غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-250-5
الصفحات: ٦٣١

إتمامها وإن تبدّل أربعة منها بأربعة اخرى ، وهو منطبق على صحيحة أبي ولّاد ، وتدلّ عليه أيضاً رواية إسحاق بن عمّار (١).

وذهب الفاضلان (٢) وبعض المتأخّرين (٣) إلى اشتراط كون ذلك في رأس ثمانية فراسخ ، وإلّا فيرجع إلى التمام.

ونظرهم إلى اعتبار امتداد الثمانية ، أو أنّ المتبادر من المسافة هي ما كانت منظورة بشخصها ، وحصول الاستمرار فيها بعينها ، لا في مطلق المسافة.

والأظهر عندي قول الشيخ ، لخصوص صحيحة أبي ولّاد ، ورواية إسحاق بن عمّار (٤) ، وعمومات أدلّة المسافة ، وللعلّة المستفادة للتقصير من اعتبار المسافة كيف ما كان.

وهل يعيد ما صلّى قصراً لو حصل الانتظار قبل قطع المسافة المعتبرة؟ قيل : لا ، لأن الأمر يقتضي الإجزاء (٥) ، ولخصوص صحيحة زرارة (٦).

وقيل : نعم في الوقت (٧) ، لصحيحة أبي ولّاد (٨) ، ورواية المروزي (٩).

والأوّل أقوى ، لأنه أوفق بالأصل والاعتبار ، وزرارة أصدع بالحقّ ، مع أنّ التفصيل بالوقت أيضاً غير مستفاد.

الرابع : أن لا يجمع قصد المسافة مع نيّة إقامة عشرة أيام في أثناء المسافة وأن

__________________

(١) المتقدّمتان في ص ١٠٠.

(٢) المحقّق في المعتبر ٢ : ٤٦٨ ، والعلّامة في المنتهي ١ : ٢٩١.

(٣) المدارك ٤ : ٤٤٠.

(٤) المتقدّمتان في ص ١٠٠.

(٥) المدارك ٤ : ٤٤٠.

(٦) الفقيه ١ : ٢٨١ ح ١٢٧٢ ، الوسائل ٥ : ٥٤١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٣ ح ١.

(٧) الاستبصار ١ : ٢٢٨.

(٨) التهذيب ٣ : ٢٩٨ ح ٩٠٩ ، الوسائل ٥ : ٥٠٤ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٩) التهذيب ٤ : ٢٢٤ ح ٦٦٤ ، الاستبصار ١ : ٢٢٧ ح ٨٠٨ ، الوسائل ٥ : ٤٩٥ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٤.

١٠١

لا تعرض له نيّة الإقامة في أثنائها أيضاً.

أما الثاني فوفاقيّ ، مدلول عليه بالأخبار الصحيحة ، فهي قاطعة للسفر (١). واكتفى ابن الجنيد بالخمسة (٢) لبعض الأخبار (٣) ، وهو شاذّ.

وأما الأوّل ، فالظاهر عدم الخلاف فيه أيضاً ، بل اشترط الشهيد نيّة عدم الإقامة في الابتداء (٤) ، ولا يدلّ على أصل الحكم نصّ بالخصوص ؛ فضلاً عما ذكره الشهيد.

نعم : يستفاد من تتبّع الأخبار ، سيّما من ملاحظة الجمع بين أخبار المسافة وما دلّ على اتّحاد حكم الإقامة مع الوطن وغيرها.

وظاهر اتفاقهم على أنّ الرجوع إلى التقصير بعد الإقامة يحتاج إلى إنشاء سفرٍ جديد أنّ من يريد مسافة يريد في أثنائها الإقامة بعينها مثل من يريد وطنه الذي يكون دون المسافة.

والمعتبر العشرة العرفيّة ، فيكفي طلوع الشمس وغروبها في اليوم ، ولا يحتاج إلى الليل في الأوّل ، ولا يعتبر التلفيق كالاعتكاف والعدّة.

وهل يشترط التوالي بحيث لا يخرج ما دام مقيماً إلى حدّ الترخّص؟ اشترطه الشهيدان (٥) ، وبالغ الثاني في نتائج الأفكار حتّى نفى القول برخصة الخروج المذكور من جميع مَن تعتبر فتواهم ؛ (٦).

والأظهر اعتبار العرف في ذلك ، فلو نوى ما يقال له في العرف : إنه أقامه في تلك البلد فهو يكفي وإن انضمّ إليه الخروج إلى بعض الحدود ، وكذلك لا يضرّ

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٥٢٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٥.

(٢) نقله عنه في المختلف ٣ : ١١٣.

(٣) التهذيب ٣ : ٢١٩ ح ٥٤٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٨ ح ٨٤٩ ، الوسائل ٥ : ٥٢٧ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٢.

(٤) الذكرى : ٢٥٦.

(٥) البيان : ٢٦٦ ، روض الجنان : ٣٩٩.

(٦) نتائج الأفكار (رسائل الشهيد الثاني) : ١٧٦.

١٠٢

إذا طرأ الخروج في الأثناء.

ونقل فيه عن فخر المحقّقين أيضاً القول بعدم ضرر الخروج إلى القرى المتقاربة والمزارع الخارجة عن الحدود سواء (قارنت) (١) النيّة الأُولى أم لا ، لكن ذكر أنّ النسبة غير موثوق بها (٢).

ثمّ إنّ المستفاد من الأخبار (٣) والأدلّة أنّ ناوي الإقامة حكمه التمام ما دام مقيماً ، وحكمه حكم من وصل إلى الوطن.

وظاهر أكثرهم بل المجمع عليه على ما صرّح به الشهيد الثاني (٤) وإن كان فيه تأمّل توقّف الرجوع إلى القصر على قصد مسافة جديدة إن لم يكن في نيّته ذلك.

وتدلّ عليه صحيحة أبي ولّاد (٥) ، فإنه كوفيّ وخروجه إلى المدينة كان إلى صوب المقصد ، وهو مسافة.

