بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قبل قبضه (١).

وقد ذكرنا سابقاً : أنّ اعتبار الكيل أو الوزن قبل البيع الثاني ليس لإحراز مقدار البيع ليتم شرط معرفة مقدار المبيع في البيع الثاني ، إذ على هذا لم يكن فرقٌ بين التولية وغيرها ، بينما فرّقت الروايات بين التولية وغيرها ، فأجازت الأول دون الثاني ، ولهذا يتعيّن أن يكون الكيل أو الوزن لجهة القبض قبل البيع الثاني الذي اشترط في بيع المرابحة دون التولية.

هذه هي أهم الأقوال في المسألة.

أقول : أمّا القول الأول الذي يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً فهو قول باطل ، وذلك لأنّ أدلّته إن سلّمنا بصحتها (٢) فهي مقيدة أو مفسَّرة في صورة كون المبيع طعاماً أو مكيلاً أو موزوناً ؛ للأدلة الكثيرة التي تقيّد النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الصورة.

وأما القول الثاني الذي يرى جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً ، فأيضاً باطل وذلك للروايات المصرِّحة بالجواز في صورة عدم كون المبيع طعاماً أو مكيلا أو موزوناً.

نعم من قال من الإمامية بجواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقاً على كراهةٍ استند إلى الجمع بين الروايات المجوّزة والمانعة ، حيث حمل الروايات المانعة على الكراهة لقرينة الروايات المجوزة.

وهذا وجه غير وجيه بالنظر إلى الصناعة الاُصولية لو كانت الروايات المجوزة

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ج ٤ ، ص ٢١٧.

(٢) ويكفي توهيناً للروايات المطلقة هو ما روي عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « نهى عن بيع الطعام قبل قبضه » حيث قال ابن عباس : « ولا أحسبُ كل شيء إلاّ بمنزلة الطعام.

أقول : لو كانت هناك روايات مطلقة في المنع عن بيع السلع قبل قبضها لذكرها ابن عباس واسند المنع اليها ، ولم يقل : ولا أحسبُ كل شيء إلاّ بمنزلة الطعام.

٦١

صحيحة ، وذلك لأن التعارض بالاطلاق والتقييد ، لأنّ الروايات المجوزة موضوعها مطلق لصورة كون البيع قبل القبض بنحو التولية أو غيرها ، فيرفع اليد عن اطلاقها بالروايات المانعة عن البيع مرابحة ، على أنَّ الروايات المجوزة ضعيفة كما تقدم.

نعم : حَملُ ظاهر النهي على الكراهة إذا كان هناك نصّ على الجواز إنما يُصار إليه لو لم يكن إطلاق وتقييد في البين ، كما إذا كان التعارض بين الدليلين بنحو الإطلاق أو بنحو التقييد. ولذا نرى الفقهاء يتصرفون في موضوع الدليل دون الحكم في دليل آخر عند تعارضهما بالإطلاق والتقييد ، كما في تعارض « لا تعتق رقبة كافرة » و « اعتق رقبة » ، وكذا في تعارض « لا تكرم زيداً العالم » و « أكرم العلماء » حيث يرفعون اليد عن عموم الموضوع ، لا عن ظهور النهي في الحرمة.

وحينئذ يكون دليل « لا يجوز بيع المكيل والموزون مرابحةً إلاّ بعد كيله أو وزنه » مقيّداً لدليل « لا بأس ببيع المكيل والموزون قبل قبضه » بغير صورة المرابحة. ولا نرى مانعاً من التعبير عن الدليل المفصِّل ( وهو عدم جواز بيع المكيل والموزون مرابحة إلاّ بعد قبضه ، وبين جواز بيعه تولية ) بأنّه مفسِّر للدليل المطلق عند العُرف.

إذن لم يبقَ إلاّ القول الثالث والرابع ، وكل منهما له دليله من الروايات المروية عن الشارع المقدّس. ولكن في روايات القول الرابع ما يفيد : أن علّة المنع من بيع الطعام قبل قبضه هو الكيل ، وهي صحيحة الحلبي ، قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن قوم اشتروا بزّاً ... أيصلح لأحد منهم بيع بزّه قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس به ، وقال : إن هذا ليس بمنزلة الطعام لأن الطعام يكال » (١).

وبهذا نعرف أن الروايات التي ذكرت الطعام ومنعت من بيعه قبل قبضه إنّما كان لعلّة كيله ، فلا خصوصية للطعام ، فيتعيّن أن يكون القول الرابع هو الصحيح

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ١٠.

٦٢

من بين الأقوال.

ولنا أن نقول أيضاً : إنّ معنى الطعام ظاهراً هو الحنطة والشعير ، فقد جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البُرّ خاصّةً ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أن الطعام هو البُرّ خاصة ». وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.

وحينئذ نقول : بما أن الحنطة والشعير مكيلان أو موزونان فلا يكون هناك قول ثالث ، لأنَّ أصحاب القول الرابع يكونون قد أخذوا بكلتا طائفتي الروايات القائلة بأن بيع المكيل والموزون ـ ومنه الطعام ـ لا يجوز قبل قبضه ، بمعنى أنَّ روايات القول الثالث صحيحة ، وهي تدل على حكم خاص ، وروايات القول الرابع صحيحة وهي تدلّ على حكم أعم من القول الثالث ، ولا تعارض بينهما ، إذ لم يعلم أن الحكم واحد ، فنأخذ بكلتا طائفتي الروايات.

