بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

محض لأداء حق المجنيّ عليه ، وليس فيه أي عقوبة ، لأنّ المفروض أنَّ الجناية خطئيّة محضة ، ومن هنا نفهم أنَّ هذا الحقّ هو حقّ مالي محض للوارث لا عقوبة فيه على القاتل ، وحينئذ يتمكّن أي إنسان أن يتبرّع به بدلا عن العاقلة ، وذلك للارتكاز العقلائي القائل : إنّ التكاليف المالية المحضة يجوز قيام الغير بها عوضاً عن المكلف بها ، بخلاف التكاليف المالية التي فيها نوع عقوبة كالفدية والكفارة ، فإنّها لا تصح من المتبرع لأنّها تُعتبر نوع عقوبة على المباشر ، فلابدّ من صدورها منه لتتحقّق العقوبة.

إذا عرفنا هذا فنقول : إنّ دليل اطلاق وجوب الدية على العاقلة لا يشمل شركة التأمين أو نقابة الأطباء ؛ للمباينة بين العاقلة وبينهما.

ولكن نقول : تتمكّن الشركة أو النقابة أن تقوم بدور العاقلة بعدّة طرق :

١ ـ أن تدفع عوضاً عن العاقلة وتقوم مقامها تبرّعاً ما دام هذا التكليف المتوجّه إلى العاقلة هو تكليف مالي محض ، وهو حقّ للورثة ، وهذه التكاليف المالية يصح فيها قيام الغير بها تبرعاً.

٢ ـ وإذا صح هذا العمل من النقابة أو الشركة فيمكن أن يكون هناك عقد بين الجاني خطأً وبين أحدهما مفاده : « تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأ في هذه السنة ـ مثلاً ـ مقابل دفع الطبيب مبلغاً شهرياًالشركة أو النقابة » وهذا عقد يشمله ( أوفوا بالعقود ) فيجب الالتزام به.

٣ ـ وكذا يمكن أن يكون هناك شرط في ضمن عقد لازم مفاده : تعهد النقابة أو الشركة بدفع الدية كاملة لورثة المقتول خطأً في هذه السنة ، وذلك للقاعدة القائلة بوجوب التزام المسلمين بشروطهم.

٤ ـ ومن نافلة القول بإمكان أن تدفع الشركة أو النقابة الدية إلى القاتل خطأ أو إلى العاقلة تبرّعاً ، فتدفعها هي من قبل نفسها ، ولكنّ كلامنا ليس في هذا لجواز

٣٢١

هذا الأمر حتى إذا حصل القتل الشبيه بالعمد ، بل حتى القتل العمدي ، وهذا معناه أن القاتل هو الذي دفع الدية بعد قبول التبرع.

إشكال : ولكن قد يقال : إنَّ الطريق الأوّل والرابع لا يلزم نقابة الأطباء ولا شركة التأمين على القيام بهذا العمل ، بل يبقى هذا العمل من قبلهما تبرعياً ، وعلى هذا لا يمكن أن يتخلّص الطبيب من مشكلة دية الخطأ إن حصل. وأمّا الطريق الثاني والثالث فيأتي عليهما اشكال جهالة العقد والشرط ( حيث لا يُعلم كم عدد الموارد التي يقع بها الطبيب في القتل الخطئي ، وقد لا يقع أصلاً ) والجهالة تضرّ بصحة العقد لأنّه يكون غررياً ، وقد أبطل المشهور العقد الغرري.

ولا يمكن الجواب على هذا الاشكال إلاّ بأنّ نقول : إن الغرر في اللغة ليس هو الجهالة بل بمعنى الخطر « وهو المتيقن من معناه ، وإن كان مادّته بمعنى الغفلة والخديعة أيضاً » ، وحينئذ لا تكون الجهالة المذكورة في العقد أو الشرط مبطلة للعقد. ولنأمن الأمثلة المتعدّدة في الفقه الإسلامي ( التي تدل على صحة بيع ما فيه جهالة ) الشيء الكثير ، مثل بيع العبد الآبق مع الضميمة ، وصحة بيع اللبن الذي في الاُسكرجّة مع ما في الضرع ، وصحة بيع الثمرة بعد ظهورها وانعقادها سنةً أو سنتين مثلاً.

* * *

٣٢٢

٣٢٣

٣٢٤

البحث عن التداوي

إنّ الإنسان بفطرته يسعى لازالة آلامه واسقامه ، وقد حثّ الإسلام على التداوي ، حيث ذكرت كتب الطب النبوي الأحاديث الشريفة المتواترة ـ التي منها الصحيح والحسن والموثّق والضعيف ـ التي تحثّ على التداوي بصورة عامة أو خاصة ، حتى استخدام الحجامة والحبة السوداء والكمأة والحنّاء ومداواة المبطون والمطعون والرمد والحمّى ، فمن تلك الروايات :

١ ـ عن محمد بن مسلم قال : « سألت الإمام الباقر عليه‌السلام هل يعالج بالكّي ؟ فقال : نعم ، إن الله جعل في الدواء بركة وشفاء وخيراً كثيراً و ... و ... » (١).

