غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-250-5
الصفحات: ٦٣١

ومنها : الصلاة مختضباً ، وإن كانت خرقته نظيفة ، وهو مقتضى الجمع بين الأخبار المانعة والمجوّزة والمفصّلة.

ومنها : الصلاة في الثياب السود إلّا في الخفّ والعمامة والكساء ، وهو مضمون روايات كثيرة.

وفي الفقيه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما علّم أصحابه : «لا تلبسوا السواد ، فإنّه لباس فرعون» (١).

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : أنّه لبسه من جهة التقيّة عن بني العباس ، ثمّ قال : «أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار» (٢) وهذه الأخبار كلّها مطلقة.

وقال الكليني : وروى «لاتصلّ في ثوب أسود ، وأما الخفّ والعمامة والكساء فلا بأس» (٣).

وفي القلنسوة السوداء روايتان مصرّحتان بالنهي عنها في الصلاة معلّلتان بأنّها لباس أهل النار ، إحداهما في الكافي ، والأُخرى في العلل (٤).

ومنها : الصلاة في الثوب المشبع اللون بالحمرة ، أو الأعمّ ، ففي قويّة مالك بن أعين قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وعليه ملحفة حمراء شديدة الحمرة ، فتبسّمت حين دخلت ، فقال : «كأنّي أعلم لِمَ ضَحكت ، ضحكت من هذا الثوب الذي هو عليّ ، إنّ الثقفيّة أكرهتني عليه ، وأنا أُحبّها فأكرهتني على لبسها ، ثمّ قال :

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٣ ح ٧٦٦ ، علل الشرائع : ٣٤٦ ح ٢ ، الخصال : ٦١٥ ، الوسائل ٣ : ٢٧٨ أبواب لباس المصلّي ب ١٩ ح ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٤٤٩ ح ٢ ، الفقيه ١ : ١٦٣ ح ٧٧٠ ، علل الشرائع : ٣٤٧ ح ٤ ، الوسائل ٣ : ٢٧٨ أبواب لباس المصلّي ب ١٩ ح ٧.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٢ ح ٢٤ ، الوسائل ٣ : ٢٧٨ أبواب لباس المصلّي ب ١٩ ح ٤ بتفاوت.

(٤) الكافي ٣ : ٤٠٣ ح ٣٠ ، علل الشرائع : ٣٤٦ ب ٥٦ ح ١ ، وانظر الفقيه ١ : ١٦٢ ح ٧٦٥ ، والتهذيب ٢ : ٢١٣ ح ٨٣٦ ، الوسائل ٣ : ٢٨٠ أبواب لباس المصلّي ب ٢٠ ح ١ ، ٣.

٣٦١

«إنّا لا نصلّي في هذا ، ولا تصلّوا في المشبع المضرّج» (١) الحديث.

وفي موثّقة حمّاد بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «تكره الصلاة في الثوب المصبوغ المفدم» (٢) وفسّر المفدم بالحمرة المشبعة وبكلّ مشبع أيضاً (٣).

وفي رواية يزيد بن خليفة عنه عليه‌السلام : أنّه كره الصلاة في المشبع بالعصفر ، والمضرّج بالزعفران (٤).

ومنها : الصلاة فيما يستر ظهر القدم ولا يغطّي المفصل الذي بين القدم والساق وشيئاً من الساق ، فعن أكثر القدماء التحريم (٥) ، وهو فتوى الفاضلين (٦) ، والباقون على الكراهة (٧) ، وصرّح كثير من الأصحاب بعدم النص (٨).

واستدلّ المانعون بعدم صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة والتابعين في هذا النوع.

ولعلّهم أرادوا بذلك عدم الصلاة بعنوان الالتزام الدالّ على الحرمة ، وإلّا فلا يتمّ الاستدلال بعد تسليم النقل.

أقول : قال ابن حمزة في الوسيلة : وروى أنّ الصلاة محظورة في النعل السندية والشمشك (٩) ، فهذه الرواية مع عمل القدماء واستصحاب شغل الذمّة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٤٧ ح ٧ ، الوسائل ٣ : ٣٣٥ أبواب لباس المصلّي ب ٥٩ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٢ ح ٢٢ ، التهذيب ٢ : ٣٧٣ ح ١٥٤٩ ، الوسائل ٣ : ٣٣٦ أبواب لباس المصلّي ب ٥٩ ح ٢.

(٣) الصحاح ٥ : ٢٠٠١ ، النهاية لابن الأثير ٣ : ٤٢١.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٧٣ ح ١٥٥٠ ، الوسائل ٣ : ٣٣٦ أبواب لباس المصلّي ب ٥٩ ح ٣.

(٥) كالمفيد في المقنعة : ١٥٣ ، والشيخ في النهاية : ٩٨ ، وابن البرّاج في المهذّب ١ : ٧٥ ، وسلار في المراسم : ٦٥ ولكن بعضهم اقتصر على ذكر الشمشك والجرموق والنعل السندية وهي من مصاديق ما يستر ظهر القدم ، وانظر المدارك ٣ : ١٨٣.

(٦) المحقّق في الشرائع ١ : ٥٩ ، والمختصر النافع : ٢٥ ، والعلامة في التذكرة ٢ : ٤٩٨.

(٧) كالعلامة في المنتهي ١ : ٢٣٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٦٦.

