دروس موجزة في علمي الرجال والدراية

الشيخ جعفر السبحاني

دروس موجزة في علمي الرجال والدراية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨

الدرس الرابع

أدلّة نفاة الحاجة إلى علم الرجال

(٢)

نقد قطعية أو صحّة أحاديث « الفقيه »

إنّ كتاب « من لا يحضره الفقيه » تأليف الشيخ محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ( ٣٠٦ ـ ٣٨١ هـ ) المعروف بالشيخ الصدوق من أصحّ الكتب الحديثية وأتقنها بعد « الكافي » وقد طلب منه أبو عبد اللّه محمد بن الحسن المعروف بـ « نعمة » أن يصنّف كتاباً في الفقه والحلال والحرام ويسمّيه بـ « من لا يحضره الفقيه » ، كما صنّف الطبيب الرازي محمد بن زكريا كتاباً في الطب وأسماه « من لا يحضره الطبيب ».

فأجاب مسؤوله وصنّف هذا الكتاب له ، وهو يصفه بقوله :

« ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحته ، واعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز بن عبداللّه السجستاني ... وغيرها من الأُصول والمصنّفات التي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي

٢١

وأسلافي ( رضي اللّه عنهم ) ». (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ المدّعى هو كون روايات الفقيه قطعية الصدور بمعنى تواترها أو محفوفة بالقرائن التي تفيد العلم بالصدور ، والمتبادر من العبارة هو اعتقاد الصدوق بصحّة ما أورده فيه ، والصحيح أعمّ من القطعيّ ؛ لأنّ كون الرواية صحيحة عند المؤلّف غير كونها قطعية الصدور ، فالمراد من الصحة هي اعتبارها عنده وكونها حجّة بينه وبين ربّه ، وهو غير كونها قطعية الصدور.

ثمّ إنّ تصحيح أحد الأعلام المتقدّمين كالكليني والصدوق للرواية لا يكون حجّة إلاّ عليهم لا على غيره ، بعدما كانت شرائط الحجّية مختلفة الأنظار ، فربّ حديث ، صحيح عند الصدوق وليس كذلك عند المتأخّرين وبالعكس ، فعلى المستنبط أن يتحرّى حتى يقف على صحّة الرواية وعدمها.

فتلخّص من ذلك : انّ الصدوق لم يدّع قطعية الروايات الواردة في « الفقيه » وإنّما ادّعى اعتبارها ، لكن كون الرواية معتبرة عند مجتهد لا يكون دليلاً على اعتبارها عند المجتهد الآخر.

وثانياً : أنّ أحاديث كتاب « الفقيه » لا تتجاوز عن ٥٩٦٣ حديثاً ، منها ٢٠٥٠حديثاً مرسلاً ، وعند ذلك كيف يمكن الركون إلى هذا الكتاب والقول بقطعية مراسيله أو اعتبارها؟!

وأمّا « التهذيب » و « الاستبصار » اللّذان يعدّان من الكتب الأربعة فهما من تأليف الشيخ محمد بن الحسن الطوسي وهو لم يدّع قطعية الأخبار الواردة فيهما ولا صحتها ; بل صرّح في مقدّمة كتابه بأنّ بعض ما أورده فيهما ضعيف سنداً ، وقسم منها عمل الأصحاب على خلافها. (٢)

__________________

١. من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢ ـ ٥.

٢. انظر التهذيب : ١ / ٣.

٢٢

إلى هنا تمّ الدليل الأوّل لنفاة الحاجة إلى علم الرجال ، وإليك دراسة الدليل الثاني لهم.

الثاني : عمل المشهور جابر لضعف السند

ذهب بعضهم إلى أنّ كلّ خبر عمل به المشهور فهو حجّة سواء كان الراوي ثقة أم لا ، وكلّ خبر لم يعمل به المشهور ليس بحجّة وإن كان رواته ثقات.

