بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الذي يخسّر به الإنسان المتَّبع له.

وعيب هذا الدليل هو عدم إمكان الأخذ بظاهر الآية ؛ وذلك لأنّ كثيراً من الأشياء المتيقّن بجوازها هي عبارة عن تغيير خلق الله ، مثل قصر اللحى والختان وقص الاظفار والشعر ، وتغيير مجرى المياه وإزالة الجبال وشق الطرق وما إلى ذلك من اُمور كثيرة نقطع بجوازها وهي تغيير لخلق الله تعالى.

وقد يجاب على هذا الاشكال بتطبيق قانون التغيير ، فيقال : إنّ الآية مطلقة في حرمة تغيير خلق الله على انه من عمل الشيطان ، وقد خرج ما خرج بمخصص منفصل أو إجماع أو ضرورة فقهية أو بمخصص متصل ، وبقي ما بقي مثل نقص العضو في الإنسان الذي نحن بصدده.

ولكن نقول : إنّ الاشكال الذي نذكره هنا هو أحد شِقّين :

١ ـ إنّ وضوح خروج عدد مهمٍّ من الاُمور بصورة مرتكزة قد اكتنف بالآية القرآنية ، وهذا يغيّر المعنى ويزلزل أصل الظهور ، فيأتي الاجمال.

٢ ـ أو نقول : إنّ هذا الخروج لكثير من الاُمور المهمّة بصورة مرتكزة المقارن للآية يكون قرينة على ارادة معنى آخر وهو : أنّ الشيطان بقوله : ( فليغيّرن خلق الله ) يريد به التهديد بتغيير فطرة التوحيد ، لا التغيير المادي.

ولكن ممّا يهدم الشق الثاني قوله تعالى : ( فليبتكن آذان الأنعام ) فإنّ تشقيق آذان الأنعام هو أمر مادّي ، فيكون المراد من تغيير خلق الله في الآية هو التغيير المادّي لا تغيير فطرة التوحيد.

ولكنّ هذا الهدم غير سليم ؛ وذلك لأنّ فرض ضلالية تشقيق الآذان ليس من باب تغيير خلق الله ، وإنّما توجد هناك عمليتان يشير إليهما ابليس ، وهما :

أ ـ فليبتِّكن آذان الأنعام ، فقد فسّر بأنّه اشارة إلى جرّ البشرية الخرافات ، وكانت هناك خرافة في العصر الوثني في أن الأنعام : إمّا أن تقص آذانها أو تشق ،

٣٤١

وحينئذ يحرم أكل لحمها ، والإسلام جاء لابطال هذه الخرافات.

ب ـ فليغيّرنّ خلق الله ، وقد فسّر بتفاسير ، وفي الروايات التي نقلتها كتب التفسير عن الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام : أنّ المراد بتغيير خلق الله هو تغيير فطرة التوحيد ، ويستشهد على ذلك بآية ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرةَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ) (١).

إذن يبقى الاشكال على الآية بأنّها إمّا مجملة ، أولها معنىً آخر غير التغيير المادّي الذي نحن بصدده.

ج ـ وقد يستدل بدليل ثالث على حرمة بعض هذه الاُمور (٢) ، كما إذا كان تنقيص العضو عند المرأة يستوجب إجراء عملية لها من قبل الرجل ، وهو حرام ، لحرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ، أو كون تنقيص العضو ـ من قبيل سدّ الأنابيب ـ الذي يسمى بالعقم الدائم قد يستوجب النظر إلى العورة وهو أمر محرم ، بينما يكون سدّ الأنابيب أو تنقيض العضو أمراً اختيارياً للمرأة ، وحكمه الجواز ، ولكن لا يقدم الجواز على الأمر الحرام. وهنا لأجل البحث في هذا الموضوع المهم نقسّمه قسمين :

القسم الأول : ويبحث عن صورة التماثل بين المعالِـج والمعالَج ، فالطبيب هو الذي يجري عملية العقم الدائمي على الرجل وينظر إلى خصيتيه مثلاً ، أو المرأة هي التي تنظر إلى عورة المرأة لأجل غلق الأنابيب ، أو قطع الكلية مثلاً.

القسم الثاني : ويبحث عن صورة الاختلاف ، بمعنى أن الطبيب هو الذي يجري عملية العقم الدائمي على المرأة ، أو قطع كليتها ، أو المرأة هي التي تجري عملية العقم الدائمي للرجل وتنظر إلى خصيتيه مثلاً أو تقطع كليته.

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) إنّ هذا الدليل يختص في صورة كون العملية فيها نظر إلى العورة ، أو فيها حرام آخر مثل النظرالأجنبية.

٣٤٢

أمّا بالنسبة للقسم الأول فقد يقال : إنّ الحرمة التي اثبتها الشارع المقدّس على المرأة في النظر إلى عورة امرأة متماثلة لها ، أو وجوب ستر عورتها عن المماثل لها قد دلّت عليها الآية القرآنية ( قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ... ) (١). وكذا جملة من الروايات مثل صحيحة حريز عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » (٢).

وفي حديث المناهي عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ومن تأمل في عورة أخيه المؤمن لعنه سبعون ألف ملك ، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة » (٣).

ولكن لنا أن نتساءل هنا عن تقييد لهذا الاطلاق يجوّز لنا أن تنظر المرأة عورة المرأة ، فهل يوجد تقييد ؟

الجواب : هناك تقييد واضح في حالة الاضطرار إلى المعالجة ، أو كون عدم المعالجة فيه حرج على المرأة ، فنفس الضرورة والحرج يُجوِّزان للمرأة أن تعرض نفسها على المرأة لأجل النظر إلى العورة إذا احتاجت إلى ذلك ، وكذا يجوز للطبيبة النظر كذلك.