(٨) منهم المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ١٠١ ، والمحقّق السبزواري في الكفاية : ١٦.

(٩) الوسيلة : ٨٨.

٣٦٢

يقوّي الحرمة.

ولكن الشيخ روى في كتاب الغيبة والطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه‌السلام يسأله ، هل يجوز للرجل أن يصلّي وفي رجليه بطيط لا يغطّي الكعبين أم لا يجوز؟ فكتب في الجواب : «جائز» (١).

قال في القاموس : البطيط رأس الخفّ بلا ساق (٢).

أقول : وعلى ما حقّقنا في مباحث الوضوء من معنى الكعب لا يدلّ على مطلبهم.

سلّمنا عدم تعيّن معنى الكعب على ما ذكرنا ، فلا أقلّ من تشابه دلالة تلك الرواية ، ومقتضى الجمع بين الروايتين حمله على ما لا يستر ظهر القدم.

والظاهر أنّ الحرمة أو الكراهة ثابتتان فيما يستر أكثر ظهر القدم أيضاً. وأما ما لا يستر أكثر ظهر القدم كالنعال العربية ، أو ما له ساق كالجرموق والخفّ فلا خلاف في جواز الصلاة فيه ، وعدم الكراهة ، بل ويظهر من الأخبار استحبابها في النعال (٣) ، والظاهر أنّها العربية ، بل ذكر بعض الأصحاب أنّه تستحبّ الصلاة فيها عند علمائنا (٤).

فائدة :

يستحب التطيّب في الصلاة بالمسك وغيره ، فعن الصادق عليه‌السلام ، قال : «صلاة متطيّب أفضل من سبعين صلاة بغير طيب» (٥).

__________________

(١) الغيبة : ٢٣٤ ، الاحتجاج : ٤٨٤ ، وانظر الوسائل ٣ : ٣١٠ أبواب لباس المصلّي ب ٣٨ ح ٤.

(٢) القاموس المحيط ٢ : ٣٥١.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٠٨ أبواب لباس المصلّي ب ٣٧.

(٤) الرياض ٣ : ٢٠٠ ، وانظر المعتبر ٢ : ٩٣ ، والتذكرة ٢ : ٤٩٨.

(٥) الكافي ٦ : ٥١٠ ح ٧ ، الوسائل ٣ : ٣١٥ أبواب لباس المصلّي ب ٤٣ ح ٢.

٣٦٣

المقصد الرابع

في القبلة

وفيه مطلبان :

المطلب الأوّل : في حقيقتها

وفيه مباحث :

الأوّل : اختلف الأصحاب في حقيقة القبلة فعن أكثر القدماء منهم الشيخان (١) وسلّار (٢) وابن حمزة (٣) وابن البرّاج (٤) أنّ البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا ، وهو مذهب المحقّق في الشرائع (٥) ، وعن الشيخ (٦) والمحقّق الطبرسي ادّعاء الإجماع عليه.

__________________

(١) المقنعة : ٩٥ ، المبسوط ١ : ٧٧ ، الخلاف ١ : ٢٩٥ ، النهاية : ٦٢.

(٢) المراسم : ٦٠.

(٣) الوسيلة : ٨٥.

(٤) المهذّب ١ : ٨٤.

(٥) الشرائع ١ : ٥٥.

(٦) الخلاف ١ : ٢٩٥.

٣٦٤

وعن السيد (١) وابن الجنيد (٢) وأبي الصلاح (٣) وابن إدريس (٤) والمحقّق في المعتبر والنافع (٥) والعلامة (٦) وأكثر المتأخّرين (٧) : أنّه عين الكعبة لمن يتمكّن (٨) من غير مشقّة كثيرة ، كمن كان في بيوت مكّة ، بمعنى وجوب محاذاتها لا مشاهدتها ، وجهتها لغيره ، وهو أقرب.

أما وجوب المحاذاة للمشاهد ومن بحكمه فالظاهر أنّه إجماع من الفريقين كما نقله المحقّق (٩) ، وإن كان المنقول عن بعض أصحاب القول الأوّل خلاف ذلك (١٠). وتدلّ عليه موثّقة عبد الله بن سنان الاتية وغيرها من الأخبار الاتية (١١).

وأما أنّ جهتها قبلة لغيرهما فللأخبار المتظافرة ، مثل حسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم» فقلت : كان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال : «أما إذا كان بمكّة فلا ، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم ، حتّى حوّل إلى الكعبة» (١٢).

وفي رواية معاوية بن عمّار الموثّقة ظاهراً عنه عليه‌السلام قال ، قلت له : متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه

__________________

(١) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٢٩.

(٢) نقله عنه في المختلف ٢ : ٦١.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٨.

(٤) السرائر ١ : ٢٠٤.

(٥) المعتبر ٢ : ٦٥ ، المختصر النافع ١ : ٢٣.

(٦) المختلف ٢ : ٦١.

(٧) كالشهيدين في البيان : ١١٤ ، وروض الجنان : ١٨٩ ، وابن فهد في المهذّب البارع ١ : ٣٠٦.

(٨) في «ص» زيادة : من العلم بها.

(٩) المعتبر ٢ : ٦٥.

(١٠) انظر الرياض ٣ : ١١٣.

(١١) في ص ٣٦٧ ، وهي في التهذيب ٢ : ٣٨٣ ح ١٥٩٨ ، والوسائل ٣ : ٢٤٧ أبواب القبلة ب ١٨ ح ١ ، وغيره.