٤ ـ هل توجد علّة للنهي عن البيع قبل القبض ؟

وللجواب عن هذا السؤال لابدّ أن نستعرض ما يمكن أن يقال بعلّيّته للنهي عن البيع قبل القبض ، ثم نرى مدى صحته فنقول :

١ ـ قد يقال : إنّ العلة في نظر الشارع هي عدم جواز الربح بدون تحمّل الخسارة ، وما دامت السلعة المشتراة لم يقبضها المشتري فخسارتها بالمنظور الشرعي على البائع ، لقاعدة : « تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه » ، وحينئذ لا يجوز للمشتري أن يربح بدون تحمّل للخسارة إذا حصلت في سلعته. وكأنّ هذا هو الميزان العدل في المنظار الاقتصادي والشرعي القائل : « من كان له الغنم فعليه الغرم ». ويشهد لهذه العلّة جواز بيعها على شخص ثالث أو على بائعها توليةً بدون القبض.

أقول : ولكن رغم معقولية هذا القانون لم يدلّ عليه أيّ دليل شرعي ، بل

٦٣

نراه غير مراعىً في موارد هي :

أ ـ فيما إذا كان المشترى ( غير مكيل أو موزون ) ثوباً أو داراً ، فإنّ المشتري يحقّ له أن يبيعه بربح قبل قبضه ، مع أن المشتري لا يخسر إذاتلف المبيع لأنه غير مقبوض.

ب ـ وكذا قد تخلّف هذا القانون في موارد اُخر ، كالثمار بعد بدو الصلاح ، فإنَّ المشتري له الحقّ في بيعها وهي على الشجر ، ولكن إذا أصابتها جائحة رجع على البائع.

ج ـ وكذا في منافع الإجارة ، فإنّ المستأجر له الحقّ في أن يؤجر ما استأجره بربح من نفس جنس الاُجرة إذا عمل فيه عملاً أو يُؤجرها بأكثر ممّـا استأجرها به إذا كان بغير جنس الاُجرة (١) ، ولكن إذا حدث تلف في المستأجَر فيرجع على المؤجِر بمقدار ما تلف.

د ـ وكذا قد تخلّف هذا القانون في بيع المكيل والموزون ( الكلي والشخصي ) قبل قبضه على بائعه ـ كما سيأتي ـ وذلك لأنَّ ظاهر الروايات المانعة من بيع المكيل والموزون بربح هو المنع من بيعها على شخص ثالث ، أمّا هنا فإن البيع على نفس البائع فلا تشمله الروايات.

ثم إننا حتى لو قلنا : إنّ روايات المنع مطلقة لكلّ بيع إلاّ أنَّ روايات بيع السلم قبل قبضه على بائعه تقول بجواز ذلك ، ففي صحيحة العيص بن القاسم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً ، يحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال عليه‌السلام : نعم يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ : ب ٢١ من الاجارة ، أحاديث الباب.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١١ من السلف ، ح ٦ ، وراجع بقية الروايات. وللتوسع يراجع ما كتبناه في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة.

٦٤

نعم ، هناك تلازم بين الضمان والتلف ، فمن كان ضامناً يكون التلف عليه ، حسب القاعدة القائلة : « كل بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ». ولكن هذا غير المنع من بيع المكيل والموزون قبل قبضه بربح.

٢ ـ هل يمكن أن تكون العلّة في نظر الشارع القدرة على التسليم ؟

والجواب : بالعدم ، وذلك لأنّ القدرة على التسليم قد تكون موجودة حتى مع عدم قبض المشتري ، كما أنّها قد لا تكون موجودة حتى مع قبضه ، كما لو غصبت بعد القبض.

٣ ـ هل يمكن أن تكون العلّة هي الوقوف ضد المعاملات الوهمية التي لا قصد إليها ، كما هو الواقع في أسواق البورصة العالمية التي يكون القصد فيها غالباً هو انتظار تقلّبات الأسعار للحصول على ربح ، وهو ما يسمى بالمضاربة الاقتصادية ؟

والجواب : أنّ كلامنا هو في صورة القصد الحقيقي إلى البيع ، وبذلك تخرج كل البيوع التي لا قصد فيها إلى تسلّم المثمن ، كما في أسواق البورصة التي لا يكون التسليم والتسلّم فيها إلاّ بمقدار ١ % بالإضافة إلى انتقاض هذا ببيع غير المكيل أو الموزون قبل قبضه ، كما جوّزت ذلك بعض الروايات ـ كما تقدم ـ وسيأتي وعليه جمع غفير من العلماء.

٥ ـ هل البيع قبل القبض للمكيل أو الموزون مرابحةً باطلٌ أو محرّمٌ أو مكروهٌ ؟

أقول : تقدّم الكلام منّا في بطلان كون هذا البيع مكروهاً فلا نُعيد.

وأمّا التحريم فقد عبّر بعض الفقهاء بحرمة هذا البيع ، كالشيخ الأنصاري حيث قال : « الأقوى ـ من حيث الجمع بين الروايات ـ حرمة بيع المكيل والموزون

٦٥

قبل قبضه إلاّ تولية ... » (١).

كما عبّر بعض آخر بالمنع من هذا البيع في مقابل تعبيره بالجواز في البيع التوليتي ، والظاهر من المنع هو الحرمة.

قال في منهاج الصالحين : « من اشترى شيئاً ولم يقبضه : فإنْ كان ممّا لا يكال ولا يوزن جاز له بيعه قبل قبضه ، وكذا إذا كان ممّا يكال أو يوزن وكان البيع برأس المال ، أمّا لو كان بربح ففيه قولان أظهرهما المنع » (٢).