ولكنّنا حيث كنّا نتكلم في العقم غير الضروري ، بحيث لو بقيت المرأة من دون سدٍّ للأنابيب تتمكّن من عدم الإنجاب ، أو الإنجاب من غير أن توقع نفسها في حرج أو ضرر كبير ، فهل لنا تقييد آخر يجوّز لنا أن ينظر المماثل إلى المماثل ؟

__________________

(١) النور : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١ ، ب ٧٥ احكام الخلوة ، ح ١.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١ ، ب ٧٥ من أحكام الخلوة ، ح ٢.

٣٤٣

قد يقال (١) بأنّنا لا نفهم الاطلاق من حرمة النظر إلى المماثل ، لأنّ هذا الحكم الذي هو خال عن الشهوة إنّما وجد من أجل الاحترام والاحتشام ، ففي كل مورد يوجد هناك غرض عقلائي لكشف العورة لا يكون الكشف محرماً ؛ لأنّه ؛ لا يكون خلاف الاحتشام والوقار.

وبعبارة اُخرى : أنّ الاستظهار العرفي من الآية القرآنية المتقدّمة ومن رواية « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » وأمثالها لا يفهم منه الاطلاق بعد إحراز أنَّ

__________________

(١) ذهب إلى هذا الدليل آية الله السيد كاظم الحائري ، وهو متين إذا احرزنا أن الحرمة التي جعلها الشارع المقدّس في النظر إلى المماثل هي حرمة احترامية ، ونستطيع أن نثبت ذلك بعدّة روايات ، منها :

١ ـ صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « النظر إلى عورة مَن ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار ». وسائل الشيعة : ج ١ ، ب ٦ من أبواب آداب الحمّـام ، ح ١.

٢ ـ ما روي عن السكوني عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا حرمة لنساء أهل الذمّة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن ». وسائل الشيعة : ج ١٤ ، ب ١١٢ من مقدّمات النكاح وآدابه ، ح ١.

٣ ـ ما روي عن عباد بن صهيب قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : « لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة والأعراب وأهل السواد والعلوج ، لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون ، قال : والمجنونة والمغلوبة على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمّد ذلك ». المصدر السابق : ب ١١٣ ، ح ١.

٤ ـ صحيحة محمد بن مسلم قال : سمعت الإمام الباقر عليه‌السلام يقول : « ليس على الأمة قناع في الصلاة ولا على المدبَّرة ، ولا على المكاتبة إذا اشترط عليها قناع في الصلاة وهي مملوكة حتى تؤدّي جميع مكاتبتها ... ». المصدر السابق : ب ١١٤ ، ح ٢.

وهذه الروايات واضحة الدلالة على أنّ الحكم في الحجاب هو للاحترام ، ولذا يسقط هذا الحكم في صورة زوال الاحترام والاحتشام. ولكن لا يمكن العمل باطلاق الرواية الاُولى التي هي تشمل صورة نظر المماثل إلى المماثل ونظر المخالف إلى المخالف ؛ لوجود روايات تمنع من أن ينظر المخالف إلى المخالف إلاّ في صورة الاضطرار ، كما في صورة احتياج المرأة إلى الطبيب الذكر ، فتبقى صورة المماثلة يجوز فيها النظر إذا لم يكن خلاف الاحترام ، كما في صورة وجود غرض عقلائي من الكشف. قد يقال : إنّ الاحترام الذي يدور مداره الحكم الشرعي ليس بيد العرف ، لتربية الإسلام الخاصة لأتباعه ، ولهذا فقد ارتأى الإسلام أن الاحترام يرفع في صورة الاضطرار فقط.

٣٤٤

الحرمة هنا احترامية ، بل يفهم أنَّ كل ما كان خلاف الاحتشام والوقار والاحترام يكون محرَّماً ، كما في كشف المرأة عورتها أمام المماثل بلا داع عقلائي ، أمّا إذا جاء الداعي العقلائي فلا يكون كشف العورة أمام المماثل محرّماً ؛ لأنّه لا يكون خلاف الاحترام والوقار. ويؤيده أن سعد بن معاذ لمّا حكم على قريضة « كان يكشف عورات المراهقين ، ومن انبت منهم قُتِل ، ومن لم ينبت جُعل في الذراري (١) مع إمكان معرفة البلوغ بغير الكشف.

وعلى هذا فلا يشمل اطلاق التحريم حالة العقم التي فيها هدف عقلائي ، بمعنى أن موضوع الحكم قد انتفى إذا وجد الهدف العقلائي لكشف العورة ، وهذا هو معنى : أنَّ العرف والارتكاز العقلائي لا يرى أن كشف العورة ـ أمام المماثل إذا كان هناك هدف عقلائي ـ خلاف الاحترام والاحتشام ، بنكتة الحكم والموضوع.

نعم ، إذا كان كشف العورة ـ حتى في صورة وجود الهدف العقلائي ـ خلاف الاحتشام فتشمله أدلّة الحرمة ، ولكنّ هذا غير صحيح عرفاً.

وأمّا بالنسبة لقطع كلية المرأة من قبل امرأة مماثلة فلا إشكال فيها من ناحية حرمة النظر ، كما هو واضح.

وأمّا بالنسبة للقسم الثاني ـ المعالجة عند الاختلاف ـ فإنّ الإشكال يتركّز في حرمة النظر إلى عورة المرأة أو جسمها لأجل عملية العقم الدائم من قبل الرجل ، في صورة وجود المرأة الطبيبة أو عدم وجودها ؛ لأنّنا نبحث في صورة كون تنقيص العضو أو العقم الدائم ليس بواجب ، ولكنّه ذو فائدة عقلائية للفرد ، فهل هناك طريق لتجويز هذا النظر المحرّم بالأصل ؟

الجواب : لا طريق لذلك إلاّ في حالة انطباق عنوان الضرورة من عدم وجود الطبيبة ، أو كان الطبيب الموجود لا يفيد لهذا الأمر ، وذلك لوجود الروايات المانعة

__________________

(١) سنن البيهقي : ج ٦ ، ص ٥٨.

