غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-250-5
الصفحات: ٦٣١

والنصوص المستفيضة (١) لا يفيد جواز الصلاة فيها. والظاهر أنّ بطلان الصلاة فيه أيضاً إجماعيّ.

وتدلّ عليه النصوص المتظافرة ، مثل صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال : «لا ، ولو دبغ سبعين مرّة» (٢).

وصحيحة ابن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن الصادق عليه‌السلام : في الميتة ، قال : «لاتصلّ في شي‌ء منه ولا شسع» (٣).

والظاهر أنّ الميتة والمذكّى من باب العدم والملكة ، وهما شيئان لا يعرفهما أهل العرف ، وإنّما هما من جعل الشارع ، والذي يفهمه أهل العرف هو الموت والحياة ، وثبوت الملكات يحتاج إلى الدليل ، فالأصل عدم التذكية ، ولا يجوز الخروج عنه إلّا بدليل.

وما ذكره بعضهم (٤) من أنّ هذا الأصل لا أصل له ، وأنّ الأصل براءة الذمّة حتّى يحصل العلم بكونها ميتة ، وأنّ المتبادر من الميتة في العرف هو ما مات حتف أنفه فلا يشمل ما ذبح وإن كان مشكوك التذكية شرعاً إما بسبب الشك في أصل الحكم كما في السباع والمسوخ ونحوهما ؛ أو بسبب الشك في الموضوع كالشك في قطع الأوداج ونحو ذلك ، وأنّ الآيات (٥) والأخبار (٦) وردت في حرمة الميتة ، فما لم يحصل العلم بكونها ميتة فالأصل براءة الذمة ؛ فهو في غاية الوهن ، لثبوت

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٤٩ أبواب لباس المصلّي ب ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٦٠ ح ٧٥٠ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ ح ٧٩٤ ، الوسائل ٣ : ٢٤٩ أبواب لباس المصلّي ب ١ ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٠٣ ح ٧٩٣ ، الوسائل ٣ : ٢٤٩ أبواب لباس المصلّي ب ١ ح ٢.

(٤) المدارك ٢ : ٣٨٧.

(٥) قوله تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) (البقرة : ١٧٣ ، النحل : ١١٥) ، وقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة : ٣).

(٦) الوسائل ٢ : ١٠٨٠ أبواب النجاسات ب ٦١ ، وج ٣ : ٢٤٩ أبواب لباس المصلّي ب ١.

٣٠١

اشتراط التذكية من الآية (١) والأخبار (٢) جزماً ، فلا يكفي عدم صدق الميتة عرفاً لو سلّم كون ذلك من المفاهيم العرفية ، فضلاً عمّا لو لم يسلّم.

وكيف كان فالمعتبر ثبوت التذكية شرعاً ، وطريق ثبوتها إما بحصول العلم بها ، أو الظنّ الشرعي ، كشهادة العدلين ، أو أخذه إما من يد مسلم أو سوق المسلمين ، فإنّه يجوز شراء ما يباع في أسواقهم من الذبائح واللحوم والجلود ولا يجب الفحص ، بل قيل : لا يستحب (٣) ، بل قيل : يكره (٤).

ولا فرق بين فِرَقهِم مؤالفهم ومخالفهم ، ولا بين أخذه من يد رجلٍ معلوم الإسلام أو غيره ، حَملاً على الغالب ، كما يستفاد من موثّقة إسحاق بن عمّار الاتية (٥) ، ولا بين من يستحلّ ذبائح أهل الكتاب وغيره على الأشهر الأصحّ.

وخالف فيه العلامة ، فاعتبر كونه ممن لا يستحلّ ذلك (٦).

قال في المسالك : وهو ضعيف جدّاً ، لأنّ جميع المخالفين يستحلّون ذبائحهم ، فيلزم أن لا يجوز الأخذ من يدِ أحدهم ، والأخبار ناطقة بخلافه (٧) و (٨). ونِعمَ ما قال.

والظاهر أنّ الحكم كذلك إذا أُخذ من يد مسلم ولو كان في غير بلاد الإسلام.

ويدلّ على جميع ما ذكرنا ، مضافاً إلى ما دلّ على حمل أفعال المسلمين على

__________________

(١) قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ) : (المائدة : ٣).

(٢) الوسائل ٣ : ٢٥٠ أبواب لباس المصلّي ب ٢.

(٣) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٢١٤ كتاب الصيد والذباحة ، فيما يباع في أسواق المسلمين.

(٤) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٢١٤ كتاب الصيد والذباحة.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٦٨ ح ١٥٣٢ ، الوسائل ٣ : ٣٣٢ أبواب لباس المصلّي ب ٥٥ ح ٣.

(٦) المنتهي ١ : ٢٢٦ ، التذكرة ٢ : ٤٦٤ ، التحرير ١ : ٣٠.

(٧) الوسائل ٣ : ٣٣٢ أبواب لباس المصلّي ب ٥٥.

(٨) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٢١٤ كتاب الصيد والذباحة.

٣٠٢

الصحّة من الأخبار في المعاملات والمناكحات والمواريث وغيرها ، الأخبار المعتبرة المستفيضة جدّاً ، مثل صحيحة الفضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم : أنّهم سألوا أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللحم من الأسواق ما ندري ما يصنع القصّابون ، قال عليه‌السلام : «كُل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» (١).

وصحيحة الحلبي قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الخفاف عندنا في السوق نشتريها ، فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : «صلّ فيها حتّى يقال لك : إنّها ميتة بعينها» (٢).

وصحيحة البزنطي قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيه هي أم غير ذكية ، أيصلي فيها؟ فقال : «نعم ، ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإنّ الدين أوسع من ذلك» (٣).

وصحيحته الأُخرى (٤) ، وصحيحة سليمان بن جعفر الجعفري (٥).

ورواية إسماعيل بن عيسى ، عن أبيه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجيل ، أنسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال : «عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» (٦).

وموثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام» قلت : فإن كان فيها غير

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٣٧ ح ٢ ، الوسائل ١٦ : ٢٩٤ أبواب الذبائح ب ٢٩ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٣ ح ٢٨.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦٨ ح ١٥٢٩ ، الوسائل ٣ : ٣٣٢ أبواب لباس المصلّي ب ٥٥ ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٧١ ح ١٥٤٥ ، قرب الإسناد : ١٧٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٧٢ أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٦.

(٥) الفقيه ١ : ١٦٧ ح ٧٨٧ ، الوسائل ٣ : ٣٣٢ أبواب لباس المصلّي ب ٥٥ ذ. ح ١.

(٦) الفقيه ١ : ١٦٧ ح ٧٨٨ ، التهذيب ٢ : ٣٧١ ح ١٥٤٤ ، الوسائل ٢ : ١٠٧٢ أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٧.

٣٠٣

أهل الإسلام؟ قال : «إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس» (١).

وأما رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الفراء ، فقال : «كان عليّ بن الحسين عليه‌السلام رجلاً صرداً لا تدفئه فراء الحجاز لأنّ دباغتها بالقرظ ، وكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلهم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي تحته الذي يليه ، وكان يُسأل عن ذلك فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة ، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته» (٢).

ففيها مع ضعف سندها بجماعة من الضعفاء والمجاهيل (٣) : أنّها لا تدلّ إلّا على رجحان الفعل ، بل تدلّ على الطهارة حيث كان يلبسه في غير الصلاة ، فتحمل على الكراهة كما صرّح به في حسنةٍ أُخرى عنه عليه‌السلام ، قال : «تكره الصلاة في الفراء ؛ إلّا ما صنع في أرض الحجاز ، أو ما علمت منه ذكاة» (٤).

ولكن لا بدّ من حصر الكراهة على سوق من يستحلّ الميتة بالدباغة ، أو يد من كان كذا ، بل ولا بدّ من التخصيص بما لم يستلزم الاجتناب فساداً آخر وحزازة اخرى.

وكذلك رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٥) ، مع عدم معارضتها لما ذكرنا لا تدلّ على خلاف ما ذكرنا ، فلاحظها.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٨ ح ١٥٣٢ ، الوسائل ٢ : ١٠٧٢ أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٥.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٧ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ ح ٧٩٦ ، الوسائل ٣ : ٣٣٨ أبواب لباس المصلّي ب ٦١ ح ٢.

(٣) من الضعفاء في طريقها محمّد بن سليمان الديلمي ، انظر معجم رجال الحديث ١٦ : ١٢٦ ، ومن المجاهيل عبد الله بن إسحاق العلوي ، وعيثم بن أسلم النجاشي.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٨ ح ٤ ، الوسائل ٣ : ٣٣٧ أبواب لباس المصلّي ب ٦١ ح ١.

(٥) الموجود رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له : إنّي أدخل سوق المسلمين ـ أعني هذا الخلق الّذين يدّعون الإسلام فأشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها : أليس هي ذكيّة؟ إلى أن قال ، قلت : وما أفسد ذلك؟ قال : استحلال أهل العراق للميتة ، وزعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلّا على رسول الله «ص» وانظر الوسائل ٢ : ١٠٨٠ أبواب النجاسات ب ٦١.

٣٠٤

وأما الجلد المطروح فلا تحلّ مباشرته وإن كان يمكن الحكم بطهارته ، بمعنى عدم نجاسة ملاقية.

وقد يستشكل في مثل جلد المصحف ، بل الجلود المتداولة الاستعمال في بلاد المسلمين ، مثل ما كانت مدبوغة ومصنوعة ومصبوغة. والأمر فيه مشكل إلّا مع حصول العلم بالقرائن أو الظنّ المتاخم للعلم أنّه لمسلم.

ومثل ذلك المشربة التي سقطت من قافلة المسلمين.

وأما الذبيحة المطروحة فدعوى حصول العلم بحلّها دونه خرط القتاد ، فلا أقلّ من الشكّ في حصول جميع شرائطها غير إسلام الذابح.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر ضعف قول العلامة وتمسّكه بأصالة عدم التذكية (١) ، فإن منشأ استدلاله هو أنّ قيام فعل المسلم مقام العلم بالتذكية إنّما هو من أجل حمل فعل المسلم على الصحّة ، وهو لا ينافي كونها ميتة مدبوغة ، إذ استعمالها حينئذٍ صحيح عند من يستحلّها.

والمراد بحمل الفعل على الصحّة هو ما يكون صحيحاً عند ذلك المسلم لا مطلقاً ، فإن الاختلاف في المسائل الفقهية في غاية الكثرة.

وهو خيال متين ، لكنه مدفوع ، نظراً إلى عمومات تلك الأخبار ، وإطلاقات النصوص والفتاوى ، والتفاتاً إلى الحمل على الغالب ، فإن استحلال ذبيحة أهل الكتاب أو طهارة الميتة بالدباغة لا ينافي كون الغالب هو كون الذبائح مذبوحة للمسلم.

مع أنّ هذه الأخبار تؤسّس أصلاً بنفسه مع قطع النظر عن تلك القواعد ، فلا مناص عن العمل بها.

نعم إذا أخبر ذو اليد بعدم التذكية فالأظهر عدم الجواز كما اختاره الشهيد (٢) ،

__________________

(١) المنتهي ١ : ٢٢٦ ، التذكرة ١ : ٤٦٤.

(٢) الذكرى : ١٤٣ ، البيان : ١٢٠.

٣٠٥

لأنّ المتبادر من الأخبار هو غير هذه الصورة ، فتبقى تحت أصالة عدم التذكية ، وتدلّ عليه صحيحة الحلبي المتقدّمة أيضاً (١).

ثمّ إنّ المتبادر من الإطلاقات هي ميتة ذي النفس السائلة ، والأصل يقتضي عدم وجوب الاجتناب عن غيرها.