ويؤيد هذا القول التعبير الوارد في بعض الروايات المروية على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث روى ابن عمر قال : « رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم » (٣).

أقول : إنّ النهي عن المعاملة يكون على أنحاء :

١ ـ قد يكون النهي تكليفياً ، كما إذا وجدت قرينة عليه ، كما في النهي عن البيع وقت النداء الذي نعلم أن ترك البيع فيه للتحفّظ على صلاة الجمعة ، وهذا النهي التكليفي لا يقتضي الفساد ، كما قرر ذلك في الاُصول.

٢ ـ قد يكون النهي تكليفياً ووضعياً ، كما إذا قامت قرينة على ذلك ، كما في لعن مشتري الخمر وبائعها ، وقوله عليه‌السلام : « ثمن الخمر سحت » وكما في المعاملات الربوية كما هو واضح من التشديد والوعيد عليها.

٣ ـ أمّا النهي عن المعاملة إذا لم يكن فيه قرينة على الحرمة التكليفية فيكون ظهوره الأوّلي هو الإرشاد إلى عدم الإمضاء والحكم بالبطلان ، كما في نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر ، وحينئذ فيكون ظهور « إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن

__________________

(١) المكاسب : ج ٢ ، ص ٣١٥.

(٢) منهاج الصالحين للإمام الخوئي : ج ٢ ، ص ٤٨ ، مسألة (١٨٨).

(٣) المغني لابن قدامة : ج ٤ ، ص ٢١٨.

٦٦

فلا تبعه حتى تقبضه » هو اشتراط القبض في صحة البيع الثاني ، فإن لم يحصل القبض قبل البيع الثاني يكون البيع الثاني باطلا.

أمّا إذا كان بيع المكيل أو الموزون قبل القبض تولية فلا يشترط فيه القبض قبل البيع ، ولا مانع من ذلك ، فإنَّ بيعاً قد يشترط فيه ما لا يشترط في بقية البيوع ، كما في بيع الصرف الذي قد اشترط فيه التقابض في المجلس قبل التفرق دون غيره من البيوع ، فهنا كذلك لأنَّ النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل القبض خال عن قرينة تدلّ على الحرمة التكليفية ، أو قرينة تدلّ على ربوية المعاملة المحرمة تحريماً تكليفياً ، فلا مناص من القول بأنَّ النهي عن البيع قبل القبض مرابحةً إرشادٌ إلى شرطية القبض قبل البيع في خصوص المكيل أو الموزون إذا بيع مرابحة.

تنبيهات :

١ ـ إنّ الأدلّة المتقدمة ـ على القول الرابع ـ لا تفرّق بين الأشياء التي تباع بالكيل أو الوزن ، بين ما كان عند البائع قد حصل عليه بالزراعة أو قد وهب إليه أو اشتراه كلياً في الذمة أو في المعيّن ، أو مبيعاً شخصياً قد اشتراه بغير كيل أو وزن ، فإنّه في كل هذه الصور لابدّ من قبضه بالكيل أو الوزن إذا أراد بيعه للآخرين.

أمّا إذا كان البائع قد اشتراه ووزنه أو كاله فيكفي هذا الكيل أو الوزن في بيعه للآخرين ، أما الآخرون فلا يجوز لهم بيعه إلاّ بعد قبضه وحيازته إلى رحالهم.

٢ ـ إنّ هذه الروايات هي بصدد بيان جواز البيع الثاني مرابحةً بعد قبض ما اشتري بالكيل أو الوزن ، وهذا البحث يختلف عن حقيقة القبض الذي تقدّم من أنّه قد يكون في بعض الاُمور التخلية التي يرتفع بها الضمان عن البائع.

وبعبارة اُخرى : أنّ القبض الذي يرتفع به الضمان عن البائع في المكيل والموزون هو التخلية ، ولكن صحة البيع الثاني لابدّ فيها من القبض من قبل المشتري التي تحصل بالكيل أو الوزن.

٦٧

٣ ـ قد أجازت هذه الروايات بيع المكيل والموزون قبل القبض إذا كان البيع تولية ، وهذا هو مفاد الروايات المتقدّمة عن أهل البيت عليهم‌السلام التي هي عن آبائهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتكون حجّة.

وهنا نريد أن نقول بجواز بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه إذا كان البيع على نحو الشركة في المبيع ، فقد دلّت عليه موثّقة سماعة قال : « سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة ، وقد كان قد اشتراها ولم يقبضها ؟ قال عليه‌السلام : لا ، حتى يقبضها ، إلاّ أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح أو يولّيه بعضهم فلا بأس » (١).

وقد ذهب إلى هذه النتيجة الإمام مالك ، فقد جوّز البيع تولية والمشاركة فيه بربح في ما لم يقبض ، فقد جاء في المدوّنة : « قلت : أرأيت إن اشتريت سلعة من رجل ينقد فلم اقبضها حتى أشركت فيها رجلاً أو ولّيتها رجلاً أيجوز ذلك ؟

قال : لا بأس عند مالك.

قلت : وإن كان طعاماً اشتريته كيلا ونقدتُ الثمن فولّيته رجلاً أو أشركته فيه قبل أن أكتاله من الذي اشتريته ؟

قال : لا بأس بذلك ، وذلك الحلال إذا انتقد مثل ما نقد.

قلت : لِمَ جوّزه مالك ، وقد جاء في الحديث الذي يذكره مالك : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الطعام قبل أن يُستوفى ؟

قال : قد جاء هذا ، وقد جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه نهى عن بيع الطعام قبل أن يُستوفى إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية.