٣٤٥

من النظر إلى العورة أو إلى جسم المرأة غير الوجه والكفين ، ومن الروايات الدالة على ذلك :

١ ـ صحيحة أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه ، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له النظر إليها ؟ قال : إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت » (١).

ومفهومها : أنّها إذا لم تضطرّ إليه ووجدت طبيبة تؤدّي نفس الغرض فلا يجوز.

ثمّ إنّ الاضطرار الذي أشارت إليه الرواية هو اضطرار عرفي ، قد يحصل بواسطة كون الطبيب ( اعلم واقدر ، مع أن مرضي يحتاج إليه ) ، أمّا إذا كان الطبيب أعلم وأقدر ولكن مرضي نوع مرض لا يحتاج إليه فلا يعدّ من الاضطرار العرفي.

ثم إنّ كلمة « إن شاءت » التي جاءت في آخر الرواية تشير إلى نكتة أنّ الطبيب لا يجوز له معالجة المرأة إلاّ برضاها ، رغم أنّ المرأة قد أجاز لها الشارع أن يعالجها الطبيب عند الضرورة.

٢ ـ صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ) قال : « سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه وتداويه ؟ قال : إذا لم يكن عورة فلا بأس » (٢).

وهذه الرواية جوّزت مداواة المرأة للرجل إذا لم يكن فيه كشف لعورته ، فيجوز لها أن تجري عملية جراحية لقطع كلية الرجل ولو لم تكن ضرورة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٤ ، ب ١٣٠ من أبواب مقدّمات النكاح ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٤ ، ب ١٣٠ من أبواب مقدّمات النكاح ، ح ٤.

٣٤٦

لذلك. أمّا الرجل فلا يجوز له أن يجري عملية جراحية للمرأة حتى الاستئصال كليتها إلاّ في صورة الضرورة. وبهذا اختلف الحكم بين مداواة الرجل للمرأة إذا استلزم النظر إلى جسمه ـ خلا العورة ـ تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك.

هل يجوز نقل الأعضاء البشرية وزرعها ؟

بقي عندنا نفس نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر التي ليس فيها حرمة مسبقة فهل هو جائز بلا كلام ، أو حرام بلا كلام ؟

قد يقال بعدم الجواز ، ودليله هو : أن الإنسان وإن كان متسلّطاً على نفسه إلاّ أنّه ليس له حقّ المثلة بجسمه ، وقطع الإنسان لعضو من اعضائه وإن كان بواسطة الطبيب ورضاه هو مثلة غير جائزة.

ولكن الجواب عن ذلك : أنّ العرف يرى أنّ المثلة تتحقّق عند التعدّي على الإنسان ، وفي صورة ما نحن فيه لا يكون أي تعدٍّ من إنسان على آخر ، بل جاء الإنسان الأول بطوع اختياره وإرادته وطلب من الطبيب نقل عضو من أعضائه إلى أخيه أو صديقه ، أفهل يصدق عرفاً على هذا العمل من الطبيب أنه مثلة ؟!

وقد يقال : « إن التبرع بنقل العضو البشري إنّما يكون فيما يملكه الإنسان ، وإن المالك الحقيقي لجسد الإنسان وروحه هو الله تعالى ، أمّا الإنسان فهو أمين على جسده فقط ومطلوب منه أن يحافظ عليه ممّا يهلكه أو يؤذيه استجابة لقوله تعالى : ( ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ولهذا كانت عقوبة الانتحار هو الخلود في النار ، ... وبناءً على ذلك فإنّ الإنسان الذي لا يملك ذاته ولا يملك أجزاء هذه الذات لا يمكن التبرع بأعضاء جسمه فهي هبة من الله للإنسان المؤتمن عليها ، ولا يحقّ له التصرف فيها » (١).

__________________

(١) ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد متولي الشعراوي في بحث كُتب في مجلة العالم الأسبوعية السنة التاسعة ٦ شباط ١٩٩٣ م ١٤ شعبان ١٤١٣ ه‍ العدد (٤٦٩) ص ٣٣.

٣٤٧

ولكن من حقّ إنسان أن يناقش فيما ذكر كدليل على عدم جواز نقل العضو من إنسان لآخر ، إذ دليل المتكلّم ينحلّ إلى شقّين :

الأول : لا يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في التهلكة ، وهذا أمر لم يختلف فيه اثنان.

الثاني : لا يجوز للإنسان أن يقدم عضواً من اعضائه إلى غيره بدليل أن الإنسان لا يملك هذا العضو ، وأنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.

ونحن وإن قبلنا أنّ العضو الذي هو جزء من جسدي ليس ملكاً لي ، إلاّ أنّ قطعه وتقديمه للغير غير متوقّف على ملكيته لي ، بل لنا أن نقول : إنّ الإنسان له نوع ولاية على جسمه واعضائه وقد منع من القاء نفسه في التهلكة بواسطة آيتين قرآنيتين هما ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وآية ( ولا تقتلوا أنفسكم ) وأمّا إعطاء عضو من الأعضاء إذا لم يكن قتلاً للنفس ـ كما هو المفروض ـ فهو جائز للولاية المعطاة للإنسان من قبل الله تعالى على أعضائه ، إذ من الواضح أن المتولّي يمكن أن يتصرّف فيما جُعل ولياً عليه وإن لم يكن مالكاً (١).

على أنّنا يمكننا القول ـ كما قال الإمام الخوئي رحمه‌الله ـ « بأنّ الاضافة الحاصلة بين المال ومالكه قد تكون اضافة تكوينية ، كالاضافة الكائنة بين الاشخاص وأعمالهم وأنفسهم وذممهم ، فإن أعمال كل شخص ونفسه وذمّته مملوكة له ملكية ذاتية وهو واجد لها فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية ، ودون مرتبة الواجدية الحقيقية التي هي لله جلّ وعلا.