يلاحظ عليه : انّ معرفة المشهور في كلّ المسائل أمر صعب للغاية ، لأنّ بعض المسائل غير معنونة في كتبهم ، وجملة أُخرى منها لا شهرة فيها ، وقسم منها يعدّمن الأشهر والمشهور ، ولأجل ذلك لا مناص من القول بحجّية قول الثقة وحده وإن لم يكن مشهوراً ، نعم يجب أن لا يكون معرضاً عنه كما حقّق في محلّه.

الثالث : لا طريق إلى إثبات العدالة

إنّ الغاية من الرجوع إلى الكتب الرجالية ، هو الوقوف على عدالة الراوي ، ولكنّها لا تثبت ، وذلك لأنّ أصحاب الكتب الرجالية ، ما عاصروا الرواة ولا عاشروهم ، وإنّما رجعوا في التعديل والجرح إلى الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة التي كانت أصحابها معاصرين ومعاشرين مع الرواة أو مقاربين لأعصارهم ، فإنّ مضامين الأُصول الرجالية الخمسة وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر ، انّه لا « عبرة بالكتابة ولا بالقرطاس » كما هو الأساس في كتاب القضاء.

والجواب أوّلاً : أنّ قسماً كبيراً من تعديلهم وجرحهم مستند إلى السماع من كابر عن كابر ، ومن ثقة عن ثقة ، فتكون شهاداتهم في حقّ الرواة ، مستندة إلى

٢٣

السماع من شيوخهم إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطبقة النهائية معاصرين لهم أو مقاربين لأعصارهم.

كما أنّ قسماً آخر من قضائهم في حقّ الرواة مستند إلى الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب ، نظير علمنا بعدالة الشيخ الأنصاري وغيره من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كلّ جيل وعصر إلى أن ينتهي إلى عصر الشيخ نفسه.

وثانياً : نفترض انّ تعديلهم وجرحهم كان مستنداً إلى الكتب المدوّنة في عصر الرواة ، لكن لمَ لا يجوز الاعتماد عليها إذ ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها؟ وما ربّما يقال من أنّه لا عبرة بالقرطاس أو بالكتابة فإنّما يراد المشكوكة لا المتيقّنة ، ولذلك تقبل الأقارير والوصايا المكتوبة إذا كانت بخط المقرّ أو الموصي ، أو خط غيرهما لكن دلّت القرائن على صحّة ما رُقّم كما إذا ختمت بخاتم المقرّ والموصي ، ومن يرفض الكتابة فانّما يرفضها في المشكوك لا في المعلوم والمطمئن منها.

ثمّ إنّ لنفاة الحاجة إلى علم الرجال أدلّة أُخرى ضعيفة ، استعرضناها مع أجوبتها في كتابنا « كليات في علم الرجال » فلاحظ.

تمرينات

١. هل يدل ما ذكره الصدوق في مقدمة كتاب « الفقيه » على قطعية صدور رواياته ، أو لا؟ ولماذا؟

٢. ما هو الوجه الثاني لنفاة الحاجة إلى علم الرجال ، وما هو جوابه؟

٣. ما هو الوجه الثالث لنفاة الحاجة إلى علم الرجال ، وما هو جوابه؟

٤. ماذا يراد من قولهم : « لا عبرة بالقرطاس والكتابة » وهل معناه نفي الاعتماد على الكتب الرجالية؟

٢٤

الدرس الخامس

طرق ثبوت وثاقة الراوي

التوثيقات الخاصّة

ينقسم التوثيق إلى توثيق خاص ، وإلى توثيق عام.

فالمراد من الأوّل هو التوثيق الوارد في حقّ شخص معيّن ، من دون أن تكون هناك ضابطة خاصة في البين.

والمراد من الثاني هو توثيق جماعة تحت ضابطة خاصة وعنوان معيّن.

وإليك بيان التوثيقات الخاصة ، وأمّا العامّة فسيوافيك بيانها لاحقاً.