وقال المحقّق البهائي : إنّ المنع من الصلاة في جلد الميتة يشمل بإطلاقه ميتة ذي النفس وغيره ، سواء كان مأكول اللحم أولا ، وفي كلام بعض علمائنا جواز الصلاة في ميتة غير ذي النفس من مأكول اللحم كالسمك الطافي مثلاً ، والمنع من الصلاة في ذلك متّجه ، لصدق الميتة عليه ، وكونه طاهراً لا يستلزم جواز الصلاة فيه ، وكان والدي قدّس سره يميل إلى هذا القول ، ولا بأس به (٢) ، انتهى.

وهل يضرّ استصحاب شي‌ء من الميتة من غير الملابس المتعارفة؟ فيه إشكال.

قال في المدارك : والظاهر تحريم استصحاب غير الملبوس ، لقوله عليه‌السلام : «لاتصلّ في شي‌ء منه ولا شسع» (٣) و (٤) وفيه ما فيه ، إذ الشسع من جملة الملابس وأجزائها.

ويمكن الاستدلال عليه بموثّقة سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تقليد السيف في الصلاة فيه الفراء والكيمخت ، فقال : «لا بأس ما لم يعلم أنّه ميتة» (٥).

وموثّقة ابن مسكان ، عن الحلبي ، عنه عليه‌السلام ، قال : «لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة ، إنّ الصوف ليس فيه روح» قال عبد الله : وحدّثني عليّ

__________________

(١) ص ٣٠٣ ، وهي في الكافي ٣ : ٤٠٣ ح ٢٨.

(٢) الحبل المتين : ١٨٠ ، وممن يذهب إلى الجواز العلامة في التذكرة ٢ : ٢٦٩.

(٣) التهذيب ١ : ٢٠٣ ح ٧٩٣ ، الوسائل ٣ : ٢٤٩ أبواب لباس المصلّي ب ١ ح ٢.

(٤) المدارك ٣ : ٦١.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٢ ح ٨١١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٥ ح ٨٠٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٧٣ أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ١٢.

٣٠٦

بن أبي حمزة أنّ رجلاً سأل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه ، قال : «نعم» فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت! فقال : «وما الكيمخت؟» فقال : جلود دواب منه ما يكون ذكيا ومنه ما يكون ميتة ، فقال : «ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه» (١).

وقد تقدّم في مباحث النجاسات من كتاب الطهارة قوله عليه‌السلام في فأرة المسك إذا كانت مع المصلّي : «لا بأس إذا كان ذكيا» (٢).

وهذه الموثّقة تدلّ على جواز الصلاة فيما لا تحلّه الحياة من الميتة ، وهو إجماعيّ مستفاد من الأخبار المستفيضة (٣) ، وقد تقدّم كثير منها في كتاب الطهارة.

الثامن : لا خلاف في أنّ كلّ ما تقع عليه الذكاة مما لا يؤكل لحمه طاهر بعد الذكاة جائز الاستعمال في الجملة وادّعى عليه الإجماع جماعة (٤).

ولكن الشيخ (٥) اشترط في ذلك دباغته تمسّكاً بالشك قبل الدباغة ، فإنّ المجمع عليه هو ما بعدها ، وهو ضعيف.

وأما استعماله في الصلاة فلا يجوز ، قال في المدارك : وهو إجماعي كما نقله جماعة ، وكذا لا يجوز استعمال ما لا تحلّه الحياة منه بلا خلاف بين أصحابنا إلّا فيما نستثنيه (٦).

والنصوص بجميع ما ذكره متظافرة ، منها صحيحة إسماعيل بن سعد

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٨ ح ١٥٣٠ ، الوسائل ٣ : ٣٣٣ أبواب لباس المصلّي ب ٥٦ ح ١ ، وب ٥٥ ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٢ ح ١٥٠٠ ، الوسائل ٣ : ٣١٥ أبواب لباس المصلّي ب ٤١ ح ٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٣٣ أبواب لباس المصلّي ب ٥٦.

(٤) كالشيخ في الخلاف ١ : ٦٣ مسألة ١١ ، وصاحبي المدارك ، ٣ : ١٦١ ، والذخيرة : ١٧٥.

(٥) المبسوط ١ : ١٥ ، ٨٢.

(٦) المدارك ٣ : ١٦١ ، وممن نقل الإجماع العلامة في نهاية الإحكام ١ : ٣٧٣ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٢١٣ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٨١.

٣٠٧

الأحوص ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة في جلود السباع ، فقال : «لاتصلّ فيها» (١).

وموثّقة سماعة (٢) وغيرها (٣) مما ورد في السباع وقد مرّت في باب النجاسات.

وموثّقة عبد الله بن بكير قال : سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج لنا ما زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله ؛ فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه فاسدة» (٤) الحديث.

ولا وجه للقدح في مثل ابن بكير مع أنّه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه (٥) ، سيّما مع اعتضادها بالعمل المعلوم ، بل بالإجماع ، وسيجي‌ء كثير منها فيما بعد.

وأما ما ورد في جواز الصلاة في الثعالب ونحوها مثل صحيحة جميل (٦) وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج (٧) وغيرهما (٨) ، فهي مع أنّها معارضة بالأخبار المتضافرة الصحيحة وغيرها خصوصاً وعموماً (٩) محمولة على التقية ، ومتروكة عند الأصحاب.

والمتبادر مما لا يؤكل لحمه هو غير الإنسان.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٠ ح ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٥ ح ٨٠١ ، الوسائل ٣ : ٢٥٧ أبواب لباس المصلّي ب ٦ ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ١٦٦ ح ٣١١ ، الوسائل ٣ : ٢٥٦ أبواب لباس المصلّي ب ٥ ح ٦.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٥٧ أبواب لباس المصلّي ب ٦.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٧ ح ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ ح ٨١٨ ، الوسائل ٣ : ٢٥٠ أبواب لباس المصلّي ب ٢ ح ١.

(٥) رجال الكشي : ١٥٥ ، ٢٣٩ ، ٣٤٤.