فمن طرأ له الخروج ؛ فإن لم يصدق عليه عرفاً أنه خارج عن الإقامة ، وقيل له : إنه مقيم ؛ فلا يقصّر لوجهين ، الأوّل : كونه مقيماً في البلد وفرضه التمام حتّى يرتفع عنه هذا الوصف كما يظهر من صحيحة أبي ولّاد ، فإن الظاهر من قوله عليه‌السلام : «حتى يخرج» حتى يسافر.

والثاني : أنّ الرجوع إلى القصر يحتاج إلى إنشاء مسافة جديدة لو لم ينوها أوّلاً.

ويقع الإشكال فيما لو خرج إلى دون المسافة ، وخرج عن كونه مقيماً في هذا البلد عرفاً ، فإن أراد إقامة جديدة بعد العود فيتمّ مطلقاً بلا خلاف ظاهر ، وادّعى عليه

__________________

(١) في «م» ، «ح» : فاتت.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٦٦.

(٣) الوسائل ٥ : ٥٢٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٥.

(٤) نتائج الأفكار (رسائل الشهيد الثاني) : ١٧٤.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٩٨ ح ٩٠٩ ، الوسائل ٥ : ٥٠٤ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

١٠٣

الشهيد الثاني الإجماع (١) ، وإلّا فالذي تقتضيه الأُصول المتقدّمة المستفادة من تتبّع الأقوال والأخبار ، وأنّ الأصل في الصلاة التمام كما يستفاد من الغلبة واستصحاب حال المكلّف وأهليّته لذلك ؛ أنّه يتمّ حتّى يريد مسافة تامّة ، وهو الظاهر من الأكثر.

والذي يقتضيه عموم ما دلّ على أنّ المسافر يقصّر من الآية (٢) والأخبار الكثيرة (٣) سيّما مع حصول القصد إلى المسافة المعتبرة ابتداء ، أنه يقتصر في التمام فيما دلّ عليه الدليل في حال الإقامة ، فيبقى الباقي تحته ، فيلزمه القصر وإن لم يكن الباقي مقدار المسافة ، وهو ظاهر بعضهم (٤).

ويظهر من آخر التفصيل ، فيتمّ ذاهباً لعدم قصد المسافة الجديدة ، ويقصّر ائباً ، لكون مقصده الرجوع إلى بلده في الجملة مع عدم قصد الإقامة. واختلف كلامه في ذلك المكان الذي يذهب إليه ، ونظره إلى عدم انضمام الذهاب إلى الإياب كما هو ظاهر الأكثر (٥). وقد أشرنا سابقاً إلى الكلام في نظيره وأنّه غير ظاهر الوجه ، إلّا أنّ يكون إجماعاً كما ادّعاه الشهيد الثاني (٦) ؛ وهو غير معلوم كما بيّناه.

ومما ينادي بفساد دعوى هذا الإجماع ما نقله هو رحمه‌الله عن الشيخ في المبسوط ، وعن المتأخّرين التابعين له في هذه المسألة.

وهذا لفظ الشيخ : إذا خرج حاجّاً إلى مكّة وبينه وبينها مسافة تقصّر فيها الصلاة ونوى أن يقيم عشراً قصّر في الطريق ، فإذا وصل إليها ، أتمّ ، وإن خرج إلى عرفة يريد قضاء نسكه لا يريد مقام عشرة أيّام إذا رجع إلى مكّة كان له القصر ، لأنّه نقض مقامه بسفر بينه وبين بلده يقصّر في مثله ، وإن كان يريد إذا قضى نسكه مقام عشرة

__________________

(١) روض الجنان : ٣٩٩.

(٢) النساء : ١٠١.

(٣) الوسائل ٥ : ٤٩٠ أبواب صلاة المسافر ب ١.

(٤) مجمع الفائدة ٣ : ٤٤٢.

(٥) الدروس ١ : ٢١٤.

(٦) نتائج الأفكار (رسائل الشهيد الثاني) : ١٧٤.

١٠٤

أيام بمكّة أتمّ بمنى وعرفة ومكّة حتّى يخرج من مكّة مسافراً فيقصّر (١) ، انتهى.

وأنت خبير بأنّ دعوى الإجماع على العموم مع عدم الثبوت في خصوص الموارد لا معنى لها ، إذ هو من الأدلّة القطعية ولا يقبل التخصيص. وقد ظهر من عبارة الشيخ هذه والمتأخّرين بعده (٢) أنّهم يضمّون الذهاب إلى الإياب ، فكيف يدّعى الإجماع على ذلك؟ وقد ذكرنا لك أنّ منشأ توهّمه ما ذا.

وكأني بمن لا يتأمّل في الكلام فيبادر ويقول بأن مخالفة معلوم النسب غير مضرّة في الإجماع ، وليس غرضي القدح في ذلك بسبب نفس وجود المخالف ، بل أقول : إنّ ما ذكرته قرائن لكون تلك الدعوى توهّماً ؛ فافهم.

وبالجملة فالأرجح في المسألة التمام إلّا إذا قصد مسافة ولو بانضمام ما بقي من الذهاب إلى العود ، والاحتياط ممّا لا ينبغي تركه في أمثال هذه المواضع.

ثمّ إنّ رجع ناوي الإقامة عن قصده رجع إلى التقصير ما لم يصلّ فريضة تامّة بلا خلاف في ذلك ، وادّعوا عليه الإجماع (٣) ، ونطقت به صحيحة أبي ولّاد (٤).

وأما لو عنّ له الرجوع في الأثناء ، فقيل : يرجع إلى التقصير ، لعدم إتمامه الفريضة (٥)

وقيل : لا يرجع ، لأنّ الصلاة على ما افتتحت عليه (٦).

وقيل : يرجع إن لم يتجاوز محلّ القصر ، لأنه لم يصلّ صلاة تامّة ، ومع التجاوز يلزم إبطال العمل المنهيّ عنه لو رجع فيتمّ ، فيصدق أنّه صلّى صلاة تامة (٧).

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٣٨.

(٢) كالعلّامة في التذكرة ٤ : ٤١٣ ، وراجع ص ٩٥.

(٣) المدارك ٤ : ٤٦٣ ، الذخيرة : ٤١٢ ، الحدائق ١٠ : ٤١٥ ، الرياض ٤ : ٤٦٦.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٩٨ ح ٩٠٩ ، الوسائل ٥ : ٥٠٤ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٥) المنتهي ١ : ٣٩٨.