(١٢) الكافي ٣ : ٢٨٦ ح ١٢ ، الوسائل ٣ : ٢١٦ أبواب القبلة ب ٢ ح ٤.

٣٦٥

من بدر» (١) ، والأخبار المرويّة بهذا المعنى من الكثرة بمكان لا حاجة إلى ذكرها (٢).

وروى الطبرسي في الاحتجاج عن العسكري عليه‌السلام : في احتجاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المشركين قال : «إنّا عباد الله مخلوقون مربوبون ، نأتمر له فيما أمرنا ، وننزجر مما زجرنا» إلى أن قال : «فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعنا ، ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان الّتي نكون بها فأطعنا ، فلم نخرج في شي‌ء من ذلك من اتّباع أمره» (٣).

واحتج الآخرون برواية عبد الله بن محمّد الحجّال ، عن بعض رجاله ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إنّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» (٤) وبمضمونها روايات أُخر (٥) ، وكلّها ضعيفة.

لكن الصدوق روى في العلل في الصحيح عن أبي غرّة قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة مكّة ، ومكّة قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا» (٦) وصححه (٧) الفاضل المجلسي في شرح الفقيه (٨) ، ولم أقف لأبي غرّة على شي‌ء في الرجال ، ولعلّه أراد الصحة إليه.

وكيف كان فهذه الأخبار لا تعارض ما قدّمناه ، والآية الشريفة (٩) أيضاً أوفق

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٣ ح ١٣٥ ، الوسائل ٣ : ٢١٥ أبواب القبلة ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٢١٥ أبواب القبلة ب ٢.

(٣) الاحتجاج : ٢٧ ، الوسائل ٣ : ٢١٩ أبواب القبلة ب ٢ ح ١٤.

(٤) التهذيب ٢ : ٤٤ ح ١٣٩ وفيه : عبيد الله ، الوسائل ٣ : ٢٢٠ أبواب القبلة ب ٣ ح ١.

(٥) الوسائل ٣ : ٢٢٠ أبواب القبلة ب ٣.

(٦) علل الشرائع ٢ : ٣١٨ ب ٣ ح ٢.

(٧) في النسخ : وصحيحة.

(٨) روضة المتّقين ٢ : ١٩١.

(٩) قوله تعالى «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (البقرة : ١٥٠).

٣٦٦

بإرادة الجهة والجانب ، وإلّا لكان ذكر الحرم متعيّناً.

وأما ذكر المسجد الحرام فلعلّه كان لمقابلة المسجد الأقصى ؛ مقابلة لشماتة الخصوم أبلغ قبال ، فالمراد من الشطر الجانب والجهة ، مع أنّه يلزم على أرباب هذا القول لو ابقي على ظاهره ما أُورد عليهم من خروج بعض الصفّ المستطيل عن سمت القبلة.

ومما يرد عليهم أنّه لا مناص لهم عن العمل بالأمارات في النائين ، ومعلوم أنّها لا تفيد العلم بالمقابلة الحقيقية ، وظاهرهم أنّهم متفقون على ذلك ، والتفرقة بين جهة الحرم وجهة الكعبة غير معلومة الجهة. وبالجملة إبقاء هذه الأخبار على ظاهرها والعمل عليها في غاية الإشكال.

وقال الشهيد رحمه‌الله ونعم ما قال إنّ ذكر المسجد والحرم في هذه الأخبار لعلّه إشارة إلى الجهة ، فيرتفع الخلاف ، وأنّ ذلك على سبيل التقريب إلى أفهام المكلّفين ، وإظهاراً لسعة الجهة ، فإنّ البُعد كلّما كان أكثر كانت الجهة أوسع (١).

ويؤيّد ذلك صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» قلت له : أين حدّ القبلة؟ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» (٢) وفي معناها غيرها من الأخبار (٣).

والمراد من جهة الكعبة : هو جهة الفضاء المشتغل بها من تخوم الأرض إلى أعنان السماء بلا خلاف بين العلماء ، فتصحّ الصلاة على جبل أبي قبيس ، وفي السرداب تحت الكعبة.

ويدلّ عليهما مضافاً إلى الإجماع ظاهراً : أمّا الأوّل فروايات ، منها موثّقة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سأله رجل قال : صلّيت فوق

__________________

(١) الذكرى : ١٦٢.

(٢) الفقيه ١ : ١٨٠ ح ٨٥٥ ، الوسائل ٣ : ٢١٧ أبواب القبلة ب ٢ ح ٩.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٢١ أبواب القبلة ب ٣ ح ٤.

٣٦٧

أبي قبيس العصر ، فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي؟ قال : «نعم ، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» (١).

وأما في الثاني فهذه الروايات منضمّاً إلى ما رواه الصدوق مرسلاً قال ، قال الصادق عليه‌السلام : «أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا» (٢).

الثاني : تجوز النافلة في جوف الكعبة مطلقاً ، والفريضة في حال الاضطرار بإجماع العلماء كافّة ، نقله في المدارك (٣). وتدلّ عليهما الأخبار أيضاً (٤).

واختلفوا في الفريضة حال الاختيار ، فنسب جوازها في التذكرة إلى أكثر علمائنا (٥) ، وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى التحريم (٦) ، وتبعه ابن البرّاج (٧) ، وعن الشيخ دعوى إجماع الفرقة عليه ، وهو أقوى.