قال سحنون : وأخبرني ابن القاسم ، عن سليمان بن بلال ، عن ربيعة ، عن أبي عبد الرحمان ، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من ابتاع طعاماً

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ١٥.

٦٨

فلا يبعه حتى يستوفيه ، إلاّ ما كان من شرك أو إقالة أو تولية ».

قال مالك : اجتمع أهل العلم على أنّه لا بأس بالشرك والإقالة والتولية في الطعام قبل أن يُستوفى إذا انتقد الثمن ممّن يشركه أو يقيله أو يولّيه » (١).

٤ ـ إن أصل المنع من بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ( إلاّ تولية أو شركة ) هو على خلاف القاعدة الأوليّة القائلة بتسلّط الناس على أموالهم ، بمعنى أنّه إذا ملك إنسان شيئاً يتمكّن أن يبيعه ـ سواء كان قد قبضه أم لا ـ فإذا أضفنا إلى هذا عدم وجود علّة للنهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه ، وإنّما هو تعبّد خاصّ ، فلابدّ من الرجوع إلى الأدلّة المانعة نفسها لنرى سعتها أو ضيقها فنتمسّك بها ، لأنّها هي الدليل على النهي وعلى خلاف القاعدة ، ولا علّة حتى تتبع.

وحينئذ فما لم يكن داخلا تحت النهي فهو جائز سواء دلّ عليه دليل خاص أو لا ، إذ يكون داخلا تحت قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، فيتمكّن من التصرّف فيه ببيعه ما لم يكن داخلا تحت عنوان منهيّ عنه. وعلى هذا نتمكّن أن نذكر عدّة اُمور جائزةً قد يشتبه في دخولها تحت عنوان البيع قبل القبض ، منها :

أ ـ إذا كان البيع غير مكيل أو غير موزون ( كالمعدود (٢) والمذروع والمشاهد ) فيجوز بيعه قبل قبضه ( سلماً أو استصناعاً أو غيرهما ) طبقاً للقاعدة المتقدّمة ، مع ورود الرخصة في ذلك أيضاً. ففي ذيل صحيحتي منصور بن حازم المتقدّمتين : « فإن لم يكن فيه كيل ولا وزن فبعه ». وكذا في رواية أبي حمزة عن

__________________

(١) المدوّنة : ج ٤ ، ص ٨٠ ـ ٨١.

(٢) ذكر ابن قدامة في المغني فقال : « كل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه ... إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود » : ج ٤ ، ص ٢٢١.

أقول : بالاضافة إلى عدم الارتباط بين ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض وبين عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه فإنَّ لكلّ مسألة من المسألتين دليلها الخاص وموضوعها الخاص ، فإنَّ عدم جواز بيع المعدود قبل قبضه لم يرد فيه أيّ نص.

٦٩

الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل اشترى متاعاً ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال عليه‌السلام : لا بأس » (١) وغيرها من الرويات.

ب ـ إنّ الحكم بعدم جواز بيع المكيل أو الموزون قبل القبض مختصّ بالبيع ، كما تقدّمت الروايات عن الفريقين تصرّ بأنّ المنع مختصّ به ، وعلى هذا فللمشتري أن يصالح على المكيل والموزون قبل القبض ، وله أن يؤجره قبل القبض إذا كانت له منفعة يستفاد منها مع بقاء العين ، لصحة الصلح والإجارة قبل القبض ، ومع الشك في صحتهما على المكيل والموزون قبل قبضه نتمسك بإطلاق أدلّة الإجارة وأدلة الصلح جائز بين المسلمين ، أو إطلاق ( تجارة عن تراض ).

ج ـ إذا كان الثمن مكيلا أو موزوناً والمبيع عروضاً فيتمكّن البائع من بيع الثمن المكيل والموزون قبل قبضه طبقاً للقاعدة ، وعدم المانع ، لأنَّ الدليل اللفظي الدالّ على المنع مختص بالمثمن ، فتعديته إلى الثمن تحتاج إلى دليل لفظي عام أو مطلق ، أو اطمئنان بوحدة الملاك فيهما ، وبما أنّه لا يوجد إطلاق ولا عموم ولا اطمئنان بوحدة الملاك ـ لأنّ الحكم تعبّدي على خلاف القاعدة كما تقدّم ـ فنقتصر على مورد المنع ونتمسّك بدليل ( أحلّ الله البيع ) لصحة بيع الثمن إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل قبضه.

نعم ، من علّل عدم جواز بيع المبيع إذا كان مكيلا أو موزوناً قبل القبض بضعف ملكية المشتري ؛ لاحتمال أن يتلف الطعام فتنحلّ المعاملة ، فإنّ هذا الوجه الاستحساني موجود في الثمن الموزون أو المكيل قبل القبض.

ولكنّ هذا الوجه ضعيف ، إذ لا يكون الملك ضعيفاً قبل القبض ، ولأنّ هذا الوجه يقول بعدم جواز البيع حتى توليةً ولغير المكيل والموزون. ولا أحسب أن يقول بنتيجته أحد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ٨.

٧٠

د ـ إذا لم يقبض المشتري المكيل أو الموزون فيتمكّن أن يبيع بمقداره ونوعه في الذمّة ، وبعد تمامية البيع يوكّل المشتري في أخذ المبيع من البائع الذي اشترى بائعه منه ولم يقبضه بوكالة غير قابلة للعزل. وهذا ما يسمّى ب‍ ( السلم الموازي ) أو ( الوكالة في القبض ) ، وهي طريقة لا تشملها الروايات المانعة ، لأنّها تمنع من العقد الثاني إذا جرى على ما جرى عليه العقد الأول : « لا تبعه حتى تكيله أو تزنه ». أمّا هنا فلم يبع ما جرى عليه العقد الأول ، بل وكّل دائنه في أخذ المبيع من مدينه ، فهو استيفاء ، وفائدته سقوط ما في ذمّته عنه (١).

