بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الاُولى : أن يكون إسهاماً في علاج حالات العقم التي تحتاج إلى تقنية أطفال الأنابيب. وأطفال الأنابيب يكون المتَّبع فيها أن تعطى المرأة دواءً منشِّطاً للاباضة ، ثم تسحب من مبيضها البيضات الناضجة خلال منظار يخترق جدار البطن وإبرة شاخطة تشخط البيضات ثم يضاف إليها المني بغية تلقيح عدد منها ، ثم تودع البيضات الملقّحة رحم السيدة بغية أن تنغرس فتنمو إلى جنين.

ووجد أنّ أنسب عدد يودع الرحم هو ثلاث أو أربعة بيضات إن انغرست منها واحدة فخير ، وإن انغرس أكثر من واحدة فزيادة خير.

ولكن هناك من السيدات التي يُعاني مبيضها نوعاً من الفقر البُييضي فلا تنتج عنها إلاّ بيضة ملقحة واحدة ، وهذا يهبط بفرصة الحمل هبوطاً كبيراً ، وحينئذ يكون من الأفضل أن نفصل بيضها في بواكير انقسامها إلى جنينين لا واحد ، وهو الاستتئام ، ونفصل كلاّ إلى اثنين ، وهكذا حتى نوفر عدداً كافياً من الأجنة ، يودع في رحم السيدة منها أربعة ، ويحفظ ما زاد من الاجنة أي ( النسخ ) في التبريد العميق ؛ ليكون رصيداً احتياطياً يستعمل في مرّة قادمة ( أو مرات ) إذا لم تسفر الزرعة الاُولى عن حمل.

الثانية : والفائدة الثانية تكمن في مجال تشخيص مرض جنينيٍّ محتمل قبل أن يودع الجنين الباكر المكوّن من عدد صغير من الخلايا إلى الرحم لينغرس ، فقد جرى الأمر على فصل خلية من هذا الجنين لاجراء التشخيص عليها ، فإن كان الجنين معافى غُرس ، وإلاّ اُهدر. ولكنّ أخذ خلية من جنين باكر ذي عدد محدود من الخلايا فيه خطر على الجنين ، بينما لو فصلنا هذا الجنين إلى توأمين بطريقة الاستتئام هذه فاننا نستعمل واحداً للتشخيص ، والآخر للزرع كاملا غير منقوص.

هذا ما قاله العالِمَان عن الاستتئام.

٢٨١

الإشكال على ما قاله العالِمَان :

يرتكز الإشكال على علاج العقم ، فإنّ الطريقة التي وصل إليها العالمان تفضي إلى وجود أجنة فائضة ليس أمامها إلاّ طريقين :

الأول : الموت فيما إذا غرست الأجنة الاُولى ونمت إلى جنين.

الثاني : وأمّا إذا لم توكل إلى الموت فإنّها ستزرع في أرحام سيدات اُخر.

وعلى الطريق الأول نتج إنشاء حياة أسلماها إلى الموت. وعلى الطريق الثاني فمعناه أن سيدةً ستحمل جنيناً غريباً ليس من زوجها ولا منها ، وليس هو في نطاق عقد زواج.

وإذا علمنا أنّ بالإمكان حفظ الأجنة الفائضة في التبريد لآماد طويلة فربما تُشترى هذه الأجنة التي رُؤي توأمها مستقبلا بالاطلاع على صورته ( النسخ الأصل ) التي تكبره بسنوات.

فوائد الاستتئام :

وقد ذكر للاستتئام فوائد هي :

١ ـ إنّ من فوائد الاستتئام وحفظ الأجنة هو ما إذا حملت الاُم بطفل واختزنت منه نسخة تحفظ بالتبريد ، فإنَّ هذه النسخة قد تدعو الحاجة إليها إن مات الطفل وأراد والداه أن يعوّضاه بطفل مماثل له تماماً ، فإنَّ الجنين سوف يوضع في رحم اُمّه بعد إخراجه من التبريد وينمو ويحصل التوأم لهما.

٢ ـ وقد يحتاج الطفل ـ الذي حُفظ توأمُه ـ في المستقبل إلى زرع عضو أو نسيج ، وتعوق ذلك مشكلة المناعة إن عزّ العثور على الزرعة الموائمة ، فحينئذ تزرع النسخة التوأم الاحتياطية وتنمو ليؤخذ منها العضو أو النسيج المطلوب ، ونظراً للتطابق بينهما فمن المؤكّد أن الزرعة سيقبلها الجسم المنقولة إليه دون احتمال

٢٨٢

رفضها مناعياً.