لنا : استصحاب شغل الذمّة ، وظاهر الآية (٨) والأخبار المتظافرة (٩) ، فإنّ التوجّه إلى الشي‌ء والاستقبال إليه لا يفهم منه عرفاً إلّا بأن يكون قدّامه بأجمعه ، ولا يفهم منه استقبال الجزء حال كون المصلّي داخلاً فيه أو قائماً عليه.

وخصوص الصحاح المستفيضة ، وغيرها ، مثل صحيحة محمّد بن مسلم عن

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٨٣ ح ١٥٩٨ ، الوسائل ٣ : ٢٤٧ أبواب القبلة ب ١٨ ح ١.

(٢) الفقيه ٢ : ١٦٠ ح ٦٩٠ ، الوسائل ٣ : ٢٤٨ أبواب القبلة ب ١٨ ح ٣.

(٣) المدارك ٣ : ١٢٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٤٥ أبواب القبلة ب ١٧.

(٥) التذكرة ٣ : ١٠.

(٦) الخلاف ١ : ٤٣٩ مسألة ١٨٦.

(٧) المهذّب ١ : ٧٦.

(٨) البقرة : ١٥٠.

(٩) الوسائل ٣ : ٢٤٥ أبواب القبلة ب ١٧.

٣٦٨

أحدهما عليهما‌السلام ، قال : «لاتصلّ المكتوبة في الكعبة» (١).

وصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «لا تصلّى المكتوبة في جوف الكعبة ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخل الكعبة في حجّ ولا عمرة ، ولكنّه دخلها في الفتح فتح مكّة ، وصلّى ركعتين بين العمودين ومعه أسامة بن زيد» (٢) ومثلها موثّقته (٣).

وفي صحيحه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : «لا تصلح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة» (٤).

احتجّوا (٥) بأنّ القبلة نفس العرصة ، لا مجموع البنية ، ويكفي منها كلّ جزء من أجزائها. ويظهر ضعفه مما تقدّم.

وموثّقة يونس بن يعقوب قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : حضرت الصلاة المكتوبة وأنا في الكعبة ، أفأُصلّي فيها؟ قال : «صلّ» (٦). وهي لا تقاوم ما ذكرنا ، لكونها موافقة للكتاب والسنّة والاستصحاب. والرواية وإن كانت قويّة إلّا أنّ رواياتنا أكثر وأصحّ (٧)

ولفظة «لا تصلح» في الرواية الأخيرة وإن سلّمنا عدم دلالتها على الحرمة فلا تدلّ على الكراهة أيضاً.

وأما الاعتضاد بالشهرة فهو أيضاً غير واضح ، لأنّ الإجماع المنقول لا يقصر عن الشهرة ، مع أنّ في أخبارنا المعلّل أيضاً ، وهو مقدّم على غيره ، فنحملها

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩١ ح ١٨ ، الوسائل ٣ : ٢٤٥ أبواب القبلة ب ١٧ ح ١.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ح ٩٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ ح ١١٠١ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٨٣ ح ١٥٩٦ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ذ. ح ٣.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ح ٩٥٤ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٤.

(٥) المنتهي ١ : ٢١٨ ، الذكرى : ١٦١ ، روض الجنان : ٢٠٢.

(٦) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ح ٩٥٥ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٦.

(٧) كذا.

٣٦٩

على الضرورة.

ويدلّ على صحّتها حال الضرورة مضافاً إلى الإجماع موثّقة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : «لا تصلح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة» (١) وأما إذا خاف فوت الصلاة فلا بأس أن يصلّيها في جوف الكعبة.

ورواية محمّد بن عبد الله بن مروان ، قال : رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة فلم يمكنه الخروج من الكعبة ، قال : «يستلقي على قفاه ، ويصلّي إيماء ، وذكر قول الله عزوجل (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢)» (٣).

والأمر بالاستلقاء فيه أيضاً شاهد لما ذكرنا من عدم تحقّق الاستقبال باستقبال جدار البيت ، سيّما مع استدلاله عليه‌السلام بالآية التي وردت عنهم عليهم‌السلام أنّها نزلت في قبلة المضطر.

وقال الكليني بعد نقل صحيحة محمّد بن مسلم الاولى : وروى في حديث آخر : «يصلّي في أربع جوانبها إذا اضطرّ إليها» (٤) ويظهر منه أيضاً أنّه لا يجوز في حال الاختيار.

ولعلّ المراد من الصلاة إلى أربع جوانب الرخصة في الصلاة إلى أيّها شاء ، لا وجوب الصلاة إلى الجميع ، لعدم وجود القائل به ظاهراً.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٨٣ ح ١٥٩٧ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٥ وفيه : تصلح الصلاة .. وهو أوفق بالاستدلال ، ولعلّ إضافة كلمة «لا» تصحيف وعلى أيّ حال قال في الوسائل : لفظة «لا» هنا غير موجودة في النسخة الّتي قوبلت بخطّ الشيخ ، وهي موجودة في بعض النسخ ، انتهى. أقول : ويوهم كلام المصنف أن ما بعد هذه الرواية داخل فيها فتكون دالّة على المطلب مع وجود كلمة «لا» ولكن لم أجده في شي‌ء من المصادر والكتب المتوفّرة ، ولذا أخرجته من الأقواس.