ه‍ ـ إذا كان المشتري لم يقبض المكيل والموزون لعدم حلول الأجل في المبيع ( كما في السلم ) وقد احتاج إلى المال فيتمكّن أن يبيع سلماً إلى ما بعد ذلك الأجل بقليل ، ثمّ يحوّل المشتري على البائع الذي باعه فيستلم المثمن في وقته ، وبما أنّ الحوالة ليست بيعاً ولا معاوضة ( كما هو التحقيق ) بل هي تعيين الدَّين الذي في ذمّة المديون بمال في ذمّة فرد آخر ـ وهي عقد مستقل ـ فلا يشملها النهي عن بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه.

ويمكن الاستدلال لجواز هذه الحوالة ـ مضافاً إلى اقتضاء القاعدة والعمومات ذلك ـ بموثّقة عبد الرحمان ابن أبي عبد الله ، قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن رجل عليه كرُّ من طعام ، فاشترى كرّاً من رجل آخر ، فقال للرجل : انطلق فاستوفِ كُرَّك ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس » (٢).

__________________

(١) إنّ هذه الطريقة لا نقولها في مورد نفهم الملاك من المنع ، كما إذا حلف انسان أو نذر عدم بيع بيته ، وكان السبب في ذلك هو أن لا يبقى بدون مأوى هو وعائلته رغم الظروف التي يمرّ بها ، فلا يجوز أن يبيع بيتاً كليّاً في الذمة ثمّ يقول للمشتري : اُعطيك بيتي وفاءً لما في ذمتي ، لأنَّ العرف يرى أن عمله هذا ممنوع منه بواسطة حلفه أو نذره لوجود الملاك فيه. وكذا الأمر في النهي عن بيع اُمهات الأولاد في الشريعة الإسلامية.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١٠ من السلف ، ح ٢.

٧١

فالرواية شاملة لما إذا كان الكرّ في ذمّة الإنسان بالشراء أو القرض ، وشاملة لما إذا كان في ذمّة المحيل معوّض أو عوض ، وشاملة لكون المبيع كليّاً في الذمّة أو شخصياً ، فتكون دليلا لما نحن فيه.

و ـ إذا باع المشتري المكيل أو الموزون الذي لم يقبضه على بائعه فهو جائز ما لم يستلزم محذوراً آخر كالربا ، وذلك بأن يبيعه بجنس آخر أو يبيعه بنفس الجنس بلا زيادة ولا نقيصة. ودليل هذا هو : أنّ ظاهر الروايات المانعة هو المنع عن بيع ما لم يكن مكيلا أو موزوناً على شخص ثالث ، أمّا هنا فالمبيع على البائع نفسه فلا تشمله روايات المنع.

وحتى لو قلنا بأنّ روايات المنع مطلقة للبيع على شخص ثالث أو على البائع ، إلاّ أنّ الروايات التي جوّزت البيع على البائع قد أحلّت هذه الصورة ، فمن الروايات الصحيحة رواية العيص بن القاسم عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة ، حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ، ووجد عنده دواباً ومتاعاً ورقيقاً يحلّ له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ؟ قال عليه‌السلام : نعم ، يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً ... » (١).

ز ـ الإقالة : إذا اشترى إنسان مكيلا أو موزوناً ولم يقبضه فهو لا يتمكّن من بيعه على ثالث حسب ما تقدّم ، ولكن هل له أن يطلب الإقالة من البائع فيرجع إليه ثمنه قبل القبض ؟

الجواب : نعم ، يجوز ذلك ، لجواز الإقالة في كل بيع ، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « أيّما عبد أقال مسلماً في بيع أقال الله عثرته يوم القيامة » (٢).

__________________

(١) المصدر السابق : ب ١١ من السلف ، ح ٦ وغيرها من الروايات.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٣ من أبواب آداب التجارة ، ح ٢ وغيرها.

٧٢

والإقالة في الحقيقة هي فسخ في حقّ المتعاقدين برضاهما وليست بيعاً ، وذلك لعدم قصد معنى البيع ولا غيره من المعاوضات الموجبة ملكاً جديداً ، بل هي تفيد ردّ الملك بفسخ العقد الذي ارتأى خلافه. ولهذا لا تجوز الإقالة بزيادة عن الثمن ، كما لا تجوز بنقصان ، لعدم ما يصلح مملِّكاً لما زاد عن الثمن أو نقص منه بعد فسخ العقد.

وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض أهل السنّة أيضاً ، فقد ذكر في المغني عن الإمام الخرقي : أنّ الإقالة فسخ ، وأيّد ذلك ابن قدامة وذكر : أن هذا هو اختيار أبي بكر وهو مذهب الشافعي ، خلافاً لمذهب الإمام مالك حيث اعتبرها بيعاً (١).

ر ـ الحطيطة : إذا اشترى إنسانٌ مكيلا أو موزوناً ولم يقبضه فهو لا يتمكّن من بيعه على ثالث حسب ما تقدّم ، ولكن هل له أن يبيعه على ثالث بحطيطة عن الثمن الذي اشتراه به ؟

قد يقال : إنّ الروايات لم تجوّز البيع قبل القبض إلاّ تولية أو شركة ، وحينئذ تكون الحطيطة ممنوعاً منها.

