اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

محمّد بهاء الدين الاصبهاني

اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

المؤلف:

محمّد بهاء الدين الاصبهاني


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-96-7
الصفحات: ٦٠٠

١
٢

اللآلئ العبقرية

في

شرح العينية الحميرية

٣

روى المرزباني ، قال : حدثني فضيل بن عمر الحبال ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام بعد قتل زيد عليه‌السلام فجعل يبكي ، ويقول : رحم الله زيداً انّه العالم الصدوق ، ولو ملك أمراً لعرف أين يضعه.

فقلت : أنشدك شعر السيد؟ فقال : امهل قليلاً ، وأمر بستور ، فسدلت ، وفتحت أبواب غير الأُولى ، ثمّ قال : هات ما عندك فأنشدته :

لأُم عمرو باللوى مربع

دارسة أعلامه بلقع

( أخبار شهراء الشيعة : ١٥٩ ).

٤

تقديم

بقلم : جعفر السبحاني

بسم الله الرحمن الرحيم

يتميّز الإنسان عن سائر الموجودات بالتفكير وهو موهبة عظيمة ، كرّمه اللّه بها ، وراح يعكس تفكيره من خلال الكلام إمّا منثوراً أو منظوماً ، فالكلام المنثور هو ما يتكلّم به ارتجالاً ، والثاني عبارة عن الكلام الموزون المقفّى الذي لا يحصل إلا بالتروّي والأناة.

ثمّ إنّ للإنسان نزوعاً إلى هذا النوع من الكلام قد يبلغ به تهييج العواطف والتذاذ الأسماع بمكان أنّه ربما يفقد وعيه. والشعر في الوقت نفسه سلاح شديد الوقع ، فإن استعمله الشاعر في الحماسة هاجت النفس لاقتحام الردى والهلكة ، وإن استغله في الاستعطاف والاستعطاء حرك العواطف وهيّجها ، وإن استعان به في التشبيب أغرى الأفئدة بالهوى والمجون ، إلى غير ذلك من غايات خاصّة للشعر على وجه الإطلاق ، كما أنّه سلاح ذو حدين ، فالشعر الهادف هو ما يبني المجتمع ويوقظ الشعب ويسوقه نحو العلم والصلاح والفلاح ، وغير الهادف منه هو ما يكرّس النزعات الأنانية في المجتمع ويسير به نحو هاوية الانحطاط ، ويبعثه نحو الانحلال الخلقي ، وللّه در الشيخ محمد رضا الشبيبي شاعر العراق الفحل إذ

٥

يقول :

كفى الشعر ذمّاً إنّ للشعر قائلاً

وما هو إلاّقائل غير فاعل (١)

ولا خير في شعر إذا لم يقم به

خمولُ نبيه أو بناهةُ خامل

إذا قلت انّ الشعر بحر غبنته

متى يستقيم البحر من غير ساحل

قرائحنا منها بحور خضارم

ومنها إذا جربت رشحُ الجداول

وأجمعُ أقوال الرجال أسدُّها

معان كبار في حروف قلائل (٢)

فالحقّ كما قال الشبيبي انّ قيمة الشعر بمعناه وبتأثيره الخطير في إيقاظ المجتمع ، فربَّ قصيدة كثيرة الأبيات لا تجد فيها كلمة حكيمة تُسعد الإنسان في حياته أو تصدّه عن مزالقه.

ورب بيت واحد يفضَّل على قصيدة ، لأنّه ينشد إلى حكمة بالغة يأخذ بيد الإنسان في مزالق الحياة ، وقد أشار إلى ذلك الشاعر المذكور.

__________________

١ ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ انّهُمْ في كُلِّ واد يهيمون * وانّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُون ) ( الشعراء : ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ).

٢ ـ محمد جمال الهاشمي : الأدب الجديد : ١ ـ ٢ ، طبعة النجف الأشرف.