__________________

(١) وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الأزهر في مصر الشيخ جاد الحقّ علي جاد الحق بشرط « أن يصرّح طبيب مسلم ثقة بأنّ نقل هذا العضو من شخص إلى آخر لا يترتب عليه ضرر بليغ بالشخص المتبرّع ، وإنّما يترتب عليه انقاذ حياة الشخص المتبرّع له أو انقاذه من مرض خطير » وهذا الشرط مفروض في مسألتنا أيضاً.

٣٤٨

والمراد من الذاتي هنا ما لا يحتاج تحقّقه إلى أمر خارجي تكويني ، أو اعتباري ، وليس المراد به الذاتي في باب البرهان ، أي ما ينتزع من مقام الذات ، ولا الذاتي في باب الكليات الخمس ، أعني به الجنس والفصل ، وهذا واضح لا ريب فيه.

والمراد من الملكية الذاتية ليس إلاّ سلطنة الشخص على التصرّف في نفسه وشؤونها ، بداهة أن الوجدان والضرورة والسيرة العقلائية كلّها حاكمة بأنّ كل أحد مسلط على عمله ونفسه ، وما في ذمته بأنّ يؤجر نفسه لغيره أو يبيع ما في ذمته ، ومن البيّن الذي لا ستار عليه أن الشارع المقدّس قد امضى هذه السلطنة ولم يمنع الناس عن التصرفات الراجعة إلى أنفسهم.

ليس المراد من الملكية هنا الملكية الاعتبارية لكي يتوهّم أن عمل الإنسان أو نفسه ليس مملوكاً له بالملكية الاعتبارية » (١).

ثمّ إنّنا يمكننا القول بأنّ العضو بعد فصله من جسم الإنسان تصدق عليه الملكية العرفية ، كملكية الدم بعد سحبه من الجسم ، فإنّ الاضافة هنا بعد فصل العضو بين العضو ونفس الإنسان هي اضافة حقيقية ، لأنّها مال على كل حال حيث يبذل في مقابلها المال وتدّخر لوقت الحاجة ويتنافس عليها العقلاء ، وعلاقتها بالإنسان كعلاقة الكتاب به.

ثم إذا نوقش في هذا الدليل المجوّز لنقل العضو من إنسان لآخر فيكفينا الأصل العملي في المقام القائل بجواز ذلك ، حيث نشكّ في أصل التكليف وفي الحرمة خصوصاً إذا علمنا أن العرف ينظر إلى هذه العملية أنّها إيثار وبرّ وعمل خير وإحسان.

__________________

(١) مصباح الفقاهة في المعاملات ، تقرير بحث الإمام الخوئي ، بقلم محمد علي التوحيدي : ج ٢ ، ص ٤ ـ ٥.

٣٤٩

هل يتمكّن الوليّ ( للطفل والمجنون ) أن يتبرّع بأحد أعضاء المولَّى عليه الى فرد آخر ؟

والجواب عن ذلك : بعدم الجواز ، وذلك لما في هذا العمل من ضرر على المولّى عليه ، والوليّ إنّما يصحّ تصرّفه في خصوص مصلحة المولّى عليه ، وليس من مصلحته أن ينقص عضواً من جسمه.

نعم ، قد تحدث في حالة نادرة أنّ أخوين أحدهما قد عُطِّل عضوه ، ويكون بتقديم عضو أخيه له مصلحة مهمة جداً بحيث لو مات أحد الأخوين فإنّ الآخر يكون في طريق الموت ، ففي هذه الحالة الخاصّة يجوز للوليّ أن يقدّم أحد أعضاء المولّى عليه لأخيه الآخر ، ويكون هذا الضرر الذي قام به الوليّ على المولّى عليه لأجل دفع الضرر الأكبر ، وطبيعيّ يجوز دفع الضرر الأكبر بضرر أقلّ ، إلاّ أنّ هذه الحالة نادرة قد لا يكون لها موضوع في الواقع الخارجي.

هل يجوز بيع الأعضاء البشرية ؟

قد يقال بعدم الجواز من ناحية أن الإنسان لا يملك اعضائه ، فكيف يجوز له بيعها ؟ مع أن البيع متوقّف على الـمِلك كما قرّر ذلك الفقهاء.

ولكن لنا أن نقول : إنّ الولاية التي جعلها الله سبحانه وتعالى للإنسان على نفسه وحقّه في الانتفاع بهذه الأعضاء واولويته تجعله قادراً على تنازله عن هذا الحقّ في مقابل المال إن كان نقل العضو جائزاً كما تقدّم ذلك ، وقد افتى جمعٌ منهم السيد الخوئي رحمه‌الله بجواز بيع الدم الذي يؤخذ من جسم إنسان لجسم آخر ، ولعلّه للتنازل عن هذا الحق في مقابل المال ، أو لصدق الملكية الاعتبارية عليه ، بل للملكية الذاتية كما تقدّم ذلك.

٣٥٠

هل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟

وإذا كنّا قد انتهينا إلى جواز نقل العضو من الحي إلى الحي ـ كما تقدّم ـ فهل يجوز نقل العضو من الميت إلى الحي ؟

والجواب : إذا قبلنا التزاحم الملاكي المتقدم القائل بأنّ قطع العضو من الميت وإن كان حراماً إلاّ أنّ أهميّة الانتفاع بعضو الميت للإنسان الحي وإن لم تكن واجبة إلاّ أنّها ترفع حرمة قطع العضو من الميت ، لأن الحرمة هي في صورة الاعتداء على الميت ، لا لفائدة ، فيكون العمل منافياً لوجوب احترام الميت ، أمّا مع هذه الفائدة الكبيرة فلا يكون قطعُ عضو الميّت مخالفاً لاحترامه ، خصوصاً إذا صرّح هذا الإنسان قبل موته بقطع أعضائه المفيدة للمرضى.