ولكن يمكن القول : إن الروايات المانعة من البيع إلاّ تولية كان المقصود منها هو القصر الإضافي بالنسبة إلى المرابحة ، فحينئذ يكون المعنى بأنّ البيع بنحو المرابحة قبل القبض لا يجوز ، بل يلزم أن يكون تولية ، وليس المقصود أنَّ الحطيطة لا تجوز. وعليه فيمكن الحكم بجواز الحطيطة تمسكاً بقاعدة ( تجارة عن تراض ).

ويدلّ على هذا ظاهر التقابل بين المرابحة والتولية في الروايات ، فيجوز ما عدا المرابحة ، فقد ذكرت صحيحة علي بن جعفر عن الإمام الكاظم عليه‌السلام : « إذا ربح لم يصلح حتى يقبض ، وإن كان تولية فلا بأس » (٢).

أقول : في الرواية المتقدّمة شرطيتان اختلف الجزاء فيهما بنحو التضاد أو التناقض ، وكل منهما بعض مفهوم الآخر ، وحينئذ يكون الظاهر الذي سيق لبيان

__________________

(١) المغني : ج ٤ ، ص ٢٢٥.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ٩.

٧٣

المفهوم هو الشرطية الاُولى فقط ، لا كلتاهما ، ولا خصوص الثانية ، بل الشرطية الثانية هي لصرف بيان بعض أفراد مفهوم الشرطية الاُولى ، وعلى هذا يرتفع توهّم التناقض بين الشرطيتين ، فيتّضح إناطة الحرمة بالمرابحة وجوداً وعدماً (١).

ويؤيّد هذا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه لما بعث اُسيد إلى مكّة قال : « إنهَهُم عن بيع ما لم يقبضوه ، وعن ربح ما لم يضمنوه » (٢). وبما أنّ الحطيطة ليست ربحاً لما لا يضمن ، بل هي خسارة فلا يشملها النهي.

هذا ، ولكن توجد رواية أبي بصير القائلة : « لا بأس أن يولّيه كما اشتراه إذا لم يربح فيه أو يضع » (٣).

فقيّدت عدم البأس في البيع قبل القبض بعدم الربح وعدم الوضع. ولكن الرواية ضعيفة بعلي ابن أبي حمزة البطائني.

أقول : ممّا تقدّم من هذه الاستثناءات يتّضح عدم صحّة ما ذكر من أن الشركة في المكيل والموزون قبل القبض والتولية والحوالة به كالبيع ، كما ذهب إلى ذلك ابو حنيفة والشافعي (٤) ، لعدم دليل يعتدّ به على ذلك ، على أنّ الدليل خلافه.

٦ ـ هل يقوم الضمان مقام القبض ؟ (٥)

إذا اشترى إنسان شيئاً مكيلا أو موزوناً وباعه قبل قبضه ، ولكن اشترط على

__________________

(١) شرح الشهيدي على مكاسب الشيخ الأنصاري : ص ٣١٦.

(٢) المغني ٤ : ٢٢١.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ١٦ من أحكام العقود ، ح ١٦.

(٤) المغني لابن قدامة : ج ٤ ، ص ٢٢٣.

(٥) ذكرنا في بحث السلم وتطبيقاته المعاصرة المقدّم لمجمع الفقه الإسلامي بجدّة في دورته التاسعة في « أبو ظبي » : عدم قيام قدرة البائع ( في بيع السلم على توفير السلعة عند المطالبة ) عن القبض ، وكذا ذكرنا عدم قيام التأمين على سلعة المسلم فيها عن القبض ، وعدم قيام وجودها في مخازن عمومية منظمة عن القبض أيضاً بنفس النكتة التي ذكرناها هنا.

٧٤

نفسه فيما إذا تلف المبيع يكون ضمانه عليه ( لا على البائع الأول ولا على المشتري الثاني ) فهل يصحّ أن يقوم هذا الضمان مقام القبض الحسّي فتصحّ المعاملة الثانية ؟

أقول : إنّ القبض الذي يجعل البائع ضامناً للبضاعة إذا لم يحصل ويرتفع الضمان عنه إذا حصل ، هو غير القبض الذي يجوّز للمشتري بيع بضاعته بعده ، ولا يجوز له بيع بضاعته قبله ، إذ المراد من الأوّل التخلية ، فلو خلّى البائع بين المشتري وبين البضاعة المباعة فقد خرج عن الضمان وإن لم يحصل القبض الحسّي من قبل المشتري ، وحينئذ يكون البائع غير ضامن ، ومع ذلك لا يجوز للمشتري أن يبيع البضاعة قبل أن يقبضها قبضاً حسيّاً ويحوزها. وبهذا يفهم أنّ المراد من القبض في الثاني هو القبض الحسّي ، وعليه فإذا خرج البائع عن الضمان بالتخلية توجّه الضمان على المشتري ، ولكن إذا لم يحصل القبض الحسّي فلا يجوز له بيع البضاعة المكيلة أو الموزونة ، للأدلّة المتقدّمة المصرِّحة بلا بدّية القبض الحسّي في البيع الثاني.

ثم : إنّ بين ضمان المشتري للمبيع وقبضه تبايناً وتضادّاً ، وقد جعل الشارع القبض الحقيقي شرطاً لصحّة البيع الثاني إذا كان غير تولية.

وحينئذ نقول : لا يمكن أن يقوم مقامه ضمان المشتري للمبيع ، على أننا لم نعلم علّة لابدّية القبض في المكيل والموزون قبل البيع الثاني ، ومن يقول بقيام الضمان مقام القبض لابدّ له من أن يثبت أنّ علّة القبض في المبيع قبل البيع الثاني إنّما هي لضمان المشتري السلعة ، وهذا دونه خرط القتاد.

