدف الطائفة الثانية هو : الرئاسة والزعامة ، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في حياتهم ، وان تلاشت وتهاوت من بعدهم.

ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع الاوقات ، في الخلوة والجلوة ، في وقت الضعف ، وفي وقت القوة ، في حياتهم وبعد مماتهم ... انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان ، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن طريق القوة واستخدام العنف والقهر!! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان.

لقد بدأ النبيُ « إبراهيم » عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤُه الذين كان في طليعتهم وعلى رأسهم « آزر » وهو الوثنية وعبادة الاصنام ، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم يحرز إنتصاراً كاملا في هذه الجبهة بعد إلاّ وواجه عليه‌السلام جبهة اُخرى ، وكانت هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لان هذه الجماعة ـ على خلاف أقرباء إبراهيم ـ قد نبذت عبادة الأوثان والأَصنام (١) ، والمعبودات الارضية الحقيرة ، وتوجهت بعبادتها وتقديسها إلى الكواكب والنجوم والاجرام السماوية.

ولقد بيَّن « الخليل » عليه‌السلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية ، ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة ، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية الّتي لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك ، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال إلى اليوم موضع اعجاب كبار العلماء ، ورواد الفلسفة والكلام.

والأَهم من ذلك ـ في هذا المجال ـ أن القرآن الكريم نقل أدلة « إبراهيم الخليل » عليه‌السلام باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلا ، وهذا ما سنفعله في هذه الصفحات.

__________________

١ ـ ترتبط آية ٧٤ من سورة الأنعام بحواره عليه‌السلام مع الوثنيّين ، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبدة الأجرام السماوية.

١٢٤

حوار الخليل مع عبدة الكواكب :

ذات ليلة وقف إبراهيم عليه‌السلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء ـ وهو ينوي هداية الناس ـ وبقي ينظر إلى النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة إلى الغروب من الليلة التالية ، وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق ، من عبدة النجوم وابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة ، وبراهين متقنة قوية.

فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في عالم الطبيعة ظهر كوكبُ « الزُهرة » من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعُباد هذا الكوكب ـ وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لهم ، ومقدمة للدخول معهم في حوار ـ : « هذا ربي ».

وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن الانظار قال : « لا احب الآفلين ».

وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة ، واظهر خواءها وفسادها.

ثمّ إنه عليه‌السلام نظر إلى كوكب القمر المنير الّذي يسحر القلوب بنوره وضوئه ، فقال ـ متظاهراً بموافقة عبدة القمر ـ : « هذا ربي » ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك العقيدة أيضاً ، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولمت أشعة القمر من عالم الطبيعة ، وعندها إتخذ إبراهيم عليه‌السلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها إذ قال : « لَئنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِن الْقَوْم الضالِين » (١) لأَن القمر قد أَفل أيضاً كما أَفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف ، وما كان كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبَد ، ويتوَجه إليه بالتقديس والتضرع.

ولما وَلّى الليل وأدبر ، واكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب

__________________

١ ـ الأنعام : ٧٧.

١٢٥

الظلام ، وبثت خيوطها الذهبية على الوهاد والسهول ، والتفت عَبدَة الشمس إلى معبودهم ، تظاهر ابراهيم بالاقرار بربوبيتها اتباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام ، فتبرأ « الخليل » عليه‌السلام من عبادتها بصراحة.

وعندئذ أعرض عليه‌السلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال : « إنّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ الْسَّماواتِ وَالاَْرضَ حَنِيفْاً وَما أنا مِنَ الْمُشْركين » (١).

لقد كان المخاطبين في كلام إبراهيم عليه‌السلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير الكائنات الارضية ، ومنها الإنسان قد انيطت إلى الاجرام السماوية وفوضت اليها!!

وهذا الكلام يفيد أن الخليل عليه‌السلام لم يقصد المطالب الثلاث التالية :

١ ـ اثبات الصانع ( الخالق ).

٢ ـ توحيد الذات وأنه واحد غير متعدد.

٣ ـ التوحيد في الخالقية ، وأنه لا خالق سواه.