(٦) التهذيب ٢ : ٢٠٦ ح ٨٠٩ ، الاستبصار ١ : ٣٨٢ ح ١٤٤٧ ، الوسائل ٣ : ٢٥٩ أبواب لباس المصلّي ب ٧ ح ٩.

(٧) التهذيب ٢ : ٣٦٧ ح ١٥٢٨ ، الاستبصار ١ : ٣٨٢ ح ١٤٤٩ ، الوسائل ٣ : ٢٦٠ أبواب لباس المصلّي ب ٧ ح ١١.

(٨) انظر الوسائل ٣ : ٢٦٠ أبواب لباس المصلّي ب ٧ ح ١٠.

(٩) الوسائل ٣ : ٢٦٠ أبواب لباس المصلّي ب ٧.

٣٠٨

وكذلك لا يتبادر منه مثل النحل والذباب وغيرهما كما أشرنا إليه في باب النجاسات.

ويعضده لزوم العسر والحرج ، سيّما في الإنسان ، بل يظهر من الأخبار من الأمر بالتصافح والتعانق سيّما في الصيف في البلاد الحارّة ورخصة الصلاة في ثوب الأخر مع عدم الانفكاك عن الوسخ والعرق ، وجواز مضاجعة النسوان وتقبيلهن الجواز.

وصحيحة عليّ بن الريّان ناطقة بجواز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان وأظفاره (١) ، وهو أعمّ من شعر نفسه وشعر غيره.

وكذلك الكلام في استصحاب الشمع والعسل وفضلات الذباب وغيرها.

ثمّ إنّ الحكم هل يشمل ما لا تتمّ الصلاة فيه أو لا؟ المشهور نعم ، وهو الأقوى.

وذهب الشيخ في النهاية والمحقّق في المعتبر إلى كراهة التكّة والقلنسوة المأخوذتين من وبرِ غير مأكول اللحم (٢).

لنا : عموم الأخبار المتقدّمة ، وخصوص صحيحة عليّ بن مهزيار قال : كتب إليه إبراهيم بن عقبة : عندنا جوارب وتكك تُعمل من وبر الأرانب ، فهل تجوز الصلاة في وبرِ الأرانب من غير ضرورة ولا تقية؟ فكتب : «لا تجوز الصلاة فيها» (٣) وبمضمونها رواية أحمد بن إسحاق الأبهري (٤).

وروى الشيخ عن الريّان بن الصلت : أنّه سأل الرضا عليه‌السلام عن أشياء منها الخفاف من أصناف الجلود ، فقال : «لا بأس بهذا كلّه إلّا الثعالب» (٥).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٧ ح ١٥٢٦ ، الوسائل ٣ : ٢٧٧ أبواب لباس المصلّي ب ١٨ ح ٢.

(٢) النهاية : ٩٨ ، المعتبر ٢ : ٨٣.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٩ ح ٩ ، التهذيب ٢ : ٢٠٦ ح ٨٠٦ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ ح ١٤٥١ ، الوسائل ٣ : ٢٥٨ أبواب لباس المصلّي ب ٧ ح ٣.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٠٦ ح ٨٠٥ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ ح ١٤٥٢ ، الوسائل ٣ : ٢٥٩ أبواب لباس المصلّي ب ٧ ح ٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٦٩ ح ١٥٣٣ ، الوسائل ٣ : ٢٧٣ أبواب لباس المصلّي ب ١٤ ح ٥.

٣٠٩

واحتجّوا بالأصل وصحيحة محمّد بن عبد الجبار ، قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه وتكّة حرير أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب : «لا تحلّ الصلاة في حرير محض ، وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصلاة فيه إن شاء الله» (١).

وفيه : أنّ الأصل لا يقاوم الدليل ، والصحيحة محجوجة بأقوى منها اعتضاداً ؛ من الشهرة والعمومات والمخالفة للعامّة وغيرها ، فهي محمولة على التقية.

مع أنّ في دلالتها أيضاً تأمّلاً ، فإنّ اشتراط الذكاة في الوبر خلاف المحقّق من حلّية ما لا تحلّه الحياة من الميّت إن أُريد من الذكاة هو المتبادر منها ، وإن أُريد بها الطهارة فلا اختصاص للوبر بهذا الجواب ، وما هو الفارق بين السؤالين.

والعدول عن الجواب على أُسلوب السؤال إيماء إلى التقيّة ، فيكون المراد من الذكاة هو كون الوبر ممّا تجوز الصلاة فيه.

وهل يختصّ الحكم بالملابس ، أو يشمل مطلق المصحوب ؛ فتبطل الصلاة بسبب الشعرات المُلقاة على الثوب من سنور أو فأرة أو نحو ذلك ، وكذلك استصحاب عظام الفيل ونحو ذلك؟ الأشهر الأظهر نعم ، للعمومات (٢).

ولقويّة إبراهيم بن محمّد الهمداني قال : كتبت إليه : يسقط على ثوبي الوبر والشعر مما لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة ، فكتب : «لا تجوز الصلاة فيه» (٣) ولا قائل بالفصل بين الوبر وغيره.

ويعضد التعميم أيضاً ما سيجي‌ء في الخزّ من قوله عليه‌السلام : «إذا حلّ وبره حلّ جلده» (٤) فيستفاد منه أنّ الجلد المصحوب أيضاً حكمة كذا.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٠٧ ح ٨١٠ ، الاستبصار ١ : ٣٨٣ ح ١٤٥٣ ، الوسائل ٣ : ٢٧٣ أبواب لباس المصلّي ب ١٤ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٧٧ أبواب لباس المصلّي ب ١٧.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٠٩ ح ٨١٩ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ ح ١٤٥٥ ، الوسائل ٣ : ٣٧٧ أبواب لباس المصلّي ب ١٧ ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٤٥٢ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٣٧٢ ح ١٥٤٧ ، الوسائل ٣ : ٢٦٥ أبواب لباس المصلّي ب ١٠ ح ١٤.