٧ ـ شحن السلعة في السفن

في التجارة الدولية يكون شحن السلع في السفن مُخرِجاً للبائع عن الضمان فيما إذا تلفت السلع بعد ذلك ، ثم إنّ المشتري قد يقوم ببيعها وهي في البحر لشخص ثالث ، ويكون هذا البيع مُخرِجاً للمشتري الأول عن الضمان فيما إذا تلفت السلع بعد ذلك ،

٧٥

ويتحمّل المشتري الثاني الخسارة في صورة التلف ، فهل تكون هذه المعاملة صحيحة ؟

أقول : هنا مشكلتان :

الاُولى : الضمان على المشتري قبل أن يقبض المبيع.

الثانية : بيع المبيع قبل قبضه.

ولأجل حلّ المشكلتين نقول : إذا كان الشرط في البيع هو التسليم على ظهر السفينة وكان البائع قد شحن السلعة في السفينة فيكون قد خلّى بين المشتري وسلعته ، وحينئذ فقد خرج عن الضمان وقد انحلّت المشكلة الاُولى.

ثم إذا كان ربّان السفينة يعدّ وكيلا عن المشتري فقد حصل القبض الحسّي بالوكالة الذي يجوّز للمشتري أن يبيع هذه السلعة وإن كانت مكيلة أو موزونة. أمّا إذا كانت البضاعة غير مكيلة أو موزونة فيجوز بيعها قبل قبضها ، كما تقدّم ذلك.

ونتمكّن أن نتصوّر وكالة ربّان السفينة فيما إذا كان أمرُ ما في السفينة بيد المشتري ، بحيث يتمكّن أن يأمرَ ربّانها بواسطة الاتصالات الحديثة بالتوجّه إلى غير بلد المشتري ، أو يأمره بتسليم البضاعة إلى شخص آخر ، وحينئذ يتمكّن أن يبيع هذه البضاعة إلى شخص ثالث ، لأنّها مقبوضة بالقبض الحسّي بالوكالة. وبهذا فقد انحلّت المشكلة الثانية.

ثم إذا كان أمر ما في السفينة بيد المشتري الثاني ، بحيث لا يكون للمشتري الأوّل الذي باع أيّ تسلّط بعد بيعه على البضاعة فقد خرج المشتري الأوّل عن الضمان ، لحصول التخلية بين البضاعة وبين المشتري الثاني. فإن عُدّ ربّان السفينة وكيلا عن المشتري الثاني في القبض والتسلّط بحيث كان يأتمر بأمر المشتري الثاني في التوجّه إلى أي مكان أراد فحينئذ تكون البضاعة مقبوضة بالقبض الحسّي للمشتري الثاني بالوكالة ، فيصحّ بيعها وإن كان مكيلة أو موزونة ... وهكذا.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره في كتاب المكاسب فقال : « لو باع داراً أو سفينة مشحونة بأمتعة البائع ومكّنه منها بحيث جعل له تحويلها من مكان إلى

٧٦

مكان كان قبضاً ... » (١).

أمّا إذا كان الشحن في السفينة لا يعدّ تخلية كما إذا كان الشراء للسلعة قد اشترط فيها التسليم في بلد المشتري ففي هذه الصورة لا يكون الشَحن في السُفن تخليةً للسلعة ، كما لا يكون المشتري متسلّطاً عليها بحيث يتمكّن أن يأمر ربّانها بتسليمها إلى شخص ثالث أو التوجّه إلى غير بلد المشتري ، بل يكون أمر البضاعة بيد البائع ، وحينئذ إذا تلفت السلعة فيكون ضمانها على البائع ، لقاعدة « اذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه ». كما لا يمكن للمشتري بيعها على آخر إذا كانت مكيلة أو موزونة ، لعدم تسلّطه عليها بحيث يكون قابضاً. وعلى هذا فإنَّ اشترط الضمان على المشتري في هذه الصورة يكون الشرط مخالفاً للسنّة ، ولا يصحّ بيعها قبل قبضها للأدلّة المتقدّمة على ذلك إن كانت البضاعة مكيلة أو موزنة.

٨ ـ بيع السمك في النهر أو البركة

قد يملك إنسانٌ نهراً أو بِركةً قد ربّى فيها السمك فهل يجوز له أن يعقد مقاولة مع آخرين على الانتفاع بهذه البركة أو النهر الذي فيه السمك ( أكلا أو بيعاً له بعد اصطياده ) مدّة معلومة بأجر معيّن ؟

والجواب : أنّ هذه المقاولة يمكن تصوّرها بثلاث صور :

١ ـ بيع السمك الموجود إذا كان معيناً ) وإجارة البركة مدّة معيّنة. وبما أنَّ السمك معلوم بالمشاهدة فالبيع صحيح. وبما أن المدّة معلومة لإجارة البركة والأجر معين أيضاً فالإجارة صحيحة.

٢ ـ إذا لم يكن السمك معلوماً فيتمكّن أن يبيع كمية معلومة منه مع الباقي الذي

__________________

(١) المكاسب : ج ٢ ، ص ٣١١.

٧٧

يجهل مقداره ، ويدلّ على صحّة هذا البيع روايات الضميمة ، وهي على طوائف :

الطائفة الاُولى : تدلّ على جواز بيع اللبن في الضرع إذا ضمّ إليه شيء معلوم (١).

الطائفة الثانية : تدلّ على جواز بيع ما في بطون الأنعام مع الضميمة لا منفرداً (٢).