٦

وقد يبلغ البيت البليغ قصيدة

مطوّلة لكن على غير طائل

وقد يبلغ اللفظ القصير رسالة

إذا عدَّت الألفاظ روحَ الرسائل

ويا للأسف انّ الشعراء لم يجروا على حلبة واحدة ، فهم بين مصلح بنّاء ، ومفسد هدّام مثير للميوعات :

يقول امرؤ القيس في معلّقته :

أفاطم مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدلُّل

وإن كُنتِ قَدْ ازمَعْتِ صَرْمي فاجملي

أغرَّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتِلي

وأنّك مهما تأمرى القَلْبَ يفعل

وإن تك قد ساءَتْكِ مِنِّي خليقة

فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسُلِ

وما زَرَفَتْ عيْناكِ إلاّ لِتَضْربي

بِسَهميك في أعشار قلب مُقتَّل

وبيضةِ خِدْر لا يُرامُ خِباؤها

تَمتَّعْتُ من لهو بها غير مُعجَلِ (١)

__________________

١ ـ شرح المعلّقات السبع لأحمد بن الحسين الزوزني : ١٣ ـ ١٥ ، ط عام ١٣٨١ هـ.

٧

وهناك من يبعث روح الشجاعة والتضحية والفداء في المجتمع ويحثّه في المضي قُدماً في سلالم العز والكمال ، وهذا ما نلمسه بوضوح في الأبيات التالية لعميد الدين المعروف بالطغرائي ( المتوفّى عام ٥١٠ هـ ) في لاميته المعروفة بلامية العجم :

حبّ السلامة يُثني همّ صاحبه

عن المعالي ويُغري المرء بالكسلِ

فإن جنحتَ إليه فاتخذ نفقاً

في الأرض أو سُلّماً في الجوِّ واعتزلِ

لو كان في شرف المأوى بلوغُ منى

لم تبرح الشمس يوماً دارة الحملِ

وشأنَ صدقك عند الناس كذبهم

وهل يطابق معوجّ بمعتدلِ

ملك القناعة لا يُخشى عليه ولا

يحتاج فيه إلى الأنصار والخولِ

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها

فهل سمعت بظل غير منتقلِ

وما نرى في الذكر الحكيم من ذم للشعراء ، يقول سبحانه : ( وَالشُّعَراءُ يَتِّبعُهُم الغاوُون * أَلَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِي كُلِّ واد يهيمُون * وَانَّهُمْ يَقُولونَ ما لا يَفْعَلُون ) (١)

__________________

١ ـ الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

٨

فهو راجع إلى الشعراء الذين لا همّ لهم سوى الحصول على المزيد من حطام الدنيا من خلال مدح ذوي الجاه والمقام أملاً في نيل عطائهم ، أو إثارة شهواته الجامحة التي تعصف بالمجتمع في ورطة الانحلال الاخلاقي.

ثمّ إنّه سبحانه لا ينظر إلى الجميع على حدّ سواء بل يستثني منهم طائفة ، بقوله : ( إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَروُا اللّه كَثِيراً وَانْتَصروا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُون ) (١).

وبذلك يتبين موقف الأحاديث الواردة في هذا المضمار ، فهي بين مندِّدة بالشعر وبين مادحة له ، كما في قوله :

إنّ من الشعر لحكمة ، وإنّ من البيان لسحرا. (٢)

وقد كان الشعر هو الوسيلة الوحيدة للإعلام وآثارة العواطف والأحاسيس وبثّ الأفكار من خلاله ، وكان للشعر والشعراء في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده مقام شامخ ، وكان أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام يغدقون عليهم بالعطايا والصلات.

قال البراء بن عازب : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيل له : إنّ أبا سفيان بن حارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام عبد اللّه بن رواحة فقال : يا رسول اللّه : ائذن لي فيه ، فقال : « أنت الذي تقول ثبَّت اللّه » ، قال : نعم ، قلت يا رسول اللّه.

فثبت اللّه ما أعطاك من حسن

تثبيت موسى ونصراً مثل ما نصروا

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وأنت يفعل اللّه بك خيراً مثل ذلك ». (٣)

__________________

١ ـ الشعراء : ٢٢٧.

