دروس موجزة في علمي الرجال والدراية

الشيخ جعفر السبحاني

دروس موجزة في علمي الرجال والدراية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة المكتب

الحمد للّه والصلاة والسلام على أنبياءاللّه ، لاسيما رسوله الخاتم واله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

أمّا بعد ، لا شكّ انّ اصلاح المناهج الدراسية المتداولة في الحوزات العلمية والمعاهد الدراسية في العصر الحاضر ـ الذي عُرف بعصر ثورة المعلومات ـ بات حاجة ملحّة يقتضيها تطور العلوم وتكاملها عبر الزمان ، وظهور مناهج تعليمية وتربوية حديثة تتوافق مع الطموحات والحاجات الإنسانية المتجددة.

وهذه الحقيقة لم تعد خافية على القائمين على هذه المراكز ، فوضعوا نصب أعينهم اصلاح النظام التعليمي في قائمة الاولويات بعد ان باتت فاعليته رهن إجراء تغييرات جذرية على هيكلية هذا النظام.

ويبدو من خلال هذه الرؤية انّ اصلاح النظام الحوزوي ليس أمراً بعيد المنال ، إلاّ انّه من دون احداث تغيير في المناهج الحوزوية ستبوء كافة الدعوات الاصلاحية بالفشل الذريع ، وستموت في مهدها.

والمركز العالمي للدراسات الإسلامية ـ الذي يتولّى مهمة إعداد المئات من

٣

الطلاب الوافدين من مختلف بقاع الأرض للاغتراف من نمير علوم أهل البيت عليهم‌السلام ـ شرع في الخطوات اللازمة لاجراء تغييرات جذرية على المناهج الدراسية المتبعة وفق الأساليب العلمية الحديثة بهدف عرض المواد التعليمية بنحو أفضل ، الأمر الذي لا تلبيّه الكتب الحوزوية السائدة ؛ ذلك انّها لم تؤلّف لهدف التدريس ، وإنّما الّفت لتعبر عن أفكار مؤلفيها حيال موضوعات مرّ عليها حُقبة طويلة من الزمن واصبحت جزءاً من الماضي.

وفضلاً عن ذلك فانّها تفتقد مزايا الكتب الدراسية التي يراعى فيها مستوى الطالب ومؤهلاته الفكرية والعلمية ، وتسلسل الأفكار المودعة فيها وأداؤها ، واستعراض الآراء والنظريات الحديثة التي تعبر عن المدى الذي وصلت إليه من عمق ، بلغة عصرية يتوخى فيها السهولة والتيسير وتذليل صعب المسائل مع احتفاظها بدقة العبارات وعمق الأفكار بعيداً عن التعقيد الذي يقتل الطالب فيه وقته الثمين دون جدوى.

وانطلاقاً من توجيهات كبار العلماء والمصلحين وعلى رأسهم سماحة الإمام الراحل قدس‌سره ، وتلبية لنداء قائد الثورة الإسلامية آية اللّه الخامنئي ـ مدّ ظله الوارف ـ قام هذا المركز بتخويل « مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية » مهمة تجديد الكتب الدراسية السائدة في الحوزات العلمية على أن يضع له خطة عمل لاعداد كتب دراسية تتوفر فيها المزايا السالفة الذكر.

وقد بدت امام المكتب المذكور ـ ولأوّل وهلة ـ عدّة خيارات :

١. اختصار الكتب الدراسية المتداولة من خلال انتقاء الموضوعات التي لها مساس بالواقع العملي.

٢. ايجازها وشحنها بآراء ونظريات حديثة.

٤

٣. تحديثها من رأس بلغة عصرية وايداعها افكار جديدة إلاّ انّ العقبة الكأداء التي ظلت تواجه هذا الخيار هي وقوع القطيعة التامة بين الماضي والحاضر ، بحيث تبدو الأفكار المطروحة في الكتب الحديثة وكأنّها تعيش في غربة عن التراث وللحيولة دون ذلك ، لمعت فكرة جمع الخيارات المذكورة في قالب واحد تمثّل في المحافظة على الكتب الدراسية القديمة كمتون وشرحها بأُسلوب عصري يجمع بين القديم الغابر والجديد المحدث.