بل كان تركيزه عليه‌السلام على التوحيد في « الربوبية » و « التدبير » وادارة الكون ، وانه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلاّ اللّه سبحانه وتعالى ، ومن هنا فانه عليه‌السلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذيْ فَطرَ السَماواتِ والأَرْضَ ... ) وهو يعني ان خالق السماوات والأَرض هو نفسه مدبرها وربُها ، وانه لم يفوَّض أي شيء من تدبير الكون ، ـ لا كله ولا بعضه ـ إلى الاجرام السماوية ، فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه والمدبر شيء آخر.

ولقد وقع المفسرون ، والباحثون في معارف القرآن في خطأ ، والتباس عند التعرض لمنطق « إبراهيم » عليه‌السلام وشرح حواره هذا ، حيث تصوروا أن الخليل عليه‌السلام قصد نفي « اُلوهية » هذه الأجرام يعني الالوهية الّتي تعتقد بها

__________________

١ ـ الأنعام : ٧٩.

١٢٦

جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب آية وجوده.

بينما تصوّر فريق آخر ان « إبراهيم » كان يقصد نفي « الخالقية » عن هذه الأجرام السماوية ، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض إليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين ، بل كان هدف الخليل عليه‌السلام ـ بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود ، وتوحيده ، ووحدانية الخالق ـ البحث في قسم آخر من التوحيد ، الا وهو التوحيد « الربوبي » ، وبالتالي اثبات أن خالق الكون هو نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً ، وعبارة « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ... » أفضل شاهد على هذا النوع من التفسير.

من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة « الربّ » و « الربوبية » في صعيد الاجرام كالقمر والزهرة والشمس (١).

هذا واستكمالا للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ « ابراهيم » عليه‌السلام.

لقد استدل « ابراهيم » في جميع المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق بتدبير الظواهر الارضية وبخاصة الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال : لماذا يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها؟

إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة ، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.

ان تفسير منطق « الخليل » عليه‌السلام واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن كل بُعد منها يناسب طائفة من الناس.

__________________

١ ـ لقد بيّنا مراتب التوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم في كتابنا « معالم التوحيد في القرآن الكريم » وأثبتنا هناك أنّ التوحيد في الذات غير التوحيد في الخالقية ، وأن هذين النوعين من التوحيد غير التوحيد في الربوبية ، وهي غير المراتب الاُخرى للتوحيد ، فراجع الكتاب المذكور تقف على هذه الحقيقة.

١٢٧

واليك في ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال :

الف : إن الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول إلى مرحلة الكمال ولابدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريبَ مع الموجودات المراد تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها ، غير منفصل عنها ، ولا غريب عليها.

ولكن كيف يستطيع الكائن الّذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج إليه في التربية ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته ، ان يكون رباً للموجودات الأَرضية ومدبراً لها؟!

من هنا يكون اُفول النجم ، وغروبه ، الّذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأَرضية ربّاً آخر ، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً عن ذلك العيب.

باء : انَّ طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة فوقها ، وانها في قبضة القوانين الحاكمة عليها ، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل على ضعف تلك الموجودات ، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على الكون ، أو شيء من الظواهر الطبيعية ، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك الاجرام وضوئها فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام ، بل هو دليل على أن تلك الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.

وبعبارة أخرى : إن هذا الأمر دليل على التناسق الكوني ، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.

جيم : ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو بالعكس؟

وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة ، وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي والمدبر للكون من مرحلة الكمال إلى النقص والفناء ، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها

١٢٨

من مرحلة إلى مرحلة ، هو ـ في الحقيقة ـ الربُّ الّذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.

طريقة الأنبياء في الحوار والجدال :

لقد اسلفنا في ما سبق أن « ابراهيم » ـ بعد خروجه من الغار ـ واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما :

١ ـ الوثنيون.

٢ ـ عَبَدة الاجرام السماوية.

ولقد سمعنا حوار « ابراهيم » عليه‌السلام وجداله مع الفريق الثاني ، وعلينا الآن أن نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الاصنام؟

إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك إذ قال : « وأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الاَْقْرِبِيْن » (١). وبذلك أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته.