٢ ـ مسند أحمد : ١ / ٢٦٩ ، ٢٧٣ ؛ سنن الدارمي : ٢ / ٢٩٦.

٣ ـ مستدرك الحاكم : ٣ / ٤٨٨.

٩

وقد أنشد كعب بن زهير قصيدته التي قالها في مدح النبي في مسجده الشريف ، وآلتي مطلعها :

بانت سُعادُ فقلبي اليوم متبول

متيم إثرَها لم يفد مكْبولُ

قال الحاكم : لما أنشد كعب قصيدته هذه لرسول اللّه ، وبلغ قوله :

إنّ الرسول لسيفٌ يُستضاء به

وصارمٌ من سيوف اللّه مسلول

أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكمه إلى الخلق ليسمعوا منه. (١)

ويروى أنّ كعباً أنشد « من سيوف الهند » فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سيوف اللّه.

قال المقريزي في حوادث السنة الثامنة من الهجرة : ففي هذه السنة كان إسلام كعب بن زهير بن أبي سُلمى ، فأسلم وقدم على رسول اللّه المدينة وأنشده القصيدة فكساه بُردة كانت عليه ، وقال ابن قتيبة : أعطى رسول اللّه كعب بن زهير راحلة وبُردًا ، فباع البُرد من معاوية بعشرين ألفاً ، فهو عند الخلفاء إلى اليوم. (٢)

وقد تأسّى أئمّة العترة الطاهرة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكريم الشعراء المجاهرين بولائهم ، المخلصين من الذين كانوا ينظمون القريض لغايات دينيّة ، معرضين عن التردّد على بلاط الخلفاء الأمويين والعباسيين ، وقد كان لشعرهم يومذاك تأثير بالغ في قلوب الناس ، وإيقاظ ضمائرهم ، ولهذا الهدف الأسمى كان أئمّة أهل البيت يبجّلون بشعرهم ويدعون لهم ويغدقون عليهم بالصلات ، ولهذه الغاية راجت بين شيعة أئمّة أهل البيت ميميّة الفرزدق ، وهاشميّات الكميت ، وعينية الحميري ، وتائية دعبل الخزاعي ، وميميّة الأمير أبي فراس ، وكانوا يحفظونها

__________________

١ ـ مستدرك الحاكم : ٣ / ٥٨٠.

٢ ـ المقريزي : الإمتاع : ١ / ٣٥٦ ، ط عام ١٤٠١ هـ.

١٠

وينشدونها في مجالسهم ومحافلهم ، فصارت هذه القصائد كالسيف الصارم بيد الموالين.

ومن هذه الطليعة الشاعر المفلق المكْثر لثناء أهل البيت السيد الحميري الذي نحن بصدد التقديم له وللشرح الذي قام به نابغة عصره الشيخ بهاء الدين الاصبهاني المعروف ب‍ « الفاضل الهندي » ، فيلزم علينا الإلمام بترجمة الشاعر أوّلاً ، ثمّ الشارح ثانياً حسب ما تقتضيه الحال.

السيد الحميري

هو إسماعيل ، وكنيته أبو هاشم ، بن محمد بن يزيد بن وداع الحِمْيري الملقب بالسيد ، وانّه من بني حدّان تزوّج بها أبوه ، لأنّه كان نازلاً فيهم ، ولد عام ١٠٥ هـ (١) ، بعُمان ونشأ في البصرة في حضانة والديه الإباضيّين إلى أن عقل وشعر فهاجرهما وآتصل بالأمير عقبة بن مسلم وتزلّف لديه حتى مات والداه ، فورثهما ـ كما سيوافيك خبره ـ ثمّ غادر البصرة إلى الكوفة وأخذ فيها الحديث عن الأعمش وعاش متردّداً بينهما. ومات (٢) عام ١٧٣ هـ.