ولكن قد يقال : إنّ حرمة الميت التي ثبت أنّها كحرمة الحي معناها هو عدم جعل الميت العوبةً بيد غيره ، وحينئذ إذا كان هناك اجازة من نفس الميت لقلع عضو من اعضائه بعد الموت للاستفادة منها فلا يعدّ قلع العضو بعد الموت خلافاً لاحترامه حيث أجاز لنا شق جسمه للاستفادة من اعضائه ، أمّا مع عدم الاجازة والاذن منه فقد يصدق عدم الاحترام على أخذ العضو منه حتى وإن كانت مصلحة للغير ، إذ عدم احترامه وهتكه شيء عرفي يفهمه أهل العرف في صورة عدم إجازته. نعم ، إذا كانت مصلحة لنفس الميت كمعرفة قاتله فيجوز تشريحه وقلع الحنجرة والعين ، لعدم عدّ هذا هتكاً له في صورة عود النفع لنفسه.

ثمّ إنّ الطبيب : إذا كان يرى بنفسه أنّ هذا الإنسان قد مات فعلاً وإلى جانبه إنسان يحتاج إلى بعض اعضاء هذا الميت لينقذه من الموت أيضاً ، فيتوجّه إليه خطابان الأول بحرمة قطع اعضاء الميت ، والثاني وجوب انقاذ الآخر فيقع التزاحم ، فيقدّم الأهم على المهم ، ومن الواضح أن الأهمّ هو انقاذ حياة المريض

٣٥١

الثاني ولو كان بواسطة أخذ عضو من الميت لو قلنا بحرمته ، ومثل هذا شق بطن الاُمّ إذا ماتت لأجل انقاذ الجنين (١).

شبهة : قد يقال أنّ أدلّة وجوب دفن القطعة المبانة من الحي تأتي بعد قطع العضو من الجسم الحي أو الميت ، وحينئذٍ لا تصل النوبة ترقيعها في جسم آخر ليستفيد منها.

الجواب : أنّ أدلّة وجوب الدفن لا تأتي في الإبانة لأنّها إبانة بل تأتي في صورة القطع بموت العضو ، أمّا إذا كان العضو بعد قطعه لا يحسب ميتاً ، بل يمكن إلحاقه بجسم إنسان آخر فهو عضو حي ، فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، ولهذا لو فرضنا أن إنساناً قد توقّف قلبه لمدّة قليلة ثم رجعت إليه الحياة فلا يقال بوجوب دفنه ، فما نحن فيه كذلك أو أولى ، لأنّ العضو الذي قطع : إمّا لا يصدق عليه أنّه ميت ، أو صدق عليه الموت مدّة قليلة ثم رجع إلى الحياة باتصاله بجسم آخر فلا تشمله أدلّة وجوب الدفن ، بل تنحصر أدلّة وجوب الدفن لما صدق عليه انّه ميت ولم ترجع إليه الحياة.

تعلّم الطب المتوقّف على محرم :

إنّ تعلم الطب والترقّي فيه إلى حيث حاجة المجتمعات المعاصرة قد يتوقّف على ارتكاب بعض المحرّمات في الشريعة الإسلامية المقدّسة ، فهل يجوز ارتكاب هذه المحرّمات لأجل الوصول إلى تعلم علم الطب ، أو نقول بعدم جواز التعلم وعدم ارتكاب المحرمات في الشريعة الإسلامية ؟

__________________

(١) وقد افتى الإمام الخوئي رحمه‌الله بجواز أخذ عضو من الميت لزرعه للحي إذا اقتضت ضرورة الحياة ذلك ، وأفتى أيضاً بجواز أن يوصي الإنسان باستئصال بعض اجزاء جسده بعد موته لزرعها في جسم من يحتاج إليها وإن كان كافراً ، ولكن التعيين للفرد المسلم أفضل. راجع منية السائل : ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٣٥٢

فمثلاً : أنّ طلاب كلية الطب يحتاج نموّهم وتدرّجهم في معرفة علوم الطب الى تشريح بعض الجثث الذي هو محرم بعنوانه الأولي ، أو قد يحتاج التعلم إلى النظر الى النساء المحرمات ، أو عورة الإنسان الذي هو محرّم من قبل الشارع المقدّس ، فهل نقول بعدم وجوب أو عدم حسن تعلم علم الطب ونفتي بحرمة تعلم الطب المتوقّف على المحرمات ، أو نقول بجواز تعلم علم الطب وجواز ارتكاب هذه المخالفات الشرعية ؟

وللجواب على هذا التساؤل ينبغي التنبيه على أنّ تعلم الطب إذا كان متوقّفاً على عمل محرم ، ويمكن أن يتوقّف على عمل محلّل ، فإنّ الحرام الذي حرمه الشارع لا يمكن أن يكون محللا ، وذلك لعدم وجود المبرّر لحلّيّة المحرم مع فرض أن تعلم الطب يمكن أن يكون عن طريق سلوك الطريق المحلل ، فمثلاً إذا كان للوصول تعلم الطب طريقان :

أحدهما : تشريح جسم حيوان كالارنب أو القرد أو ما شابه ذلك من الحيوانات المحللة تشريحها شرعاً.