(٢) البقرة : ١١٥.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٥٣ ح ١٥٨٣ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٧.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩١ ح ١٨.

٣٧٠

وظاهرهم جواز الصلاة إلى أيّ جدرانها شاء ، وكذلك القائل بالاستلقاء في الكعبة غير معلوم.

وأما الصلاة على سطح الكعبة مطلقاً ؛ فلم نقف على مخالف في جوازه بين الأصحاب ، وإنما اختلفوا في كيفية الصلاة ، فذهب الأكثر إلى الجواز قائماً مع إبرازه شيئاً من السطح بين يديه ليصلّي إليه ، فيقوم ويركع ويسجد (١) ، لما دلّ على وجوب القيام والقعود والركوع والسجود.

وذهب الشيخ في أحد قوليه (٢) والصدوق (٣) إلى أنّه يصلّي مستلقياً إلى البيت المعمور ، مومئاً بركوعه وسجوده ، لرواية عبد السلام بن صالح ، عن الرضا عليه‌السلام : في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة ، قال : «إن قام لم يكن له قبلة ، ولكن يستلقي على قفاه ، ويفتح عينيه إلى السماء ، ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ، ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع غمّض عينيه ، فإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه ، والسجود على نحو ذلك» (٤) وادّعى الشيخ الإجماع على ذلك (٥).

قال بعض المتأخّرين : ولو قيل إن تمكّن من النزول وجب تحصيلاً للبراءة اليقينية وإلّا صلّى قائماً ؛ لم يكن بعيداً ، إلّا أن يثبت الإجماع على نفي هذا التفصيل (٦) ، انتهى. ويؤيّده حكم الفريضة في جوفها على ما اخترناه.

وربّما تحمل الرواية على النافلة ، وليس ببعيد إن لم يكن جواز الفريضة إجماعيّاً.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٨٥ ، الشرائع ١ : ٢٣ ، المختصر النافع ١ : ٢٣.

(٢) الخلاف ١ : ٤٤١ مسألة ١٨٨ ، النهاية : ١٠١.

(٣) الفقيه ١ : ١٧٨ ذ. ح ٨٤٢.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٢ ح ٢١ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ح ١٥٦٦ ، الوسائل ٣ : ٢٤٨ أبواب القبلة ب ١٩ ح ٢.

(٥) الخلاف ١ : ٤٤١ مسألة ١٨٨.

(٦) الجامع للشرائع : ٦٤.

٣٧١

فائدة :

قال في الذكرى : ظاهر كلام الأصحاب أنّ الحِجر من الكعبة بأسره ، وقد دلّ عليه النقل أنّه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل إلى أن بَنَت قريش الكعبة وأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه ، وكان كذلك في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة ، وبذلك احتجّ ابن الزبير حيث أدخله فيها ، ثمّ أخرجه الحجّاج بعده وردّه إلى ما كان.

ولأنّ الطواف يجب خارجه.

وللعامّة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها ، وفي الطواف خارجه ، وبعض الأصحاب له فيه كلام أيضاً ، مع إجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف ، وإنّما الفائدة في جواز استقباله في الصلاة بمجرّده ، فعلى القطع بأنّه من الكعبة يصحّ ، وإلّا امتنع ، لأنّه عدول عن اليقين إلى الظن (١) ، انتهى.

قال في المدارك : ولم نقف على هذا النقل من طريق الأصحاب (٢) ، والمستفاد من النصوص الصحيحة أنّ الحِجر ليس من الكعبة ، منها صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحِجر ، أمِنَ البيت؟ قال : «لا ، ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن امه فيه فكره أن توطأ فحجّر عليه حجراً ، وفيه قبور أنبياء» (٣) ولا تلازم بين وجوب إدخاله في الطواف وجواز الصلاة إليه وحده.

الثالث : يجب أن يتوجّه أهل كلّ إقليم إلى جهة ركنهم وذكر العلماء لكلّ منهم علامات مشهورة مذكورة في كتب أصحابنا ، مثل كتاب إزاحة العلّة في معرفة

__________________

(١) الذكرى : ١٦٤.

(٢) المدارك ٣ : ١٢٣.

(٣) الكافي ٤ : ٢١٠ ح ١٥ ، الوسائل ٩ : ٤٢٩ أبواب الطواف ب ٣٠ ح ١.

٣٧٢

القبلة لشاذان بن جبرئيل القمي (١) ، وكتاب الذكرى (٢) ، وغيرهما.

والمروي من جملة تلك العلامات : هو علامة أهل المشرق ، أعني عراق العرب وما والاه ، فقد روى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن القبلة ، قال : «ضع الجدي في قفاك وصلّ» (٣).

وقال الصدوق : قال رجل للصادق عليه‌السلام : إنّي أكون في السفر ، ولا أهتدي إلى القبلة بالليل ، فقال : «أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قال : نعم ، قال : اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك» (٤).

ووجه أن ذلك علامة لأهل المشرق أنّ أغلب الرواة من أهل المشرق ، ومحمّد بن مسلم كوفي.

ولكن الذي ينطبق على الضوابط الهيئوية أو يقاربها : هو أن يكون ذلك علامة لأواسط العراق كالكوفة وبغداد ، وأما أطرافه الشرقية كالبصرة وما ساواها فتحتاج إلى زيادة انحراف نحو المغرب ، فيجعلون الجدي على الخد الأيمن كما ذكره جماعة من الأصحاب (٥).