يثبت التوثيق الخاص بوجوه نذكرها واحداً تلو الآخر :

الأوّل : نصّ أحد المعصومين عليهم‌السلام

إذا نصّ أحد المعصومين عليهم‌السلام على وثاقة الرجل ، فإنّ ذلك يثبت وثاقته قطعاً ، وهذا من أوضح الطرق وأسماها ، ولكن يتوقّف على ثبوته بالعلم الوجداني أو برواية معتبرة ؛ والأوّل غير متحقّق في زماننا ، إلاّ أنّ الثانية موجودة كثيراً.

مثلاً : روى الكشّي بسند صحيح عن علي بن المسيب ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شُقّتي بعيدة ولست أصِلُ إليك في كلّ وقت ، فعمّن آخذ معالم ديني؟

٢٥

فقال : « من زكريا بن آدم القمي ، المأمون على الدين والدنيا ». (١)

نعم يجب أن يصل التوثيق بسند صحيح ، ويترتب عليه أمران :

الأوّل : لا يمكن الاستدلال على وثاقة الراوي برواية نفسه عن الإمام ، فإنّ إثبات وثاقة الراوي بقوله يستلزم الدور الواضح ، وكان سيدنا الأُستاذ الإمام الخميني قدس‌سره يقول : إذا كان ناقل الوثاقة هو نفس الراوي ، فإنّ ذلك يثير سوء الظن به ، حيث قام بنقل مدائحه وفضائله في الملأ الإسلامي.

الثاني : لا يمكن إثبات وثاقة الراوي بالرواية الضعيفة ، فإنّ الرواية إذا لم تكن قابلة للاعتماد كيف تثبت بها وثاقة الراوي؟!

الثاني : نصّ أحد أعلام المتقدّمين

إذا نصّ أحد أعلام المتقدّمين كالبرقي والكشّي وابن قولويه والصدوق والمفيد والنجاشي والشيخ وأمثالهم على وثاقة الراوي.

لكنّ الاكتفاء بتوثيق واحد منهم مبني على حجّية قول الثقة في الأحكام والموضوعات ، فكما أنّ قول الثقة حجّة في الأحكام من دون لزوم التعدّد فهكذا حجّة في الموضوعات ، ومنها المقام أي كون الراوي ثقة أو غير ثقة. وقد أثبتنا في بحوثنا الأُصولية انّ دليل حجّية خبر الثقة يعمّ الأحكام والموضوعات معاً إلاّ ما دلّ الدليل الشرعي على التعدّد ؛ كما في المرافعات لفضّ الخصومات حيث لا يُقضى إلاّ بالبيّنة ، ومثلها رؤية الهلال وغيرهما. وقد وردت روايات يستنبط منها حجّية قول الثقة في الموضوعات ذكرناها في كتابنا « كليات في علم الرجال ». (٢)

ثمّ على القول بحجّية قول الثقة في الحكم والموضوع يبقى هناك إشكال ، وهو انّ إخبار الأعلام المتقدّمين عن الوثاقة والحسن ، لعلّه نشأ من الحدس

__________________

١. رجال الكشي : ٤٩٦.

٢. كليات في علم الرجال : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢٦

والاجتهاد وإعمال النظر ، فلا تشمله أدلّة حجّية خبر الثقة فإنّها لا تشمل إلاّ الإخبار عن حسّ.

والجواب : انّه لا شكّ في اختصاص قول الثقة بما إذا أخبر عن حس لا عن حدس ، ومبنى الأصحاب في التوثيق والجرح كان هو الحس لا الحدس ، ويؤيد ذلك انّ النجاشي ربّما يستند إلى أقوال الرجال ، ويقول : « ذكره أحمد بن الحسين » ، (١) إلى غير ذلك من الموارد.