وبناء على ذلك راح المكتب يشمرّ عن ساعد الجدّ ويستعين بمجموعة من الأساتذة المتخصصين لوضع كتب وكراسات في المواد الدارسية المختلفة ، من فقه وأُصول وتفسير ورجال وحديث وأدب وغيرها.

و كانت مادة الرجال والدراية بحاجة ماسة إلى وضع كتاب جديد فيها يتناسب مع تطلعات المركز ، فطلبنا من العلاّمة الفقيه ، الخبير بعلم الرجال ، سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني ـ مدّظله ـ تدوين دروس موجزة في علمي الرجال والدراية ، فلبّى رغبتنا مشكوراً وتفضل بتدوين هذا الكتاب الذي يحتوي على أهمّ المطالب الرجالية ، ببيان جزل وأُسلوب سهل ، بعيداً عن التعقيد والغموض ، لا يجد الطالب عسراً في استيعابها وفهمها.

وفي الختام لا يفوتنا إلاّ أن نتقدم بالشكر الجزيل والثناء الوافر لأُستاذنا المؤلف على ما بذله من جهود في هذا الصعيد ، ونبتهل إلى اللّه سبحانه أن يديم عطاءه العلمي.

المركز العالمي للدراسات الإسلامية

مكتب مطالعة وتدوين المناهج الدراسية

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد للّه الذي تواترت نعماؤه ، وتسلسلت واستفاضت آلاؤه ; والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين ، وخاتم النّبيّين محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين ، صلاة موصولة لا مقطوعة إلى يوم الدّين.

إنّ الاجتهاد عبارة عن : بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها. وهو رمز خلود الدين ، وبقاء تشريعه ، وبه تُحفظ غضاضة الدين وطراوته ، وتُصان الشريعة عن الاندراس ، ويستغني المسلمون عن التطفّل على موائد الآخرين.

إنّ الاجتهاد يُساير سُنن الحياة وتطورها ، حيث يجعل النصوص مَرِنَة ، حيّة متحركة ، عبْر الزمان والمكان.

كما لا شكّ انّ صاحب الشريعة عنى بالكلّيات ، وترك التفاصيل والجزئيات على عاتق المفكّرين من العلماء ، ولو قام ببيان التفاصيل لما اتّسع وقت الرسالة لهذا كلّه ، بل أعرض الناس عن هذه الدعوة لتعقّدها.

حتى ولو افترضنا انّ النبي قام بجمع أُصول الإسلام وفروعه وكلّ ما يمتّ إليه بصلة في كتاب ، وتركه بين الأُمّة ؛ لخلّف ذلك ركوداً فكريّاً في أوساطها ، وانحسر كثير من المفاهيم والقيم الإسلامية عن ذهنيّتها ، وأوجب ضياع العلم

٦

وتطرّق التحريف إلى أُصوله وفروعه ، حتى الكتاب الذي كتب فيه كلّ صغير وكبير.

وبكلمة مختصرة : لم تقم للإسلام دعامة ، ولا حُفِظَ كيانُه ونظامُه إلاّ على هذا النوع من البحوث العلمية ، والنقاشات والسجالات الدائرة بين العلماء.

فإذا كان هذا هو دور الاجتهاد ونتائجه البنّاءة ، فلا غرو من أن تكون للعلوم التي تتوقّف عليه لا سيّما علم الرجال من الأهمية بمكان.

وقد ذكر الفقهاء في مباحث الاجتهاد والتقليد أنّ علم الرجال ويليه علم الدراية من مقوّمات الاجتهاد ومؤهّلاته ، إذ به يعرف ما يحتج به من السّنّة عمّا لا يحتج ، وما يصحّ أن يقع ذريعة للاستنباط وما لا يصلح.

فإذا كان كذلك فيجب على بُغاة الفقه ، الإلمام بهذا العلم وبقواعده وكلّيّاته ، وجزئيّاته ومسائله.

