غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-250-5
الصفحات: ٦٣١

المقصد الثاني

في مكان المصلّي

وفيه مباحث :

الأوّل : تجوز الصلاة في كلّ مكان مباح من مسجدٍ ، أو مملوكة عينه أو منفعته كالمستأجر والمحتبس والموصى بمنفعته ونحوها.

أو مأذونٍ فيه صريحاً ، مثل «صلّ فيه». أو فحوًى ، كإدخال الضيف في المنزل ، أو بشاهد الحال ؛ بأن يحصل له العلم برضا المالك بسبب القرائن المفيدة له ، كالصحراء الخالية من الزرع الّتي لا يتضرّر صاحبها بذلك أصلاً ؛ على ما يظهر من كثيرٍ من عباراتهم.

فلا يكفي الظنّ «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا من طيب نفسه» كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في عدّة أخبار ، منها ما رواه في الكافي في الحسن لإبراهيم بن هاشم (١).

أقول : ولا يبعد الاكتفاء بالظنّ كما أشرنا إليه في ماء الوضوء.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٧٣ ح ١٢ ، وانظر عوالي اللآلي ١ : ٢٢ ح ٩٨ ، وج ٢ : ٢٤٠ ح ٦ ، والبحار ٨٠ : ٢٧٩ ، ٢٨٣ ، والوسائل ١٩ : ٣ أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣.

٢٠١

ولا تجب معرفة المالك وتعيينه ، بل قيل : إنه لا يضرّ في ذلك كونه لمولّى عليه أيضاً (١) ، تمسّكاً بأنّ التصرّف الذي لا يحصل له ضرر أصلاً يجوز للمولّى ، ومنه إذنه في الصلاة فيما نحن فيه ، فشهادة الحال برضا الولي تكفي في ذلك ، وإن كان هو الإمام.

مع أنّه لا تبعد دعوى أنّ في جميع الأراضي حقّ صلاة للمكلّفين بمقتضى استصحاب الإباحة الأصليّة الّتي لم يعلم زوالها في خصوص ذلك ، وبمقتضى بعض الروايات الّتي يستفاد ذلك منها ، ومن جملتها الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ الأرض كلّها جعلت مسجداً وطهوراً لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُمّته (٢) ، وسيجي‌ء بعضها ، خرج عنه ما خرج من المغصوب صريحاً ، وبقي الباقي.

ولذلك ذهب بعض المتأخّرين مع قوله بعدم اجتماع الأمر والنهي إلى صحّة الصلاة في المكان المغصوب (٣).

ويمكن الإشكال في دلالة تلك الأخبار بأنّ الظاهر منها أنّه لا يجب عليهم الصلاة في المساجد والمواضع الخاصّة كما كان لسائر الأُمم.

والمشهور بين الأصحاب بطلان الصلاة في المكان المغصوب ، أعني الغير المأذون فيه بأحد الوجوه المتقدّمة ، وادّعى عليه الإجماع السيّد المرتضى في المسائل الناصريّة وصاحب المدارك (٤) ، وهو الظاهر من العلامة حيث أسنده إلى علمائنا (٥) ، والشهيد حيث أسنده إلى الأصحاب (٦).

ويشكل ذلك مع فتوى الفضل بن شاذان من القدماء بالصحّة (٧) ، ويظهر من

__________________

(١) الذكرى : ١٥٠.

(٢) انظر الوسائل ٢ : ٩٦٩ أبواب التيمّم ب ٧ ، وج ٣ : ٤٢٢ أبواب مكان المصلّي ب ١.

(٣) انظر الحدائق الناضرة ٧ : ١٦٤.

(٤) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٩٥ مسألة ٨١ ، المدارك ٣ : ٣١٧.

(٥) نهاية الأحكام ١ : ٣٤٠ ، المنتهي ١ : ٢٤١.

(٦) الذكرى : ١٤٩.

(٧) نقله عنه في البحار ٨٠ : ٢٧٩ ، ومفتاح الكرامة ١ : ١٩٧.

٢٠٢

كلامه أنّ ذلك كان مشهوراً بين القدماء كما فهمه العلامة المجلسي أيضاً (١).

والظاهر أنّ مستندهم في الحكم هو استحالة اجتماع الأمر والنهي ، وأنّ اتّفاقهم على ذلك أيضاً مستند إليها ، ويشهد به اتّفاقهم على الصحّة إذا كان جاهلاً بالغصب كما صرّح في المدارك ، معلّلاً بأنّ البطلان تابع للنهي ، وهو إنّما يتوجّه إلى العالم (٢).

وقد حقّقنا في الأُصول عدم استحالته.

وليس في الأخبار ما يدلّ عليه.

وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل : «يا كميل انظر فيما تصلّي ، وعلى ما تصلّي ، إن لم يكن من وجهه وحلّه فلا قبول» كما روي في تحف العقول وبشارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، وكذلك قول الصادق عليه‌السلام : «لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم الله به فأنفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم ، ولو أخذوا ما نهاهم عنه فأنفقوه فيما أمرهم الله ما قبله منهم ؛ حتّى يأخذوه من حقّ وينفقوه في حقّ» (٤) فتتوقف دلالته على اتّحاد القبول والإجزاء ، وهو ممنوع.

وأمّا قوله عليه‌السلام في نهج البلاغة : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٥) فهو أيضاً لا يدلّ على ذلك كما فهمه ابن ميثم وقال : وذلك كالتقرّب في الوضوء بالماء المغصوب والصلاة في الدار المغصوبة ، والنفي هنا لذات الطاعة الشرعية كما هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وعند الشافعي يحمل على نفي الفضيلة (٦) ، انتهى.

__________________

(١) البحار ٨٠ : ٢٨٠.

(٢) المدارك ٣ : ٢١٩.

(٣) تحف العقول : ١٧٤ ، بشارة المصطفى : ٢٨ ، الوسائل ٣ : ٤٢٣ أبواب مكان المصلّي ب ٢ ح ٢.

(٤) الكافي ٤ : ٣٢ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ٣٠١ ح ١٢١ ، الوسائل ٣ : ٤٢٣ أبواب مكان المصلّي ب ٢ ح ١.

(٥) نهج البلاغة : ٥٠٠ قصار الحكم رقم ١٦٥.