وأما أطرافه الغربيّة كالموصل وما ساواها فعلامتهم جعل المشرق والمغرب الاعتداليين على اليسار واليمين. وجعل الشمس على طرف الحاجب الأيمن مما يلي الأنف عند الزوال.

وذكروا أيضاً من جملة علاماتهم : جعل القمر ليلة السابع من كلّ شهر عند غروب الشمس بين العينين ، وكذلك ليلة إحدى وعشرين عند طلوع الفجر.

__________________

(١) انظر البحار ٨١ : ٧٤.

(٢) الذكرى : ١٦٤.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ ح ١٤٣ ، الوسائل ٣ : ٢٢٢ أبواب القبلة ب ٥ ح ١.

(٤) الفقيه ١ : ١٨١ ح ٨٦٠ ، الوسائل ٣ : ٢٢٢ أبواب القبلة ب ٥ ح ٢.

(٥) المدارك ٣ : ١٢٩.

٣٧٣

قالوا : إنّ هذه المذكورات غير الجدي مأخوذة من القواعد الهيئوية (١) ، وكذلك كلّ ما ذكروه في غيرها مثل الاعتماد على الأرياح الأربع : الصبا والدبور والشمال والجنوب ، والكواكب وغيرها.

وأوثقها العلامات الكوكبية ، مثل أنّهم ذكروا لأهل الشام جعل الجدي خلف الكتف اليسرى ، وسهيل عند طلوعه بين العينين ، وعند غروبه على العين اليمنى ، وبنات النعش عند غيبوبتها خلف الأُذن اليمنى.

ولأهل المغرب جعل الجدي على الخد الأيسر ، والثريا والعيّوق على اليمين واليسار.

ولأهل البصرة وفارس جعل الجدي على الخد الأيمن ، والشولة إذا نزلت للمغيب بين العينين ، والنسر الطائر عند طلوعه بين الكتفين.

ولأهل السند والهند جعل الجدي على الاذن اليمنى ، وسهيل عند طلوعه خلف الأُذن اليسرى وبنات النعش عند طلوعها على الخد الأيمن ، والثريا عند غيبوبته على (٢) العين اليسرى.

ولأهل اليمن جعل الجدي بين العينين ، وسهيل عند غيبوبته بين الكتفين.

وقال في الذكرى : أكثر الأصحاب ذكر خراسان في قبلة أهل العراق ، وحكم باتّحاد العلامات ، وبلغني أنّ بها محراباً للإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فإن صحّ النقل فلا عدول عنه ، وإلّا فالأولى جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر ، وإن كان الاستقبال إلى الركن العراقي ، وكلام الأصحاب لا ينافيه (٣) ، انتهى ، هذا.

وبعد ما تأمّلت في هذه العلامات ، والمسامحة الفاحشة في كثيرٍ منها لعدم

__________________

(١) المدارك ٣ : ١٢٧.

(٢) في «م» : عن.

(٣) الذكرى : ١٦٣.

٣٧٤

انضباطها ، سيّما الأرياح وحركة القمر ، وخصوصاً في العلامات المرويّة ، فإن جعل الإمام عليه‌السلام الجدي علامة من دون تحديد حال ارتفاعه وانخفاضه مع تفاوت أوساط العراق أيضاً وتفاوت طريق مكّة أيضاً يظهر لك أنّه لا مناص عن اعتبار الجهة ، ويظهر لك وسعة دائرة أمر القبلة ، وتسهيل الأمر فيها.

وقال في الذكرى : إنّ تلك الأمارات أكثرها مأخوذة من علم الهيئة ، وهي مفيدة للظنّ الغالب بالعين ، وللقطع بالجهة (١).

ولا أدري ما أراد بالعين والجهة ، فإن أراد بالظنّ الغالب بالعين الظن باتصال خطّ مستقيم خارج عن موقف المصلّي لو فرض إخراجه إلى أصل البيت ، وبالجهة ما ذكره قبل ذلك حيث قال : «إنّ المراد بالجهة السمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه لا مطلق الجهة كما قال بعض العامة إنّ الجنوب قبلة لأهل الشمال وبالعكس ، والمشرق قبلة لأهل المغرب ، وبالعكس ، لأنّا نتيقّن بالخروج هنا عن القبلة ، وهو ممتنع ، انتهى» (٢) ، فنقول : لا ريب أنّ الظنّ الغالب بذلك غير ممكن ، إذ الصفّ المستطيل المستقيم الذي بمقدار ألف نفر ، بل وكلّ من يحاذي المصلّي في جانب طول البلد إلى فراسخ كذلك يستحيل حصول الظن بذلك (لكلّ واحد منهم ، فضلاً عن الظن الغالب ، بل يستحيل حصول ذلك الظنّ) (٣).

وإن أراد من العين محاذات جهة العين كما يحاذي الهلال ألف ألف نفر ، وكلّهم يصدق عليهم أنّهم محاذون له عُرفاً ، فإنّ الشي‌ء الصغير كلّما ازداد القوم عنه بعداً ازدادوا محاذاة ، فحصول الظنّ الغالب بذلك مسلّم ، ولكن لا يبقى لمعنى الجهة شي‌ء يقابل ذلك بعد ما ذكرنا سابقاً ، إلّا أن يريد بها ما أراده بعض العامة كما نقله العلامة (٤) ، وهو موجب للتهافت والإلغاز ، اللهم إلّا أن يريد الظنّ في بادئ النظر

__________________

(١) الذكرى : ١٦٢.