(٦) كالشيخ في المبسوط ١ : ١٣٩ ، وابن البرّاج في المهذّب ١ : ١٠٨ ، ونقله عن ابن الجنيد في المختلف ٣ : ١٣٩.

(٧) المختلف ٣ : ١٣٩ ، التذكرة ٤ : ٥٠.

١٠٥

وتردّد المحقّق (١) ، وهو في محلّه.

ولا يبعد ترجيح الأوّل ، لظاهر الصحيحة ، ومنع حرمة الإبطال ههنا.

ولا يكفي مضيّ وقت الصلاة إن لم يفعل عمداً أو سهواً أو لإغماءٍ وجنون ، ولا النافلة التي تسقط في السفر.

وكذلك لا يكفي الصوم الواجب وإن أتمّه قبل الرجوع ، لصحيحة أبي ولّاد (٢).

وقيل : يكفي مطلقاً (٣).

وقيل : يكفي إن رجع بعد الزوال ، لما دلّ من العمومات على وجوب المضيّ في الصوم إذا سافر بعد الزوال ، فإذا صحّ فلا بد أن لا تبطل إقامته ، وإلّا فيلزم وقوع الصوم في السفر (٤).

وشمول العمومات لما نحن فيه ممنوع ، لأنّها الظاهر في من سافر من المكان الذي يتحتّم فيه الصوم. مع أنّ بطلان وقوع الصوم في السفر مطلقاً أيضاً ممنوع ، وإنّما هو إذا كان مجموعة في السفر.

وربّما يستدلّ للكفاية مطلقاً بصحّته قبل الزوال ، فتكون إقامته صحيحة ، وإلّا لزم جواز الصوم في السفر.

وفيه : أنّه مراعى بعدم الرجوع ، أو بإتمام فريضة تامّة ، وهو واسطة بين الصحّة الحتميّة والبطلان الحتمي ، فالصوم صحيح ما لم يرجع أو يصلّي فريضة تامّة. وأما الصلاة فلا بد من تقصيرها ما لم يصلّ فريضة تامّة وإن صام صوماً تاماً ثم رجع أو رجع بعد الزوال وقلنا بوجوب تمامه أيضاً.

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٢٦.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٢١ ح ٥٥٣ ، الاستبصار ١ : ٢٣٨ ح ٨٥١ ، الوسائل ٥ : ٥٣٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٨ ح ١.

(٣) السرائر ١ : ٣٢٧ ، القواعد ١ : ٣٢٤ ، إيضاح الفوائد ١ : ١٦٤.

(٤) جامع المقاصد ٢ : ٥١٥.

١٠٦

لا يقال : عكس نقيض قوله عليه‌السلام «إذا قصّرت أفطرت» (١) يقتضي الإتمام حينئذٍ.

لأنّا نمنع عموم «إذا» أولاً ، ومقاومته لصحيحة أبي ولّاد ثانياً ، لأنّ بينهما عموماً من وجه ، وعمل الأكثر عليها ، مع كونها أظهر دلالة ، مضافاً إلى أنّ في ثبوت عكس النقيض للشرطيّات كلاماً.

ومع ثبوت القصر في الصلاة فيجب الإفطار ، لقوله عليه‌السلام : «إذا قصّرت أفطرت»

ثم لو نوى الإقامة في أثناء المقصورة يتمّ الصلاة بلا خلاف ظاهر ، ويظهر من بعضهم الإجماع (٢).

وتدلّ عليه صحيحة عليّ بن يقطين (٣) وحسنة سهل بن اليسع (٤).

وفي الاكتفاء بذلك في المسألة السابقة وجهان ، أقربهما ذلك.

الخامس : أن لا يقطع سفره بوصوله إلى الوطن ، وأن لا ينوي ذلك في أوّل المسافة.

والوطن في اللغة : هو محلّ الإنسان ، كما صرّح به الجوهري ، والمحلّ : هو المكان الذي يحلّه كما صرّح به أيضاً (٥).

ولا يفهم من ذلك إلّا مجرد الحلول والقرار.

وأوطنت الأرض ووطنتها واستوطنتها اتّخذتها وطناً ، وكذلك الاتّطان.

وأما في العرف ، فيفهم منه أزيد من ذلك.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٠ ح ١٢٧٠ ، التهذيب ٣ : ٢٢٠ ح ٥٥١ ، الوسائل ٥ : ٥٢٨ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٧.

(٢) التذكرة ٤ : ٤١١ ، روض الجنان : ٣٩٦ ، المدارك ٤ : ٤١١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٣٥ ح ٨ ، الفقيه ١ : ٢٨٥ ح ١٢٩٩ ، التهذيب ٣ : ٢٢٤ ح ٥٦٤ ، الوسائل ٥ : ٥٣٤ أبواب صلاة المسافر ب ٢٠ ح ١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٢٤ ح ٥٦٥ ، الوسائل ٥ : ٥٣٤ أبواب صلاة المسافر ب ٢٠ ح ٢.

(٥) الصحاح ٦ : ٢٢١٤.

١٠٧

وأما كونه مولداً له أو لآبائه مع استمرارهم فيه ، كما هو متداول في كثيرٍ من إطلاقات أهل العرف ، فلم يثبت انحصار العرف فيه.

بل الظاهر من العرف العام ما يشمل ذلك ، وما يجعله محلّ سكناه مستمرّاً ولا يتزلزل في ذلك ولا يريد الخروج منه ، وإن كان لا ينوي عدم الخروج عنه ما دام العمر أبداً.

فيكفي فيه ما يظهر منه إرادة ذلك ، مثل بناء الدار وغرس البساتين والأشجار ونحو ذلك ، منضمّاً إلى قطع العلاقة عن غير ذلك المكان ، وإرادة السكون في ذلك.

وكما لا تجب نيّة عدم الخروج عنه ما دام العمر ، فقد لا تجب نيّة البقاء مستمرّاً وقصده مخطراً بالبال.