٢ ـ عن يونس بن يعقوب قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرجل يشرب الدواء وربما قتل ، وربّما سلم منه ، وما يسلم منه أكثر ؟ قال : فقال عليه‌السلام انزل الله الدواء وانزل الشفاء وما خلق الله داءً إلاّ جعل له دواء ، فاشرب وسمّ الله تعالى » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، ب ١٣٤ من الأطعمة المباحة ، ح ٨.

(٢) المصدر السابق : ح ٩.

٣٢٥

٣ ـ وعن جابر قال : « قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتتداوى ؟ قال : نعم ، فتداووا فإنَّ الله لم ينزل داءً إلاّ وقد انزل له دواء ، وعليكم بألبان البقر فإنّها ترعى من كل الشجر » (١).

وقد اخرج ابو داود والترمذي والحاكم وصححاه ، والنسائي وابن ماجة وابن السني وابو نعيم واحمد كما حكى عنهم اسامة بن شريك قال : « كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله انتداوى؟ فقال : نعم : يا عباد الله ، تداووا فإن الله عزّوجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء ، غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم ».

ومن الواضح أنّ التداوي الذي تفزع اليه النفوس البشرية لا ينافي التوكّل على الله سبحانه لأنّه سبحانه قد جعل مباشرة الاسباب مقتضيات لمسبباتها ، فإنّ معنى التوكّل هو اعتماد القلب على الله سبحانه في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، وقد جعل الله سبحانه قانونه الحكيم في الوصول إلى ما ينفع ، ودفع ما يضر إلى سلوك الأسباب لذلك ، فالتداوي لرفع الداء هو مثل دفع الجوع والعطش والحر والبرد باضدادها ، وكرد العدو بالجهاد.

٤ ـ وقد ورد في مسند احمد والسنن ، واخرجه الحاكم عن أبي خزامة قال : « قلت يا رسول الله أرأيت رقىً نسترقيها ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل تردّ من قدر الله شيئاً ؟ قال : هي من قدر الله ».

ولهذا نقول إنّ المتوكّل يجب عليه أن يعمل ما ينبغي ويتوكّل على الله في نجاحه ، فالفلاّح يحرث ويبذر ثم يتوكّل على الله في نزول المطر والنماء ، وقد ورد في القرآن الكريم ( خذوا حذركم ) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لصاحب الناقة : « اعقلها وتوكّل ».

__________________

(١) المصدر السابق : ح ١٠.

٣٢٦

أقسام التداوي من ناحية الحكم الشرعي

وينقسم التداوي من ناحية الحكم الشرعي إلى الأقسام الخمسة :

أ ـ الجواز.

ب ـ الوجوب.

ج ـ الندب.

د ـ المكروه.

ه‍ ـ المحرم.

أ ـ جواز التداوي :

أمّا جواز التداوي فهو مستفاد من الروايات الكثيرة القائلة : « إنّ الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء » ، ومن الاجماع المنقول في عدم وجوبه كما في مرض الموت أو كان التداوي موهوماً مضنوناً أو كان المرض مزمناً ، أو لا دواء له حسب قول الطبيب ، أو كان له دواء وكان فيه مخاطر كبيرة وفائدته مظنونة أو موهومة ، مثل أمراض السرطان أو الأورام الخبيثة التي يخاف انتشارها في الجسم ، وكذلك في الأمراض التي لا تضر إلاّ صاحبها ضرراً يتحمّله مثل حساسية الأنف.

ب ـ الوجوب :

ووجوب التداوي له موارد متعدّدة ، منها :

١ ـ إذا كان بدن الإنسان لا يتحمّل الألم الذي هو فيه ، فقد ورد في كتاب « مكارم الأخلاق » قال : « قال عليه‌السلام : تجنب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم

٣٢٧

يحتمل الداء فالدواء » (١).

٢ ـ الأمراض التي تنتقل إلى الآخرين بالعدوى ، مثل مرض السل والجذام ، والخناق والكُزاز ، والهيضة ( الكوليرا ) والأمراض الجنسيّة ، وأنواع الحميات مثل : الحمى الشوكية والملاريا ... الخ. فإنّ هذه الأمراض إن لم يتداوى المصاب بها فإنّها تجر المرض إلى الآخرين ، ويحصل التضرر بسبب عدم المعالجة والقضاء عليها ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الضرر والضرار في الإسلام ، فكل ما يأتي منه الضرر من أفعال المكلّفين فهو منهي عنه في الإسلام ، والنهي يساوق الحرمة ، وإذا صار عدم التداوي حراماً فلازمه وجوب التداوي إذا كان للمرض علاجاً ، وأمّا إذا لم يكن للمرض علاج ودواء فيمكن استخدام وسائل الوقاية والتطعيم لمنع انتشارها ، كما أن عمليات الحجر الصحي وتقييد حرية المصاب على الأقل يؤدّي الى حصر الوباء في مكان معين.