٣١٠

والرواية معتضدة بالشهرة وبالعمومات (١) ، سيّما موثّقة ابن بكير (٢).

وتؤيّده الأخبار (٣) التي وردت في النهي عن الصلاة في الثوب الذي يلي الثوب الذي هو من جلود الثعالب ، فإن الظاهر أنّ المنع من جهة توهّم لصوق الشعر به ونحو ذلك.

وحمل على الكراهة لعدم اليقين بذلك ، ومن الأصحاب من حرّمه لظاهرها (٤) ، وهو ضعيف.

وذهب الشهيدان (٥) وجماعة (٦) إلى الاختصاص بالملابس ، نظراً إلى صحيحة محمّد بن عبد الجبار المتقدّمة (٧) ، وقد مرّ الجواب عنها.

واستدلالهم بهذه الصحيحة يقوّي استدلالنا بموثّقة ابن بكير (٨) ، لاستعمال كلمة «في» في المصحوب فيها أيضاً. مع أنّ فيها قرينة أُخرى من جهة تشريك البول والروث ثمّ التأكيد بكلّ شي‌ء منه.

ولا وجه لتضعيف دلالتها بأنّ المراد منها الملابس ممّا لا يؤكل لحمه ، أو الثوب المتلطّخ بشي‌ء منه ، مع أنّ التلطّخ بالبول والروث ليس مضرّاً بخصوص أنّه من أجزاء غير المأكول اللحم أو فضلاته ، بل لأنّ الثوب نجس حينئذٍ ، هذا.

ولا يحضرني في كلامهم فيما لو نسي وصلّى مع مصاحبة شي‌ء ، وفيه إشكال من جهة عموم موثّقة ابن بكير ، ومن أنّ غاية الأمر ثبوت الاشتراط حال التذكّر ،

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٥٨ أبواب لباس المصلّي ب ٧.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٧ ح ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ ح ٨١٨ ، الوسائل ٣ : ٢٥٠ أبواب لباس المصلّي ب ٢ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٥٨ أبواب لباس المصلّي ب ٧.

(٤) النهاية : ٩٨.

(٥) الذكرى : ١٤٦ ، روض الجنان : ٢١٤.

(٦) كالمجلسي في البحار ٨٣ : ٢٢١ ، وصاحبي المدارك ٣ : ١٦٥ ، والذخيرة : ٢٣٤.

(٧) في ص ٣١٠.

(٨) المتقدّمة في ص ٣٠٨.

٣١١

والحرمة لا تستلزم الاشتراط مطلقاً ، ولا يتبادر من الموثّقة إلّا ذلك. ولعلّ عدم وجوب الإعادة أظهر حتّى في الملابس ، لأنّ الإعادة فرض جديد ، والأمر يقتضي الإجزاء ، والاحتياط في الإعادة ، سيّما في الملابس.

وخصوصاً فيما تتمّ فيه الصلاة ، وإن لم يحضرني الان دليل لوجوبه إلّا إطلاق تلك الموثّقة.

ثمّ إنّ العلامة استشكل في المنسوج من وبر الغير المأكول وغيره ممتزجاً ، نظراً إلى جواز الممتزج بالحرير (١) ، ولا وجه له ، للعمومات ، ولا يقاس على الحرير ، لوجود الدليل هنا.

وأولى من ذلك بالحكم بالبطلان فيما لو دخلت قطعة منه أو أكثر في ثوب تجوز الصلاة فيه.

وأما لو شكّ في كون الصوف والوبر من مأكول اللحم ، فمنعه في المنتهي (٢) ، لأنّ الصلاة مشروطة بالساتر الّذي لا يكون من غير المأكول ، والشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط. واستحسن الجواز في المدارك (٣) ، للأصل ، وصحيحة عبد الله بن سنان : «كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» (٤).

أقول : إن قلنا بأنّ المراد ممّا يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه في الأخبار هو ما كان كذلك في نفس الأمر كما هو الأظهر لأنّه هو مقتضى وضع الألفاظ فلا مناص عمّا ذكره في المنتهي ، وإن قيل بأنّ المراد أنّ ما علم كونه كذلك لا تجوز الصلاة فيه

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٤٦٦ ، نهاية الإحكام ١ : ٣٧٤.

(٢) المنتهي ١ : ٢٣١.

(٣) المدارك ٣ : ١٦٧.

(٤) الكافي ٥ : ٣١٣ ح ٣٩ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ح ١٠٠٢ ، التهذيب ٩ : ٧٩ ح ٣٣٧ ، الوسائل ١٢ : ٥٩ أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

٣١٢

فالوجه ما ذكره في المدارك. هذا إذا حصل الاشتباه في الأصل.

وأما لو اشتبه أحد المتيقنين بالآخر فالأقوى الاجتناب عنهما معاً كما في نظائره.

ثمّ إنّ الأصحاب استثنوا من ذلك شيئين :

الأوّل : الخز ، واختلف الأصحاب والأخبار في حقيقته ، فقيل : إنّه دابة بحريّة ذات أربع قوائم تصاد من الماء وتموت بفقده ، وتدلّ عليه رواية ابن أبي يعفور ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من الخزّازين فقال له : جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال : «لا بأس بالصلاة فيه».

فقال له الرجل : جعلت فداك إنّه ميّت ، وهو علاجي وأنا أعرفه ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «أنا أعرف به منك».

فقال له الرجل : إنّه علاجي ، وليس أحد أعرف به مني ، فتبسّم أبو عبد الله عليه‌السلام ثمّ قال : «أتقول : إنّه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج فإذا فقد الماء مات؟» ، فقال الرجل : صدقت جعلت فداك هكذا هو.

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «فإنّك تقول : إنّه دابّة تمشي على أربع وليس هو على حدّ الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء؟» فقال الرجل : إي والله هكذا أقول.

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «فإنّ الله تبارك وتعالى أحلّه وجعل ذكاته موته ، كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها» (١).