فيكفي الاستمرار الفعلي لمن سكن في محلّ آبائه ، ويستمرّ على ذلك ، وإن لم يتفطّن لقصد البقاء ولا الخروج.

والظاهر أنّ الاستيطان والاتّطان ونحوهما يدلّ على أنّ الوطن قد يحصل قهراً كما في الصورة المفروضة ، فاختياره غير هذا الموضع القهريّ استيطان.

وأما مجرد السكون في محلّ بلا قصد الاستمرار فلا يسمّى وطناً عرفاً ، وإن طال مقامه فيه ، وإن كان معه أهله.

ثمّ إنّ ما يفهمه أهل العرف هو أن يكون له فيه مقرّ ، ولا يفهمون اعتبار ملكية المقرّ ، ولا ثبوت مطلق الملك له ، فتكفي إجارة البيت ولو إلى آخر عمره ، سيّما في البلاد التي يتعارف ذلك فيها.

ثمّ إنّ الأقوى عندي في تحقّق صدق المشتق حقيقة هو اعتبار وجود المبدأ ، وكذلك ما في معنى المشتق كالوطن ، بل وكذلك الجامدات كالماء ، فلا يطلق الماء على الهواء المنقلب عنه حقيقةً.

إذا عرفت هذا فالوطن لا يطلق حقيقة إلّا على ما كان وطناً بالفعل.

١٠٨

وأما إطلاق كثير من أهل العرف الوطن على المولد أو مقرّ الإباء مع حصول الاستمرار فيه مدّة معتدّاً بها وإن انقطعت علاقته عنه فهو مجاز أو اصطلاح خاصّ.

فإن سلّمنا كونه حقيقة فيه ؛ فيكون اللفظ مشتركاً ، لأن كون الإطلاق على غيره مما أخذه وطناً واستمرّ فيه مدّة ثمّ انقطعت علاقته عنه حقيقة غير مسلّم ، بل هو مجاز ، لما بيّنا ، بل الظاهر كون الأوّل أيضاً مجازاً ، لأن المتبادر هو محلّ السكون بالفعل ، والمجاز خير من الاشتراك.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الأصحاب اتفقوا على أنّ الوصول إلى الوطن قاطع للسفر في الجملة ، واشتهر بينهم أنّ الوصول إلى ضيعة له أو قرية له أقام بها ستّة أشهر يكفي في ذلك ؛ وإن كان قبل عشر سنين ، بل ادّعى الشهيد الثاني (١) والعلامة (٢) الإجماع على ذلك.

وبعضهم كالفاضلين صرّح بأن ذلك يوجب إطلاق الوطن عليه عرفاً (٣).

وبعضهم كالشهيد في الذكرى صرّح بأن هذا وطن شرعي (٤).

وفيما ذكروه أُمور :

الأوّل : منع الإطلاق العرفي بمجرد المقام ستّة أشهر ، بل لا بد من قصد المقام مستمرّاً.

والثاني : إنه لا يكفي في تحقّقه حصوله في الماضي مع انقطاعه.

والثالث : إنه لم تثبت حقيقة شرعية في ذلك.

والرابع : إنّ ما استدلّوا به عليه من الأخبار لا دلالة فيها على ما ذكروه.

وغاية توجيه كلامهم أنّهم فهموا من ذلك حقيقة شرعيّة ، أو كان مرادهم أنّه قَصَدَ

__________________

(١) روض الجنان : ٣٨٦.

(٢) التذكرة ٤ : ٣٩٠.

(٣) المعتبر ٢ : ٤٦٩ ، المنتهي ١ : ٣٩٣.

(٤) الذكرى : ٢٥٧.

١٠٩

التوطّن العرفي ؛ لكن اتّفق أنه قطع علاقته بعد إتمام ستّة أشهر ، ويكفي عندهم حصول المبدأ في الماضي كما هو مختارهم في المشتق.

وثبوت الحقيقة الشرعية ممنوع ، سيّما مما استدلّوا به عليه.

والتوجيه بما ذكرنا من قصد التوطّن العرفي ، وكون الستّة أشهر اتفاقيّةً ؛ غير مطابق لإطلاقات كلماتهم ، بل صريح بعضهم. وكون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ خلاف التحقيق كما بيّناه في الأُصول (١).

فالمعتبر إذن الوطن ، بالفعل ، ولا يكفي حصوله في الماضي مع انقطاعه.

والمعتبر هو ما يصدق عليه عرفاً ، فلا تعتبر إقامة الستّة أشهر.

وتدلّ عليه الأخبار الصحيحة (٢) ، ففي كثيرٍ منها : «كلّ مَنزلٍ لا تستوطنه فعليك فيه التقصير» (٣).

وفي بعضها : «إنّما هو المَنزل الذي توطّنه» (٤) في ردع السائل عن الإتمام.

والظاهر أنّه بلفظ المضارع المخاطب أو الغائب ، والمضارع حقيقة في الحال أو الاستقبال ، والإجماع قرينة على عدم إرادة الاستقبال فتعيّن الحال.

وأيضاً معنى الاستيطان هو اتّخاذه وطناً ، وهو يحصل بقطع العلاقة عن غير ذلك المكان ، وإرادة الاستقرار مستمرّاً في ذلك المكان ، والشروع في الاستقرار والتمكّن.

ولا يشترط أهل العرف في ذلك فعليّة الإقامة ستّة أشهر جزماً ، ولا يضرّ كون الإقامة أقلّ منها بكثير ، فضلاً عن يوم أو يومين ، كما يضرّ ذلك عند المشهور ، وسيجي‌ء الكلام في مستند المشهور.

__________________

(١) القوانين : ٧٥.

(٢) الوسائل ٥ : ٥١٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٣.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٨ ح ١٣١١ ، التهذيب ٣ : ٢١٣ ح ٥١٩ ، الوسائل ٥ : ٥٢٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١ ، ١٠.

(٤) التهذيب ٣ : ٢١٢ ح ٥١٧ ، الاستبصار ١ : ٢٣٠ ح ٨١٨ ، الوسائل ٥ : ٥٢٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٨.

١١٠

والحاصل أنّ طريقة فهم أهل العرف لا تقتضي إلّا ما ذكرنا ، وبذلك يخرج عن صدق المسافر أيضاً ، فيجب عليه التمام بذلك.