والذي يبيّن انّهم كانوا يستندون في التوثيق والتضعيف على الحسّ دون الحدس ، قول الشيخ في كتاب « العدّة » في آخر فصله ، حيث قال في ثنايا البحث عن حجّية خبر الواحد :

« إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثّقت الثقات منهم ، وضعّفت الضعفاء ، وفرّقت بين من يعتمد على حديثه وروايته ، وبين من لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذمّوا المذموم وقالوا : فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلّط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها. وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال في جملة ما رووه في التصانيف في فهارسهم ، حتّى أنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعفه برواته. هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم ». (٢)

وهذا دليل على أنّ التوثيق والتضعيف ، والمدح والقدح كانت من الأُمور الشائعة المتعارفة بين العلماء ، وكانوا ينصّون عليها في كتبهم.

الثالث : نصّ أحد أعلام المتأخّرين

وما تثبت به وثاقة الراوي أو حسن حاله هو نص أحد أعلام المتأخّرين عن

__________________

١. المراد ابن الغضائري في كتابه.

٢. عدّة الأُصول : ١ / ١٤١ ، ط تحقيق الأنصاري.

٢٧

الشيخ الطوسي ؛ ولكنّه على قسمين : قسم مستند إلى الحس ، وقسم مستند إلى الحدس.

فالأوّل كما في توثيقات الشيخ منتجب الدين ( المتوفّى ٥٨٥ هـ ) وابن شهر آشوب ( المتوفّى ٥٨٨ هـ ) صاحب « معالم العلماء » وغيرهما ، فإنّهم لأجل قرب عصرهم لعصور الرواة ، ووجود الكتب الرجالية المؤلّفة في العصور المتقدّمة بينهم ، كانوا يعتمدون في التوثيق والتضعيف على السماع ، أو الوجدان في الكتاب المعروف أو على الاستفاضة والاشتهار ، ودونهما في الاعتماد ما ينقله ابن داود في رجاله ، والعلاّمة في خلاصته عن بعض علماء الرجال.

والثاني كالتوثيقات الواردة في رجال من تأخّر عنهم كالميرزا الاسترآبادي والسيد التفريشي والأردبيلي والقهبائي والمجلسي والمحقّق البهبهاني وأضرابهم ، فإنّ توثيقاتهم مبنيّة على الحدس والاجتهاد كما تفصح عنه كتبهم ، فلو قلنا بأنّ حجّية قول الرجالي من باب الشهادة ، فلا تعتبر توثيقات المتأخّرين ; لأنّ آراءَهم في حقّ الرواة مبنيّة على الاجتهاد والحدس ، ولا شكّ في أنّه يعتبر في قبول الشهادة إحراز كونها مستندة إلى الحس دون الحدس ، كيف؟ وقد ورد في باب الشهادة انّ الصادق عليه‌السلام قال : « لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك ». (١)

تمرينات

١. ما هو الطريق الأوّل لمعرفة وثاقة الراوي ، مع ذكر مثال له؟

٢.هل تنصيص أعلام المتقدّمين على الوثاقة حجّة ، أو لا؟ ولماذا؟

٣. اذكر كلام الشيخ في كتاب العدة ، وماذا أراد منه؟

٤. هل تنصيص أعلام المتأخّرين على الوثاقة حجّة أو لا؟ وهل هناك فرق بين من قَرُبَ عهدهُ من زمان الرواة ومَنْ بعد عنه؟

__________________

١. الوسائل : ١٨ ، الباب ٢٠ من أبواب الشهادات ، الحديث ١ و ٣.

٢٨

الدرس السادس

تصحيح الرجوع إلى توثيقات المتأخّرين

إذا كان الرجوع إلى قول الرجالي من باب الشهادة ، فقد علمت أنّه لا عبرة بتوثيقات المتأخّرين ; لأنّه يشترط في صحّة الشهادة ونفوذها استنادها إلى الحس ، وهذا الشرط منتف في توثيقاتهم.