ثم إنّ عدم التداوي في الأمراض التي لها علاج طبّي يؤدّي إلى الهلاك غالباً ، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بعدم القاء النفس في التهلكة حين قال : ( ولا تُلقُوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، وهذا النهي يشمل القاء النفس بالتهلكة مباشرة أو تسبيباً بترك المعالجة أو انتشار المرض المعدي.

ثم إنّ وجوب التداوي ينقسم إلى قسمين :

أولاً : وجوب فردي يتوجّه فيه التكليف إلى الفرد المصاب ، وهذا قد تقدّم.

ثانياً : وجوب إلى المجتمع المهدد بالخطر ( المرض ) ، وهذا الوجوب المتوجّه الى المجتمع يحدّده ولي الأمر ، كما في حالات ظهور امارات الوباء ، فإنّ الولي ـ متمثّلا بوزارة الصحة ـ يصدر أمراً إلى المجتمع بوجوب مباشرة دواء معين أو زرقة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ٤ من الاحتضار ، ح ٥.

٣٢٨

من علاج وقائي. وقد تكون الوقاية حجراً صحياً على بلدة كاملة لمنع خروج أفرادها ، أو دخول أحد إليهم ، وهذا كلّه يدخل في نطاق العلاج الواجب.

ج ـ الندب :

وهو مستفاد من الروايات الكثيرة المتقدّمة التي تحثّ على التداوي ، ولما في التداوي من فضل العافية وعدم التعرّض للبلاء ومقدّماته.

د ـ المكروه :

وكراهة التداوي إنّما تكون في صورة إمكان إزالة المرض وذهابه بدون مراجعة الطبيب واستعمال الدواء ، كالأمراض الناشئة من عوارض البرد ، فإنّها تزول بالاستراحة والحمية ، وكذا كل مرض يزول بالامساك عن الغذاء إلاّ فيما يحتاج إليه ، فقد وردت الروايات ايضاً بذلك ، ففي رواية عثمان الأحول عن الإمام أبي الحسن ( الرضا عليه‌السلام أو الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ) قال : « ليس من دواء إلاّ ويهيّج داءً ، وليس شيء انفع في البدن من إمساك البدن إلاّ ممّا يحتاج إليه » (١).

وما ورد في كتاب الخصال ( للصدوق ) بسند عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال : « من ظهرت صحته على سقمه فيعالج نفسه بشيء فمات فأنا إلى الله منه بريء » (٢).

بضميمة وضوح عدم حرمة المعالجة لمن ظهرت صحته على سقمه.

وكذا يكره التداوي في الأمراض التي ليس لها دواء أو مرض الموت.

__________________

(١) و (٢) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ٤ من الاحتضار ، ح ٥.

٣٢٩

ه‍ ـ المحرّم :

وقد يكون التداوي محرّماً على المريض فيما إذا كان الدواء الذي يريد استعماله محرماً وله بديل آخر يمكنه الحصول عليه ، وقد يكون الدواء نجساً وله بديل يمكنه الحصول عليه ايضاً. وقد يكون تداوي الإنسان الذي فيه المرض بقتل الجنين الذي في بطن اُمّه مع عدم الخطر الجدي على الاُمّ كما في حالات « الارحام » التي قد تبتلى بها بعض النساء ، فإن إزالة هذه الأرحام الشديدة قد يكون بواسطة اجهاض المراة لطفلها ، وهو محرم ، فالتداوي به محرم ايضاً.

هذه بعض المصاديق للتداوي بالمحرم.

ولا بأس بالتعرض هنا إلى بحث أقسام من التداوي قد يقال بحرمتها ، منها :

القسم الأول : هل يجوز التداوي بعين النجس ؟

نقول : ممّا لا اشكال فيه أن النجس ـ كالدم والخمر والميتة وما شاكلها ـ يحرم استعماله بالأكل والشرب ، وكذا إذا كان الشيء محرماً شربه واكله وان لم يكن نجساً كلحوم السباع المذكّاة والخمر بناءً على القول بطهارته ، فإنّ عدم وجود ضرورة إلى الأكل والشرب وعدم وجود انطباق عنوان آخر عليها يجعلها في حيّز المنع من الاستعمال في الأكل والشرب ، وهذا واضح من الأدلّة الصريحة عند كل المسلمين.