وحينئذ يكون السؤال هنا ـ في حالة كون الطفل لا يعيش بدون العضو المأخوذ منه ـ عن جواز أن تُنشأ حياة ثم تهدر من أجل إنقاذ حياة اُخرى. وأمّا عن حالة ما إذا كان الطفل يعيش مع الآخر فقد حدثت منذ ثلاثة أعوام أن طفلة في ولاية كاليفورنيا مرضت بأحد سرطانات الدم ولم يمكن العثور على زرعة مناسبة من نخاع العظم ( وهي الوسيلة الوحيدة للعلاج المجدي ) ، فقرر والداها أن تحمل الاُم من جديد على أمل أنّ الوليد القادم سيكون نخاع عظمه ملائماً ... وفعلا أنجبا طفلة وجاء نخاعها ملائماً ، وبعد أشهر تم زرع نخاع منها لاختها المريضة فشفيت. وحينئذ تكون النسخة التوأمة ملائمة لأخذ نخاع العظم لتستفيد منه النسخة التوأمة المريضة ، ويعيش كلا الطفلين ، وهنا أيضاً قد يثور تساؤل عن جواز إنشاء حياة لا لذاتها ، بل لإنقاذ حياة اُخرى.

ثم هل يوجد بأس في أن تحمل السيدة بتوأمها إن فصل عنها في الدور الجنيني الباكر وبقي طيلة السنوات نسخة منها محفوظة في التبريد ؟

ثم هل يوجد مانع في إيجاد جنينين توأمين ( استتئام ) ، أو استنساخ جنينين يفصل بين عمريهما سنوات فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ؟

وخلاصة الأسئلة المطروحة هنا التي تحتاج إلى جواب فقهي أو قانوني هي :

١ ـ هل يجوز عمل أجنة متعددة من لقيحة واحدة بالصورة المتقدّمة حتى إذا كانت تلك الاجنة قد وصلت إلى (٣٢) جنيناً متشابهاً ، أو إلى (١٢٨) جنيناً على الرأي الآخر ؟

٢ ـ وإذا حُفظت بعض الأجنة في التبريد العميق فهل يجوز قتلها في المستقبل إذا لم يحتج اليها في صورة نجاح الزرعة التي وضعت في رحم الاُمّ وكان المولود غير

٢٨٣

محتاج إلى دواء موجود في توأمه ؟

٣ ـ وهل يجوز إعطاء الأجنة المبرّدة إلى سيدة اُخرى لوضعها في رحمها أو بيعها لها ؟ ومن هو الأب والأم في هذه الحالة لو حصلت ؟

٤ ـ وهل يجوز أن يستفاد من الأجنة المبرّدة لزرعها في رحم الاُم لأجل الاستفادة من الأعضاء التي يتمكّن الطفل الجديد من الحياة بدونها في حالة إعطائها إلى أجنة أو إلى أي كائن آخر يحتاج إليها ؟

٥ ـ وفي صورة ما إذا كان العضو أو النسيج لا يمكن أن يعيش الطفل بدونه فإنّ الحكم واضح في عدم جواز إنشاء حياة لتهدر من أجل إنقاذ حياة اُخرى.

٦ ـ وهل يوجد مانع في إيجاد جنينين توأمين يفصل بين عمريهما سنوات ، فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ؟

وقد أجاب آية الله السيد كاظم الحائري ( حفظه الله ) عن هذه الأسئلة فقال :

١ ـ تقسيم اللقيحة إلى عدّة أجنة جائز بشرطين :

الأول : أن لا تكون في ذلك مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيُكسى جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد أو على صحتهما.

والثاني : أن لا يستعمل ذلك بشكل يؤدي إلى اختلال النظام ، كما لو وزّعت اللقيحة إلى عدّة أجنة واستعملت في وقت واحد ضمن عدّة أرحام فأوجب ذلك عدم تشخيص الظالم من المظلوم والمحرم من غير المحرم ، وما إلى ذلك من المشاكل التي اُشير إليها في مسألة الاستنساخ (١) ، فمع انتفاء هذين المحذورين لا دليل على الحرمة.

__________________

(١) ستأتي هذه المشاكل في بحث الاستنساخ الآتي.

٢٨٤

٢ ـ ما يحفظ في التبريد يجب أن يحفظ بلا جدار كي يجوز قتله بعد ذلك ، إذ بعد صنع الجدار له يكون حاله ـ احتياطاً ـ حال الجنين الأصلي الذي يحرم قتله ، أمّا قبل صنع الجدار له فحاله حال المني الذي يجوز اهداره بمثل العزل في وقت المقاربة ، أو قل : حال إسقاط منشأ النطفة قبل انعقاد النطفة.

٣ ـ لا دليل على حرمة ذلك بعد سقوط اسم المني عن النطفة ، لأنّ إدخال ذلك في رحم المرأة لا يعني إدخال المني في رحم امرأة محرَّمة كي يشمله دليل حرمة ذلك ، وأبوه هو الذي ولده ـ أي صاحب المني ـ واُمّه هي التي ولدته أي صاحبة البيضة. وأمّا التي تضع رحمها بخدمة هذا الجنين فهي الاُم الحاضن وليست اُمّاً حقيقية. نعم ، لا يبعد الإفتاء بمحْرميتها له بالأولوية القطعية من الاُم المرضعة.

٤ و ٥ ـ إن كانت هذه الاستفادة لا تؤدي إلى موت الجنين الثاني أو الاضرار به جازت ، وإلاّ فلا.