والآخر : تشريح جثة إنسان مسلم ، وهو عمل محرم في الشريعة الإسلامية ، ففي هذه الحالة لا يجوز تعلم الطب عن طريق التشريح المحرم ، وهذا واضح ؛ لأنّ حرمة تشريح جسم الإنسان المسلم سواء كانت تعبديةً محضةً أو لأجل احترام المسلم حتى بعد موته لا يجوز مخالفتها إذا لم يكن هناك شيء يمكن أن يكون له مصلحة أهمّ من مفسدة عدم احترام الميت المسلم ، وقد افترضنا أنّ علم الطب يمكن تحصيله عن طريق محلل ( وهو تشريح جسم الحيوان كالأرنب ) فتبقى حرمة التشريح لجسم المسلم خاليةً عن مزاحم أهمّ.

تعلم الطب المتوقّف على محرّم إذا لم يمكن توفير الأسباب المحلّلة :

وهنا ننقل البحث إلى هذه الصورة ، وهي : فيما إذا توقّف تعلم الطب على شيء

٣٥٣

محرم ـ كالنظر إلى المرأة المحرمة ، أو النظر إلى العورة ، أو تشريح جسم الإنسان المسلم لمعرفة سبب موته ـ ولم يمكن توفير سبب محلّل لتعلّم الطب ، فهل يجوز هذا ، أو لا يجوز ؟

الجواب :

أولاً : قد يجاب بجواب معروف وهو : أنّ علم الطب إذا كان واجباً وجوباً كفائياً ولم يوجد من به الكفاية من الأطباء لادارة اُمور مرضى المجتمع فيجوز تعلّم الطب حتى إذا توقّف على أمور محرّمة ؛ وذلك ، لأنّ تعلّم الطب واجب أهم من حرمة النظر إلى المرأة ، أو حرمة التشريح للمؤمن والنظر إلى عورة الإنسان (١).

ولكنّ هذا الجواب لا يلبي طلب المجتمع ، ولا يحل المشكلة ؛ وذلك :

١ ـ للشك في تشخيص الحاجة الوجوبية لتعلم الطب ، فإنّها حاجة اجتماعية ، وليست حاجة فردية ، فالإنسان في خصوص القضايا الفردية يمكنه أن يقطع بأن الشيء الفلاني هو ماء مثلاً ، أمّا بالنسبة للحاجات الاجتماعية فيصعب عليه التمييز بوجوبها.

__________________

(١) ولذا فقد افتى الإمام الخوئي رحمه‌الله بجواز فحص المرأة الأجنبية للرجل ، والرجل الأجنبي للمرأة حتى لمنطقة العورة ( القبل والدبر ) إذا توقّف حفظ النفوس المحترمة عليه ولو في المستقبل ، وهذا الجواز كما يكون للطبيب يكون للطالب الذي يدرس علم الطب ، فقد ورد في منية السائل ص ١١٨ ـ ١١٩ هذا السؤال والجواب :

س : في كليات الطب يتحتّم على الطالب أن يقوم بفحص المرأة الأجنبية ، والرجل الأجنبي وقد يصل الفحص إلى منطقة العورة ( القبل والدبر ) وهذا الأمر لابدّ من المرور به بالنسبة إلى طالب الطب أثناء دراسته العامّة ولا مفرّ منه ، هل يجوز لطالب الطب اثناء دراسته أن يمارس هذا الأمر ؟ وهل يجري الحكم على الطبيب كما يجري على طالب الطب ؟

ج : العمل المذكور غير جائز في نفسه ، ولكن إذا توقّف حفظ النفوس المحترمة على العمل المزبور ولو في المستقبل فهو جائز ، وكذلك الحكم بالنسبة إلى الطبيب.

٣٥٤

٢ ـ إنّ الوجوب الكفائي لتعلم الطب لو كان واضحاً عند الفرد فهناك شبهة اُخرى ، وهي : هل الوجوب الكفائي واجب لوجوب حفظ النفس فقط ، أو الوجوب الكفائي واجب لما يعمّ حفظ النفس ؟

من الواضح أن علم الطب ليس مختصّاً بحفظ النفس ، فقد يقال بأنّ تعلّم الطب واجب بالنسبة لحفظ النفس فقط ، أمّا ما لا يشمل حفظ النفس من الطب فهو ليس بواجب ، ولا يجوز تعلمه إذا توقّف على مقدّمة محرمة.

ثانياً : وقد يقال ـ كجواب على السؤال المتقدّم ـ بجواز تعلم الطب وإن توقف على مقدّمة محرمة ، وذلك لعلمنا بأنّ الشريعة الإسلامية لا ترضى بكون المجتمع الإسلامي متخلّفاً عن ركب العالم الحضاري ، فلأبدّ في كل فن وكمال من أن يتعلّم المجتمع الإسلامي ذلك.

وهذا الجواب صحيح ، ولكنّ التساؤل الذي يجب الجواب عليه هو : ما هي حدود ذلك الفن والكمال ؟ وهل يشمل الوجوب كل الكمالات أو بعضها ؟ وبهذا يرجع الاشكال الأول من أن ترجيح الأهم على المهم في هذا المجال الاجتماعي مشكل من ناحية الموضوع والحكم.

ثالثاً : قد يقال بالتمسّك بقاعدة الاشتغال ، فيقال مثلاً : إنّ تعلم الطب واجب بالوجوب الكفائي على المجتمع ، بمعنى أنّ الوجوب متوجّه إلى المجتمع الإسلامي وفي عهدته ، وما دمنا نشك الآن في وجود من به الكفاية من الأطباء فمعنى ذلك نشك في فراغ ذمّة المجتمع من الوجوب الكفائي ، فنتمسّك بقاعدة الاشتغال القائلة : إن الاشتغال بالتكليف اليقيني ( على المجتمع ) يستوجب الفراغ اليقيني عنه ، فما لم نعلم بوجود قدر الكفاية يبقى الوجوب الكفائي بحاله.

وبهذا أثبتنا الوجوب الكفائي في تعلم الطب على المجتمع ، وحينئذ إذا توقّف

٣٥٥

هذا الوجوب على عمل محرّم ـ كالتشريح أو النظر إلى العورة أو الأجنبية ـ فيقدم الأهم على المهم.