(٦) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ : ٣٣٥.

٢٠٣

وذلك لأن الظاهر منه أنّه لا تجوز إطاعة المخلوق كالوالد في معصية الخالق كما في قوله تعالى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (١).

وبالجملة أدلّة المشهور لا تخلو من ضعف ، بل ليس لهم دليل إلّا شُبهة الإجماع ، فإن ثبت فهو ، وإلا فالأقوى قول الفضل بن شاذان ، للأصل ، والإطلاقات ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأخبار الكثيرة : «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (٢).

وفي المحاسن عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الأرض كلّها مسجد إلّا الحمّام» (٣) وبعض تلك الأخبار صحيحة.

وروى الشيخ في القويّ ، عن عبيد بن زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام : «الأرض كلّها مسجد إلّا بئر غائط أو مقبرة أو حمّام» (٤).

وفي المعتبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جُعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً ، أينما أدركتني الصلاة صلّيت» (٥).

ولا وجه لتوهّم اختصاصه به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما يظهر من رواية أبان بن عثمان المرويّة في الكافي (٦).

ومع ملاحظة ذلك مضافاً إلى أنّ القضاء بفرض جديد يشكل الحكم بوجوب الإعادة والقضاء فيما لو صلّى في المغصوب ، سيّما في كثيرٍ من الفروع التي تُشكل دعوى الإجماع فيها ، وسيجي‌ء بعضها ، ولكن الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

وإذا عرفت أنّ المعيار في الحكم هو اجتماع الأمر والنهي ؛ فيتفرّع عليه أنّ المعتبر

__________________

(١) لقمان : ١٥.

(٢) انظر الوسائل ٢ : ٩٦٩ أبواب التيمّم ب ٧ ، وج ٣ : ٤٢٢ أبواب مكان المصلّي ب ١ ، ومستدرك الوسائل ٢ : ٥٢٨ أبواب التيمّم ب ٥ ، وج ٣ : ٣٢٩ أبواب مكان المصلّي ب ١.

(٣) المحاسن : ٣٦٥ ح ١١٠ ، الوسائل ٣ : ٤٢٢ أبواب مكان المصلّي ب ١ ح ٣.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٥٩ ح ٧٢٨ ، الاستبصار ١ : ٤٤١ ح ١٦٩٩ ، الوسائل ٣ : ٤٢٣ أبواب مكان المصلّي ب ١ ح ٤.

(٥) المعتبر ٢ : ١١٦ ، الوسائل ٣ : ٤٢٣ أبواب مكان المصلّي ب ١ ح ٥

(٦) الكافي ٢ : ١٤ ح ١ ، المحاسن : ٢٨٧ ح ٤٣١ ، الوسائل ٣ : ٤٢٢ أبواب مكان المصلّي ب ١ ح ١.

٢٠٤

هو المغصوبية بالنسبة إلى تصرّف المصلّي ، أي المعيار حرمة تصرّف المصلّي ، فتجوز الصلاة في الدار المغصوبة إذا شهد الحال برضا المالك بها ، وإذا جهل المصلّي بالغصب ، وإذا نسيها.

ولقد أفرط في القول من قال بعدم صحّة صلاة المالك فيها أيضاً لصدق عنوان الغصب (١) ، وهو بظاهره لا يليق بأنظار العلماء.

وأمّا مع جهل الحكم فالمشهور أنّه غير معذور ، وهو كذلك إذا علم إجمالاً بالشريعة وأحكامها ، وقصّر في تحصيل تفاصيلها كما حقّقناه في محلّه.

والظاهر أنّ صورة النسيان للغاصب أيضاً كذلك إذا كان مستمرّاً على الغصب غير تائبٍ عنه ، لعدم استحالة مثل هذا التكليف بالمحال ، لكونه هو الباعث عليه.

ويظهر من جميع ما ذكرنا حكم المضطر ، كالمحبوس في المغصوب ، أو المجبور على الصلاة فيه ، والظاهر عدم الإشكال في الثاني.

وأمّا الأوّل ؛ فيمكن الإشكال في أنّ الكون المضطر إليه غير الأكوان الخاصّة للصلاة ، فيقتصر عليه ويومئ للركوع والسجود ونحوهما.

ويمكن القول بشهادة الحال عن الله تعالى ، إذ هو المجيز حينئذٍ في التصرّف.

والتحقيق أنّه إن لم يتصوّر في تفاوت الأكوان الصلاتية ومنها التيمّم إذا احتاج إليه ضرر على المالك فلا مانع منه.

وتوضيحه : أن يفرض المالك مجيزاً للكون في البيت اختياراً ، فإن استلزمت إجازته تلك رضاه بالصلاة فتجوز ، وإلّا فلا.

قالوا : وإذا ضاق الوقت وهو أخذ في الخروج صحّت صلاته ، لأنّهما حقّان مضيّقان ، فيجب الجمع بينهما بحسب الإمكان ، بأن يخرج بما يكون أقلّ ضرراً فلا معصية عليه ، للزوم التكليف بالمحال ، فتصحّ صلاته (٢).

__________________

(١) حكاه في البحار ٨٠ : ٢٨٣.

(٢) المعتبر ٢ : ١١٠ ، البيان : ١٢٩ ، جامع المقاصد ٢ : ١١٧ ، المدارك ٣ : ٢١٩.

٢٠٥

أقول : وهذا إنّما يسلّم إذا علم بالغصب حين التضيّق ، وأما قبله فلا ، لعدم استحالة التكليف بالمحال حينئذٍ كما بيّنا.

ولو دخل بإذن المالك ، ثم أمره بالخروج ، فيجب ، ولا تجوز بعده الصلاة. فعلى المشهور تبطل لو صلّى والحال هذه ، وإن ضاق الوقت فيصلّي وهو خارج سالكاً ما يقلّ الإضرار.

وإن تلبّس بالصلاة ثمّ أمره بالخروج ففي قطعها مع السعة وخروجه متشاغلاً مع الضيق عملاً بمقتضى الحقّين ، والإتمام مع الاستقرار للاستصحاب وأنّ الصلاة على ما افتتحت عليه ، والتفصيل بأن الإذن إن كان صريحاً فيستمرّ ، والعمل على الوجه الأوّل إن كان مطلقاً أقوال ، أظهرها أوسطها ، وإن كان الأوّل أيضاً لا يخلو من قوّة.