ترجمه غير واحد من رجال الفريقين نذكر نصوصهم :

١. فقد ذكره الشيخ الطوسي في رجاله في أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : إسماعيل بن محمد الحميري ، السيد الشاعر يكنّى أبا عامر. (٣)

٢. وذكر في الفهرست ، وقال : السيد بن محمد ، أخباره تأليف الصولي ،

__________________

١ ـ أخبار السيد للمرزباني : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢ ـ لسان الميزان : ١ / ٣٨٣.

٣ ـ رجال الطوسي برقم ١٠٨.

١١

أخبرنا بها ابن عبدون عن أبي بكر الدوري عن الصولي. (١)

٣. ولم يترجمه النجاشي مستقلاً ، وإنّما ذكر من جمع أخباره وسيوافيك أسماء من جمع أخبار السيد.

٤. وقال ابن شهر آشوب في المعالم في فصل الشعراء المجاهدين :

السيد أبو هاشم إسماعيل بن محمد بن يزيد (٢) ( بن محمد ) (٣) بن وداع بن مفرغ الحميري.

من أصحاب الصادق عليه‌السلام ولقي الكاظم عليه‌السلام وكان في بدء الأمر خارجياً ثمّ كيسانيّاً ثمّ إمامياً. (٤)

٥. وقال العلاّمة في الخلاصة في القسم الأوّل من الباب الثاني من فصل الهمزة.

إسماعيل بن محمد الحميري : ثقة ، جليل القدر ، عظيم الشأن والمنزلة رحمه‌الله. (٥)

إلى غير ذلك من كلمات الإطراء في حقّه في معاجم أصحابنا ، وأمّا ما ذكره غيرهم ، فإليك نصوص بعضها :

٦. قال ابن عبد ربّه : السيد الحميري وهو رأس الشيعة ، وكانت الشيعة من تعظيمها له تلقي له الوسادة في مسجد الكوفة. (٦)

٧. وقال أبو الفرج الاصفهاني ( المتوفّى عام ٣٥٦ هـ ) : كان السيد شاعراً

__________________

١ ـ الفهرست برقم ٣٥٠.

٢ ـ وفي المصدر مزيد ولعله مصحف يزيد كما في اخبار السيد للمرزباني.

٣ ـ هذه الزيادة ليست في أخبار السيد المرزباني.

٤ ـ معالم العلماء : ١٤٦.

٥ ـ الخلاصة ، باب الهمزة ، برقم ٢٢.

٦ ـ العقد الفريد : ٢ / ٢٨٩.

١٢

متقدماً مطبوعاً ، يقال له انّ أكثر الناس شعراً في الجاهلية وآلإسلام ثلاثة : بشّار ، أبو العتاهية ، والسيد ، فانّه لا يعلم انّ أحداً قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع. (١)

كان السيد أسمر ، تامّ القامة ، أشنب (٢) ، ذا وفرة ، حسن الألفاظ ، جميل الخطاب ، إذا تحدث في محل قوم أعطى كلّ رجل في المجلس نصيبه من حديثه. (٣)

٨. ونقل عن التوزي ، أنّه قال : رأى الأصمعي جزءاً فيه من شعر السيد ، فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه ، فأقسم عليّ ان أخبره فأخبرته ، فقال : أنشدني قصيدة منه ، فأنشدته قصيدة ثمّ أُُخرى ، وهو يستزيدني ، ثمّ قال : قبّحه اللّه ما أسلكه لطريق الفحول! لولا مذهبه ، ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحداً من طبقته. (٤)

أقول : « كلّ إناء بالّذي فيه ينضح » (٥) ، انّ الاصمعي ناصبي عنيد يبغض علي بن أبي طالب عليه‌السلام والعترة الطاهرة عليهم‌السلام فلا غرو في أن يدعو على السيد بما عرفت ، ولكن مع ذلك لم يستطع أن يُسدل الستار على عظمة السيد في مجال الشعر ، وانّه سلك طريق الفحول في عالم القريض ، ويتلوه في المذهب والإطراء أبو عبيدة ، ومع ذلك يقول في حقّ السيد أشعر المُحْدَثِين السيّد الحميري وبشار. (٦)

٩. وروى عمر بن شبّة ، قال : أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنى يوماً وعنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتاباً ، فلمّا رآني أطبقه ، فقال له أبو عبيدة : إنّ أبا

__________________

١ ـ الأغاني : ٧ / ٢٢٩.