ولقد سلك « الخليل » عليه‌السلام نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح اقربائه.

ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو ـ مضافاً إلى معلوماته في الصناعة وغيرها ـ كان منجماً ماهراً ، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط « نمرود » في كل ما يخبر به من أخبار النجوم ، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من تكهنات.

لقد ادرك « ابراهيم » انه بجلبه لآزار ( عمّه ) يستطيع أن يسيطر على اوساط الوثنيين ، ويجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم ، ولهذا بادر إلى منع

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٤.

١٢٩

عمّه آزر ـ وبافضل الاساليب ـ عن عبادة الاوثان ، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل « آزر » بنصائح « ابراهيم » عليه‌السلام ، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى اسلوب حواره مع « آزر ».

ان الامعان في الآيات الّتي تنقل حوار « ابراهيم » عليه‌السلام مع « آزر » توضح لنا أدب الانبياء ، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد ، ولنقف عند حوار ابراهيم ودعوته ، ليتضح لنا ذلك.

يقول القرآن الكريم عن ذلك : « إذْ قالَ لأَبيْهِ يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يسْمَعُ وَلا يُبْصر وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً. يا أَبَتِ إنِّي قَدْ جائنِي مِنَ الْعِلْم ما لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوياً. يا اَبتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ انَ الشّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمن عَصِيّاً. يا أَبتِ إنّي اَخافُ أنْ يَمسَّك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطانِ وَليّاً ».

فاجابه « آزر » قائلا : « أراغبٌ أنْتَ عَنْ الهتي يا إبْراهيمُ لئنْ لَمْ تنْته لأَرْجُمَنَّكَ وَاْهجُرْنيْ مَلِيّاً ».

ولكن « ابراهيم » بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل ردّ « آزر » العنيف ذلك وأجابه قائلا : « سَلامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيْ » (١).

وأيّ جواب افضلُ مِنْ هَذا البيان وأيُّ لغة أليَن مِنْ هذه اللغة واحبّ إلى القلب ، واكثر رحمة ولطفاً.

هَل كان آزر والدَ إبراهيم؟

ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية (١١٥) من سورة « التوبة » والآية (١٤) من سورة الممتحنة هو : أنّ « آزر » كان والد إبراهيم عليه‌السلام.

وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين كان « آزر » وثنياً ، فكيف يصحّ ذلك وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم « محمَّد »

__________________

١ ـ مريم : ٤٢ ـ ٤٧.

١٣٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع الأَنبياء مؤمنين باللّه سبحانه موحدين اياه تعالى.

ولقد ذكر الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم « أوائل المقالات » (١) ان هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من علماء السنة ايضاً.

وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة الّتي تفيد اُبوّة « آزر » لإبراهيم ، وما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة؟؟

يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة « الأب » وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في « الوالد » ، إلاّ أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.

بل ربما استعملت ـ في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم ـ في : ( العمّ ) أيضاً. كما وقع ذلك في الآية التالية الّتي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم إذ يقول سبحانه :

« إذْ قالَ لِبَنْيهِ ما تَعْبُدونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وإله آبائكَ إبْراهيم واسْماعيل وإسحاقَ إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون » (٢).

فإنّ ممّا لا ريب فيه أن « اسماعيل » كان عماً ليعقوب لا والداً له ، فيعقوب هو ابن اسحاق ، واسحاق هو أخو اسماعيل.

ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب « اسماعيل » الّذي كان ( عمَّهم ) أباً.

ومع وجود هذين الاستعمالين ( استعمال الاب في الوالد تارة ، وفي العم تارة اُخرى ) يصبح احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية « آزر » هو العمّ أمراً وارداً ، وبخاصة إذا ضَمَمْنا إلى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الّذي نقله المفيد رحمه‌الله على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية.

ولعل السبب في تسمية النبي « ابراهيم » عمَّه بالأب هو أنه كان الكافل

__________________

١ ـ أوائل المقالات : ص ١٢ ، باب القول في آباء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ البقرة : ١٣٣.

١٣١

لابراهيم ردحاً من الزمن ، ومن هنا كان « ابراهيم » ينظر إليه بنظر الأب ، وينزله منزلة الوالد.