تنبيهان :

الأوّل : لا يزول شاهد الحال بطرآن الغصب على الأرض كما مرّ في الماء ؛ كما صرّح به السيّد في الصحراء ، للاستصحاب (١). والأولى تخصيص ذلك بغير الغاصب كما قيل (٢) ، عملاً بالظاهر من ملاحظة غالب الأحوال.

الثاني : إنّ حكم المشهور إذا كان مبتنياً على المسألة الأُصولية ، فالحكم يدور مع ما استلزمته الصلاة من التصرّف فالمراد بالمكان المغصوب ما يستقرّ عليه المصلّي ولو بالوسائط ، والفراغ الّذي يشغله شي‌ء من بدن المصلّي. فلا مانع من وضع ثوب مغصوب بين مسجد الجبهة والركبتين حال السجود إذا لم يلاصقه بدن المصلّي.

فحرمة السقف والجدران فقط لا تضرّ.

وفي السطح المباح القائم على الجدارين المغصوبين إشكال.

__________________

(١) نقله عنه في الذكرى : ١٥٠.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ١٣١.

٢٠٦

الثاني : لا خلاف في وجوب طهارة محلّ الجبهة وادّعى عليه الإجماع جماعة من الأصحاب (١) ، ومخالفة الراوندي وابن حمزة لو ثبتت في خصوص ما جفّفته الشمس (٢) لا تضرّ ، وتنبّه عليه صحيحة الحسن بن محبوب المتقدّمة في مطهريّة النار (٣).

والأشهر الأقوى عدم اشتراط طهارة سائر المساجد والمواضع ما لم تكن متعدية ، للأصل ، والإطلاقات ، والأخبار الصحيحة المستفيضة (٤).

وموثّقة ابن بكير عن الصادق عليه‌السلام : عن الشاذكونة يصيبها الاحتلام ، أيصلّى عليها؟ فقال : «لا» (٥) مع معارضتها بصحيحة زرارة (٦) وقويّة ابن أبي عمير (٧) في الشاذكونة بعينها لا تعارض ما تقدّم ، فتحمل على الاستحباب ، أو على المتعدّية ، أو على موضع الجبهة. ويقرّبه كون الشاذكونة مثل الخمرة سجادة صغيرة من سعف النخل كما في المغرب ، ولكن فيه أيضاً : وفراش ينام عليه (٨).

وذهب السيّد إلى اشتراط طهارة المكان كلّه (٩) ، وأبو الصلاح إلى اشتراط طهارة

__________________

(١) كالعلامة في المنتهي ١ : ٢٥٣ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٢٦ ، والمقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة ٢ : ١١٥.

(٢) نقله عنهما في المعتبر ١ : ٤٤٥ ، ٤٤٦.

(٣) الفقيه ١ : ١٧٥ ح ٨٢٩ ، التهذيب ٢ : ٢٣٥ ح ٩٢٨ ، الوسائل ٢ : ١٠٩٩ أبواب النجاسات ب ٨١ ح ١.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٤٣ أبواب النجاسات ب ٣٠.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٦٩ ح ١٥٣٦ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ ح ١٥٠١ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٤ أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٦.

(٦) الفقيه ١ : ١٥٨ ح ٧٣٩ ، التهذيب ٢ : ٣٦٩ ح ١٥٣٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ ح ١٤٩٩ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٤ أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٣.

(٧) التهذيب ٢ : ٣٧٠ ح ١٥٣٨ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ ح ١٥٠٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٤ أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٤.

(٨) المغرب ٢ : ١٦٨ الخمرة : المسجدة ، وهي حصير صغير قدر ما يسجد عليه ، سمّيت بذلك لأنّها تستر الأرض عن وجه المصلّي.

(٩) نقله عنه في إيضاح الفوائد ١ : ٩٠.

٢٠٧

المساجد السبعة (١) ، ولم نقف لأبي الصلاح على مستند.

وربّما يستدلّ (٢) لقول السيّد بما ورد من النهي في مظانّ النجاسة ، كالمجزرة والحمّام والمزبلة (٣) ، وربّما يوجّه ذلك بأنّه إذا كان مع المظنّة مكروهاً فمع اليقين يحرم ، وهو كما ترى.

والأظهر أنّ النجاسة المتعدّية إذا كانت معفوّة عنها في الثوب والبدن فلا تضرّ ، لعدم زيادة حكمها على ما لو كانت على الثوب والبدن. ونقل فخر المحقّقين عن والده الإجماع على اشتراط خلوّ المكان عنها أيضاً (٤) ، وهو بعيد.

الثالث : تستحب للرجل الصلاة في المسجد مؤكّداً ، إلّا ما استثني كالعيدين في غير مكّة كما مرّ ، وهو إجماعيّ منصوص عليه بالأخبار المستفيضة المعتبرة (٥).

وتتأكد في المسجد الحرام ، وهو أفضل من غيره ، ثمّ مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ مسجد الكوفة ، ثمّ الأقصى ، ثمّ الجامع من كلّ مصر ، ثم مسجد القبيلة ، ثم مسجد السوق.

وقد تتفاوت المساجد غير الأربعة بفضائل أُخرى ، كمسجد السهلة. وغيرها. وهذا في الفريضة.

وأمّا النافلة فالأكثرون على أنّ إيقاعها في البيت أفضل ، لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته ، إلّا المكتوبة» (٦). وغيرها

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٤٠.

(٢) كما في الإيضاح ١ : ٩٠.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٢٤٦ ح ٧٤٦.

(٤) إيضاح الفوائد ١ : ٩٠.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٧٧ أبواب أحكام المساجد ب ١ ، ٢ ، وص ٥١١ ب ٣٣.

(٦) صحيح البخاري ١ : ١٨٦ ، سنن أبي داود ٢ : ٦٩ ح ١٤٤٧ ، سنن النسائي ٣ : ١٩٨ ، مسند أحمد ٥ : ١٨٢ ، سنن البيهقي ٢ : ٤٩٤.

٢٠٨

من الأخبار المستفيضة المعتبرة (١). ويظهر من الفاضلين الإجماع على ذلك (٢).