استدلّ الأصحاب بصحيحة محمّد بن إسماعيل عن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته ، فقال : «لا بأس ما لم ينوِ مقام عشرة أيّام ، إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه» فقلت : ما الاستيطان؟ فقال : «أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستّة أشهر ، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى يدخلها» (١).

وأنت خبير بأنّه لا دلالة فيها على ما ذكروه ، فإنّ المضارع لا دلالة له على الماضي بوجه.

وحينئذٍ فتطبيق الرواية على المختار هو أن يقال : الظاهر من لفظ الاستيطان في الأخبار الصحاح أخذ الضيعة وطناً ، ومعناه عرفاً هو ما تقدّم ، فانطباق تفسير الإمام عليه‌السلام مع ظاهر لفظ الاستيطان إنّما هو بجعل «يقيم» مفيداً للتجدّد ، كما هو الظاهر من المضارع ، والموافق للاستمرار المعتبر في معنى الوطن عرفاً ، والاستمرار العرفي يحصل بجعلها أحد الموطنين ، بل أحد المواطن ، فيصدق على الأعراب والأكراد الذين لهم رحلتان في الصيف والشتاء ولهم منزلان فيهما أنهما وطن لهما ، بل على من له أربع زوجات في أربعة مواضع ، وله فيها أربع منازل يقوم في كلّ منها فصلاً في طول السنة أنّ له مواطن أربع ، وهذا ممّا يشهد به الوجدان ، ولا يثبت بمجرّد هذه الرواية حقيقة شرعيّة فيما ذكروه.

ولا يوجب سؤال الراوي عن حقيقة الاستيطان مع كونه من أهل العرف واللسان علمه بأنّ الشارع وضع الوطن لمعنى جديد في الجملة لكن لا يعرفه بالخصوص ، فإنّ الظاهر أنّ سبب السؤال هو حصول الاشتباه في أفراد المعنى العرفي ، فإنّ من الظاهر أنّ المسئول عنه في هذه الأخبار هو الورود في الضيعة والقرية والمنزل مع كون

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٨ ح ١٣١٠ ، التهذيب ٣ : ٢١٣ ح ٥٢٠ ، الاستبصار ١ : ٢٣١ ح ٨٢١ ، الوسائل ٥ : ٥٢٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١١.

١١١

مسكنه في موضع آخر ، فلما كان تعدّد الموطن والمسكن نادراً لأهل الأمصار ، واعتباره موهماً لاعتبار أمرٍ آخر من الشارع سأل الراوي عن الاستيطان ، فأجاب عليه‌السلام أيضاً بما يوافق العرف في صورة التعدّد أيضاً. ونظائر هذا السؤال كثيرة ، مثل السؤال عن الكرّ ونحوه.

فالمراد والله وقائله أعلم هو التمثيل ، لا اعتبار نفس الستّة بالخصوص ، يعني إذا كان يقيم في كلّ سنة ستّة أشهر فهو وطنه ، كما يظهر من تفسير الصدوق في الفقيه (١) ، وتبعه جماعة منهم الفاضلان المحقّقان صاحب المنتقى وصاحب المدارك ، بل ادّعى في المدارك تصريح الخبر بذلك (٢).

فعلى هذا فيكفي في ذلك العزم على الإقامة ستّة أشهر أو أقلّ أو أكثر في كلّ سنة في مكان مع تأسيس منزل ومسكن فيه مثلاً مع الشروع فيه وحصول الاستقرار في الجملة ، ولا يجب إتمام الستّة أشهر كالبلد الواحد.

ولا يضرّ في ذلك عدم حصول الإقامة في أحد السنوات بسبب سفر أو عارض آخر إذا لم يتغيّر أصل العزم ، فاعتبار ذلك ليس باعتبار مضيّ ستّة أشهر فيه ، بل باعتبار فعليّة العزم وحصول شي‌ء من الفعل.

وبالجملة حكمه مستمرّ ما لم تنقطع عنه العلاقة ويتغيّر العزم.

فليس في أخبار اعتبار الاستيطان ما يدلّ على المشهور.

نعم في صحيحة سعد بن أبي خلف قال : سأل عليّ بن يقطين أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمرّ بها ، قال : «إن كان مما قد سكنه أتمّ فيه الصلاة ، وإن كان مما لم يسكنه فليقصّر» (٣) وهو لا يتمّ مذهبهم ، لعدم الدلالة على الستّة أشهر ، والجمع بينها وبين صحيحة

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٨.

(٢) منتقى الجمان ٢ : ١٧٤ ، المدارك ٤ : ٤٤٤.

(٣) التهذيب ٣ : ٢١٢ ح ٥١٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٠ ح ٨١٩ ، الوسائل ٥ : ٥٢٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٩.

١١٢

محمَّد بن إسماعيل غير ممكن ، فإنّها تدلّ على الستّة الواقعة في الحال ، فينفى اعتبار الماضي.

وأما على ما بيّنا فعدم إمكان الجمع أوضح ، فنحملها على السكون في الماضي المتّصل بالحال الغير المنقطع.

لا يقال : عدم اعتبار جزء من الخبر لا يستلزم بطلان الاستدلال بباقيه ، فإنّ المستفاد من الرواية اعتبار الحال والستّة أشهر ، فإذا سقط اعتبار خصوصية الحال فتنضمّ المدّة إلى صحيحة سعد فيتمّ المطلوب.

لأنّا نقول : إنّ الأجزاء العقليّة ممّا لا يجري فيها ما ذكرت ، والثابت من الرواية هي الستّة الواقعة في الحال ، فالحال بمنزلة الفصل ، ولا بقاء للجنس بدونه كما حقّق في محلّه.

فلا يبقى للمشهور إلّا الإجماعان المنقولان ، وهما لا يعارضان الأخبار الصحاح المستفيضة (١) ، مع أنّ في أصل دعواه إشكالاً ، سيّما مع ملاحظة فتوى الصدوق (٢) ، وإطلاق جماعة من الأصحاب مثل الشيخ في النهاية (٣) وابن البرّاج (٤) وأبي الصلاح (٥) اعتبار الاستيطان من دون تصريح باعتبار الستّة ، وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المرام لكونه من مزالّ الأقدام.