٢ ـ الشنب : البياض والبريق والتحديد في الاسنان.

٣ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣١.

٤ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٢.

٥ ـ « مثل يُضرب ».

٦ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٢.

١٣

زيد ليس ممن يحتشم منه فأقرأ ، فأخذ الكتاب وجعل يقرأه ، فإذا هو شعر السيد ، فجعل أبو عبيدة يُعجب منه ويستحسنه ، قال أبو زيد : وكان أبو عبيدة يرويه ، قال : وسمعت محمد بن أبي بكر المقدمي ، سمعت جعفر بن سليمان الضُّبعي ينشد شعر السيد. (١)

١٠. وحكى عن الموصلي عن عمِّه ، قال : جمعت للسيد في بني هاشم الفين وثلاثمائة قصيدة فخِلْتُ أن قد استوعبت شعره حتى جلس إليّ يوماً رجل ذو أطمار رثّة ، فسمعني أنشد شيئاً من شعره فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي ، فقلت في نفسي لو كان هذا يعلم ما عندي كلّه ، ثمّ أنشدني بعده ما ليس عندي ، لكان عجيباً ، فكيف وهو لا يعلم وإنّما أنشد ما حضره ، وعرفت حينئذ انّ شعره ممّا لا يدرك ولا يمكن جمعه كلّه. (٢)

١١. قال غانم الوراق : خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمر بن تميم ، فأثبتني بعضهم ، فقال : هذا الشيخ واللّه راوية ، فجلسوا إليّ وأنسوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرمة ، فعرفوه ، وبشعر جرير فعرفوهما ثمّ أنشدتهم للسيد.

قال : فجعلوا يمرقون لإنشادي ويطربون ، وقالوا : لمن هذا ، فأعلمتهم ، فقالوا : هو واللّه أحد المطبوعين ، لا واللّه ما بقي في هذا الزمان مثله. (٣)

١٢. قال الزبير بن بكار : سمعت عمي يقول : لو انّ قصيدة السيد التي يقول فيها:

انّ يوم التطهير يوم عظيم

خصَّ بالفضل فيه أهل الكسا

__________________

١ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٦.

٢ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٧.

٣ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٩.

١٤

قرأت على منبر ما كان فيها بأس ولو انّ شعره كله كان مثله لرويناه وما عيّبناه. (١)

١٣. حدث الحسين بن ثابت ، قال : قدم علينا بدويّ ، وكان أروى الناس لجرير ، فكان ينشدني الشيء من شعره ، فأُنشد في معناه للسيد حتى أكثرتُ ، فقال لي : ويحك! من هذا؟ هو واللّه ، أشعر من صاحبنا. (٢)

وهذه الكلمات التي نقلها ابي الفرج الاصفهاني تعرب عن تضلّع السيد في الأدب العربي وبلوغه الذروة في القريض بحيث لا يجاريه فيه أحد ، وقد نال اعجاب عباقرة الشعر وجهابذة الأدب ، ولولا كفاحه ونضاله وتهالكه في حب أهل البيت ، ومناهضته للجهاز الأموي وآلعباسي ، لحظي بمكانة مرموقة في بلاط الخلفاء ، وعلى الرغم من ذلك ، فقد شهدت بفضله الأعداء ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، وقد أتاح سبحانه لسان أعدائه على تمجيده وتعظيمه.

أُسرة السيد

والعجب انّ أُسرة السيد الحميري كانت من بني حمير الذين قطنوا عمان وكانوا أباضية المذهب يكنُّون العداء لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام. وعلى الرغم من كلّ ذلك فقد ظهر من هذا المنبت السوء ، موال لأهل البيت عليهم‌السلام ، مخلص في حبهم ، ذابّ عن حريم ولايتهم بشعره وبيانه وجسمه وروحه ، على نحو لم يُر له مثيل فيمن غبر.