ولما كان البحث عن مسائله وجزئيّاته بحثاً صغروياً ، لم نجد من اللازم عقدَ دروس لها وإلقاء المحاضرات فيها ، لكثرتها أوّلاً ، وغنى الطالب عنها من خلال الاستعانة بالكتب المعدّة لبيان أحوال تلك الصغريات ثانياً.

نعم ثمّة نمط آخر من البحث ، وهو البحث عن ضوابط كلية وقواعد عامّة ينتفع بها المستنبط في استنباطه ، وتوجب بصيرة وافرة له ممّا حدا بعلماء الرجال إلى طرح هذه البحوث في كتبهم.

هذا وقد صنّفت في سالف الزمان كتاباً مبسوطاً في القواعد الرجالية أسميته بـ « كليات في علم الرجال » وقد طبع وانتشر وصار محوراً للدراسة في الحوزة العلمية.

ثمّ أعقبته بتصنيف كتاب آخر في علم الدراية ، وهو « أُصول الحديث

٧

وأحكامه » وقد نال الكتابان استحسان بغاة الحديث وروّاده.

وقد طلب منّي « المركز العالمي للعلوم الإسلامية » أن أقوم بتأليف كتاب يضم في طياته علمي الرجال والدراية بنحو موجز ، فامتثلت الطلب وقمت بتأليف هذا الكتاب الماثل بين يديك ، الذي يشتمل على ٣٤ درساً ، مرفقاً بخاتمة تعرضت فيها إلى نكات لا غنى للمستنبط من استيعابها.

والرجاء من كلّ من طالع هذا الكتاب أن يرشدني إلى مواضع الخلل فيه ، متمثلاً بقول القائل :

ان تجد عيباً فسُدَّ الخلـلا

جلّ من لا عيب فيه وعلى

المؤلّف

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٨ شوال من شهور عام ١٤٢١ هـ

٨

الدرس الأوّل

نظرة إجمالية إلى علمي الرجال والدراية

قد جرت العادة في كلّ علم ، قبل الدخول فيه ، على بيان أُمور أربعة :

أ. تعريف العلم.

ب. موضوعه.

ج. مسائله.

د. غايته.

وإليك الإلماع إليها في المقام على وجه الإيجاز.

١. تعريف علم الرجال

علم الرجال : هو ما يبحث فيه عن أحوال رواة الحديث ذاتاً ووصفاً ، والمراد من الذات هو معرفة أسمائهم وأسماء آبائهم ، كما أنّ المراد من الوصف هو معرفة صفاتهم التي لها مدخلية في قبول الحديث أو ردّه.

وبتعبير آخر : هو الوقوف على أحوال الرواة من حيث العدالة والمدح والإهمال والجهالة ، والوقوف على أسماء مشايخهم وتلاميذهم وطبقتهم في نقل الرواية إلى غير ذلك.

٩

٢. موضوعه

إذا ثبت انّ علم الرجال هو العلم الباحث عن أحوال الرواة ، فموضوعه هو رواة الحديث المذكورون في سلسلة السند إلى أن ينتهي إلى المعصوم عليه‌السلام.

٣. مسائله

وأمّا مسائله ، فتُعلم من خلال الإمعان في تعريف علم الرجال ، فهي عبارة عن الأحوال العارضة على رواة الحديث والتي لها مدخلية في اعتباره ، نظير : الوثاقة ، والضعف ، والطعن ، إلى غير ذلك من الأحوال.

٤. غايته

إنّ غاية علم الرجال هي الوقوف على أحوال الرواة من حيث الوثاقة وعدمها ، وبالتالي تمييز المقبول عن غيره.

علم الدراية

ثمّ إنّ هنا علماً آخر يعرف بـ « علم الدراية » يبحث فيه عن الحالات الطارئة على الحديث من جانب السند أو المتن.

والمراد من السند هو مجموع ما جاء فيه من الرواة ، دون النظر إلى واحد منهم ، فيوصف السند عندئذ بالاتّصال أو الانقطاع ، أو الصحّة أو الضعف ، أو الإسناد أو الإرسال ، إلى غير ذلك.