القرآن ينفي اُبوّة « آزر » لإبراهيم :

ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين « آزر » و « ابراهيم » عليه‌السلام نلفت نظر القارئ الكريم إلى توضيح آيتين :

١ ـ لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ « محمَّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتضحياته الكبرى ، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا ، وعلموا بأن عاقبة الشرك ، وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم.

إلاّ أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية ، كانت ذكريات آبائهم واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم ، واسفهم.

وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم ، وبغية ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لابائهم واُمهاتهم كما فعل « إبراهيم » في شأن « آزر » فنزلت الآية في مقام الردّ على طلبهم ذاك ، إذ قال سبحانه :

« ما كانَ لِلنَّبِيَّ وَالَّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْركينَ وَلَوْ كانُوا اُوْلي قَرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبيَِّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصْحابُ الْجَحْيمَ وما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيْمَ لأَبيْه إلا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَها إيّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ للّه تَبَرَّاَ مِنْهُ إنَّ إبْراهيْمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ » (١).

إنَّ ثمة قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ « إبراهيم » وحواره مع « آزر » ووعده بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات ،

__________________

١ ـ التوبة : ١١٣ و ١١٤.

١٣٢

والتبرّي منه في عهد فتوَّة « إبراهيم » ، وشبابه ، اي عندما كان « إبراهيم » لا يزال في مسقط رأسه « بابل » ولم يتوجه بعد إلى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.

إننا نستنتج من هذه الآية أن « إبراهيم » قطع علاقته مع « آزر » ـ في أيام شبابه ـ بعد ما أصرّ « آزر » على كفره ، ووثنيته ، ولم يعد يذكره إلى آخر حياته.

٢ ـ لقد دعا « إبراهيم » عليه‌السلام في اُخريات حياته ـ أي في عهد شيخوخته ـ وبعد أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى ( تعمير الكعبة ) واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة ، دعا وبكل اخلاص وصدق جماعة منهم والداه ، وطلب من اللّه إجابة دعائه ، إذ قال في حين الدعاء :

« رَبَّنا اغْفِرْ ليْ وَلوالديّ وَلِلمؤمِنينْ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب » (١).

إنَ هذه الآية تفيد بصراحة ـ أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة المعظمة ، وتشييدها ، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة ، فاذا كان مقصودُه من الوالد في الدعاء المذكور هو « آزر » وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن « ابراهيم » كان لم يزل على صلة ب‍ « آزر » حتّى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي نزلت رداً على طلب المشركين أوضحت بأن « إبراهيم » كان قد قطع علاقاته ب‍ « آزر » في أيّام شبابه ، وتبرّأ منه ، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.

إن ضَمَّ هاتين الآيتين بعضهما إلى بعض يكشف عن أنّ الّذي تبرّأ منه « ابراهيم » في أيام شبابه ، وقطع علاقاته معه ، واتخذوه عدواً هو غير الشخص الّذي بقي يذكره ، ويستغفر له إلى اُخريات حياته (٢).

إبراهيم محطِّم الأَصنام :

لقد حلَّ موسم العيد ، وخرج أهلُ بابل المغفّلين الجهلة إلى الصحراء للاستجمام ، ولقضاء فترة العيد ، وإجراء مراسيمه ، وقد أخلوا المدينة.

__________________

١ ـ إبراهيم : ٤١.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٣٢١ ، والميزان : ج٧ ، ص ١٧٠.

١٣٣

ولقد كانت سوابق « إبراهيم » ، وتحامله على الأصنام ، واستهزاؤه بها قد أوحدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل ، ولهذا طلبوا منه ـ وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم ـ الخروج معهم إلى الصحراء ، والمشاركة في تلك المراسيم ، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض إبراهيم الّذي رد على طلبهم بحجة المرض إذ قال : « إنّي سَقِيم » وهكذا لم يشترك في عيدهم ، وخروجهم وبقي في المدينة.

حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحد والمشرك ، وأمّا للمشركين فقد كان عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به ، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء والاسلاف إلى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمراع الجميلة.

وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك ، عيداً لم يسبق له مثيل ، عيداً طال انتظارُه ، وافرح حضوره وحلوله ، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار ، والفرصة مناسبة للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية ، وحدث هذا فعلا.

فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة ، إغتنم « إبراهيم » تلك الفرصة ودخل وهو ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية ، وأمامها الأطعمةُ الكثيرة الّتي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها ، وقد لفتت هذه الأطعمة نظر « الخليل » عليه‌السلام ، فأخذ بيده منها كسرة خبز ، وقدمها مستهزء إلى تلك الاصنام قائلا : لماذا لا تأكلون من هذه الاطعمة؟

ومن المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل اي شيء أو حركة مطلقاً فكيف بالاكل.

لقد كان يخيم على جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما اخترقته اصوات المعلول الّذي اخذ « إبراهيم » يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة الواقفة بلا حراك ، وايديها.

لقد حطم « الخليل » عليه‌السلام جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة ، والمعدن المتحطم ، وإذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل

١٣٤

قد تحولت إلى تلة في وسط المعبد.

غير ان « ابراهيم » ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء ، ووضع المعول على عاتقه ، وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطِمَ تلك الأَصنام هو ذلك الصنمُ الكبير ، إلاّ أن هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امراً آخراً سنبينهُ في ما بعد.

لقد كان « إبراهيم » عليه‌السلام يعلم بأنَّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء ، ومن عيدهم سيزورون المعبد ، وسوف يبحثون عن علة هذه الحادثة ، وأنهم بالتالي سوف يرون ان وراء هذه الظاهرة واقعاً آخر ، إذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية هو هذا الصنم الكبير الّذي لا يقدر اساساً على فعل شيء على الاطلاق.

وفي هذه الحالة سوف يستطيع « إبراهيم » عليه‌السلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله التبليغي ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً ، لتوجيه السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه؟!!

فمنذ أن اخذت الشمس تدنو إلى المغيب ويقتربُ موعد غروبها ، وتتقلص اشعتها وتنكمش من الرَّوابي والسهول ، أخذَ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً.

وعند ما آن موعد العبادة ، وتوجّهوا إلى حيث اصنامهم ، واجهوا منظراً فضيعاً وامراً عجيباً لم يكونوا ليتوقّعونه!!

لقد كان المشهد يحكي عن ذلة الآلهة وحقارتها ، وهو أمرٌ لفت نظر الجميع شيباً وشبّاناً ، كباراً وصغاراً.

ولقد كانت تلك اللحظة لحظة ثقيلة الوطأة على الجميع بلا استثناء.

فقد خَيَّم سكوتٌ قاتلٌ مصحوب بحنق ومضض على فضاء ذلك المعبد المنكود الحظ.

إلا أن أحدهم خرق ذلك الصمت الرهيب وقال : من الّذي ارتكب هذه الجريمة ، ومن فعل هذا بالهتنا؟!

١٣٥

ولقد كانت آراء « إبراهيم » ومواقفه السلبية السابقة ضد الاصنام وتحامله الصريح عليها تبعثهم على اليقين بأن « إبراهيم » وليس سواه هو الّذي صنع ما صنع بآلهتم واصنامهم.

ولأجل ذلك تشكلت فوراً محكمة يرأسها « نمرود » نفسه وأخذوا يحاكمون « ابراهيم » واُمه!!

ولم يكن لاُمه من ذنب إلا أنها أخفت ابنها ، ولم تُعلِم السلطات بوجوده ليقضوا عليه ، شأنه شأن غيره من المواليد الذين قضت تلك السلطة الظالمة عليهم حفاظاً على نفسها وكيانها.

ولقد أجابت اُم إبراهيم على هذا السؤال بقولها : أيها الملك فعلت هذا نظراً مني لرعيّتك ، فقد رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النسل فقلت : إن كان هذا الّذي يطلبه دفعتُه إليه ليقتله ويكف عن قتل أولاد الناس ، وإن لم يكن ذلك فبقي لنا ولدنا.