روى سليمان بن أبي شيخ عن أبيه : انّ أبوي السيد كانا إباضيّين ، وكان منزلهما بالبصرة في غرفة بني ضبّة ، وكان السيد يقول : طالما سُبّ أمير المؤمنين في

__________________

١ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٩.

٢ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٩.

١٥

هذه الغرفة ، فإذا سئل عن التشيّع من أين وقع له ، قال : غاصت عليَّ الرحمة غوصاً.

وروي عن السيد انّ أبويه لما علما بمذهبه همّا بقتله ، فأتى عقبة بن سلم الهنائي ، فأخبره بذلك فأجاره وبوأه منزلاً وهبه له فكان فيه حتى ماتا فورثهما. (١)

وقال إسماعيل بن الساحر راوية السيد : كنت عنده يوماً في جناح له ، فأجال بصره فيه ، ثم قال : يا إسماعيل طال واللّه ما شُتم أمير المؤمنين عليّ في هذا الجناح ، قلت ومن كان يفعل؟ قال : أبواي. (٢)

وقال المرزباني بسنده عن العباسة بنت السيد ، قالت : قال لي أبي : كنت وأنا صبيّ أسمع أبويّ يثلبان أمير المؤمنين عليه‌السلام فأخرج عنهما وأبقى جائعاً ، وأوثر ذلك على الرجوع إليهما فأبيت في المساجد جائعاً لحبّي فراقهما وبغضي إياهما حتى إذا أجهدني الجوع رجعت فأكلت ثمّ خرجت ، فلمّا كبرت قليلاً وعقلت وبدأت أقول الشعر.

قلت لأبويّ : إنّ لي عليكما حقاً يصغر عند حقّكما عليّ فجنِّباني إذا حضرتكما ذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بسوء ، فإنّ ذلك يزعجني وأكره عقوقكما بمقالتكما ، فتماديا في غيّهما ، فانتقلت عنهما ، وكتبت إليهما شعراً ، وهو :

خف يا محمّد فالق الاصباح

وأزل فساد الدين بالإصلاح

__________________

١ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٠.

٢ ـ الأغاني : ٧ / ٢٣٥.

١٦

أتسبّ صنو محمّد ووصيه

ترجو بذلك الفوز بالإنجاح

هيهات قد بعدت عليك وقرّبا

منك العذاب وقابض الأرواح

أوصى النبي له بخير وصية

يوم الغدير بأبين الأفصاح

فتواعداني بالقتل ، فأتيت الأمير عقبة بن مسلم فأخبرته خبري ، فقال لي : لا تقربهما ، وأعدّ لي منزلاً أمر لي فيه بما أحتاج إليه وأجرى عليَّ جراية تفضل عن مؤنتي. (١)

تفانيه في حبّ أهل البيت عليهم‌السلام ونشر مناقبهم

إنّ الأثر البارز في حياة السيد هو تفانيه في حبّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ونشر مناقبهم بقريظه وشعره وبيانه ولسانه ، ونقده اللاذع لأعداء العترة الطاهرة ومناوئيهم ، على نحو لا يرضى أن يتبوّأ مجلساً ليس فيه ذكر لأحمد ولا لوصيه عليه‌السلام.

روى أبو الفرج الاصبهاني ، عن الحسن بن علي بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي : كنا جلوساً عند أبي عمرو بن العلا فتذاكرنا السيد ، فجاء فجلس

__________________

١ ـ أخبار شعراء الشيعة : ١٥٤ ـ ١٥٥ ، ط عام ١٤١٣ هـ.

١٧

وخضنا في ذكر الزرع والنخل ساعة فنهض ، فقلنا : يا أبا هاشم ، مِمّ القيام؟ فقال :

انّي لأكره ان أطيل بمجلس

لا ذكرَ فيه لفضل آل محمّد

لا ذكر فيه لأحمد ووصيه

وبنيه ذلك مجلس نظف (١) ردئ

انّ الذي ينساهم في مجلس

حتى يفارقه لغير مسدّد (٢)

وهناك وثائق تاريخية تعرب عن إخلاص السيد وولائه المنقطع النظير للعترة الطاهرة ، نقتطف منها هذه الشذرات ، فانّ الاستيعاب يطيل بنا الكلام.