ولكنّ الكلام فيما إذا انطبق على هذه المحرمات الأكل والشرب عنوان الدواء ، كما إذا استُحضر الدواء من أحد هذه الاُمور أو ركّب من بعضها ، أو انطبق عنوان الانقاذ من الموت عليها فهل يجوز استعمالها في الأكل والشرب ؟

وللجواب على هذا السؤال نقول :

١ ـ أمّا في حالة توقّف حياة الإنسان على استعمال الميتة أو الدم أو البول فقد أفتى الفقهاء بجواز استعمالها وذلك للتزاحم الموجود بين وجوب حفظ النفس

٣٣٠

وحرمة استعمال النجس ، وبما أنّ وجوب حفظ النفس أهم من حرمة استعمال النجس فقد جُوِّز استعمال النجس لأجل حفظ النفس من الموت طبقاً لقانون تقديم الأهم على المهم عند التزاحم ، أو طبقاً لقانون الضرورات تبيح المحظورات ، وليس هناك ضرورة أهمّ من حفظ النفس.

٢ ـ أمّا في حالة انطباق عنوان الدواء على بعض هذه النجاسات ، وافترضنا أنَّ المرض الذي فيه هذا الإنسان لا يؤدّي إلى هلاكه فهل يجوز استعمال الدواء المحرم بالأكل والشرب ؟

الجواب : هنا صورتان :

الاُولى : أنّ الدواء ليس منحصراً في النجس ، بل يوجد فيه وفي غيره.

الثانية : أنّ الدواء منحصر في النجس.

أمّا في الصورة الاُولى فلا يجوز استعمال النجس للشفاء ، لعدم التزاحم بين حرمة النجس ووجوب الشفاء من المرض ، حيث يمكن الشفاء عن طريق الحلال ، وبهذا يجوز استعمال النجس ، ومثال ذلك : أنّ مريضاً يرقد في المستشفى بحاجة إلى دواء معين كالدم النجس ، ويمكن تهيئة ذلك عن طريق استعمال الدواء المستحضر من مادة طاهرة العين ، كالكبد الطاهر ، أو المقويات المزيدة للدم ، ففي هذه الحالة لا يجوز شرب الدواء الذي فيه نجاسة عينية.

وأمّا الصورة الثانية فقد يقال بعدم جواز استعمال النجس ، وذلك لعدم التزاحم بين حرمة استعمال النجس والشفاء من المرض ، لأنّ الشفاء من المرض ليس بواجب.

ولكن الصحيح أنّ السعي إلى الشفاء من المرض واجب أيضاً ، لما فيه من مصلحة الفرد الكبرى التي يتوقّف عليها سعيه في الأرض وكونه فرداً صالحاً ، ولما فيه أيضاً من مصلحة مجتمعه الذي يعيش فيه فإن المرض الذي يوجد في المجتمعات

٣٣١

إن لم يسع إلى التخلّص منه فإنّ البشرية جمعاء تبتلى بالمفاسد الكبرى التي تهلك الجماعات والأفراد ، لذا فإن التزاحم الذي ذكر سابقاً يجري هنا بين وجوب السعي للشفاء من المرض وبين حرمة استعمال المحرّم وحينئذ إذا كان وجوب السعي للشفاء من المرض أهم من استعمال المحرم فيجوز حينئذ استعمال المحرّم لأجل الشفاء من المرض إذا كان الشفاء منحصراً في استعمال المحرّم.

ومن الأمثلة على ذلك : أنّ مريضاً يرقد في المستشفى يحتاج إلى دواء ولا طريق إلى ذلك إلاّ استعماله للنجس أكلا أو شرباً قبل أن يطغى مرضه ويستفحل ، فإذا كان القضاء على المرض في استعمال الدواء أهم من حرمة استعمال النجس جاز استعمال النجس كما تقدّم ، هذا كله بحسب القاعدة الأوليّة.

أمّا بالنسبة للروايات فقد وردت الروايات الظاهرة بل الصريحة في حرمة استعمال النجس أكلا أو شرباً حتى في صورة انحصار الدواء به كالضرورة ، واليك بعضها :

١ ـ صحيحة عمر بن اذينة ، قال : « كتبت إلى الإمام الصادق عليه‌السلام أسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير ، فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ ، ليس يريد به اللذة ، إنّما يريد به الدواء ؟ فقال عليه‌السلام : لا ولا جرعة ، ثم قال : إنّ الله عزّوجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » (١).

٢ ـ صحيحة الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر ؟ فقال : لا والله ما اُحبّ أن أنظر إليه ، فكيف أتداوى به ؟ إنّه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير وترون اُناساً يتداوون به » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، ب ٢٠ من الأشربة المحرّمة ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٤.