وذهب الشهيد الثاني إلى الاستحباب (٣) ؛ للإطلاقات والخصوصات الصحيحة وغيرها الواردة في ذلك أيضاً ، وهي أيضاً كثيرة.

منها ما ورد في فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يفعل صلاة الليل في المسجد كما رواه معاوية بن وهب في الموثّق (٤) ، وصحيحة ابن أبي عمير المجوّزة لصلاة الفريضة والنافلة في مساجد المخالفين (٥).

ومنها ما روي في فضل مسجد الكوفة : «إنّ المكتوبة فيه تعدل ألف صلاة ، والنافلة تعدل خمسمائة» (٦) وفي اخرى : «الفريضة فيها تعدل حجّة ، والنافلة تعدل عمرة» (٧) إلى غير ذلك (٨).

وربّما يجمع بينها بحمل ما دلّ على رجحان فعلها في البيت على ما لو لم يأمن من نفسه عن الرياء والوسواس ، وإلّا فالمسجد أفضل ، سيّما إذا رجا اقتداء الناسبة.

وهو بعيد ، بل يظهر من الأخبار المزيّة للفعل في البيت مع قطع النظر عن ذلك أيضاً ، ففي رواية حريز المروية في الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «اتّخذ مسجداً في بيتك» (٩) الحديث.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٥٤ أبواب أحكام المساجد ب ٦٩.

(٢) المعتبر ٢ : ١١٢ ، المنتهي ١ : ٢٤٤.

(٣) نقله عنه في المدارك ٤ : ٤٠٧.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٣٤ ح ١٣٧٧ ، الوسائل ٣ : ١٩٥ أبواب المواقيت ب ٥٣ ح ١.

(٥) الكافي ٣ : ٣٧٠ ح ١٤ ، التهذيب ٣ : ٢٥٨ ح ٧٢٣ ، الوسائل ٣ : ٥٠١ أبواب أحكام المساجد ب ٢١ ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٤٩٠ ح ١ ، التهذيب ٣ : ٢٥٠ ح ٦٨٨ ، الوسائل ٣ : ٥٢١ أبواب أحكام المساجد ب ٤٤ ح ٣.

(٧) الفقيه ١ : ١٤٨ ح ٦٨٣ ، الوسائل ٣ : ٥٥٠ أبواب أحكام المساجد ب ٦٤ ح ١.

(٨) الكافي ٣ : ٤٩١ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٥١ ح ٦٨٩ ، الوسائل ٣ : ٥٢٨ أبواب أحكام المساجد ب ٤٥ ح ١.

(٩) الكافي ٣ : ٤٨٠ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٣١٤ ح ٩٧٣ ، الوسائل ٣ : ٥٥٥ أبواب أحكام المساجد ب ٦٩ ح ٢.

٢٠٩

وفي أخبار عديدة في المحاسن وقرب الإسناد منها الصحيح ومنها الموثّق «إنّ عليّا عليه‌السلام كان يتّخذ بيتاً لصلاته في الليل» (١).

وفي مجالس ابن الشيخ بإسناده ، عن أبي ذر ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : في وصيّته له ، قال بعد ما ذكر فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وأفضل من هذا كلّه صلاة يصلّيها الرجل في بيته حيث لا يراه إلّا الله عزوجل» إلى أن قال : «يا أبا ذر ، إنّ الصلاة النافلة تفضل في السرّ على الصلاة في العلانية كفضل الفريضة على النافلة» (٢) الحديث ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على فضيلة الإسرار بالنافلة (٣).

وبالجملة فدلالة هذه الأخبار على المطلوب أظهر ، والرواية المرويّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله غير واضحة السند ، وموثّقة معاوية بن وهب أيضاً ممنوعة الدلالة ، فإنّ الظاهر أنّ المراد من المسجد فيها هو مصلّاه صلى‌الله‌عليه‌وآله في البيت بقرينة آخر الرواية : «ثمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلّي الركعتين ، ثمّ يخرج إلى الصلاة».

وأمّا صحيحة ابن أبي عمير فهي لرفع توهّم الحظر ، فلا تفيد إلّا الجواز.

وأمّا ما ورد في مسجد الكوفة فهو مخصوص بمورده ، أو يكون المراد منها النوافل الموظّفة لها ، فإنّها ليست من محلّ النزاع في شي‌ء ، وكذا ما وظّف لسائر المساجد من النوافل ، وكذلك صلاة التحيّة لجميعها.

وأمّا المرأة ، فصلاتها في البيت أفضل على ما هو المعروف من الأصحاب ، المصرّح به في الأخبار ، منها حسنة هشام بن سالم : «صلاة المرأة في مخدعها أفضل

__________________

(١) المحاسن : ٦١٢ ح ٢٩ ، ٣٠ ، قرب الإسناد : ٧٥ ، وانظر الوسائل ٣ : ٥٥٥ أبواب أحكام المساجد ب ٦٩ ح ٣ ، ٤ ، ٥.

(٢) أمالي الطوسي ٢ : ١٤١ ، الوسائل ٣ : ٥٥٥ أبواب أحكام المساجد ب ٦٩ ح ٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٥٤ أبواب أحكام المساجد ب ٦٩.

٢١٠

من صلاتها في بيتها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في الدار» (١).

وفي أخبارٍ عديدة : «خير مساجد نسائكم البيوت» (٢).

وفي مكارم الأخلاق عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلاة المرأة وحدها في بيتها كصلاتها في الجمع خمساً وعشرين درجة» (٣).

الرابع : أجمع العلماء على استحباب السترة والظاهر أنّ السرّ في استحبابها هو دفع مضرّة المارّة ، فإنّه أيضاً مستحبّ ؛ للأخبار الكثيرة ، مثل حسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل أيقطع صلاته ممّا يمرّ بين يديه؟ فقال : «لا يقطع صلاة المسلم شي‌ء ، ولكن ادرأ ما استطعت» (٤) وفي معناها موثّقة ابن أبي يعفور (٥).

وموثّقة أبي بصير عنه عليه‌السلام : «لا يقطع الصلاة شي‌ء ؛ كلب ولا حمار ولا امرأة ، ولكن استتروا بشي‌ء ، فإن كان بين يديك قدر ذراع رافع من الأرض فقد استترت» (٦).