ثم جاء دور مساءلة إبراهيم عليه‌السلام فسأله قائلا : « مَنْ فَعَلَ هذا بآلهَتنا يا إبْراهيْم » فقال إبراهيم : « فَعَلهُ كَبيْرُهمْ هذا فاْسأَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُون ».

وقد كان « إبراهيم » عليه‌السلام يهدف من هذه الاجابة اللامبالية المصحوبة بالسخرية والازدراء هدفاً آخر ، وهو ان « إبراهيم » عليه‌السلام كان على يقين بأنهم سيقولون في معرض الاجابة على كلامه هذا : إنك تعلم يا إبراهيم ان هذه الأصنام لا تقدر على النطق ، وفي هذه الصورة يستطيع « إبراهيم » أن يُلفت نظر السلطات الّتي تحاكمه إلى نقطة اساسية.

وقد حدث فعلا ما كان يتوقعه « إبراهيم » عليه‌السلام لما قالوا له وقد نكسوا على رؤوسهم : « لقد عَلِمْتَ ما هؤلاء يَنْطِقُونَ » فقال إبراهيم رداً على كلامهم هذا الّذي كان يعكس حقارة تلك الاصنام والأوثان وتفاهة شأنها : « اَفتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ وَلا يَضُرُّكُمْ اُفّ لكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُون ».

إلاّ أنَّ تلك الزمرة المعاندة الّتي ران على قلوبها الجهلُ والتقليدُ الأعمى لم

١٣٦

يجدوا جواباً لأبراهيم الّذي افحمهم بمنطقه الرصين الاّ أن يحكموا باعدامه حرقاً ، فأَوقدوا ناراً كبيرة وألقوا بإبراهيم عليه‌السلام فيها إلاّ أن العناية الالهية شملت إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وحفظته من اذى تلك النار ، وحولت ذلك الجحيم الّذي اوجده البشر ، إلى جُنينة خضراء نضرة إذ قال : « يا نارُ كُوني بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبْراهِيْم » (١).

العِبَر القيمة في هذه القصّة :

مع ان اليهود يعتبرون أنفسَهم في مقدمة الموحِّدين ، لم ترد هذه القصة في ثوراتهم الحاضرة رغم كونها معروفة بينهم ، بل تفرّد القرانُ الكريم من بين الكتب السماوية بذكرها لأهميتها.

من هنا فإننا نذكرُ بعض النقاط المفيدة ، والدروس المهمة في هذه القصة الّتي يَهدِفُ القرآن من ذكرها وذكر امثالها من قصص الأنبياء والرسل.

__________________

١ ـ وقد ذكر تفاصيل هذه القصة في الآيات ٥١ إلى ٧٠ من سورة الانبياء وها نحن ندرج كل هذه الآيات هنا : « وَلَقَد آتَيْنا إبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِميْن. إذْ قالَ لأَبيهِ وَقومِه ما هذه الْتَّماثِيلُ الّتي أنْتُمْ لَها عاكِفونَ. قالُوا وَجَدْنا آباءنا لَها عابديْن قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ وَآباؤكُمْ في ضَلال مُبين. قالوا اجتنا بالْحق أمْ اَنتَ من اللاعبينَ قالَ بَل ربكم ربُ السماواتِ والأَرض الَّذي فطرهُنَّ وأَنا على ذلِكُمْ مِنَ الشاهدينَ وَتالله لأَكيْدَنَّ أَصنامكم بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبرين. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إلاّ كَبيْراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إليْهِ يَرْجِعُونَ. قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِالهَتِنا إنَّهُ لِمَنَ الظّالِمينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْراهيْمَ. قالُوا : فَاتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هذا بآلِهَتِنا يا إبْراهيمَ. قال بَلْ فَعَلَهُ كَبْيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرجَعُوا إلى أنفُسِهِمْ فقالُوا إنَّكُمْ أنتمُ الظّالِمونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدء عَلِمْتَ ما هؤُلاء يَنْطِقُونَ. قالَ : اَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّهِ ما لا يَنْفَعكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. اُفّ لَكُمْ وَلما تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللّه أفَلا تَعْقِلُونَ قالُوا حَرَّقُوهُ وَانْصُرُوا الِهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ. قلْنا يا نارُ كُونيْ بَرْداً وَسَلاماً عَلى إبراهيْمَ. وَأَرادُوا به كَيْداً فَجَعَلْناهُمْ الأَخْسرينَ ».