نعم يمكن تصحيح الرجوع إلى توثيقاتهم بوجهين :

الأوّل : الرجوع إلى أهل الخبرة

إنّ الرجوع إلى قول الرجالي يُعدّ من أقسام الرجوع إلى أهل الخبرة ، ولا يشترط في الاعتماد على أقوالهم أن يكون نظرهم مستنداً إلى الحس ، فإنّ قول الخبير حجة سواء استند إلى الحس وهو قليل ، أم إلى الحدس وهو كثير.

ألا ترى أنّ قول الطبيب المعالج حجّة في حقّ المريض ، فلو أمر الطبيب المريض بالامتناع من استعمال الماء ، يجب على المريض التيمّم مكان الوضوء ; أو قال بأنّ الصوم مضرّ بصحّته ، يجب على الصائم الإفطار.

ومنه أيضاً تقييم الخسارات الواردة على الأموال ، ومثلها الجناية فيرجع في تحديدها إلى أهل الخبرة ، وليس نظرهم مستنداً إلى الحس.

٢٩

فالعالم الرجالي خبير في معرفة الرواة من حيث الوثاقة وضدّها وإن استند في نظره إلى القرائن والشواهد المفيدة للاطمئنان في مورده.

وهذا الوجه إنّما يفيد لمن يقول بحجّية قول الرجالي من باب أنّهم أهل الخبرة.

الثاني : حجّية الخبر الموثوق بصدوره

إنّ الدليل الوحيد على حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء وسيرتهم المتّصلة بزمن المعصومين الكاشفة عن رضاهم بالعمل بخبر الواحد ، ولكن الكلام فيما هو موضوع الحجّية ، فهناك نظران :

أ. انّ الحجّة هو خبر الثقة بما هو ثقة وإن لم يفد الوثوقَ بصدور الرواية.

فلو كان هذا هو الموضوع فلا يفيد الرجوع إلى توثيقات المتأخّرين في إثبات الصغرى ، وهو انّ المخبر ثقة ، لعدم استنادهم في مقام الشهادة إلى الحسّ.

ب. انّ الموضوع للحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره سواء أكان الراوي ثقة أم لا ، وانّ العمل بخبر الثقة لأجل انّه يفيد الوثوق بصدور الرواية.

فإذا كان هذا هو ملاك الحجّية فالرجوع إلى توثيقات المتأخّرين الذين يعتمدون في التعديل والجرح على القرائن والأمارات ، ربما يورث الوثوق بصدور الخبر فلا يكون الرجوع إلى أقوالهم وكلامهم أمراً غير مفيد.

طرق الوثوق بصدور الرواية

كما أنّ توثيقات المتأخّرين من الطرق المورثة للعلم بصدور الرواية ، فإنّ هناك أُموراً أُخرى يجب على المستنبط القيام بها مباشرة ، فإنّها من الأُمور المورثة

٣٠

للوثوق بالرواية وعدمه.

أ. أن يعرف طبقة الراوي وعصره وأساتذته وتلاميذه ليميّز الأسماء المشتركة بين الرواة ، والمرسلة عن غيرها.

ب. أن يعرف مدى ضبط الراوي وإتقانه في نقل الرواية من خلال الاطّلاع على رواياته.

ج. أن يعرف كميّة رواياته كثرة وقلّة ، فإنّ التعرّف على ذلك يحدّد مكانة الراوي ومنزلته في نقل الحديث.

د. مقدار فضله وعلمه.

وهذه الأُمور الأربعة تؤكّد ثبوت الصغرى ، أي كون الخبر موثوق الصدور.

ويمكن استحصالها من الرجوع إلى الكتب التالية :

١. « جامع الرواة » للشيخ المحقّق الأردبيلي المعاصر للعلاّمة المجلسي ( المتوفّى ١١١٠ هـ ).

٢. « طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال » للسيد محمد شفيع الموسوي التفريشي من علماء القرن الثالث عشر.