والمحقق توقّف في الرواية لضعفها (٢) واشتمالها على خلاف إجماعهم من حرمة غير ذات الفلس من السمك من حيوان البحر ، قال : وحدّثني جماعة من التجار أنّه

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٩ ح ١١ ، التهذيب ٢ : ٢١١ ح ٨٢٨ ، الوسائل ٣ : ٢٦١ أبواب لباس المصلّي ب ٨ ح ٤.

(٢) لاشتمالها على بعض المجاهيل كعبد الله بن إسحاق العلوي ، وقريب ، والضعفاء كمحمّد بن سليمان الديلمي ضعّفه الشيخ والنجاشي وابن الغضائري.

٣١٣

القندس ، ولم أتحقّقه (١).

وردّه الشهيد بأنّ مضمونها مشهور بين الأصحاب ، فلا يضرّ ضعفه ، ويجوز أن يكون المراد تشبيه الحلّ بالحلّ لا في جنس الحلال ، فالمراد حلّيّة الصلاة فيه. وقال : لعلّه ما يسمّى في زماننا بمضر وبر السمك ، وهو مشهور هناك ، ومن الناس من يزعم أنّه كلب الماء ، وعلى هذا تشكل ذكاته بدون الذبح ، لأنّ الظاهر أنّه ذو نفس سائلة (٢).

وقال الشهيد الثاني في شرح اللمعة : وكأنّها اليوم مجهولة أو مغيّرة الاسم أو موهومة ، وقد كانت في مبدأ الإسلام إلى وسطه كثيرة جدّاً (٣) ، انتهى.

وروى الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجل وأنا عنده عن جلود الخز ، فقال : «ليس بها بأس» فقال الرجل : جعلت فداك إنّها في بلادي ، وإنّما هي كلاب تخرج من الماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا أُخرجت من الماء تعيش خارجه؟» فقال الرجل : لا ، فقال : «لا بأس» (٤).

وفي رواية حمران بن أعين عن الباقر عليه‌السلام : «إنّه سبع يرعى في البرّ ويأوي الماء» (٥)

وفي الصحيح على الأظهر عن زكريا بن آدم قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام فقلت : إنّ أصحابنا يصطادون الخزّ فأكل من لحمه؟ قال ، فقال : «إن كان له ناب فلا تأكله» قال : ثمّ مكث ساعة فلما هممت بالقيام قال : «أما أنت فإنّي

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٨٤.

(٢) الذكرى : ١٤٤.

(٣) الروضة البهيّة ٧ : ٢٧٢.

(٤) الكافي ٦ : ٤٥١ ح ٣ ، علل الشرائع : ٣٥٧ ح ١ ، الوسائل ٣ : ٢٦٣ أبواب لباس المصلّي ب ١٠ ح ١.

(٥) التهذيب ٩ : ٤٩ ذ. ح ٢٠٥ ، الوسائل ١٦ : ٣٧٢ أبواب الأطعمة والأشربة ب ٣٩.

٣١٤

أكره لك أكله» (١).

وفي رواية ابن أبي يعفور وفي سندها محمّد بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أكل لحم الخز ، قال : «كلب الماء إن كان له ناب فلا تقربه ، وإلّا فاقربه» (٢).

ويمكن الجمع بين تلك الأخبار بحيث ترتفع المنافاة ، ولا تنافي القاعدة المجمع عليها من حرمة غير السمك ذي الفلس من حيوان البحر ، بأن يقال : إنه يموت بخروجه عن الماء إذا طالت مدته لئلّا ينافي رواية حمران ، أو يقال : إنّه صنفان برّي وبحري ، وكلاهما تجوز الصلاة فيه ، لكنه خلاف ظاهر مجموع الأخبار. وإن أبيت عن ذلك فهذه الرواية أولى بالطرح.

وبأنّ المراد من الشرطية في الأخبار الأُخر التنبيه على الواقع وعلّة الحرمة بأنّ يكون الخز منحصراً في ذي الناب ، فليس فيها ما يدلّ على حلّيّة أكله صريحاً.

وقال في التذكرة : لا فرق بين كونه مذكّى أو ميتاً عند علمائنا ، لأنّه طاهر في حال الحياة ، فلا ينجس بالموت (٣).

ولما عنون المسألة فيها بحكم الوبر ، ثمّ ذكر حكم الجلد في جملة الفروع ، فلا يفهم من كلامه إلّا دعوى الإجماع على طهارة الوبر من دون التذكية ، لا أنّ الجلد أيضاً لا يحتاج إلى التذكية فيكون كالغنم.

وكون ذكاته بالموت خارج الماء كالحيتان لا يستلزم كونها غير ذي نفس سائلة كما فهمه الراوي ، واستغرب (٤) ذلك مع كونها دابة ذات أربع ، حتّى يوجب ذلك حمل كلام العلامة على ما يشمل الجلد أيضاً ، لجواز كونه مستثنى من ذي النفس بهذه

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٤٩ ح ٢٠٧ ، الوسائل ١٦ : ٣٧٢ أبواب الأطعمة والأشربة ب ٣٩ ح ١.

(٢) التهذيب ٩ : ٤٩ ح ٢٠٥ ، الوسائل ١٦ : ٣٧٢ أبواب الأطعمة والأشربة ب ٣٩ ح ٢.

(٣) التذكرة ٢ : ٤٦٩.

(٤) قد تقرأ في النسخ : واستقرب.

٣١٥

الأخبار ، مع أنّها لا تجدي في الصلاة في الجلد وإن قلنا بالطهارة ، والمطلوب إنّما هو حكم الصلاة في الجلد لا طهارته.

ويمكن أن يعمّم كلامه ويقال : إنّه مبنيّ على كونها غير ذي النفس السائلة ، وإنّه لا تضرّ الصلاة في ميتة غير ذي النفس كما مرّت الإشارة ، وهو مشكل.