وصحيحة أبي بصير عنه عليه‌السلام ، قال : «كان طول رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذراعاً ، وكان إذا صلّى وضعه بين يديه يستتر به ممّن يمرّ بين يديه» (٧) إلى

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥٩ ح ١١٧٨ ، الوسائل ٣ : ٥١٠ أبواب أحكام المساجد ب ٣٠ ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٤ ح ٧١٩ ، التهذيب ١ : ٢٥٢ ح ٦٩٤ ، الوسائل ٣ : ٥١٠ أبواب أحكام المساجد ب ٣٠ ح ٢ ، ٤.

(٣) مكارم الأخلاق : ٢٣٣ ، الوسائل ٣ : ٥١٠ أبواب أحكام المساجد ب ٣٠ ح ٥.

(٤) الكافي ٣ : ٣٦٥ ح ١٠ ، التهذيب ٢ : ٣٢٣ ح ١٣٢٢ ، الاستبصار ١ : ٤٠٦ ح ١٥٥٣ ، الوسائل ٣ : ٤٣٥ أبواب مكان المصلّي ب ١١ ح ٨.

(٥) الكافي ٣ : ٢٩٧ ح ٣ ، التهذيب ٢ : ٣٢٢ ح ١٣١٨ ، الوسائل ٣ : ٤٣٥ أبواب مكان المصلّي ب ١١ ح ٩.

(٦) الكافي ٣ : ٢٩٧ ح ٣ ، التهذيب ٢ : ٣٢٣ ح ١٣١٩ ، الاستبصار ١ : ٤٠٦ ح ١٥٥١ ، الوسائل ٣ : ٤٣٥ أبواب مكان المصلّي ب ١١ ح ١٠.

(٧) الكافي ٣ : ٢٩٦ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ٣٢٢ ح ١٣١٧ ، الاستبصار ١ : ٤٠٦ ح ١٥٤٩ ، الوسائل ٣ : ٤٣٧ أبواب مكان المصلّي ب ١٢ ح ٢.

٢١١

غير ذلك من الأخبار (١).

والظاهر أنّ المراد من دفع مضرّة المارّة والاستتار من المارّة هو ما يعمّ دفع ضررها بتوجّه الخاطر إليها ، وتشويش الحواسّ بسببها ، ومانعيّتها عن أفعال الصلاة ، وغير ذلك.

فالمطلوب أوّلاً وبالذات هو منعها من المرور مع الإمكان ، ثمّ تقليل أذيّتها ولو بجعل شي‌ء بينه وبينها ، وسواء منعها عن الأذيّة ولو بسبب الالتفات بأن يكون حاجزاً رأساً ، أو لا ، فيكون مثل العصا والعنزة والقلنسوة والخط تصويراً للحاجز حسب ما أمكن تأديباً للنفس ، وتذكيراً وتوجيهاً لها إلى مكان معيّن ، حتّى لا تتفرّق.

وكأن ذلك تحديداً للنفس حتّى لا يمرّ عليها شي‌ء من الخواطر ، فكما يستحبّ هذا التحديد لئلّا تمرّ المارّة الظاهريّة تجاه وجهه الظاهري ، فكذا يكون تنبيهاً على أنه لا بدّ أن لا يمرّ على خاطره شي‌ء من الخواطر ، فالمطلوب التحرّز عن آفة المارّة الظاهريّة والباطنية ولو بمثل الخطّ ونحوه.

وعلى هذا فالحكمة في السترة باقية ولو أمِنَ هناك من ورود مارّة ، ولذلك عمّ استحبابها.

ولذلك يكره المرور بين يدي المصلّي أيضاً ، سواء كان له سترة أم لا ، وحرّمه بعض العامّة (٢) لرواية أبي جهم الأنصاري : «لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه» (٣).

ثمّ إنّ الظاهر من هذه الأخبار استحباب التحرّز عن آفة المارّة ، وقد يفهم منها التسلّط على الدفع بمعنى أنّه لو قام المصلّي في أرض مباحة الأصل يحصل له

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٦ أبواب مكان المصلّي ب ١٢.

(٢) المغني لابن قدامة ٢ : ٧٥ ، نيل الأوطار ٣ : ٩.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٩٩ ، سنن البيهقي ٢ : ٢٦٨.

٢١٢

الأولوية في ذلك المكان حتّى يحصل له هذا التسلّط ، حتّى أنّ بعض العامّة جوّز المدافعة والمقاتلة في المنع (١).

وفرّع على ذلك الإشكال في أنّ جواز الدفع وكراهة المرور بين يديه هل هو مختصّ بمن استتر لأنّه لم يقصّر في حقّ نفسه ولم يضيعه حيث جعل لنفسه ما يحصل له الحقّ ، بخلاف من لم يجعل لنفسه ذلك ، فإنّه قد ضيع حقّ نفسه ، فإنّ في بعض الأخبار أنّه لا تضرّ المارّة بعد وضع السترة ، مثل صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : عن الرجل يصلّي وأمامه حمار واقف ، قال : «يضع بين يديه وبينه قصبة أو عوداً أو شيئاً يقيمه بينهما ثمّ يصلّي فلا بأس» (٢) ، أو مطلق ، نظراً إلى إطلاق حسنة الحلبي (٣) وغيرها من الأخبار (٤)؟

قال في الذكرى : ويمكن أن يقال بحمل المطلق على المقيّد ، يعني أنّ تجويز الدفع إنّما هو للمستتر (٥).

أقول : وهو بعيد ، إذ ظاهر الأوامر في هذه الأخبار رجحان المنع والتحرّز عن مضرّتها ، وهو تابع لما ثبت جوازه ، لا أنّ تلك الأخبار مثبتة للتسلّط ومجوّزة للتصرّف الموصوف ، فيكون معناه : اختر مكاناً للصلاة لا تتضرّر فيه من المارّة.

ويؤيّده ذكر الكلب والحمار وغيرهما ، فإنّه لا معنى لدفعهما بسبب الأولوية والأحقيّة ، بل المراد فعل ما يدفع به الضرر ، فإبقاؤها على إطلاقها أحسن ، فإنّك قد عرفت من ملاحظة الأخبار أنّ السترة أخفى أفراد الدرء والمنع ، لا أنّه شي‌ء مغاير لها ومباين لها.