٣. « ترتيب الأسانيد » أو « تجريدها » للسيد المحقّق البروجردي ( ١٢٩٢ ـ ١٣٨٠ هـ ).

٤. « معجم رجال الحديث » للسيد المحقّق أبو القاسم الخوئي ( ١٣١٧ ـ ١٤١٣ هـ ).

فإنّ هذه الموسوعات الأربع خير وسيلة للوقوف على مكانة الراوي وراء ما في الكتب الرجالية الدارجة.

٣١

تمرينات

١. ما هو الوجه الأوّل ، لتصحيح الأخذ بتوثيقات المتأخّرين؟

٢. ما هو الوجه الثاني لتصحيح الأخذ بتوثيقات المتأخّرين؟

٣. اذكر طرق الوثوق بصدق الرواية.

٤. ما هي الكتب التي توصلنا إلى هذه الطرق؟

٣٢

الدرس السابع

التوثيقات العامّة

قد تعرّفت على أنّ التوثيق ينقسم إلى : توثيق خاص وتوثيق عام ، وقد مضى الكلام في الأوّل ، وإليك البحث في الثاني.

والمراد من التوثيقات العامّة : توثيق جماعة تحت ضابطة خاصة وعنوان معيّن. وفيما يلي ، نذكر توثيقين عامّين منها :

الأوّل : صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام

عدالة صحابة النبيّ ونزاهتهم من كلّ سوء هي أحد الأُصول التي يتديّن بها أهل الحديث والأشاعرة من أهل السّنّة ، وقد راجت تلك العقيدة بينهم حتى جعلها الإمام الأشعري ( ٢٦٠ ـ ٣٢٤ هـ ) أحد الأُصول التي يبتني عليها مذهب أهل السنّة جميعاً. (١)

ولكن إثبات الضابطة ( عدالة كلّ صحابيّ ) دونها خرط القتاد ، فإنّ الصحابة في الذكر الحكيم على صنفين :

فصنف يمدحهم ويصفهم تحت عناوين تالية :

__________________

١. مقالات الإسلاميين : ١ / ٣٣٢.

٣٣

السابقون الأوّلون : ( وَالسّابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرينَوَالأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسان رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ). (١)

المبايعون تحت الشجرة : ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... ). (٢)

الفقراء المهاجرون : ( لِلْفُقَراءِ المُهاجِرينَ الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ ورضْواناً ... ). (٣)

أصحاب الفتح : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاء عَلى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... ). (٤)

وصنف آخر يذّمهم ويصفهم بالعناوين التالية :

المنافقون : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقينَ لَكاذِبُونَ ). (٥)

المنافقون المختفون : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم ). (٦)

مرضى القلوب : ( وَإِذْ يَقُولُُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً ). (٧)

السمّاعون للمنافقين : ( لَوْ خَرجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّخَبالاً ... وفيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَليمٌ بِالظّالِمين ). (٨)

المشرفون على الارتداد : ( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْر الحَقِّ ظَنّ الجاهِليةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ... ). (٩)

__________________

١. التوبة : ١٠٠.

٢. الفتح : ١٨.

٣. الحشر : ٨.

٤. الفتح : ٢٩.

٥. المنافقون : ١.

٦. التوبة : ١٠١.

٧. الأحزاب : ١٢.

٨. التوبة : ٤٧.

٩. آل عمران : ١٥٤.

٣٤

الفاسق : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَاء فَتَبَيَّنُوا ... ). (١)

المسلمون غير المؤمنين : ( قالَتِ الأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ). (٢)

المؤلّفة قلوبهم : ( إِنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم ). (٣)

المولّون أمام الكفّار : ( وَمَنْ يُولِّهِمْ يَومَئِذ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتال أَوْمُتَحَيِّزاً إِلى فِئَة فَقَدْ باءَبِغَضَب مِنَ اللّهِ ). (٤)

فإذا كانت صحابة النبي مصنَّفة في صنفين حسب الذكر الحكيم ، فكيف يمكن لنا أن نعدّ الجميع عدولاً؟! هذا كلّه إذا رجعنا إلى الكتاب العزيز.