وكيف كان فحقيقته اليوم غير معلومة لنا ، والرجوع إلى العرف مع اختلافه واختلاف العلماء في كلّ عصر بل واختلاف العرف في أعصار السالفين كما يظهر من المحقّق (١) والشهيد الثاني (٢) وغيرهما (٣) يوجب إشكالاً عظيماً ، فيكون من باب المشتبه ، وقد مرّ الكلام في حكم المشتبه.

ثمّ إنّ استثناء الوبر ممّا لا خلاف فيه بين أصحابنا ، ونقل عليه الإجماع جماعة منهم إذا كان خالصاً عن وبر الأرانب والثعالب وغيرهما (٤).

والأخبار الصحيحة وغيرها بذلك متظافرة ، سيّما ما اشتمل على أنّهم عليهم‌السلام كانوا يلبسونها ، فإنّها بخصوصها أيضاً في غاية الكثرة ، ولا حاجة إلى ذكرها (٥).

وأما الممتزج بما ذكر فالمشهور أيضاً عدم الجواز ، ونقل غير واحد من الأصحاب كالمحقّق (٦) والعلامة (٧) وغيرهما (٨) عن كثير منهم أنّه إجماعيّ.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٨٤.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٥٢٧ ، وج ٧ : ٢٧٢.

(٣) كالشهيد في الذكرى : ١٤٤.

(٤) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٨٤ ، والعلامة في التذكرة ٢ : ٤٦٨ مسألة ١٢٢ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٧٤ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ١ : ١٧٨ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٧٨.

(٥) الوسائل ٣ : ٢٦٠ أبواب لباس المصلّي ب ٨.

(٦) المعتبر ٢ : ٨٥.

(٧) المنتهي ١ : ٢٣١ ، التذكرة ٢ : ٤٦٨ مسألة : ١٢٢.

(٨) كالشيخ في الخلاف ١ : ٥١٢ مسألة ٢٥٧ ، وصاحب الرياض ٣ : ١٦٦.

٣١٦

ويدلّ عليه عموم ما دلّ على المنع عن وبر الأرانب والثعالب ونحوهما عموماً وخصوصاً (١) ، وخصوص مرفوعة أحمد بن محمّد (٢) ، ومرفوعة أيّوب بن نوح (٣).

وأما رواية داود الصرمي قال : سألته عن الصلاة في الخزّ يغشّ بوبر الأرانب فكتب : «يجوز ذلك» (٤) ومثلها روايته الأُخرى (٥) ، فحملها الشيخ على التقيّة ، ونسبها إلى الشذوذ (٦).

ولكن الصدوق قال بعد نقلها : وهذه رُخصة ، الأخذ بها مأجور ، ورادّها مأثوم ، والأصل ما ذكره أبي في رسالته إليّ : «وصلّ في الخزّ ما لم يكن مغشوشاً بوبر الأرانب» (٧) ، ولعلّ مراده الرُّخصة في حال التقيّة.

وأما جلده فالمشهور فيه الجواز أيضاً ، ومنعه ابن إدريس ، وادّعى عدم الخلاف فيه (٨) ، واختاره العلامة في المنتهي (٩) ، والأقرب الأوّل.

لنا : الإطلاقات ، والعمومات ، منها صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج المتقدّمة (١٠) ، وموثّقة معمّر بن خلّاد قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الصلاة في الخزّ ، فقال : «صلّ فيه» (١١).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٦٢ أبواب لباس المصلّي ب ٩.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٣ ح ٢٦ ، الوسائل ٣ : ٢٦٢ أبواب لباس المصلّي ب ٩ ذ. ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٢١٢ ح ٨٣١ ، الوسائل ٣ : ٢٦٢ أبواب لباس المصلّي ب ٩ ح ١.

(٤) الاستبصار ١ : ٣٨٧ ح ١٤٧١ ، الوسائل ٣ : ٢٦٢ أبواب لباس المصلّي ب ٩ ح ٢.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٠ ح ٨٠٥ ، التهذيب ٢ : ٢١٢ ح ٨٣٤ ، الوسائل ٣ : ٢٦٢ أبواب لباس المصلّي ب ٩ ذ. ح ٢.

(٦) التهذيب ٢ : ٢١٢ ذ. ح ٨٣٤.

(٧) الفقيه ١ : ١٧٠ ح ٨٠٩.

(٨) السرائر ١ : ٢٦١.

(٩) المنتهي ١ : ٢٣١.

(١٠) في ص ٣١٤ ، وهي في الكافي ٦ : ٤٥١ ح ٣ ، وعلل الشرائع : ٣٥٧ ح ١ ، والوسائل ٣ : ٢٦٣ أبواب لباس المصلّي ب ١٠ ح ١.

(١١) التهذيب ٢ : ٢١٢ ح ٨٢٩ ، الوسائل ٣ : ٢٦١ أبواب لباس المصلّي ب ٨ ح ٥.

٣١٧

وخصوص رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة (١).

وصحيحة سعد بن سعد عن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن جلود الخز ، فقال : «هو ذا نحن نلبس» فقلت : ذاك الوبر جعلت فداك ، قال : «إذا حلّ وبره حلّ جلده» (٢) فإنّ تعليق حكم الجلد على حكم الوبر الذي جواز الصلاة فيه إجماعيّ يقتضي جواز الصلاة في الجلد.

وللمانع : الأخبار الدالّة على المنع في كلّ ما لا يؤكل لحمه (٣) ، والجواب التخصيص بتلك الأخبار.

لا يقال : إنّ النسبة بين تلك العمومات المجوّزة عموم من وجه ، فلا وجه للترجيح.

لأنّا نقول : مع أنّ لنا خاصاً مطلقاً أيضاً ، فعموماتنا معتضدة بالأصل والشهرة ، ولا تعارضها هذه العمومات.

والثاني : السنجاب ، وفيه للأصحاب قولان ، نسب الجواز إلى الأكثر العلامة (٤) ، وعدمه الشهيد الثاني (٥) ، وادّعى في المبسوط عدم الخلاف في الجواز فيه وفي الحواصل (٦) ، وظاهر ابن زهرة نقل الإجماع على العدم (٧) على ما نقل عنهما ، والأخبار فيه مختلفة.