(٢) الذكرى : ١٦٢.

(٣) ما بين القوسين ليس في «ص».

(٤) التذكرة ٣ : ٧ ، قال : الجهة يريد بها هنا ما يظنّ أنّه الكعبة ، حتّى لو ظنّ خروجه عنها لم تصحّ.

٣٧٥

ومع قطع النظر عن ملاحظة الأخر.

تذنيب :

المشهور بين الأصحاب استحباب تياسر أهل المشرق عن مقتضى علائمهم ، وذهب الشيخ إلى وجوبه (١) ، لرواية مفضّل بن عمر : إنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه ، فقال : «إنّ الحجر الأسود لما انزل به من الجنة ووضع في موضعه ، جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، كلّها اثنى عشر ميلاً ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجاً من حدّ القبلة» (٢) وتقرب من ذلك مرفوعة عليّ بن محمّد (٣).

وأُورد على ذلك : بأنّ الانحراف إن كان إلى القبلة فواجب ، وإن كان من القبلة فحرام.

وأُجيب بأنّه انحراف منها إليها ، بمعنى اختيار التوسيط ، وهذا إنما يتمّ على القول بجعل قبلة خارج الحرم هو الحرم لتفاوت طرفيه.

وقد جرى في ذلك سؤال وجواب بين المحقّق الطوسي قدس‌سره القدسي والمحقق الحلي طاب ثراه وحاصلهما ما ذكرنا ، وكتب المحقّق الحلّي في ذلك رسالة ، وهي بتمامها مذكورة في مهذّب ابن فهد (٤).

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢٩٧ ، النهاية : ٦٣ ، المبسوط ١ : ٧٨ ، الاقتصاد : ٢٥٧.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٨ ح ٨٤٢ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ح ١٤٢ ، علل الشرائع : ٣١٨ ح ١ ، الوسائل ٣ : ٢٢١ أبواب القبلة ب ٤ ح ٢ بتفاوت يسير.

(٣) الكافي ٣ : ٤٨٧ ح ٦ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ح ١٤١ ، الوسائل ٣ : ٢٢١ أبواب القبلة ب ٤ ح ١.

(٤) المهذّب البارع ١ : ٣١٢.

٣٧٦

وأنت خبير بأنّ ملاحظة الجهة وامتناع اعتبار هذا التفاوت في النائي عادة ينفي هذه الملاحظة ، إلّا أن يكون ذلك حكماً تعبديّاً ذكر في الرواية علّة لأصل تشريعه ، ولا يلزم الاطراد ، ويشكل مع القول باعتبار جهة الكعبة مطلقاً كما هو المختار.

ويظهر من بعض الأصحاب الجواب كذلك مع قطع النظر عن القول بكون الحرم قبلة أهل الدنيا أيضاً ، بدعوى مزيّة بعض أجزاء البيت على بعض آخر. وهو أبعد من الأوّل بالنظر إلى الواقع ، وبالنظر إلى الرواية أيضاً.

وربّما يقال : وجه هذا الحكم التنبيه على لزوم التياسر عن قبلة مساجد العراق ، فإن أكثرها بنيت في خلافة الثاني وغيره ، وكانت محاريبها منحرفة إلى اليمين ، وعلّل في الرواية بما علل إسكاتاً لهم على وجه خطابي لأجل التقية ، وهو بعيد.

المطلب الثاني في الأحكام

وفيه مباحث :

الأوّل : يجب استقبال القبلة في الفرائض كلّها مع الاختيار بالكتاب (١) والسنة (٢) والإجماع ، بل البديهة من الدين.

وأما حال الاضطرار كالخوف والمطاردة وغيرهما فلا يجب ، لعدم التمكّن ، ولقوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣) فإنّها وردت في قبلة المتحيّر ،

__________________

(١) البقرة : ١٥٠.

(٢) الوسائل ٣ : ٢١٤ أبواب القبلة ب ١.

(٣) البقرة : ١١٥.

٣٧٧

ولصحيحة زرارة المتقدّمة في الصلاة راكباً (١) ، وما ورد في صلاة الخوف (٢).

وكذلك في النافلة إلّا حال الاستقرار وعدم العذر ، وخلاف المحقّق فيه (٣) ضعيف ، وقد مرّ.

الثاني : يجب تحصيل العلم بالقبلة مع الإمكان وقد مرّ الكلام في المتمكّن من المشاهدة ، وأنّ وجوبها إجماعيّ.

وكذلك العلم بالجهة لمن تمكّن منه ، لظاهر الآية والأخبار.

وطرق العلم كثيرة ، مثل التواتر ، والخبر المحفوف بالقرائن ، ومحراب المعصوم ، وقد يحصل العلم بإعمال القواعد الهيئويّة.

وأما فاقد العلم فيعتمد على الأمارات المفيدة للظنّ ، وهو إجماعيّ ، بل ادّعى في المعتبر عليه اتّفاق أهل العلم (٤) ، وأكثر العلامات المتقدّمة لا تفيد إلّا الظنّ ، بل كلّها.