وأمّا إذا رجعنا إلى السنّة فيعرّفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب ما أخرجه البخاري ومسلم حيث رويا بسند صحيح عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون (٥) عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ أصحابي ، فيقول : إنّه لاعلم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ». (٦)

إلى غير ذلك من الأحاديث الحاكية عن ارتداد قسم من الصحابة بعد رحيل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فالصحابي بما انّه رأى النور وتشرّف برؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو معزّز مكرّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنعنا عن التفتيش عن أحواله وحالاته في حياة النبيّ وبعد رحيله ، فلو ثبتت وثاقته نأخذ بها ، وإلاّ فيكون حاله كالتابعين وتابعي التابعين ، فما لم تحرز وثاقة الرجل لا يؤخذ بقوله.

__________________

١. الحجرات : ٦.

٢. الحجرات : ١٤.

٣. التوبة : ٦٠.

٤. الأنفال : ١٦.

٥. يحلؤون : يُطردون ويمنعون عن ورود الحوض.

٦. جامع الأُصول : ١١ / ١٢٠ ـ ١٢١.

٣٥

ونظير ذلك الكلام في صحابة الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فبمجرّد الصحبة لا يلازم وثاقة المصاحب.

ألا ترى أنّ مصاحبة امرأتي نوح ولوط لم تنفع لحالهما ، وخوطبا بقوله سبحانه : ( قيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخلينَ ). (١)

الثاني : الوكالة عن الإمام

ربّما تعدّ الوكالة عن الإمام طريقاً إلى وثاقة الراوي ، ويستدلّ عليه بما رواه الكليني عن علي بن محمد ، عن الحسن بن عبد الحميد ، قال : شككت في أمر « حاجز » فجمعت شيئاً ، ثمّ صرت إلى العسكر ، فخرج إليَّ : « ليس فينا شكّ ولا في من يقوم مقامنا ، بأمرنا ، رُدّ ما معك إلى حاجز بن يزيد ». (٢)

وممّا يؤخذ على الاستدلال بالرواية :

أوّلاً : انّ الرواية أخصّ من المدّعى ، فانّ الظاهر انّ المراد الوكلاء المعروفون الذين قاموا مقام الأئمّة عليهم‌السلام بأمرهم ، وهذا غير كون الرجل وكيلاً للإمام في أمر ضيعته أو في أمر آخر.

ثانياً : كيف يمكن عدَّ الوكالة على وجه الإطلاق من أسباب التوثيق مع أنّ بعض الوكلاء أمثال علي بن حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي ، وعثمان بن عيسى الرؤاسي طمعوا في الدنيا ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً ، فبذلوا لهم شيئاً ممّا اختانوه من الأموال؟! وكان عند ابن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار ، وعند زياد القندي سبعون ألف دينار. (٣)

__________________

١. التحريم : ١٠.

٢. الكافي : ١ / ٥٢١ ، باب مولد الإمام المهدي ( عج ) ، الحديث ١٤.

٣. الطوسي ، كتاب الغيبة : ٢٤٠ ـ ٢٤٦.

٣٦

نعم إذا كان الرجل وكيلاً من جانب الإمام طيلة سنوات ، ولم يرد فيه ذمّ يمكن أن تكون قرينة على وثاقته وثبات قدمه ، إذ من البعيد أن يكون الكاذب وكيلاً من جانب الإمام عدّة سنوات ولا يظهر كذبه للإمام فيعزله.