__________________

(١) في ص ٣١٣ ، وهي في الكافي ٣ : ٣٩٩ ح ١١ ، والتهذيب ٢ : ٢١١ ح ٨٢٨ ، والوسائل ٣ : ٢٦١ أبواب لباس المصلّي ب ٨ ح ٤.

(٢) الكافي ٦ : ٤٥٢ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٣٧٢ ح ١٥٤٧ ، الوسائل ٣ : ٢٦٥ أبواب لباس المصلّي ب ١٠ ح ١٤ بتفاوت.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٥٧ أبواب لباس المصلّي ب ٦ ، ٧.

(٤) المنتهي ١ : ٢٢٨ ، وممن ذهب إلى الجواز الشيخ في النهاية : ٩٧ ، والمبسوط ١ : ٨٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٨٧ ، والمحقّق في الشرائع ١ : ٥٩ ، والمعتبر ٢ : ٨٥.

(٥) روض الجنان : ٢١٣.

(٦) المبسوط ١ : ٨٢.

(٧) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥٥.

٣١٨

ولا يبعد ترجيح الجواز للنصوص المستفيضة ، منها الصحاح ، مثل صحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : إنّه سأله عن أشياء منها الفراء والسنجاب ، فقال : «لا بأس بالصلاة فيه» (١).

ورواية مقاتل بن مقاتل قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة في السمور والسنجاب والثعالب ، فقال : «لا خير في ذلك كلّه ، ما خلا السنجاب ، فإنّه دابّة لا تأكل اللحم» (٢).

وفي رواية عليّ بن أبي حمزة قال : سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما‌السلام عن لباس الفراء إلى أن قال ، فقال : «لا بأس بالسنجاب ، فإنّه دابّة لا تأكل اللحم» (٣).

وصحيحة أبي عليّ بن راشد قال ، قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الفراء أيّ شي‌ء يصلّى فيه؟ قال : «أيّ الفراء؟» قلت : الفنك والسنجاب والسمور ، قال : «فصلّ في الفنك والسنجاب ، وأما السمور فلا تصلّ فيه» (٤).

ورواية بشير بن بشار ، قال : سألته عن الصلاة في الفنك والفراء والسنجاب والسمور والحواصل التي تصاد ببلاد الشرك أو بلاد الإسلام ، أيصلّى فيه من غير تقيّة؟ قال ، فقال : «صلّ في السنجاب والحواصل الخوارزميّة ، ولا تصلّ في الثعالب ولا السمور» (٥) إلى غير ذلك من الأخبار (٦).

ولا يضرّ بالاستدلال وجود غير السنجاب ممّا لا يرضى به الفقهاء في بعضها

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٠ ح ٨٢٥ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ ح ١٤٥٩ ، الوسائل ٣ : ٢٥٤ أبواب لباس المصلّي ب ٤ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠١ ح ١٦ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ ح ١٤٥٦ ، الوسائل ٣ : ٢٥٢ أبواب لباس المصلّي ب ٣ ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٧ ح ٣ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ ح ٧٩٧ ، الوسائل ٣ : ٢٥٢ أبواب لباس المصلّي ب ٣ ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٤٠٠ ح ١٤ ، التهذيب ٢ : ٢١٠ ح ٨٢٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ ح ١٤٥٧ ، الوسائل ٣ : ٢٥٣ أبواب لباس المصلّي ب ٣ ح ٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٢١٠ ح ٨٢٣ ، الاستبصار ١ : ٣٨٤ ح ١٤٥٨ ، الوسائل ٣ : ٢٥٣ أبواب لباس المصلّي ب ٣ ح ٤.

(٦) الوسائل ٣ : ٢٥٢ أبواب لباس المصلّي ب ٣.

٣١٩

كما مرّ غير مرّة.

احتجّ المانع بالعمومات.

وفيه : أنّها لا تقاوم الخاصّ.

فإن قيل : إنّ موثّقة ابن بكير المتقدّمة (١) مبتنية على السؤال عن الخاصّ ، فهي في حكم المنصوص بالخصوص.

قلت : نعم ، ولكنّها لا تقاوم الخاصّة الصريحة ، سيّما مع كثرتها واعتضادها بغيرها. والظاهر أنّ العاملين على الجواز أكثر.

وأما ما قيل في توجيه أخبار الجواز بالحمل على التقيّة (٢) ، ففيه : أنّها مشتملة على المنع عمّا يقول به العامّة أيضاً ، فإنّهم يجوّزون الصلاة في غير مأكول اللحم مطلقاً.

ومع هذا كلّه فالأحوط الاجتناب.

ثمّ إنّ الجواز مشروط بالتذكية ، وهو ذو نفس سائلة ؛ فميتته نجسة أيضاً.

قال في الذكرى : وقد اشتهر بين التجار المسافرين أنّه غير مذكّى ، ولا عبرة بذلك ، حملاً لتصرّف المسلمين على ما هو الأغلب (٣).

وأما السمور والفنك ، فالمشهور فيهما المنع ، وعن الصدوق في المقنع القول بالجواز (٤) ، والأخبار الواردة بجوازهما (٥) محمولة على التقيّة.

قال في المصباح المنير : إنّ الفنك نوع من جراء الثعلب الرومي ، ولهذا قال الأزهري وغيره : هو معرّب ، وحكى له بعض المسافرين أنّه يطلق على فرخ ابن أوى

__________________

(١) في ص ٣٠٨ ، وهي في الكافي ٣ : ٣٩٧ ح ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ ح ٨١٨ ، الوسائل ٣ : ٢٥٠ أبواب لباس المصلّي ب ٢ ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٢١١ ، الحدائق ٧ : ٧١.

(٣) الذكرى : ١٤٤.

(٤) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٧.

(٥) الوسائل ٣ : ٢٥٤ أبواب لباس المصلّي ب ٤.

٣٢٠