وبعبارة أُخرى : انّ الغاية المتوخّاة من علم الدراية هي الوقوف على صحّة الرواية أو ضعفها ، وهو رهن دراسة مجموع السند بأكمله ، بخلاف الغاية المتوخاة من علم الرجال فهي معرفة أحوال كلّ راو على انفراده.

١٠

والمراد من المتن هو ما نُقل عن المعصوم أو غيره ، من كونه نصاً أو ظاهراً ، أو مجملاً أو مبيّناً ، أو محكماً أو متشابهاً.

وما يقال من أنّ علم الرجال يبحث في السند ، والدراية تبحث في المتن ، بعيد عن الصحة ؛ لأنّ الدراية تبحث في السند أيضاً كعلم الرجال ، إلاّ انّ الاختلاف بينهما يكمن في أنّ علم الدراية ينظر إلى مجموع السند ، فيبحث عن الأحوال العارضة له ، في حين انّ علم الرجال يبحث في آحاد رواة السند على وجه التفصيل من حيث المدح والقدح.

الأُصول الرجالية الخمسة

بدأ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في التأليف في علم الرجال في أعصارهمعليهم‌السلام غير انّه لم يصل إلينا شيء من مؤلّفاتهم ، وأمّا الأُصول الرجالية ، المؤلّفة قريبة من أعصارهم ، فهي عبارة عن :

١. رجال الكشي : وهو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ؛ والكش ( بالفتح والتشديد ) بلد معروف على مراحل من سمرقند ؛ والمؤلّف من عيون الثقات والعلماء ، بصير بالأخبار والرجال ، من تلاميذ أبي النصر محمد بن مسعود المعروف بالعياشي ، وقد لخّص الشيخ الطوسي هذا الكتاب فالموجود عندنا هو الملخّص ، ويسمّى « اختيار معرفة الرجال ».

ويتميّز هذا الكتاب بالتركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة ، وقد ألّفه على نهج الطبقات ، مبتدئاً بأصحاب الرسول والوصي إلى أن يصل إلى أصحاب العسكريين.

٢. رجال النجاشي : وهو تأليف الضبط البصير الشيخ أبي العباس أحمد بن

١١

علي ، المعروف بالنجاشي ( ٣٧٢ ـ ٤٥٠ هـ ) ، تتلمذ على الشيخ المفيد ثمّ على السيد المرتضى ، وهو نقّاد هذا الفن ومن أجلاّء علمائه. جمع فيه أسماء المصنّفين من الشيعة ، مع التعرض لمكانة الراوي ومذهبه غالباً.

٣. رجال الشيخ : تأليف الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ) ألّفه على غرار الطبقات ، فعقد باباً لأصحاب النبي ثمّ الوصي ثمّ سائر الأوصياء ثمّ إلى من لم يرو عنهمعليهم‌السلام.

٤. فهرست الشيخ : وهو من مؤلّفات الشيخ الطوسي أيضاً ، حاول فيه أن يستقصي أسماء الذين لهم أصل أو تصنيف في الحديث ، وفيه ما يقرب من تسعمائة اسم من أسماء المصنّفين.

٥. رجال البرقي : وهو إمّا لأحمد بن محمد بن خالد البرقي ( المتوفّى ٢٧٤ هـ ) أو لولده عبد اللّه بن أحمد ، أو لحفيده أحمد بن عبد اللّه ; وعلى كلّ حال فرجاله كرجال الشيخ ، أتى فيه بأسماء أصحاب النبي والأئمّة إلى عصر الحجّة عليه‌السلام ، ولا يوجد فيه تعديل وتجريح.

هذه هي الأُصول الرجالية الخمسة ، وأمّا ما أُلّف بعدها فقد أخذوا مادة البحث من هذه الكتب ، وهي كثيرة للغاية.

تمرينات

١. ما هو تعريف علم الرجال ، وموضوعه ، ومسائله ، وغايته؟

٢. ما هو الفرق بين علمي الرجال والدراية؟

٣. اذكر الأُصول الرجالية الخمسة مع ميزاتها.