وللوقوف على تفاصيل وخصوصيات ولادة إبراهيم عليه‌السلام وتحطيمه للأصنام راجع كتاب الكامل لابن الأثير : ج ١ ، ص ٥٣ ـ ٦٢ ، وبحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١٤ ـ ٥٥.

١٣٧

١ ـ إن هذه القصة خير شاهد على شجاعة « إبراهيم الخليل » عليه‌السلام وبطولته الفائقة.

فعزم ابراهيم على تحطيم الاصنام ، ومحق وهدم كل مظاهر الشرك والوثنية المقيتة لم يكن امراً خافياً على النمروديين لانه عليه‌السلام كان قد أظهر شجبه لها ، واعلن عن استنكاره لعبادتها وتقديسها من خلال كلماته القادحة فيها ، واستهزائه بها ، فقد كان عليه‌السلام يقول لهم بكل صراحة بانه سيتخذ من تلك الاصنام موقفاً مّا إذا لم يتركوا عبادتها وتقديسها ، فقد قال لهم يوم ارادوا ان يخرجوا إلى الصحراء لمراسيم العيد : « وَتاللّه لأَكيْدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُولُّوا مُدْبِريْن » (١).

ولقد كان موقف الخليل عليه‌السلام ينم عن شجاعة كبرى فقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الصدد :

« ومنها ( اي وممّا تحلّى به النبيّ ابراهيم ) الشجاعة وقد كشفت ( قضيةُ ) الاصنام عنه ، ومقاومة الرجل الواحد اُلوفاً من أعداء اللّه عزّ وجلّ تمام الشجاعة » (٢).

٢ ـ ان ضربات « إبراهيم » القاضية وان كانت في ظاهرها حرباً مسلحة ، وعنيفة ضد الاصنام إلا أن حقيقة هذه النهضة ـ كما يُستفاد من ردود « إبراهيم » على أسئلة الذين حاكموه ، واستجوبوه ـ كانت ذات صبغة تبليغية دعائية.

فان « إبراهيم » لم يجد وسيلة لا يقاظ عقول قومه الغافية ، وتنبيه فطرهم الغافلة ، إلا تحطيم جميع الاصنام ، وترك كبيرها وقد علق القدوم على عاتقه ليدفع بقومه إلى التفكير في القضية من اساسها وحيث أن العمل لم يكن اكثر من مسرحية إذ لا يمكن أن يصدق أحدهم بأن تلك الضربات القاضية كانت من صنع ذلك الصنم الكبير وفعله حينئذ يستطيع إبراهيم أن يستثمر فعله هذا في دعوته ، ويقول انَّ هذا الصنم الكبير لا يقدر ـ وباعترافكم ـ على فعل أيّ شيء

__________________

١ ـ الأنبياء : ٥٧.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ٦٧.

١٣٨

مهما كان صغيراً وحقيراً فكيف تعبدونه اذن؟!

ولقد استفاد « إبراهيم » من هذه العملية فعلا ، وتوصل إلى النتيجة الّتي كان يتوخاها ، فقد ثابوا إلى نفوسهم بعد ان سمعوا كلمات « إبراهيم » عليه‌السلام ، واستيقظت ضمائرهم وعقولهم ووصفوا انفسهم بالظلم بعد أن تبيّن لهم الحق وبطل ما كانوا يعبدون إذ قال تعالى : « فَرجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكُمْ أَنْتُمْ الظّالِمُون » (١) وهذا بنفسه يفيد بأن سلاح الانبياء القاطع في بدء عملهم الرسالي كان هو : سلاح المنطق والاستدلال ليس إلا ، غاية الأمر أن هذا كان يؤدي في كل دورة بما يناسبها من الوسائل ، وإلاّ فما قيمة تحطيم عدد من الأَصنام الخشبية بالقياس إلى مخاطرة النبيّ « ابراهيم الخليل » بنفسه وحياته ، وبالقياس إلى الاخطار الّتي كانت تتوجه إليه نتيجة هذا العمل الصارخ.