__________________

(١) كما في نيل الأوطار ٣ : ٧.

(٢) الفقيه ١ : ١٦٤ ح ٧٧٥ ، قرب الإسناد : ٨٧ ، الوسائل ٣ : ٤٣٣ أبواب مكان المصلّي ب ١١ ح ١ ، ٢.

(٣) المتقدّمة آنفاً.

(٤) انظر الوسائل ٣ : ٤٣٥ أبواب مكان المصلّي ب ١١ ح ٨ ، ٩.

(٥) الذكرى : ١٥٤.

٢١٣

ويستحبّ الدنوّ من السترة ؛ للخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وقدّره ابن الجنيد بمربض شاة (٢) ، لخبر سهل الساعدي (٣) ، وفي صحيحة عبد الله بن سنان في الفقيه حدّد أقلّه بمربض شاة ، وأكثره بمربط فرس (٤).

وتتحقّق السترة بالقرب من الحائط والسارية ، وبالعنزة ، والرحل ، والقلنسوة ، والكومة من التراب ، وبخطّ يخطّه بين يديه ، كما ورد في الأخبار (٥).

والظاهر أنّ الخطّ يُخطّ عرضاً ، وقال بعض العامّة : طولاً أو مدوّراً أو كالهلال (٦).

ولا بأس بترك السترة في مكّة كما يستفاد من حسنة معاوية بن عمّار (٧) وغيرها (٨) ، لازدحام الناس فيها ، وإن كان ذلك لا ينافي استحبابها.

الخامس : المشهور بين المتأخّرين أنّه يكره لكلّ من الرجل والمرأة أن يصلّي بحذاء الأخر سواء صلّت بصلاته أم لا ، أو تصلّي المرأة قدّام الرجل.

وذهب الشيخان (٩) وجماعة إلى التحريم والبطلان (١٠) ، وادّعى في الخلاف عليه

__________________

(١) كنز العمّال ٧ : ٣٤٦ ح ١٩٢٠٢ ، ١٩٢١٠ ، ١٩٢١١.

(٢) نقله عنه في الذكرى : ١٥٣.

(٣) الذكرى : ١٥٣ ، البحار ٨٣ : ٣٠١ ، مستدرك الوسائل ٣ : ٣٣٦ أبواب مكان المصلّي ب ٨ ح ٧ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٢٥.

(٤) الفقيه ١ : ٢٥٣ ح ١١٤٥ ، الوسائل ٣ : ٤٣٧ أبواب مكان المصلّي ب ١٢ ح ٦.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٣٦ أبواب مكان المصلّي ب ١٢.

(٦) انظر المغني لابن قدامة ٢ : ٧.

(٧) الكافي ٤ : ٥٢٦ ح ٧ ، التهذيب ٥ : ٤٥١ ح ١٥٧٤ ، المحاسن : ٣٣٧ ح ١١٧ ، الوسائل ٣ : ٤٣٥ أبواب مكان المصلّي ب ١١ ح ٧.

(٨) سنن أبي داود ٢ : ٢١١ ح ٢٠١٦ ، مسند أحمد ٦ : ٣٩٩.

(٩) المقنعة ١٥٢ ، النهاية : ١٠٠.

(١٠) كأبي الصلاح في الكافي : ١٢٠ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٨٩ ، وابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٩٦.

٢١٤

الإجماع (١) ، واعتبر الجعفي في صحّة صلاة من بحياله امرأة تصلّي قدر عظم الذراع (٢).

والأوّل أقرب ، حملاً للنهي الوارد في بعض الأخبار (٣) على الكراهة ، جمعاً بينها وبين الأخبار الصحيحة وغيرها المنافية لها ، المصرّحة بعضها بنفي البأس مطلقاً كصحيحة جميل (٤) ، وبعضها مقيّداً بفصل لا يرضى به المحرّمون (٥) ، لكونها أصحّ وأكثر ، ومعتضدة بالأصل والإطلاقات والعمومات ونفي العسر والحرج ، وإشارة بعض الأخبار إليه مثل أدائها بلفظ «لا ينبغي» (٦).

ومثل ما رواه في العلل في الصحيح ، عن الفضيل عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّها تَبُكّ (٧) فيها الرجال والنساء ، والمرأة تصلّي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك ومعك ، ولا بأس بذلك ، وإنّما يكره في سائر البلدان» (٨) وغير ذلك مع اختلافها غاية الاختلاف في تحديد الحاجز بينهما الرافع للمرجوحيّة ؛ المشعر بالكراهة ، المحمول على مراتبها.

واحتجّ المحرّمون بموثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن الرجل يستقيم له أن يصلّي وبين يديه امرأة تصلّي؟ قال : «لا يصلّي حتّى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع ، وإن كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك ، فإن كانت تصلّي خلفه فلا بأس وإن كانت تصيب

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٢٤.

(٢) نقله عنه في الذكرى : ١٥٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٢٧ أبواب مكان المصلّي ب ٥.

(٤) الفقيه ١ : ١٥٩ ح ٧٤٩ ، الوسائل ٣ : ٤٢٦ أبواب مكان المصلّي ب ٤ ح ٤.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٢٧ أبواب مكان المصلّي ب ٥.

(٦) الكافي ٣ : ٢٩٨ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٣٠ ح ٩٠٥ ، الوسائل ٣ : ٤٢٧ أبواب مكان المصلّي ب ٥ ح ١.

(٧) في «ص» والوسائل : يبتك. وفي النهاية لابن الأثير ١ : ١٥٠ بكك : ازدحم ، ويَبُكّ : يزحم ويدفع.

(٨) علل الشرائع : ٣٩٧ ح ٤ ، الوسائل ٣ : ٤٢٩ أبواب مكان المصلّي ب ٥ ح ١٠.

٢١٥

ثوبه» (١) وصحيحة محمّد بن مسلم الاتية ، وصحيحة عليّ بن جعفر (٢).

والجواب فيها : عدم وضوح دلالة الأخيرة ، وحمل الأُوليين على الكراهة ، سيّما وصحيحة محمّد بن مسلم تعطي عدم جواز صلاة المزاملين في المحمل وإن كان بينهما ساتر ، فلا بد من تقييدها بغيره ، وذلك أيضاً ممّا يوهنها.