٤. هل يصحّ أن يقال انّ علم الرجال يبحث في السند ، وعلم الدراية في المتن ، أو لا؟

١٢

الدرس الثاني

الحاجة إلى علم الرجال

اختلفت كلمة الفقهاء في الحاجة إلى علم الرجال ، وهل يتوقف استنباط الأحكام الشرعية على علم الرجال أو لا؟ وقد طرحت عدّة آراء في هذا المجال :

١. انّ علم الرجال من مقدّمات الاستنباط ، فلولا العلم بأحوال الرواة لما يتمكّن المجتهد من استخراج الأحكام من أكثر الأخبار ، فالحاجة إلى علم الرجال ضروريّة.

٢. انّ أخبار الكتب الأربعة ، أعني : الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ، قطعية الصدور ، أو عامّة رواياتها صحيحة.

٣. المدار في حجّية الأخبار هو عمل المشهور ، فما عمل به المشهور فهو حجّة سواء أصحّ أسناده أم لا ، وما لم يعمل به وأعرض عنه فليس بحجّة ، وإن صحّت أسناده ، فعلى ذلك لا حاجة إلى علم الرجال.

والقول الأوّل هو المختار ، وإليك دراسة دلائله على وجه التفصيل :

الأوّل : تمييز الثقة عن غير الثقة

قد ثبت في علم الأُصول حرمة العمل بغير العلم ، بالأدلّة الأربعة ، وقد

١٣

خرج عن ذلك الأصل قول الثقة ، ومن الواضح انّ إحراز الصغرى ـ أي كون الراوي ثقة أو لا ـ يتوقّف على الرجوع إلى علم الرجال المتكفّل لبيان أحوال الرواة من الوثاقة وغيرها.

ثمّ إنّ من يقول بحجّية قول الثقة يضيف قيداً آخر ، وهو : كون الراوي ضابطاً للحديث ، ناقلاً إيّاه حسب ما سمع من الإمام. ولا يُعرف هذا الوصف إلاّ من خلال المراجعة إلى أحوال الراوي ، ويشهد على ذلك انّ عدم ضابطية بعض الرواة على الرغم من وثاقتهم ، أوجد اضطراباً في الحديث وتعارضاً بين الروايات ، حيث حذفوا بعض الكلم والجمل الدخيلة في فهم الحديث بزعم عدم مدخليّتها ، أو نقلوه بالمعنى من دون رعاية شروط النقل بالمعنى.

الثاني : علاج الأخبار المتعارضة بالرجوع إلى صفات الراوي

إذا كان هناك خبران متعارضان لا يمكن الجمع بينهما عرفاً ، يجب ـ في مقام الترجيح وتقديم أحدهما على الآخر ـ الرجوع إلى صفات الراوي ، فلو كان رواة أحد الخبرين أعدل وافقه وأصدق وأورع ، يؤخذ به ولا يلتفت إلى الآخر ؛ كما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة في الحديث المعروف حيث قال الصادق عليه‌السلام ـ في جواب السؤال عن اختلاف القضاة في الحكم واستناد اختلافهما إلى الاختلاف في الحديث ـ : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ». (١)

والحديث وإن ورد في صفات القاضي ، غير انّ القضاة في ذلك الوقت كانوا رواة أيضاً ، ولأجل ذلك تعدّى الفقهاء من صفات القاضي إلى صفات الراوي.

__________________

١. الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

١٤

مضافاً إلى وجود روايات أُخرى تأمر بترجيح أحد الخبرين على الآخر بصفات الراوي (١) وإن كان الراوي غير قاض ولا حاكم.

الثالث : ظاهرة الوضع والتدليس في الحديث

من قرأ تاريخ الحديث يقف على وجود الوضّاعين والمدلّسين والمتعمّدين للكذب على اللّه ورسوله في أوساط الرواة ، ومع هذا كيف يصحّ للمجتهد الإفتاء بمجرّد الوقوف على الخبر من دون التعرّف على صفات الراوي حيث لا يميّز الكذّاب والمدلّس عن غيرهما إلاّ بعلم الرجال؟!