بقي هنا أُمور :

الأوّل : إنّ الذين اعتبروا إقامة ستّة أشهر في حصول الاستيطان صرّح طائفة

__________________

(١) انظر الوسائل ٥ : ٥٢٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨٨.

(٣) النهاية : ١٢٤.

(٤) نقله عن الكامل في المدارك ٤ : ٤٤٥.

(٥) الكافي في الفقه : ١١٧.

١١٣

منهم باشتراط الملك ولو نخلة (١) ، واكتفى طائفة بالمنزل (٢) ، وصرّح جماعة بأنّ المنزل لا يشترط فيه الملك ، بل يكفي ولو بالإعارة ونحوها (٣) ، ويمكن إدخال الغصب أيضاً.

حجّة المعتبرين للملك : الجمع بين ما دلّ على أنّ من نزل قريته أو ضيعته يتمّ من الأخبار المعتبرة الكثيرة ، وما دلّ على أنّه يقصّر ، مع ملاحظة ما ورد بالتفصيل من أنّه يتمّ إذا أقام عشرة أو إذا استوطنه ستّة أشهر ، مثل صحيحة محمّد بن إسماعيل.

وجه الاستدلال : أنّ الحكم بالتمام في الضياع والقرى إنّما يتمّ مع الاستيطان ستّة أشهر ، والحكم بكفاية استيطان ستّة أشهر إنّما ورد فيمن ورد ضيعته ، والسؤال وإن لم يكن مخصّصاً على ما هو المحقّق في الأُصول ؛ لكنه لا عموم في الجواب.

مع أنّا إذا اعتبرنا هذا الاستيطان واعترفنا بأنّه استيطان شرعيّ لا عرفيّ ، فيكون توقيفيّاً ، ولا يحصل الجزم بحصوله إلّا فيما حصل الملك كما هو مورد السؤال.

مع أنّ في صحيحة إسماعيل بن الفضل : «إذا نزلت قراك وضيعتك فأتمّ الصلاة ؛ وإذا كنت في غير أرضك فقصّر» (٤) إشعاراً بذلك ، فإنها بعد تخصيصها بصحيحة محمّد بن إسماعيل (٥) تقتضي عدم تأثير الاستيطان المعهود في غير أرضه.

وفي موثّقة عمّار : الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو دار فينزل فيها ، قال :

__________________

(١) كالعلّامة في المنتهي ١ : ٣٩٣ ، والتحرير ١ : ٥٦ ، وتبصرة المتعلّمين : ٤١ ، والشهيد الأوّل في الدروس ١ : ٢١١ ، والبيان : ١٥٦ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٨٧.

(٢) كالصّدوق في الفقيه ١ : ٢٨٨ ، والشيخ في النهاية : ١٢٤ ، وأبي الصلاح في الكافي في الفقه : ١١٧ ، وابن البرّاج في المهذّب ١ : ١٠٦ ، والمحقّق في المختصر النافع : ٥١.

(٣) كالسبزواري في الذخيرة : ٤٠٨ ، والوحيد البهبهاني في حاشية المدارك : ٢٧٩ ، وصاحب الرياض ٤ : ٤١٨.

(٤) الفقيه ١ : ٢٨٧ ح ١٣٠٩ ، التهذيب ٣ : ٢١٠ ح ٥٠٨ ، الاستبصار ١ : ٢٢٨ ح ٨١٠ ، الوسائل ٥ : ٥٢٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٢.

(٥) الفقيه ١ : ٢٨٨ ح ١٣١٠ ، التهذيب ٣ : ٢١٣ ح ٥٢٠ ، الاستبصار ١ : ٢٣١ ح ٨٢١ ، الوسائل ٥ : ٥٢٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١١.

١١٤

«يتمّ الصلاة ولو لم يكن له إلّا نخلة واحدة» (١) وهو ظاهر في ذلك.

وزاد المحقّق دعوى مدخليّة الملك في تحقّق ماهيّة الاستيطان (٢) ، وبذلك أدخله في الاستيطان العرفيّ.

وأما المكتفون بالمنزل ، فتمسّكوا بالصحاح الواردة في اعتبار الاستيطان بالمنزل ، مثل صحيحة محمّد بن إسماعيل المتقدّمة وغيرها.

وفيه : أنّه يوجب طرح تلك الأخبار رأساً ، سيّما صحيحة الهاشمي (٣) وموثّقة عمّار.

وأما نحن ، فلمّا نحمل (٤) الاستيطان على العرفي الذي لا يشترط فيه الملك ، ولا نقول بمخالفة صحيحة محمّد بن إسماعيل لسائر ما دلّ على اعتبار مطلق الاستيطان ، فالجواب في صحيحة محمّد بن إسماعيل عامّ في المعنى عندنا كسائر المطلقات ، مثل قولهم عليهم‌السلام : «كلّ منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل» ، و «إنّما هو المنزل الذي توطّنه» (٥) ونحو ذلك ، فيخصّص كلّ ما دلّ على التمام في الضيعة والقرية بتلك الإطلاقات ، لأنّها مقيّدات لها ، ومن جملتها صحيحة محمّد بن إسماعيل ، لكن على الوجه الذي بيّناها.

فتبقى في مقابل هذه الأدلّة موثّقة عمّار فقط (٦) ، وهي لا تقاوم ما ذكرنا.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢١١ ح ٥١٢ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ ح ٨١٤ ، الوسائل ٥ : ٥٢١ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٥.

(٢) المعتبر ٢ : ٤٦٩.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٧ ح ١٣٠٩ ، التهذيب ٣ : ٢١٠ ح ٥٠٨ ، الاستبصار ١ : ٢٢٨ ح ٨١٠ ، الوسائل ٥ : ٥٢٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٢.

(٤) في «ص» : فلا نحمل.

(٥) الوسائل ٥ : ٥٢٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١ ، ٨ ، ١٠.