مع أنّ موثّقة عمّار لم يعمل بها المحرّمون في تحديد الفصل ، فإنّهم اكتفوا بالعشرة.

وقد يتوهّم أنّه لا معارض للموثّقة وما في معناها في صورة التقدّم ، فليعمل على المنع فيها.

وفيه : أنّه لا قائل بالفصل ، وقد مرّت صحيحة الفضيل.

وتدلّ عليه أيضاً صحيحة ابن أبي يعفور : أُصلّي والمرأة إلى جنبي وهي تصلّي؟ فقال : «لا ، إلّا أن تتقدّم هي أو أنت» (٣) فإنّ الظاهر أنّ المراد التقدّم بالنفس لا بالصلاة ، وفيه تأمّل.

ومما يؤيد ما ذكرنا اختلاف الأخبار الواردة في حدّ التقدّم والتأخّر ، ففي بعضها بشبر ، وفي بعضها بصدر المصلّي ، وفي بعضها بجعل سجودها مع ركوعه ، إلى غير ذلك (٤).

ثمّ إنّ المرجوحيّة تزول بالحائل والفصل بمقدار عشرة أذرع ، وادّعى عليه الإجماع في المعتبر (٥) ، ويدلّ عليه الأصل في الحائل أيضاً ، ولكن يشكل أمر المحرّمين نظراً إلى الموثّقة (٦).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٣١ ح ٩١١ ، الاستبصار ١ : ٣٩٩ ح ١٥٢٦ ، الوسائل ٣ : ٤٣٠ أبواب مكان المصلّي ب ٧ ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٢ ح ٩١٣ ، وص ٣٧٩ ح ١٥٨٣ ، الوسائل ٣ : ٤٣٢ أبواب مكان المصلّي ب ٩ ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٣١ ح ٩٠٩ ، الوسائل ٣ : ٤٢٨ أبواب مكان المصلّي ب ٥ ح ٥.

(٤) انظر الوسائل ٣ : ٤٢٧ أبواب مكان المصلّي ب ٥ ، ٦.

(٥) المعتبر ٢ : ١١١.

(٦) وهي موثّقة عمّار المتقدّمة.

٢١٦

نعم روى الحميري في قرب الإسناد ، عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي الضحى وأمامه امرأة تصلّي بينهما عشرة أذرع ، قال : «لا بأس ، ليمضِ في صلاته» (١).

والأحوط في التقدير إذا تقدّمت ابتداؤه من موضع السجود ، وإن احتمل اعتباره من الموقف. وأمّا إذا كانت إلى جانبه فلا يتفاوت الأمر.

قال في المدارك : ولو كان أحدهما على مرتفع بحيث لا يبلغ من موقف الأخر إلى أساس ذلك المرتفع عشرة أذرع ، ولو قدر إلى موقفه إما مع الحائط مثلاً أو ضلع المثلث الخارج من موقفه إلى موقف الأخر بلغه ففي اعتبار أيّها نظر ، ويحتمل قويّاً سقوط المنع مع عدم التساوي في الموقف (٢) ، انتهى.

والأظهر ما قوّاه ، لعدم تبادره من الأخبار ، والأصل يعضده.

والظاهر الاكتفاء بتقدّم الرجل بمقدار شبر في رفع المرجوحيّة ، وادّعى العلامة الإجماع عليه (٣) ، وهو مقتضى بعض الأخبار (٤) ، ومطابق للأصل والإطلاقات المقتضية للتقدّم.

والأفضل تقدّمه بجميع بدنه ، ثم بأقلّ منه متنزّلاً إلى أن يبلغ الشبر.

وظاهر الحائل أن يكون جسماً ، فلا تعتبر الظلمة والعمى وتغميض العين.

وفي اعتبار المنع عن الرؤية وعدمه وجهان ، لظهور الاعتبار بما ورد بلفظ الستر مثل ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر (٥) ، وعدمه من صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل في مسجد حيطانه كوى كلّه قبلته

__________________

(١) قرب الإسناد : ٩٤ ، الوسائل ٣ : ٤٣١ أبواب مكان المصلّي ب ٧ ح ٢.

(٢) المدارك ٣ : ٢٢٤.

(٣) المنتهي ١ : ٢٤٣.

(٤) الكافي ٣ : ٢٩٨ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٣٠ ح ٩٠٥ ، الوسائل ٣ : ٤٢٧ أبواب مكان المصلّي ب ٥ ح ١.

(٥) مستطرفات السرائر ٣ : ٥٥٥ ، الوسائل ٣ : ٤٣١ أبواب مكان المصلّي ب ٨ ح ٣.

٢١٧

وجانباه ؛ وامرأته تصلّي حياله يراها ولا تراه ، قال : «لا بأس» (١) وهو أيضاً قرينة على الكراهة.

ثمّ إنّ الحكم بفساد الصلاة بل وحرمتها إنّما يتمّ إذا لم يعلم فساد أحدهما ، فإذا علم به فتصحّ صلاة الأخر إذا علم به قبل الشروع ، إذ الفاسدة كالعدم ، وإلا فهو عاصٍ بظنه غير ممتثل لربّه كمن جامع امرأة بمظنّة الأجنبيّة فيبطل.

ولو لم يعلم أحدهما بالآخر صحّت صلاتهما إن علما بعد الفراغ ، ويستمرّان على الأقوى لو علما في الأثناء. وكذلك الحكم بالنسبة إلى أحدهما لو جهل أوّلاً.

ثمّ إن شرع أحدهما قبل الأخر ؛ فاللاحقة باطلة خاصّة ، وإن اقترنتا بطلتا ؛ لعدم المرجّح ، هذا كلّه مع الاختيار.

أما مع الاضطرار فلا تحريم ولا كراهة كذا ذكروه (٢).

ويشكل ذلك بأنّه يتمّ إن لم يكن ذلك من الأحكام الوضعية ، ولكن الظاهر أنّ الحكم طلبي. مع أنّ الأصل عدم الاشتراط حيث حصل الشك في الشرطية.