٣٣٢

٣ ـ صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ) قال : « سألته عن الدواء هل يصلح بالنبيذ ؟ قال : لا ... إلى أن قال : وسألته عن الكحل يصلح أن يعجن بالنبيذ ؟ قال : لا » (١).

وهذه الروايات وإن كانت واردةً في الخمر إلاّ أنّ ظاهرها النهي عن التداوي بالحرام ، وهي مطلقة لصورة الضرورة وانحصار الدواء بالحرام وعدمها ، إلاّ الرواية الاُولى فهي تقنن قاعدة « إنّ الله لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواءً ولا شفاءً » فهي تشير إلى عدم وجود انحصار الدواء في المحرم ، بل تقرّر أنّ المحرّم لا يمكن أن يجيء منه الشفاء والدواء ، وبهذا يبطل الفرض الذي نحن فيه ، هو انحصار رفع الداء بالحرام أو ارتفاع الداء بالحرام.

هذا ولكن إذا أثبت العلم بما لا شك فيه ولا ريب أنّ بعض المحرمات والنجاسات يمكن استفادة الدواء منها ، وقد ينحصر الدواء فيها في بعض الحالات فحينئذ تطرح هذه الروايات للخلل في متنها الذي يكون مخالفاً للواقع الخارجي ، ويعود الفرض ويحكّم قانون التزاحم.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه الروايات المانعة من وجود الدواء في الحرام هي ناظرة إلى الواقع الخارجي الذي كان في وقت صدور الروايات فكان الدواء غير موجود فيما هو محرّم ، أمّا في زمان آخر كزماننا إذا تمكّن العلم بأدواته الدقيقة وعمقه الكبير أن يوجد دواءً من النجاسات أو المحرّمات ، وانحصر الدواء به فنرجع إلى القاعدة ، حتى لو لم يكن المتن الروائي مخالفاً للواقع الخارجي وقت صدورها.

بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الروايات مختصة بصورة الخمر وشرابه على هيأته الخمرية ، بينما كلامنا في صورة استخراج الدواء من المحرم بحيث تزول صفة الخمرية أو صفة الحرام ويتّصف بصفة اُخرى هي صفة الدواء ولكن عيبه هو

__________________

(١) المصدر السابق : ح ١٥.

٣٣٣

النجاسة أو الحرمة ، فتكون الروايات منصرفة عمّا نحن بصدده من انحصار الدواء في ما يستخرج من المحرّم أو النجس ، وهذا سيأتي في القسم الثالث. وبهذا الذي تقدّم يرجع البحث السابق ، ونحكّم قانون التزاحم.

ولكن نقول : إنّ هذه الروايات قد تكون معارضةً ـ إذا قلنا بحرمة شرب الأبوال الطاهرة ، كما هو الصحيح ـ بالروايات التي خصّت في التداوي فقط بأبوال الأبل والبقر والغنم في صورة الدواء فقط ، ومن تلك الروايات :

١ ـ موثّقة عمار بن موسى الساباطي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « سئل عن بول البقر يشربه الرجل ؟ قال عليه‌السلام : إن كان محتاجاً إليه يتداوى به يشربه ، وكذلك أبوال الإبل والغنم » (١).

٢ ـ موثّقة المفضل بن عمر ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام « أنّه شكا إليه الربو الشديد ، فقال له عليه‌السلام : اشرب أبوال اللقاح ، فشربت ذلك فمسح الله دائي » (٢).

٣ ـ وعن أنس : « أنّ رهطاً من عرينة أتو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : إنا اجتوينا المدينة وعظمت بطوننا وارتهست اعضاؤنا ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن يلحقوا برّاً الإبل ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ، فلحقوا براعى الابل ، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم ، ثم قتلوا الراعي وساقوا الابل » (٣).

وفي القاموس : جوى : كره ، وأرض جويه : غير موافقة وفيه ، ارتهس الوادي : امتلأ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، ب ٥٩ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، ب ٥٩ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٨.

(٣) السنن الكبرى للبيهقي : ج ١٠ ، ص ٤ ، ورواه البخاري في الصحيح : ج ١ ، باب الأبوال ص ٦٧ بأدنى تفاوت.

٣٣٤

٤ ـ وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذربة بطونهم » (١).

وفي القاموس : الذربة محركة : فساد المعدة.

والصحيح أنّ هذه الروايات لا تكون معارضة لما تقدّم حيث انها اخص منها فتقيد الحرمة بغير شرب الأبوال الطاهرة للدواء. نعم ، هناك روايات تجوِّز شرب أبوال مأكول اللحم على وجه الاطلاق ، إلاّ أنّها ضعيفة السند ولابدّ من تقييدها بالتداوي وحتى لو كانت صحيحة السند فلابُدَّ من تقييدها بالتداوي لموثّقة عمار المتقدّمة.