إذن فلابد ان يكون وراء هذه العملية الخطيرة هدفٌ كبيرٌ وخدمة عظمى تستحق المخاطرة بالنفس ، ويستحق المرء امتداح العقل له إذا عرّض حياته للخطر في سبيلها.

٣ ـ لقد كان إبراهيم يعلم بأن هذا العمل سيؤدي بحياته ، وسيكون فيه حتفه ، فكانت القاعدة تقتضي أن يسيطر عليه قلقٌ واضطرابٌ شديدان ، فيتوارى عن اُعين الناس ، أو يترك المزاح ، والسخرية بالأَصنام على الأقل ، ولكنه كان على العكس من ذلك رابط الجأش ، مطمئن النفس ، ثابتَ القدم ، فهو عندما دخَلَ في المعبد الّذي كانت فيه الأصنامُ تقدم بقطعة من الخبز إلى الاصنام ودعاها ساخراً بها ، إلى الاكل ، وثم ترك الأَصنام بعد اليأس منها تلاّ من الخشب المهشم ، واعتبر هذا الامرَ مسألة عادية لا تستأهل الوَجلَ والخوف ، وكأنه لم يفعل ما يستتبع الموت المحقَّق ويستوجب الاعدام المحتّم.

فهو عندما يأخذ مكانه امام هيئة القضاة يقول معرضاً بالاصنام : فعله كبير الأصنام فاسئلوه ولا شك أن هذا التعريض والسخرية بالاصنام إنما هو موقف من

__________________

١ ـ الأنبياء : ٦٤.

١٣٩

لا يوجس خيفة ، ولا يشعر بوجَل من عمله ، بل هو فعل من قد هيّأ نفسه لكل الاخطار المحتملة ، واستعد لكل النتائج مهما كانت خطيرة.

بل الأعجبُ من هذا كله دراسة وضع « إبراهيم » نفسه حينما كان في المنجنيق وقد تيقّن أنه سيكون وسط ألسنة اللهب بعد هنيئة ، وتلتهمه النار المستعرة تلك النار الّتي جمع اهل « بابل » لها الحطب الكثير تقرباً إلى آلهتهم ، وكانوا يعتبرون ذلك العمل واجباً مقدساً ... تلك النار الّتي كان لهيبا من القوة بحيث ما كانت الطيور تستطيع من التحليق على مقربة منها.

في هذه اللحظة الخطيرة الحساسة جاءه جبرئيل واعلن عن استعداده لانقاذه وتخليصه من تلك المهلكة الرهيبة قائلا له : هل لك إليّ من حاجة؟

فقال « إبراهيم » : أما إليك فلا ، وأما إلى ربِّ العالمين فنعم (١).

ان هذا الجواب يجسِّدُ ايمان « إبراهيم » العظيم ، وروحه الكبرى.

لقد كان « نمرود » الّذي جلس يراقب تلك النار من عدة فراسخ ، ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانتقام ، وكان يحب ان يرى كيف تلتهم ألسنة النار « إبراهيم ». فما أرهب تلك اللحظات!

لقد اشتغل المنجنيقُ ، وبهزّة واحِدة اُلقي بإبراهيم عليه‌السلام في وسط النار غير أَن مشيئة اللّه ، وارادته النافذة تدخلت فوراً لتخلص خليل اللّه ونبيه العظيم ، فحوّلت تلك النّار المحرقة الّتي أوقدتها يَدُ البشر إلى روضة خضراء وجنينة زاهرة ادهشت الجميع حتّى أَنَّ « إبراهيم » التفت إلى « آزر » وقال ـ من دون ارادته ـ : « يا آزر ما اكرم إبراهيم على ربّه » (٢).

إن انقلاب تلك النّار الهائلة إلى روضة خضراء لإبراهيم قد تمّ بأمر اللّه المسبب للإسباب والمعطل لها متى شاء ، المعطي لها آثارها ، والسالب عنها ذلك ، متى اراد.

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا : ص ١٣٦ ، وأمالي الصدوق : ص ٢٧٤ ، وبحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ٣٥.

٢ ـ تفسير البرهان : ج ٣ ، ص ٦٤.

١٤٠