الطائفة الثالثة : تدلّ على جواز بيع الآبق منضمّاً إليه شيء معلوم لا منفرداً (٣).

الطائفة الرابعة : تدلّ على جواز شراء ما لم يدرك منضمّاً إليه ما أدرك (٤).

الطائفة الخامسة : تدلّ على جواز بيع الثمار قبل خروج الطلع مع الضميمة (٥).

فمن الطائفة الاُولى : موثقة سماعة قال : « سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع ؟ فقال : لا ، إلاّ أن يحلب لك منه اُسكرجّة فيقول : اشترِ منّي هذا اللبن في الاُسكرجة وما في ضروعها بثمن مسمّى ، فإن لم يكن في الضرع شيء كان ما في الاُسكرجة » (٦).

ومن الطائفة الثالثة : صحيحة رفاعة النخّاس قال : « سألت الإمام الرضا عليه‌السلام قلت له : أيصلحلي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة واُعطيهم الثمن وأطلبها أنا ؟ قال عليه‌السلام : لا يصلح شراؤها إلاّ أن تشتري منهم معها ثوباً أو متاعاً فتقول لهم أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهماً ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٨ من عقد البيع وشروطه.

(٢) المصدر السابق : ب ١٠ من عقد البيع وشروطه.

(٣) المصدر السابق : ب ١٠ من عقد البيع وشروطه.

(٤) المصدر السابق : ب ١٠ من عقد البيع وشروطه.

(٥) المصدر السابق : ب ١٠ من عقد البيع وشروطه.

(٦) الحديث الثاني من الطائفة الأولى.

٧٨

فإنّ ذلك جائز » (١).

ومن الطائفة الخامسة : موثّقة سماعة عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها ؟ فقال عليه‌السلام : لا ، إلاّ أن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلة فيقول : أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا ، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل » (٢).

٣ ـ كما يمكن تصوّر المقاولة بصورة الإجارة للبركة مدّة معلومة على أن ينتفع بها وبما فيها أكلا أو بيعاً بعد اصطياده ، وهذا نظير إجارة البقرة للانتفاع بها وبلبنها مدّة معلومة ، وإجارة المرأة للرضاع (٣).

وهذا الحكم في الصور الثلاث لا يختلف فيما إذا جاء السمك إلى النهر أو البركة تلقائياً بواسطة الفيضانات ، فإنَّ المالك للنهر أو البركة يملك ما يدخل فيها ، وحينئذ إمّا أن يبيعه إذا كان معلوماً ويؤجر البركة لمدّة معينة. وإمّا أن يبيع شيئاً معلوماً منه مع ضميمة الموجود فيها الذي لا يُعلم مقداره. أو يؤجر البركة على أن ينتفع بما فيها لمدّة معلومة كإجارة المرأة للإرضاع.

كما أنّ هذا الحكم لا يختلف لو كانت الدولة مالكة للنهر أو البركة من باب ملكيتها للأنفال ، فتملك ما فيهما كذلك ، وتصحّ المعاملات المتقدّمة على هذا السمك الذي في البركة بصوره الثلاث بشرط أن تكون الدولة شرعية ، بمعنى قيمومتها الشرعية على المجتمع ، كأن يكون رئيس الدولة حاكماً شرعياً أو منصوباً من قبله بحيث تكون الأنفال ملكاً للمقام.

وكذا تصحّ هذه الصور الثلاث إذا كانت الملكية للمسلمين ، وكان المتوليّ

__________________

(١) الحديث الأول من الطائفة الثالثة ، وأمّا الحديث الثاني فيها فهو موثّق.

(٢) الحديث الأوّل من الطائفة الخامسة.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٥ ، ب ٧١ من أبواب أحكام الأولاد ، أحاديث الباب.

٧٩

عليهم حاكماً شرعياً يصرف حاصل ما باعه أو أجّره على المسلمين.

٩ ـ بيع الحطب

قد تعمد الدولة لبيع أحطاب الأشجار التي تغرسها في أطراف الطرق ، أو تخرج تلقائياً في أرض الحكومة ، وهذه المعاملة أيضاً صحيحة إذا كان ما يغرس أو يخرج تلقائياً في أرض الدولة ( الأنفال ) أو الأراضي الميتة التي تكون للإمام عليه‌السلام أو في أرض المسلمين إذا قام بها الحاكم الشرعي أو وكيله.

أمّا إذا كانت الحكومة غير شرعية فالتصرّفات فيها على بيع الحطب أو المقاولة على السمك بصوره الثلاث المتقدّمة مشكلةٌ ، لأنّ الحكومة إمّا ليست بمالكة ، أو ليس لها ولاية على أموال المسلمين ، فتحتاج تصرّفاتها إلى إمضاء من الحاكم الشرعي ، فإن لم يمضِ الحاكم الشرعي تصرّفات الحكومة غير الشرعية في المقاولات على السمك أو بيعها له بصوره الصحيحة أو بيعها للحطب ، فيجب على المشتري لهذه الأسماك أو المؤجّر للبرك أو المشتري للحطب المراجعة والمصالحة مع الحاكم الشرعي ، لأخذ الثمن أو الإجارة منه وصرفها في مواردها المقررة من صرف موارد الانفال أو الصرف على مصالح المسلمين ، حتى يكون عمل المشتري صحيحاً. والله هو العالم بحقائق الاُمور.

هذا ما أردنا بيانه على الأسئلة الموجّهة من مجمع الفقه الإسلامي في الهند لدورته التاسعة. والحمد لله أولاً وآخراً.

٨٠