القسم الثاني : التداوي بالنجس أو الحرام بغير الأكل والشرب :

نقول : إنّ لفظ « التداوي بالحرام » يشمل غير الأكل والشرب أيضاً ، كالتدهين والتزريق والتكحيل ووضع عضو من جسم الخنزير في جسم الإنسان واشباهها ، ولكن الروايات المتقدّمة وان كان مطلقة إلاّ أنّها منصرفة إلى المحرم الذي حرم أكله أو شربه ، لكثرة استعمال الحرمة وارادة خصوص الأكل والشرب منها ، كما إذا قال شخص لآخر : « حرم الشارع علينا الميتة » فإنّ المنصرف منها هو حرمة الأكل وإن كان اللفظ يشمل حرمة الحمل واللمس والنظر. وكذا كل رواية فيها لفظ « الخمر » ، فإنّ المحرم شربه ومقدماته ومؤخرته التي تتعلق بالشرب ، وعلى هذا تبقى موارد بقية الاستعمالات مثل التزريق ـ إذا لم يكن فيه ذهاب العقل ـ والتدهين والتكحيل ووضع مادة من جسم حيوان في جسم الإنسان واشباهها غير محرمة ، وذلك لعدم التزاحم بين الواجب والحرام.

نعم ، نخرج التكحيل الذي فيه خمر عن دائرة الجواز ، لوجود روايات تحرمه ،

__________________

(١) مسند أحمد : ج ١ ، ص ٢٩٣.

٣٣٥

مثل الرواية الثالثة المتقدّمة ( صحيحة علي بن جعفر ) وغيرها ، إلاّ أن روايات « ليس شيء ممّا حرمه الله تعالى إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه » تجوِّز ذلك إذا كان ضرورة ، ولا يمكن الدواء إلاّ به.

ولا تأتي هنا قاعدة « إنّ الله لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » لأنّها منصرفة إلى خصوص الأكل والشرب.

إذن النتيجة : هو جواز التداوي بعين النجس إذا لم يكن أكلا أو شراباً ، ولو لم تكن ضرورة إلى ذلك.

القسم الثالث : هل يجوز التداوي بالنجس إذا استهلك في شيء آخر ؟

أقول : هذه هي الصورة الواسعة المنتشرة في الدواء ، حيث يوضع النجس مع مواد اُخرى بحيث يستهلك فيها ولا ينعدم ، فهل يجوز استعمال الدواء في هذه الصورة وإن كان هناك دواء غيره ، أو يجوز في صورة انحصار الدواء بالنجس المستهلك ؟

الجواب : مرةً نتكلّم عن صورة كون الدواء هو عبارة عن الأكل والشرب.

ومرة نتكلّم عن صورة كون الدواء ممّا ينتفع به بغير الأكل والشرب.

أمّا في الصورة الاُولى فإنّ الاستهلاك الذي حصل للنجس في ضمن غيره لا يجعله طاهراً ، فيبقى الدواء الذي فيه النجس على حكم عدم جواز اكله أو شربه ، سواء كان مائعاً أو لا ، وذلك لأنّ الشبهة هي وجود النجس في المادة ، ولا يجوز تناول المادة التي فيها النجس ، وعلى هذا فإذا كان هذا الدواء غير منحصر لذلك الداء فلا يجوز استعماله ، وذلك لعدم التزاحم بين حرمة أكل النجس أو شربه ، وبين وجوب السعي في الشفاء من الداء لوجود الدواء الطاهر ، أمّا إذا كان هذا الدواء قد انحصر فيه الاستشفاء فهل يجوز شربه أو أكله أم لا ؟

٣٣٦

الجواب : يقع التزاحم بين حرمة أكله أو شربه ووجوب السعي للاستشفاء ، فإن كان الوجوب أهمّ من حرمة استعمال النجس جاز استعماله للاستشفاء ، وهنا لا تأتي قاعدة « إنّ الله عزّوجلّ لم يجعل في شيء ممّا حرم دواءً ولا شفاءً » لأنّها واردة في عين النجس ، أو منصرفة إليه ، أمّا هنا فإنّ عين النجس مستهلكة مع اشياء اُخر ، فتأتي قاعدة « ليس شيء ممّا حرمه الله تعالى إلاّ وقد أحله لمن اضطر إليه ».

وأمّا الصورة الثانية فهو أمر جائز بلا كلام ، كالتدهين والتزريق والتكحيل فإنّ هذه الأمور لا مانع من استعمال النجس فيها فضلا عن استهلاكه مع غيره ؛ لأنّها جائزة بالأصل ولا دليل على الحرمة ، فلا تزاحم أصلاً بين الوجوب والحرمة.