ولو حصلا في موضع لا يتمكّنان من التباعد ، فإن ضاق الوقت يصلّيان معاً ، لبقاء التكليف جزماً ، واستحالة التكليف بما لا يطاق ، وإلا فيصلّي الرجل أوّلاً ، لصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصلّيان جميعاً؟ فقال : «لا ، ولكن يصلّي الرجل ، فإذا فرغ صلّت المرأة» (٣).

والظاهر استحباب ترخيص المرأة له وإن كان ملكاً لها ، ولا يجب عليها التأخّر.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٧٣ ح ١٥٥٣ ، مسائل عليّ بن جعفر : ١٤٠ ح ١٥٩ ، الوسائل ٣ : ٤٣١ أبواب مكان المصلّي ب ٨ ح ١ ، وكوى : جمع كوّة بالضمّ ، وهي الثقبة في الحائط. انظر المصباح المنير : ٥٤٥.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٨٩ ، الحدائق ٧ : ١٩١.

(٣) الكافي ٣ : ٢٩٨ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٣١ ح ٩٠٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٩ ح ١٥٢٢ ، الوسائل ٣ : ٤٢٧ أبواب مكان المصلّي ب ٥ ح ٢.

٢١٨

ويشكل في المباح المشترك إذا لم ترضَ المرأة بالتقدّم ، فهل ذلك حقّ للرجل أو المراد استحباب العمل عليه؟ الأظهر الثاني ، للأصل. ويمكن العمل بالقرعة لو تشاحّا.

السادس : تكره الصلاة بين القبور كما هو مقتضى الجمع بين الأخبار المجوّزة مثل صحيحة عليّ بن يقطين (١) ، وصحيحة عليّ بن جعفر (٢) ، والأخبار المانعة مثل رواية عبد الله بن الفضل (٣) ، ورواية النوفلي (٤) ، ورواية يونس بن ظبيان (٥).

وموثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام في حديث ، قال : سألته عن الرجل يصلّي بين القبور ، قال : «لا يجوز ذلك ، إلّا أن يجعل بينه وبين القبور إذا صلّى عشرة أذرع من بين يديه ، وعشرة أذرع من خلفه ، وعشرة أذرع عن يمينه ، وعشرة أذرع عن يساره» (٦).

ويتأكّد إذا جعل القبر قُدّامه ، وحرّمه المفيد (٧) ، وقد يستدلّ له برواية معمّر بن خلّاد عن الرضا عليه‌السلام ، قال : «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتّخذ القبر قبلة» (٨). وهي مع سلامة سندها دلالتها ممنوعة.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٧٤ ح ١٥٥٥ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ ح ١٥١٥ ، الوسائل ٣ : ٤٥٣ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٨ ح ٧٣٧ ، قرب الإسناد : ٩١ ، الوسائل ٣ : ٤٥٣ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٠ ح ١٢ ، الفقيه ١ : ١٥٦ ح ٧٢٥ ، التهذيب ٢ : ٢١٩ ح ٨٦٣ ، المحاسن : ٣٦٦ ح ١١٦ ، الوسائل ٣ : ٤٥٤ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ٦.

(٤) المحاسن : ٣٦٥ ح ١١٠ ، الوسائل ٣ : ٤٥٤ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ٧.

(٥) التهذيب ١ : ٤٦١ ح ١٥٠٤ ، وج ٣ : ٣٠١ ح ٤٦٩ ، الاستبصار ١ : ٤٨٢ ح ١٨٦٩ ، الوسائل ٣ : ٤٥٤ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ٨.

(٦) الكافي ٣ : ٣٩٠ ح ١٣ ، التهذيب ٢ : ٢٢٧ ح ٨٩٦ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ ح ١٥١٣ ، الوسائل ٣ : ٤٥٣ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ٥.

(٧) المقنعة : ١٥١.

(٨) التهذيب ٢ : ٢٢٨ ح ٨٩٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ ح ١٥١٤ ، الوسائل ٣ : ٤٥٣ أبواب مكان المصلّي ب ٢٥ ح ٣.

٢١٩

وفي إلحاق القبر والقبرين بالمقابر تردّد ، والأظهر العدم إلّا في جانب القبلة ، لما تشعر به رواية معمّر ، ويستشمّ من صحيحة الحميري الاتية.

ثمّ إنّ الكراهة تزول بالفصل المذكور في الموثّقة ، وضمّ الأصحاب إليه الحائل ، واكتفوا فيه ولو بمثل عنزة ، ولا بأس بمتابعتهم ، سيّما والمتبادر من الأخبار المانعة هو ذلك. ويؤيّده اعتبار ذلك في الفصل بين الرجل والمرأة.

ولكن في التحديد بمثل العنزة تأمّل ، وفي رفع الكراهة بسترها بالفرش تأمّل.

ثمّ إنّ المفيد (١) عمّم المنع عن الصلاة إلى القبور لقبور الأئمة عليهم‌السلام أيضاً ، وتدفعه الأخبار الكثيرة الواردة في زيارة الحسين عليه‌السلام وغيرها.

ومنها صحيحة الحميري ، قال : كتبت إلى الفقيه عليه‌السلام أسأله عن الرجل يزور قبور الأئمّة عليهم‌السلام ، هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا؟ وهل يجوز لمن صلّى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ؛ ويقوم عند رأسه ورجليه؟ وهل يجوز أن يتقدّم القبر ويصلّي ويجعله خلفه أم لا؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت : «أمّا السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة ، بل يضع خدّه الأيمن على القبر ، وأمّا الصلاة فإنّها خلفه يجعله الإمام ، ولا يجوز أن يصلّي بين يديه ، لأنّ الإمام لا يتقدّم ، ويصلّي عن يمينه وشماله» (٢).

وروى الطبرسي في الاحتجاج ، عن الحميري ، عن صاحب الزمان عليه‌السلام مثله ، إلّا أنّه قال : «ولا يجوز أنّ يصلّي بين يديه ، ولا عن يمينه ، ولا عن شماله ؛ لأنّ الإمام لا يتقدّم ولا يساوى» (٣).

قال في الوسائل : الظاهر تعدّد الرواية والمرويّ عنه ، والأولى محمولة على

__________________

(١) المقنعة : ١٥٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٢٨ ح ٨٩٨ ، الوسائل ٣ : ٤٥٤ أبواب مكان المصلّي ب ٢٦ ح ١ ، ٢.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٤٩٠.

٢٢٠