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّا ـ أهل بيت ـ صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ، فيُسقط صِدقُنا بكذبه علينا عند الناس ». (٢)

ولأجل هذا التخليط من المدلّسين ، أمر أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أتباعهم بعرض الحديث على الكتاب والسنّة ، فما وافق كتاب اللّه وسنّة نبيّه فيؤخذ به ، وما خالفهما فيضرب عرض الجدار. (٣)

الرابع : سيرة العلماء

قد جرت سيرة مشاهير علمائنا منذ عصر الأئمّة إلى يومنا هذا على الرجوع إلى التفتيش عن أحوال الرواة وصفاتهم ، وميزان ضبطهم ودقّتهم ؛ وقد قام غير واحد من الأصحاب بتدوين علم الرجال في عصر الأئمّة ، نذكر منهم على سبيل المثال :

١. عبد اللّه بن جبلة الكناني ( المتوفّى عام ٢١٩ هـ ) كان من أصحاب الإمام

__________________

١. انظر الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٢. رجال الكشي : ٢٥٧.

٣. انظر : وسائل الشيعة : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

١٥

الصادق عليه‌السلام ، له كتاب الرجال.

٢. الحسن بن محبوب ( ١٤٩ ـ ٢٢٤ هـ ) من أصحاب الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، له كتاب المشيخة.

٣. علي بن حسن بن فضّال ( ٢٠٣ ـ حوالي ٢٧٠ هـ ) من أصحاب الإمامين أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري عليهما‌السلام ، له كتاب الرجال.

وقد استمر التأليف من عصر أئمّة أهل البيت بين أصحابنا إلى يومنا هذا.

تمرينات

١. اذكر وجوه الحاجة إلى دراسة أحوال الرواة.

٢. بيّن موقف الإمام الصادق عليه‌السلام من الروايات التي تُنسب إلى أهلالبيتعليهم‌السلام.

٣. اشرح سيرة العلماء في العمل بالروايات.

١٦

الدرس الثالث

أدلّة نفاة الحاجة إلى علم الرجال

(١)

قد عرفت أدلّة القائلين بالحاجة إلى علم الرجال في استنباط الأحكام ، وحان البحث في استعراض أدلّة النفاة ، وقد استدلّوا بوجوه ، نذكر المهمّ منها :

الأوّل : قطعية روايات الكتب الأربعة

إنّ هناك من يذهب إلى قطعية روايات الكتب الأربعة ، وانّ أحاديثها مقطوعة الصدور عن المعصومين عليهم‌السلام ، وعلى ذلك فالبحث عن أحوال الرواة من حيث الوثاقة وعدمها لأجل طلب الاطمئنان بالصدور ، والمفروض انّها مقطوعة الصدور.

والجواب : انّ ما ذكر ، دعوى فارغة عن الدليل والبرهان ; ولا يدّعيها من له إلمام بتاريخ الحديث وتدوينه. فنحن ندرس « الكافي » أوّلاً ، ثمّ « الفقيه » ثانياً ، وهكذا ، فنقول :

احتجّ على لزوم الأخذ بروايات الكافي بوجهين :

الأوّل : كون رواياته قطعية.

١٧

الثاني : كون عامّة رواياته صحيحة.

ونحن ندرس الوجهين واحداً بعد الآخر :

أ. قطعية روايات « الكافي »

لا شكّ انّ كتاب « الكافي » لمحمد بن يعقوب الكليني ( المتوفّى عام ٣٢٩ هـ ) من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة ، والذي لم يعمل مثله ، حيث صنّف كتابه هذا وهذّبه في عشرين سنة ، وهو يشتمل على ثلاثين كتاباً يحتوي على ما لا يحتوي عليه غيره ، وهو من أضبط الأُصول وأجمعها وأعظمها ولكن على الرغم من ذلك ليست قاطبة رواياته قطعية الصدور على التحقيق.

كيف؟ وانّ المؤلّف نفسه لم يدّع ذلك ، بل يظهر من مقدّمته على الكتاب عدم جزمه بقطعية صدور جميع أحاديثه ، حيث قال :

« فاعلم يا أخي أرشدك اللّه أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه إلاّ على ما أطلقه العالم بقوله عليه‌السلام : « أعرضوها على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردّوه ».