دفع توهّم :

إنّ ما ذهبنا إليه من حرمة استعمال أبوال مأكول اللحم ليس من ناحية الاستدلال بآية ( ويحرّم عليهم الخبائث ) ، فإنّ معنى الخبائث في الآية هو كل ما فيه مفسدة ولو كان من الأفعال ، فإنّ لفظ « الخبيث » يطلق على العمل الخبيث كما في قوله تعالى : ( ونجّيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ) وبما أن أبوال ما يؤكل لحمه فيه مصلحة للمريض فهي ليست من الخبائث وإن تنفّر منها الطبع ، وإنّما دليلنا هو الروايات المتقدّمة التي أحلّت شرب البول لأجل الدواء.

هل يجوز تعطيل عضو من اعضاء الإنسان بواسطة الطبيب ؟

قد يطلب الفرد اختياراً تعطيل عضو من اعضائه التناسلية ـ مثلاً ـ أو غيرها ، كرضّ الخصيتين ، أو منع المني من عملية الاخصاب ، كما قد تطلب المرأة من الطبيب قلع الرحم أو سد الانابيب التي تخصب ، أو يطلب شخص رفع كليته واشباه ذلك ، فهل يجوز هذا العمل ؟

وقد يصوّر هذا البحث بصورة ثانية ، وهي : هل يجوز للطبيب أن يعمل هذا

٣٣٧

العمل بدون رضا الفرد ؟ (١)

وبحثنا الآن في صورة العمل الاختياري الذي يقوم به الفرد والطبيب ، فهل هذا جائز ؟

الجواب : قد يقال : إنّه عمل محرم في صورة يعدّ الجسم المأخوذ منه العضو ناقصاً ، لأنّه يدخل تحت اطلاق « لا ضرر ولا ضرار » التي تشمل الأحكام الشرعية التي يحدث منها الضرر والأفعال الضررية ، فإنّها كلها قد نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « لا ضرر ولا ضرار » ، ومن الأفعال الضررية : ضرر الإنسان لنفسه وجعل جسمه ناقصاً عرفاً ، وهو ضرر كبير لا يمكن أن يقال بجواز اقدام الإنسان عليه.

نعم ، يُستثنى من الحرمة ما لو كانت المرأة في حالة يضرها الحبل بصورة قد يؤدّي إلى فقدان الاُم حياتها ، ففي هذه الحالة تكون حياة الاُم مقدّمة على حرمة نقص العضو ، كسد الأنابيب المخصبة للحمل عند المرأة. كما تستثنى حالة ما إذا توقف على نقص العضو عند فرد نجاة إنسان آخر من الموت ، كما إذا كان هناك شخص يعاني من توقف كليتيه ، وقد أراد آخر أن يتبرّع له بإحدى كليتيه لينقذه من الموت ، ففي هذه الحالة ترتفع الحرمة التي تقدّم الكلام عنها ، وذلك لأنّ دليل حرمة أن ينقص الإنسان عضواً من أعضائه هو في صورة ما إذا كان التنقيص

__________________

(١) وقد ذكر لنا أن الصين قامت بعقم أكثر من مائة مليون شخص في عهد ماوتسي تونغ بالاكراه ، كما قامت انديرا غاندي ( رئيسة وزراء الهند ) في بداية السبعينات من هذا القرن بعقم احد عشر مليوناً من الرجال والنساء قسراً ، وطبعاً أنّ هذا العمل محرم لما فيه من انتهاك لحرية الإنسان ـ التي اعطاها الله سبحانه له ـ بدون مبرر ، كما أنّها انتهاك وتعدٍّ على جسم الإنسان وضرر عرفي متوجّه إليه.

ومثل هذا ما يحدث في إجراء التجارب القاسية والخطيرة على المسجونين بالاكراه.

٣٣٨

لا يلازمه عنوان آخر مهم يعدّ معه التنقيص غير محرم ، كفرضنا الذي نحن فيه ، وهذا يتّضح من ملاحظة التزاحم الذي يذكر فيما إذا كان انجاء الغريق متوقفاً على أضرار الغير بإتلاف زرعه ، ففي هذه الحالة لا يكون الاتلاف محرماً حيث يُقدّم انقاذ الغريق على حرمة اتلاف زرع الغير ، فما نحن فيه كذلك وان لم يكن انقاذ حياة الفرد الآخر واجباً على المعطي ؛ لأنّنا نتكلم في التزاحم الأعم من الحكمي ، وهو التزاحم الملاكي (١) وان لم يكن أحد فرديه واجباً من قبل الشارع لمصلحة التسهيل على العباد إلاّ أنّه ذو مصلحة مهمّة جدّاً تجعل اضرار الفرد الآخر بنفسه وتنقيص عضو من أجل إنقاذ حياة الآخر ليست محرمة.