١. ذكر التميمي ـ وهو علي بن إسماعيل ـ عن أبيه ، قال : كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام إذ استأذنه آذنه للسيد ، فأمر بايصاله ، وأقعد حرمه خلف ستر ، ودخل فسلم وجلس ، فاستنشده ، فأنشده قوله :

أمْرُر على جدث الحسيـ

ـن فقل لأعظُمه الزكيّه

آ أعظُماً لا زلت من

وَطفَاء (٣) ساكبةٍ رَويّه

__________________

١ ـ النظف : السيء الفاسد.

٢ ـ الأغاني : ٧ / ٢٦٧.

٣ ـ وطفاء : بينة الوطف ، والوطف في السحاب : أن يكون في وجهه كالمحل الثقيل ، أو هو استرخاء في جوانبه لكثرة مائه.

١٨

وإذا مررت بقبره

فأطل به وَقف المطيّه

وأبكِ المطهَّر للمطـ

ـهّر والمطهَّرة النقيّه

كبُكاء مُعولة أتت

يوماً لواحدها المنيّه

قال : فرأيت دموع جعفر بن محمد تنحدر على خديه ، وارتفع الصراخ والبكاء من داره ، حتى أمره بالإمساك فأمسك. (١)

٢. روى الشيخ ابن قولويه ( المتوفّى عام ٣٦٧ هـ ) بسنده عن أبي هارون المكفوف : قال : دخلت على أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، فقال لي : أنشدني ، فأنشدته ، فقال : لا ، كما تنشدون ، وكما ترثيه عند قبره ، قال فأنشدته.

امرر على جدث الحسين

فقل لأعظمه الزكيّه

قال : فلما بكى أمسكت أنا ، فقال : مر ، فمررت ، قال : ثمّ قال : زدني زدني ، قال : فأنشدته :

يا مريم قومي فاندبي مولاك

وعلى الحسين فاسعدي ببكاك

قال : فبكى وتهايج النساء (٢)

٣. روى أبو سليمان الناجي ، ومحمد بن حليم الأعرج ، قالا :

__________________

١ ـ الأغاني : ٧ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٢ ـ كامل الزيارات : ١٠٥ ـ ١٠٦ ، ط النجف الأشرف ؛ ثواب الأعمال : ١٠٩ ، ط عام ١٣٩١ هـ.

١٩

كان السيد إذا استنشد شيئاً من شعره لم يبدأ بشيء إلاّبقوله :

أجَدّبآل فاطمةَ البكورُ

فدمعُ العين منهمر غزير

وهناك منام صادق ينمُّ عن أنّ البيت المزبور حظى بإعجاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

حدث إبراهيم بن هاشم العبدي البصري ، قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وبين يديه السيد الشاعر وهو ينشد :

أجدّ بآل فاطمة البكور

فدمع العين منهمر غزير

حتى أنشده إيّاها على آخرها وهو يسمع :

قال : فحدثت هذا الحديث رجلاً جمعتني وإيّاه طوس عند قبر علي بن موسى الرضا ، فقال لي : واللّه لقد كنت على خلاف فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وبين يديه رجل ينشد :

أجدّ بآل فاطمة البكور

......................................

إلى آخرها ، فاستيقظت من نومي وقد رسخ في قلبي من حبّ علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ما كنت أعتقده. (١)

قال إسحاق : وسمعت العتبي ، يقول : ليس في عصرنا هذا أحسن مذهباً في شعره ولا أنقى ألفاظاً من السيد ، ثمّ قال لبعض من حضر : أنشدنا قصيدته اللامية التي أنشدتناها اليوم ، فأنشده قوله :

هل عند من أحببت تنويل

أم لا فانّ اللوم تضليل

__________________

١ ـ الأغاني : ٧ / ٢٤٦.

٢٠