تمرينات

١. بيّن أنواع التوثيقات ، وما هو المراد من التوثيقات العامّة؟

٢. هل صحبة النبيّ أو الإمام تلازم الوثاقة ، أو لا؟ ولماذا؟

٣. هل الوكالة عن الإمام دليل على وثاقة الوكيل ، أو لا؟ وما هو المختار في المقام؟

٣٧
٣٨

الدرس الثامن

هل شيخوخة الإجازة آية الوثاقة؟

مشايخ الإجازة هم الذين يجيزون لتلاميذهم رواية كتبهم عنهم ، أو رواية كتب الآخرين عن طريقهم ، فهل استجازة الثقة عن واحد منهم آية كون المجيز ثقة أو لا؟

مثلاً ، انّ الصدوق والشيخ يرويان كثيراً من المصنّفات والأُصول المؤلّفة في أعصار الأئمّة ، بالاستجازة عن مشايخهما ، فهل استجازة ذينك العلمين أو غيرهما من الأعلام ، من هؤلاء المشايخ دليلاً على وثاقتهم مطلقاً ، أو عند المستجيز خاصة ، أو لا يدلّ على شيء منها؟

والكلام في المقام مبنيّ على أنّ رواية الثقة عن شخص ، لا يعدّ دليلاً على كون المروي عنه ثقة عند الراوي ، وإلاّ فلو قلنا بهذا الأصل فاستجازة الثقة كروايته دليلان على كون المجيز والمروي عنه ثقتين.

صور الإستجازة

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ للاستجازة صوراً :

١. إجازة الشيخ كتابَ نفسه

إذا أجاز المجيز رواية كتابه عنه ، فلا تعدّ استجازة الثقة دليلاً على وثاقة

٣٩

المجيز ، بل يشترط فيه ما يشترط في سائر الرواة من الوثاقة والضبط ، إذ لا تزيد استجازة الثقة عن شخص ، على روايته عنه ، فكما لا تدلّ رواية الثقة على وثاقة المروي عنه فهكذا الاستجازة.

٢. إجازة رواية كتاب ، ثابت الانتساب لمؤلّفه

إذا أجاز الشيخ المجيز ، رواية كتاب لغيره ، وكانت نسبة الكتاب إلى مصنّفه مشهوراً ثابتاً ، وتكون الغاية من الاستجازة هي مجرّد اتصال السند ، وتصحيح الحكاية والتمكّن من القول بـ « حدّثنا » إلى أن ينتهي إلى الإمام ، دون تحصيل العلم لنسبة الكتاب إلى مصنّفه ، لأنّ المفروض انّ نسبته إليه كالشمس في رائعة النهار.

وهذا نظير إجازة المشايخ الأكابر لتلاميذهم أن يرووا عنهم ، الكتب الأربعة للمحامدة الثلاثة ، وبما انّ الغاية ليست تحصيلَ العلم بنسبة الكتاب إلى مصنّفه بل الغاية تحصيل اتّصال السند والتمكّن من نقل الحديث بلفظ « حدّثنا » إلى أن ينتهي إلى المعصوم ، لا تعدّ الاستجازة دليلاً على وثاقة المجيز.

والظاهر انّ مشايخ الصدوق في « الفقيه » من هذا القسم ، حيث إنّه قدس‌سره قد حذف أوائل السند وابتدأ السند باسم من أخذ الحديث من أصله أو مصنّفه حتى يصل السند إلى الإمام ، ثمّ وضع في آخر الكتاب « مشيخة » ذكر فيها طريقه إلى من أخذ الحديث من كتابه.

ويظهر من مقدّمة « الفقيه » انّ الكتب التي أُخذ الحديث عنها ، كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، وانّ ما ذكره في المشيخة لأجل تحصيل اتّصال السند ، لا لتصحيح نسبة الكتاب إلى مؤلّفه. (١) وعلى هذا لا تدلّ استجازة الصدوق على وثاقة مشايخه الذين ذكر أسماءهم في المشيخة.

__________________

١. الفقيه : ١ / ٣ ـ ٤.

٤٠