ولكن تقف بوجه هذا الحلّ عدّة أمور :

أ ـ إنّ معنى الوجوب الكفائي ليس هو توجّه الوجوب إلى المجتمع وفي عهدته ، بل معناه : يجب على كل فرد تعلم الطب على تقدير ترك الآخر ، وعلى هذا المعنى فسوف يكون الشك شكاً في التكليف ، حيث إن من به الكفاية إذا كان موجوداً فلا وجوب على الفرد ، وإلاّ فالوجوب موجود على الفرد ، فإذا شككنا في وجود من به الكفاية فنشك في توجّه التكليف إلى الفرد ، فيكون مورداً لجريان أصالة البراءة ، لا قاعدة الاشتغال.

ب ـ وحتى لو فرضنا أن الواجب الكفائي قد يفسر بالوجوب المتوجّه المجتمع وفي عهدته فهل يكفي هذا لجريان قاعدة الاشتغال ؟

الجواب : قد يقال : إنّ الفرد يجري قاعدة البراءة بالنسبة إلى ذمّته ، وليس هو مسؤولاً عن المجتمع وذمته.

ج ـ ثمّ إنّنا إذا قلنا بأنّ الوجوب الذي على المجتمع هو على مستوى أصالة الاشتغال فحينئذ نقدم الأهم على المهم ، فنقدم تعلم الطب على حرمة النظر الأجنبية وحرمة التشريح ، ولكن ما هو مقدار الأهميّة الذي يقدم على حرمة مقدّمات تعلم الطب ؟

رابعاً : قد يتمسّك باستصحاب عدم كفاية الاطباء ، لأنّ الأطباء الموجودين في المجتمع سابقاً غير قادرين على سد الحاجة ، فالآن وقد كثر عدد الأطباء فهل حصلت الكفاية المرجوّة لسدّ حاجة المجتمع ؟

الجواب : نستصحب عدم الكفاية ، وبهذا يثبت موضوع عدم وجود كفاية من الأطباء في المجتمع ، فيتحقّق الوجوب الكفائي في هذا الزمان ، فنقدّم الأهم

٣٥٦

على المهم.

ولكنّ الذي يقف في بوجه هذا الجواب : هو أن الحرمة بالنسبة للنظر العورة أو الأجنبية هي حرمة حقيقية نشأت من الأمارة ، بينما الوجوب الكفائي لتعلم الطب قد استند إلى الاستصحاب ، ولا يقدم الاستصحاب على الحرمة الحقيقية. بالاضافة إلى أن الحالة السابقة في بعض المناطق الإسلامية قد تكون هي الكفاية ، فينتج الاستصحاب عدم الوجوب الكفائي.

والخلاصة : إلى هنا لم تكن الحلول الفنية الفقهية كافيةً للقول بوجوب أو جواز تعلم الطب المتوقّف على محرم.

آراء جديدة في حلّ المشكلة :

وهناك من الفقهاء (١) من تطرّق لحلّ هذه المشكلة بحلّين جديدين ، هما :

أ ـ التزاحم الاجتماعي بحاجة إلى حلٍّ اجتماعي :

أي : أنّ الفرد كفرد حينما يلاحظ المسألة ( تعلم الطب المتوقّف على مقدّمة محرمة ) قد لا يكون عنده التزاحم واضحاً ، فهو لا يدرك بصورة واضحة انه لو ترك تعلم الطب يكون قد ترك الواجب الأهم ، فيكون مخلا بالواجب الكفائي ، أمّا الولي الفقيه فهو عندما ينظر إلى القضية من الناحية الاجتماعية يحصل له علم اجمالي بأنّه إذا حصل تهاون في تعلم الطب فيتعذّر الأهم ويختل ، وبهذا يحصل لدى الولي الفقيه تزاحم ( غير التزاحم الذي يحصل عند الفرد ) فيحكم هذا الولي بوجوب تعلم الطب إلى حد معين ، وبهذا يحصل وجوب كفائي محدود.

وبهذا الحكم تحلّ المشكلة القائلة باحتمال وجود من به الكفاية ، أو عدم وجوب حفظ النظام بتعلم الطب ، أو المشكلة القائلة : ما هي حدود الواجب

__________________

(١) هو آية الله السيد كاظم الحائري ( حفظه الله ).

٣٥٧

الكفائي ، إذ أنّ الولي قد عيّن حدود الوجوب الكفائي ؟

وهذا الحلّ ليس له أي عيب ، سوى عدم وجود ولي أمر مبسوط اليد في بعض المناطق التي يعيش فيها المسلمون.

ب ـ لا إطلاق في حرمة التشريح والنظر إلى الأجنبية لما نحن فيه :

وخلاصة هذا الوجه هو : أنّ حرمة التشريح لجسم المسلم ، وحرمة النظر الى الأجنبية المؤمنة ، وحرمة النظر إلى العورة ( من غير شهوة وتلذذ ) ـ كما في صورة النظر إلى عورة المماثل ـ إنّما هي حرمات قائمة على أساس احترام المسلمين ، وعلى هذا فحتى لو لم يكن حفظ النفس واجباً ومن مقدّماته تعلم الطب ، إلاّ أن المحرمات في حد نفسها لا اطلاق لها ؛ لفرض ما إذا كان الهدف من النظر إلى العورة أو التشريح أو النظر إلى الأجنبية هو انقاذ المجتمع الإسلامي من المشاكل (١) ، وعلى هذا يكون التحريم غير شامل لفرضنا ، مثل حرمة الغيبة فإنّها لا تشمل ما إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عالية من حصول الغيبة فإنّها لا تكون محرمة وإن لم يوجد تخصيص يستثني هذا المورد من الحرمة ، بل يوجد هنا ارتكاز يقول : إنّ المحرمات الاحترامية لا تأتي فيما إذا كانت مصلحة اسلامية مهمة تترتب على ارتكاب الحرام ، فيكون هذا الارتكاز العرفي في حكم المخصص المتصل.