(٦) التهذيب ٣ : ٢١١ ح ٥١٢ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ ح ٨١٤ ، الوسائل ٥ : ٥٢١ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٥ وفيها : في الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو دار فينزل فيها ، قال : يتمّ الصّلاة ولو لم يكن له إلّا نخلة واحدة ولا يقصّر ، وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها.

١١٥

وأمّا صحيحة الهاشمي (١) فمبنيّة على عدم الالتفات إلى غير أرضه ؛ لمعلوميّة عدم الاستيطان فيه.

ولكن الإنصاف أنّ تلك الأخبار باب على حدة يظهر منها اعتبار الملك من حيث هو ، وليس فيها إشارة إلى التفصيل ، وكذا ما خالفها من الحكم بالقصر.

وحينئذٍ فالمكتفي بالمنزل ستظهر [صحّة ما ذهب إليه] ، وصحّة ما ذهبنا إليه أظهر.

ولو لم يكن الحكم بعدم اعتبار الملك فقط إجماعيّاً لكان للحكم بالتخيير فيها فيما لم يكن وطناً ولم تحصل الإقامة عشراً بين القصر والإتمام وجه كما ذكره في الوافي (٢) ، ولكن العمل على ما ذكرنا أوّلاً (٣).

الثاني : كلام الأصحاب ممّن صرّح بإلحاق دار الإقامة الّتي اتّخذها مسكناً مستمرّاً بما كان له ملك فيه صريح في اشتراط التوطّن ستّة أشهر فيه أيضاً نظراً إلى ظاهر الصحيحة ، بل وصرّح بعضهم بالأولوية (٤) ، ويلزمهم الاكتفاء بذلك بحصوله في الماضي ، فتكون نيّة كونه بلد الإقامة قائمةً مقام الملك.

وهذا أضعف من المسألة السابقة ، لعدم دعوى الإجماع فيه بالخصوص ، ولعدم ظهور الصحيحة فيه على ما فهموه.

والاستدلال بالصحيحة هنا يُضعف ما بيّنا لهم من كيفيّة الاستدلال بها في المسألة السابقة ، فإن البناء هنا على عموم الجواب بخلافه ثمّة.

نعم صرّح العلّامة في التذكرة هنا باعتبار استمرار النيّة في وجوب التمام (٥).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٧ ح ١٣٠٩ ، التهذيب ٣ : ٢١٠ ح ٥٠٨ ، الاستبصار ١ : ٢٢٨ ح ٨١٠ ، الوسائل ٥ : ٥٢٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٢.

(٢) الوافي ٧ : ١٦٣.

(٣) في «ع» : أولى.

(٤) كالشهيد في الذكرى : ٢٥٧ ، وصاحب المدارك ٤ : ٤٤٥.

(٥) التذكرة ٤ : ٣٩٢.

١١٦

وعلى ما بيّنا فيكفي جعله دار إقامته مستمرّاً وإن لم يقم فيه ستّة أشهر ، لخروجه بذلك عن اسم المسافر وصدق الاستيطان عرفاً.

الثالث : اعتبر جماعة من مشترطي الملك سبق الملك على الاستيطان ودوامه ، وكونه ملك الرقبة لا المنفعة ولا بأس به على أصلهم.

الرابع : اختلف كلامهم في اعتبار التوالي في الستّة أشهر والأظهر ذلك.

وأيضاً الظاهر عدم اعتبار الاتّفاق ، فإن اتّفق مكثه في ضيعة له سنة أو سنتين متردّداً فالظاهر عدم الاكتفاء به كما يظهر من بعض الأصحاب نظراً إلى صدق الإقامة عرفاً.

وفيه : أنّ الظاهر من اللفظ أنّ الستّة أشهر قيد للحدث ، لا للنسبة ، فبعد تقييد الإقامة بالستّة ترد عليه النسبة الحكميّة ، وهو يستلزم نيّته أوّلاً نظير (١) إقامة العشرة.

الخامس : الكلام في اعتبار المسافة إلى الوطن وما بين الوطنين والخروج من الوطن إلى منتهى المقصد أو أقلّ المسافة وغير ذلك من الفروع يعلم مما سبق في قصد الإقامة وغيره ، إلّا أنّ الظاهر عدم اعتبار الصلاة التامّة في عدم الرجوع إلى القصر هنا ، لأنّ ذلك الحكم مخصوص بإقامة العشرة ، وفيما نحن فيه ليس بمسافر ، فيترتّب عليه حكم الحاضر إلى أن يخرج.

السادس : أن لا يبقى متردّداً في بلد في الأثناء ثلاثين يوماً ، وإلّا فيجب عليه التمام ولو صلاة واحدة بالإجماع ، والأخبار المعتبرة (٢).

والمحكّم العرف ، فلا يكفي التلفيق ، ويضرّه الخروج المخرج عن مصداقه عرفاً ، ولا يضرّ التردّد في أثناء الطريق حال قطع المسافة.

__________________

(١) في «ص» زيادة : نيّة.

(٢) الوسائل ٥ : ٥٢٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٥.

١١٧

ولا يكفي الشهر الهلالي وإن ورد بلفظ الشهر في بعض الأخبار (١) ، حملاً للمطلق على المقيّد.

السابع : أن لا يكون السفر عمله ، ولا يكون بيته معه سواء كان أحد العناوين الواردة في الأخبار أعني المكاري ، والكري (٢) ، والراعي ، والاشتقان (٣) ، والملّاح ، والجابي والتاجر ، الّذي يدور في تجارته ، والطالب مواضع القطر والكلاء وغيرها ممّا تشمله العلّتان المتقدّمتان المنصوصتان في صحيحة زرارة (٤) ورواية سليمان بن جعفر الجعفري (٥).

وتعبير الفقهاء عن ذلك بأن لا يكون كثير السفر ، لعلّه مبنيّ على تحقيق أنّ المناط هو كثرة السفر.

ولذلك اشترط بعضهم في تحقّقه السفر ثلاث مرّات بشرط عدم إقامة العشرة (٦).

وبعضهم اشترط ذلك مع استثناء من كان السفر عمله لقيام صنعته مقام التكرّر (٧).