وقوله عليه‌السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم ».

وقوله عليه‌السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ». ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : « بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم » وقد يسّر اللّه ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ». (١)

وهذا الكلام ظاهر في أنّ محمّد بن يعقوب الكليني لم يكن يعتقد بصدور

__________________

١. الكافي : ١ / ٩.

١٨

روايات كتابه عن المعصومين عليهم‌السلام جزماً ، وإلاّ لم يكن وجه للاستشهاد بالرواية على لزوم الأخذ بالموافق من الروايتين عند التعارض ، فإنّ هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور كلتيهما ، فإنّ موافقة الكتاب إنّما تكون مرجّحة لتمييز الصادر عن غيره ، ولا مجال للترجيح بها مع الجزم بالصدور.

كيف يمكن أن يقال بأنّ رواياته قطعية الصدور ، مع أنّ الشيخ الصدوق لم يكن يعتقد بذلك ، فانّه قال في باب « الوصيّ يمنع الوارث » :

« ما وجدت هذا الحديث إلاّ في كتاب محمد بن يعقوب ، وما رويته إلاّ من طريقه ». (١)

فلو كانت روايات الكافي كلّها قطعية الصدور ، فكيف يصحّ ذلك التعبير من الشيخ الصدوق؟!

أضف إلى ذلك انّ في الكافي روايات لا يمكن القول بصحّتها. (٢)

نعم وجود هذه الروايات لا ينقص من شأن الكتاب وجلالته ، وأي كتاب بعد كتاب اللّه العزيز ليس فيه شيء؟!

ب : صحّة روايات « الكافي »

إنّ الظاهر من الحوار الدائر بين السائل والمجيب ( الكليني ) هو انّ جميع ما في « الكافي » يتّسم بالصحة حيث طُلِبَ من الكليني أن يكتب كتاباً يجمع فيه جميع علوم الدين وما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه ما يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام.

__________________

١. من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٢٢٣.

٢. لاحظ كتابنا « كليات في علم الرجال » : ٣٧٥ ـ ٣٧٦.

١٩

وقد استجاب الكليني لرغبته ، حيث قال :

و « قد يسّـر اللّه وله الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ». (١)

وهذا الحوار يكشف عن كون ما في « الكافي » صحيحاً عند المؤلف.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ السائل إنّما سأل محمد بن يعقوب تأليف كتاب يشتمل على الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام ولم يشترط عليه أن لا يذكر فيه غير الرواية الصحيحة ، أو ما صحّ عن غير الصادقين عليهم‌السلام ، ومحمد بن يعقوب قد أعطاه ما سأله ، فكتب كتاباً مشتملاً على الآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام في جميع فنون علم الدين ، وإن اشتمل الكتاب على غير الصحيحة من الآثار ، أو الصحيحة عن غيرهم أيضاً استطراداً وتتميماً للفائدة.

وثانياً : أنّ كون الرواية أو الروايات صحيحة عند الكليني لا يكون دليلاً على كونها صحيحة عند الآخرين بعد ما كانت شرائط الحجّية مختلفة في الأنظار ، وسيوافيك انّ الصحيح عند القدماء غير الصحيح عند المتأخّرين (٢) ، وعندئذ كيف يمكن الأخذ بعامّة روايات « الكافي » بمجرّد كونها صحيحة عند المؤلّف؟!

تمرينات

١. ما هو الوجه الأوّل لنفي الحاجة إلى علم الرجال؟

٢. هل كان الكليني يعتقد بقطعية روايات كتابه أو لا؟ ولماذا؟

٣. هل كان الصدوق يعتقد بقطعية روايات الكافي ، أو لا؟ ولماذا؟

٤. هل تتسم عامّة روايات الكافي بالصحّة ، أو لا؟ ولماذا؟

__________________

١. الكافي : ١ / ٨ ـ ٩.

٢. لاحظ : الدرس ٣٠.

٢٠