وبعبارة اُخرى : إنّ الأحكام الاحترامية ـ كحرمة التشريح والنظر إلى

__________________

(١) وهذا هو التزاحم الملاكي الذي تقدّم في قلع عضو الإنسان ، كالكلية وتقديمها لآخر من أجل انقاذ حياته.

ليس هو النظر إلى أقوى الملاكين كما قال الآخوند ، وليس هو النظر إلى أقوى « الخطابين » الحكمين كما قال الميرزا ، بل هو في صورة فرضنا أن الملاك لم يصل إلى الحكم ، فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر. مثل اعطاء كلية إلى من تعطلت كليتاه ، فهنا انقاذ المريض وإنّ لم يكن واجباً عليّ لكنه يزاحم حرمة ضرره.

٣٥٨

العورة فيما إذا كانا غير راجعين إلى الشهوة ـ حينما تكون في النظر الاجتماعي مزاحمة لمصلحة اجتماعية مهمّة فالعرف لا يرى محلا لهذا الاحترام ، فيكون دليل الحرمة منصرفاً عن هذه الموارد.

ولنضرب لذلك امثلة حتى يتوضّح المقصود :

١ ـ لو ادّعي على بنت باكر انّها زانية ، وكان هناك شهود على هذه الدعوى ، ولكن البنت تنكر الزنا ففي هذه الصورة يكون عرضها على الطبيبة مزيلا للمشكلة ، إلاّ أن الفحص والنظر إلى العورة حرام ، وتحمّل الحدّ ليس حراماً ، فلو لم ننظر إلى ما قلناه ( في فرع ب ) فقد يقال : يجب عليها تحمّل الحدّ ، ويحرم النظر عورتها.

ولكنّ الفهم العرفيّ الاجتماعيّ لا يقبل ذلك ، حيث يفهم العرف أن حرمة النظر إلى عورتها من قبل الطبيب ليس إلاّ لاحترامها ، والعرف يرى أنّه لا محلّ لهذا الاحترام هنا حيث زوحم بأمر مهم جداً « رفع التهمة عنها » بواسطة النظر العورة.

ولهذا نقول : إنّ الحكم التحريمي الاحترامي يتخصّص بهذا الارتكاز العرفي ، فلا يكون شاملاً لما نحن فيه ، إذ العرف العقلائي يسفّه الحكم بعدم تعلم الطب ؛ لتوقفه على النظر المحرم أو التشريح المحرم ، والمفروض أنّ الحكم بحرمة النظر والتشريح ليست تعبدية محضة حتى يقال : لا مجال لنظر العرف فيها.

٢ ـ إذا علمت المرأة انها إذا تزوجت فسوف تبتلى بنظر النساء إلى عورتها عند الولادة ، وبما أن أصل الزواج ليس واجباً فهل نحكم الزواج ، أو نقول : إنّ دليل الزواج وجوازه خصَّص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة ؟ (١)

الجواب : أنّنا لا نحكم بحرمة الزواج ، ولا نقول بأنّ دليل جواز الزواج

__________________

(١) قد يقال هنا بأن الزواج في وقته جائز والنظر إلى العورة عند الولادة مضطرّ إليها في وقتها فتكون حكماً ثانوياً جائزاً لتغيّر الموضوع ، كالتيمم عند فقد الماء ، وكالقصر عند حدوث السفر.

٣٥٩

خصص دليل حرمة النظر إلى العورة بغير صورة الولادة. بل يدّعى من الأول أن دليل حرمة النظر إلى العورة لا نظر له إلى فرض ابتلائها بالولادة ، وذلك لأنّ هذه الحرمة الاحترامية قد ابتليت بمصلحة مهمة جداً ، فحتى لو لم تكن المصلحة واجبة لا يمكن عرفاً الالتزام بالمحرم الاحترامي وترك هذه المصلحة المهمة وهي ( التزويج والولادة المتوقفة على النظر من المماثل ) ، وهذا ممّا يجعل أصل الحكم مقيداً بالارتكاز العرفي.

٣ ـ وكذا إذا كانت المرأة في دور الحمل وقد نصحها الاطباء بمراجعة الطبيبة كل شهر مرة واحدة خوفاً من أن يتعرض الحمل أو الاُم إلى مضاعفات في دورة الحمل وكانت الطبيبة تجري الفحص الذي يستلزم النظر إلى العورة في بعض الأحيان فهل يقال بحرمة النظر والفحص لعدم وجوبه عليها ، أو يقال بجواز ذلك لما فيه المصلحة المهمة وان لم تكن واجبه ، ويكون دليل حرمة النظر إلى عورتها منصرفاً عن هذه الصور ؟

وكذا إذا اسقطت المرأة جنينها وسقط ما هو تابع للجنين ولكن فضّل الأطباء إجراء عملية « الكورتاج » لتنظيف الرحم ، فهل نقول هنا بحرمة إجراء العملية لحرمة النظر إلى العورة ، أو نقول بجواز ذلك للمصالح التي تترتب من تفضيل الأطباء إجراء العملية وان لم تكن واجبة ؟

وكذا إذا كانت المرأة لا تنجب الأطفال وكان من المحتمل قوياً الانجاب إذا راجعت المماثل من الأطباء ، وكان ذلك يستلزم إجراء الفحص أو التحليل أو الأشعة على موضع العورة والرحم فهل نقول بحرمة مراجعة الأطباء بسبب أن انجاب الأطفال ليس بواجب ، أو نقول بجواز تلك للمصلحة المهمة المترتبة من المراجعة وان لم يكن الانجاب واجباً ونخصّص دليل حرمة النظر الاحترامي بغير

٣٦٠