واعتبر بعضهم ثلاثة أسفار مع اشتراط عدم الإقامة عشرة عقيب الأوّل (٨) ،

__________________

(١) انظر الكافي ٤ : ١٣٣ ح ١ ، والتهذيب ٣ : ٢٢١ ح ٥٥٣ ، والاستبصار ١ : ٢٣٨ ح ٨٥١ ، والوسائل ٥ : ٥٢٥ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٣ ، ٥.

(٢) الكري : مكري الدواب. المصباح المنير : ٥٣٢.

(٣) الاشتقان : البريد. مجمع البحرين ٦ : ٢٧٢.

(٤) الكافي ٣ : ٤٣٦ ح ١ ، الفقيه ١ : ٢٨١ ح ١٢٧٦ ، التهذيب ٣ : ٢١٥ ح ٥٢٦ ، الخصال : ٢٥٢ ح ١٢٢ ، الوسائل ٥ : ٥١٥ أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٤٣٧ ح ٥ ، الوسائل ٥ : ٥١٦ أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٦.

(٦) جامع المقاصد ٢ : ٥١٣.

(٧) السرائر ١ : ٣٣٩.

(٨) كالشهيد في الذكرى : ٢٥٨.

١١٨

وقيل غير ذلك (١).

ولعلّهم أخذوا المبادئ في تلك العناوين الملكات ، ولا تتحقّق إلّا بالتكرار ، أو نظروا إلى رواية يونس الاتية الدالّة على رجوعهم بعد الإقامة عشرة أيّام إلى القصر حتّى يتكرّر السفر (٢).

والجمع بينهما مشكل ، لأنّ الملكة لا تزول بمجرّد الإقامة عشرة ، فتكون الرواية واردة على التعبّد ، فيبقى محض استنباط العلّة أو ظهور المبادئ في الملكات ، والأوّل ليس بحجّة ، والثاني غير مسلّم ، لإمكان إرادة الحال ، فقد يشترك اللفظ بين الحال والملكة كالقارئ.

مع أنّه يمكن أن يكون المراد من المبادئ هو الاتّخاذ حِرفة ، وهو معنى غير بعيد ، وهذا لا يحتاج إلى التكرّر في صدقه عرفاً كما لا يخفى.

فالأولى الرجوع إلى صدق العناوين عرفاً أو صدق العلّتين المنصوصتين.

نعم يشكل الأمر على تساوي احتمال المبدأ للملكة والحرفة والحال ، وعدم تمييز العرف في ذلك ، فعمومات قصر المسافر للمشهور ، وأصالة التمام حتّى يثبت شرط القصر مع كون عمومات القصر مخصّصة بمجملٍ بالفرض لنا ، والعام المخصّص بالمجمل لا حجيّة فيه في قدر الإجمال ، وهذا أظهر.

وكيف كان فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه ، ولا خلاف فيه إلّا عن ظاهر ابن أبي عقيل (٣) ، والأخبار المعتبرة به مستفيضة (٤).

نعم في صحيحة البقباق (٥) وصحيحة محمّد بن مسلم (٦) ومرسلة عمران بن

__________________

(١) المختلف ٣ : ١٠٩.

(٢) التهذيب ٤ : ٢١٩ ح ٦٣٩ ، الاستبصار ١ : ٢٣٤ ح ٨٣٧ ، الوسائل ٥ : ٥١٧ أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ١.

(٣) نقله عنه في المختلف ٣ : ١٠٦.

(٤) انظر الوسائل ٥ : ٥١٥ أبواب صلاة المسافر ب ١١.

(٥) التهذيب ٣ : ٢١٥ ح ٥٢٩ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ح ٨٣١ ، الوسائل ٥ : ٥١٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٢.

(٦) التهذيب ٣ : ٢١٥ ح ٥٢٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ح ٨٣٠ ، الوسائل ٥ : ٥١٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ١.

١١٩

محمّد (١) : «إنّ المكاري والجمّال إذا جدّ بهما السير يقصّران».

وعمل عليها الكليني (٢) وجماعة من المتأخّرين (٣) خلافاً للمشهور ، ولا بأس به ، لاعتبار سند الروايات ، واعتضادها بالاعتبار ، فإنّ أظهر معاني الحديث إرادة المشقّة الشديدة الخارجة عن معتادهم ، وإلى ذلك ينظر تفسير الكليني رحمه‌الله بأنّ معناه أن يجعل منزلين منزلاً ، ولكن في مرسلة عمران تخصيص القصر ، بما بين المنزلين.

والأوجه العمل على الإطلاق ، لعدم مقاومته للمطلقين الصحيحين.

وفي التعدّي عن موردي النصّ إلى غيرهما من العناوين إشكال ، فنقف عليهما.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بالسفر الذي يتمّ هؤلاء فيه هو السفر الّذي كان عملهم ، فلو ذهب المكاري إلى الحجّ أو الزيارة ونحوهما فيقصّر ، لأنّه المتبادر من الأخبار ، ولخصوص روايتي إسحاق بن عمّار ، وإحداهما صحيحة إليه (٤).

ثمّ يشترط عند الأصحاب في وجوب التمام عليهم أن لا يقيموا عشرة أيّام في بلدهم مطلقاً ، ولا عشرة منويّة في غير بلدهم عند المحقّق (٥) ومن تأخّر عنه (٦) ، ونسب في المهذّب كليهما إلى المشهور (٧) ، وكذا إلحاق الثلاثين متردّداً في غير بلده.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢١٥ ح ٥٣٠ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ح ٨٣٢ ، الوسائل ٥ : ٥١٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٣.

(٢) انظر الكافي ٣ : ٤٣٧.

(٣) كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٣٩٣.

(٤) الكافي ٣ : ٤٣٨ ح ٩ ، التهذيب ٣ : ٢١٥ ح ٥٢٧ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ح ٨٢٩ ، الوسائل ٥ : ٥١٦ أبواب صلاة المسافر ب ١١ ح ٥.

(٥) المختصر النافع ١ : ٥١.

(٦) التذكرة ١ : ١٩١ ، جامع المقاصد ٢ : ٥١٣ ، مجمع الفائدة ٣ : ٣٩١.

(٧) المهذّب البارع ١ : ٤٨٦.

١٢٠