نعم بعضها في بعض المواضع من البلاد التي جعل علامة لها يفيد القطع فيما انطبق على مقتضي القواعد الهيئويّة ، ومن باب العمل بالظنّ الظنّ بتلك العلامات ، مثل ما لو حصل الظنّ بالشمس في يوم الغيم أو ببعض الكواكب في ليلة بسبب النور في الشمس أو العين أيضاً في الكواكب ، وبمثل الاعتماد ببعض الكواكب ، كما لو كان إذا كان في بلدة كانت الجوزاء مثلاً في أوّل المغرب قبال القبلة ، ثمّ تحيّر في بادية فيحصل بذلك ظنّ قويّ ونحو ذلك.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥٩ ح ٦ ، الفقيه ١ : ٢٩٥ ح ١٣٤٨ ، التهذيب ٣ : ١٧٣ ح ٣٨٣ ، الوسائل ٥ : ٤٨٤ أبواب صلاة الخوف ب ٣ ح ٨.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٨٢ أبواب صلاة الخوف ب ٣.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٧ ، جعله مستحبّاً في جميع الأحوال.

(٤) المعتبر ٢ : ٧٠.

٣٧٨

وتدلّ عليه الأخبار ، مثل صحيحة زرارة قال ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : «يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (١).

وموثّقة سماعة قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم يَرَ الشمس ولا القمر ولا النجوم ، قال : «اجتهد رأيك ، وتعمّد القبلة جهدك» (٢).

وأوضح الأخبار في ذلك ما رواه السيد في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النعماني ، عن الصادق عليه‌السلام (٣).

وبالجملة المعيار ما يفيد الظنّ للمكلّف (من أيّ) (٤) شي‌ء يكون من القواعد المذكورة والعلامات والأمارات المشهورة وغيرها مما يحصّله المكلّف.

ولا يجوز العمل بالظنّ الأضعف مع وجود الأقوى ، لكون الأضعف حينئذٍ وهماً ، فتسميته ظنّاً إنّما هو مع قطع النظر عن الأمارة الأُخرى كما لا يخفى ، وتشعر بذلك الروايات المتقدّمة.

وأما المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين ، ومقابرهم ، وطرقهم ، فهي مما تفيد الظنّ القويّ ، ويجوز الاكتفاء بها بلا خلاف بينهم ، وقال في التذكرة إنّه إجماعيّ (٥).

ومقتضى إطلاقهم جواز العمل عليها مع إمكان تحصيل العلم أيضاً ، واختار في المدارك العدم ، لإمكان تحصيل اليقين (٦) ، وهو غير بعيد ، حملاً لإطلاقهم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٥ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ ح ١٤٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ح ١٠٨٧ ، الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٤ ح ١ ، التهذيب ١ : ٤٦ ح ١٤٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ح ١٠٨٩ ، الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦ ح ٢.

(٣) رسالة المحكم والمتشابه للسيّد : ١٢٧ ، الوسائل ٣ : ٢٢٤ أبواب القبلة ب ٦ ح ٤.

(٤) في «ح» ، «م» : برأى.

(٥) التذكرة ٣ : ٢٥.

(٦) المدارك ٣ : ١٣٤.

٣٧٩

على الغالب.

وأما مع عدم الإمكان فقالوا : لا يجوز الاجتهاد في الجهة حينئذٍ ، لأنّ الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق واتّفاقهم ممتنع أو بعيد ، فلو خالف اجتهاده إيّاهم فالخطأ منه ، ولا يجوز العمل عليه.

وأما في التيامن والتياسر ففيه قولان (١) : من جهة أنّ إصابة الخلق الكثير أقرب ، ومن جهة عموم الأخبار (٢) ، وأنّه لما لم يجب عليهم الاجتهاد فيهما فلعلّ اكتفاءهم بالجهة لاعتمادهم على قبلة من قبلهم ، لا لحصول الاجتهاد من جميعهم وتوافقهم في ذلك.

قال في الذكرى : وقد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قبلة مسجد دمشق وأنّ فيه تياسراً عن القبلة مع انطواء الأعصار الماضية على عدم ذلك (٣).

أقول : ولا يبعد ترجيح الجواز ، سيّما مع ما عرفت من المسامحة في أمر القبلة والعلائم التي بنوا أمرها عليها.

ثمّ إنّ إخبار الغير بالقبلة أيضاً مما يفيد الظنّ ، فإن حصل له بسببه ظنّ أقوى من اجتهاده فيعمل عليه ، لظاهر الأخبار (٤) ، فإنّه أيضاً نوع من التحرّي والاجتهاد ، فإنّ المأمور به الذي هو تحصيل الظنّ له مقدّمات ، والمقدّمات قد تكون من فعل المكلّف ، وقد يقوم فعل غيره مقامه أيضاً ، فقد يكون وجوب المقدّمة تخييراً بين المقدورات ، وقد ينوب غير المقدور عن المقدور كما حقّقناه في الأُصول (٥) ، فلو استخبر المكلّف من غيره لتحصيل الظنّ فهو من فعله ، وإن أخبره الغير من دون الاستخبار فهو

__________________

(١) قال بالمنع العلّامة في نهاية الإحكام ١ : ٣٩٣ ، وبالجواز الشهيد في الذكرى : ١٦٣ ، وصاحب المدارك ٣ : ١٣٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦.

(٣) الذكرى : ١٦٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦.

(٥) القوانين : ١٠٣.

٣٨٠