هذا كله بالنسبة إلى العضو إذا قلع من جسم الإنسان ، كالعين والكلية

__________________

(١) التزاحم الملاكي : والمراد منه اعطاء الكِلية لفرد آخر إذا لم تكن واجبة ( رغم أهميّة ملاكها ) لوجود مانع من الوجوب كمصلحة التسهيل مثلاً فمع ذلك هو يزاحم حرمة اضرار الإنسان بنفسه.

وهذا التزاحم يختلف عن التزاحم في الحكم الذي اُشير إليه في الأصول من مصطلحات الآخوند ( صاحب الكفاية ) القائل بالتزاحم الملاكي ، ومصطلحات الميرزا النائيني القائل بالتزاحم الخطابي في كيفية تصوّر التزاحم ، فيقصد الآخوند أن المولى ناظرُ إلى أقوى الملاكين ، ويحكم وفقاً له. ويقصد الميرزا أن المولى خاطبنا خطابين قد تزاحما ، فإنّ في هذا التزاحم الاُصولي يقصد وجود ملاكين كلٌّ منهما بحد ذاته يؤدّي إلى الحكم ، فالآخوند يصوّر التزاحم في نفس الملاكين فبالتالي لا يوجد سوى حكم واحد ، والميرزا يصوره في الخطابين أي أن الملاكين أثّرا ووصلا إلى حكمين وتزاحما.

أمّا في التزاحم الذي نقصده في هذا البحث : فهو انّنا حتى إذا فرضنا أن الملاك لا يصل إلى الحكم فمع هذا لا يفهم العرف الاطلاق من الحكم الآخر ، ففي موردنا إذا قلنا بحرمة أن يضر الإنسان بنفسه ويقلع عضواً من اعضائه ففي صورة كون هذا العمل منقذاً لإنسان آخر وان لم يكن انقاذه واجباً يحصل تزاحم ملاكي بين الفعلين ، فلا تكون حرمة الضرر مطلقةً لصورة انقاذ إنسان آخر.

٣٣٩

والنخاع. أمّا إذا كان المقلوع من الجسم غير الأعضاء ( كالجلد مثلاً ) الذي هوقابل للتجديد في الإنسان وكالدم فهو جائز بلا كلام ؛ لعدم عدّ ذلك نقصاً في جسم الإنسان بحيث يشمله حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

وقد يقال في ردّ دليل « لا ضرر » : إنّ لا ضرر لا يشمل صورة اضرار الإنسان لنفسه ، وإنّما يقتصر على منع الضرر الذي يتوجّه إلى الغير من قبل الأخرين (١).

وقد يقال بعدم وجود الضرر كما في مثال العقم ، فعلى هذا المنبى هل يوجد دليل يحرم هذه الأعمال في صورة الاختيار ؟

نقول : إنّ أهم دليل يمكن أن يُستدل به للحرمة هو الآية القرآنية الواردة على لسان الشيطان ، وقد نقلها القرآن الكريم ولم يردّها ، فهي مقبولة عند الله تعالى وهي ( ولأضلنّهم ولاُمنينّهم ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله ومن يتّخذ الشيطان وليّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً ) (٢).

فقد يقال : اننا نفهم من هذه الآية أن تغيير خلق الله تعالى من عمل الشيطان

__________________

(١) هناك مبنى يقول : إن ضرر الإنسان بالغير قد منعه الشارع وفقاً لقانون ارتكازي عرفي يمنع اضرار الإنسان بغيره ، وهذا القانون مستمد من عدم جواز اضرار الإنسان بنفسه الذي هو ارتكازي ايضاً ، ولذا ورد في الحديث « الجار كالنفس غير مضار » فقد افترض أن الإنسان لا يضر نفسه ، فكذا لا يجوز له اضرار جاره كنفسه.

ولكن لنا أن نقول : إنّ الحديث وارد في القضايا الأخلاقية لا الشرعية ؛ حيث إنّ إقدام الإنسان على ضرر نفسه في المعاملات والأعمال جائز بلا كلام كما في اقدامه على الشراء الغبني مع علمه به ووقوفه تحت الشمس ساعات طويلة لأجل تحصيل رزق يومه مع امكانه صنع مضلة له ، وأمثال ذلك ، على أنّ ارتكازية حرمة الضرر بالغير عرفاً ممنوعة ، فإنّ الشارع أراد بتأسيسه الحرمة إيجاد المجتمع الإسلامي الصالح ، فشرع حرمة الاضرار بالغير ، كما هو واضح لمن اطلع على حكاية سمرة بن جندب وجذع النخلة.

(٢) النساء : ١١٩.

٣٤٠