٦ ـ لا دليل على حرمة ذلك. انتهى ما أجاب به السيد الحائري حفظه الله.

أقول : ومن المناسب هنا أن نبيّن مدرك هذه الإجابة من الأدلّة الشرعية فنقول :

أمّا الجواب الأول فهو لِما ثبت من أن اللقيحة المكوّنة من منيّ الرجل وبويضة المرأة هي عبارة عن الجنين الذي هو مبدأ نشوء إنسان ، ومن الواضح فقهيّاً عدم جواز قتل الإنسان ، ولكن ورد ـ أيضاً ـ عدم جواز قتل مبدأ نشوء الإنسان ، ففي معتبرة إسحاق بن عمار قال : « قلت لأبي الحسن ( الإمام الكاظم عليه‌السلام ) : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ؟ قال : لا ، فقلت : إنّما هو نطفة ، فقال عليه‌السلام : إنّ أول ما يخلق نطفة » (١).

بالإضافة إلى إمكان استفادة الحرمة ـ أيضاً ـ من الروايات الكثيرة الواردة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٩ ، ب ٧ من أبواب القصاص في النفس ، ح ١.

٢٨٥

في وجوب الدية على من أسقط النطفة الملقّحة فمن تلك الروايات : صحيحة محمد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر ( الإمام الباقر عليه‌السلام ) عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة ؟ فقال عليه‌السلام : عليه عشرون ديناراً ، قلت : يضربها فتطرح العلقة ؟ فقال : عليه أربعون ديناراً ... » (١).

ولهذا الذي تقدّم من الروايات فقد اشترط في تقسيم اللقيحة إلى عدّة أجنة أن لا يكون في التقسيم مخاطرة على حياة الجنين أو حياة ما سيكسى جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد.

وكذا إذا كان هناك ضرر على حياة الجنين في التقسيم فهو أمر غير جائز ، لِمَا ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق الفريقين أنّه قال : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » فإنَّ التقسيم إذا كان فيه ضرراً على حياة هذا الجنين فهو أمر غير جائز.

وأمّا إذا كان تقسيم اللقيحة ـ التي هي مبدأ نشوء الإنسان ـ ليس فيه مخاطرة على الجنين أو حياة ما سيكسا جلداً ليصبح منشأً لطفل جديد ، وليس هناك شيء يخاف منه على صحتهما فهو أمر جائز لكن بشرط أن لا نعمل عملية الاستتئام بصورة تؤدّي إلى اختلال النظام ، كما إذا قسِّمت اللقيحة إلى قسمين وكسيت كل واحدة منهما بالجدار الخلوي ثم قسما إلى أربعة وكسي الجدار الخلوي ، وهكذا إلى اثنتين وثلاثين خلية اُمّاً ، ففي هذه الصورة إذا كانت النُسخ متشابهة تماماً فهو أمر يؤدي إلى اختلال النظام ؛ لعدم تشخيص الظالم من المظلوم والمحَرْم من غيره ، وما إلى ذلك من المشاكل التي اُشير اليها ـ فيما يأتي في مسألة الاستنساخ ـ فإنّ الشارع المقدّس جرت حكمته على اختلاف الألسنة والألوان حفظاً للنظام ، كما صرح بذلك في قوله تعالى : ( ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم ) فيلزم من هذه الحكمة أن يحرم كل ما يؤدي إلى اختلال النظام ، ومنه ما إذا طبق الاستتئام بصورة واسعة

__________________

(١) المصدر نفسه : ب ١٩ من أبواب ديات الاعضاء ، ح ٤.

٢٨٦

لزمت منه الاُمور المتقدّمة الفاسدة.

الخلاصة : أنّ تقسيم اللقيحة إلى عدّة خلايا تكون كل خلية اُمّاً لنشوء جنين مشروط بعدم المخاطرة على الجنين أو الأجنة ، ( حتى على صحة الأجنة ) ، فإن كان هناك أي حذر فهو أمر غير جائز ، وبشرط أن لا يؤدي الاستتئام إلى اختلال النظام.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني فإنّنا إذا احرزنا عدم اختلال النظام وعدم الضرر والمخاطرة لما يحصل من تقسيم اللقيحة فإنّه لا مانع من التقسيم كما تقدّم ، ولكن بالنسبة إلى حفظ بعض الأجنة في التبريد العميق فإذا لم يحتج إليها فسوف تقتل هذه الأجنة فيشملها دليل حرمة قتل مبدأ نشوء الإنسان ، ولهذا لا يجوز قتل هذه الأجنة بعد أن تصبح جنيناً ويكسى الجدار الخلوي بالمادة الصناعية (١). أمّا

__________________

(١) أقول : لقد أفتى الإمام الخوئي ; بعدم حرمة قتل الأجنة خارج الرحم ، وتبعه على ذلك آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي ، لأنّهما رأيا حرمة قتل الجنين مختصة فيما إذا كان الجنين في الرحم. فقالا في جواب سؤال عن قتل الأجنة التي تلقّح خارج الرحم وتكون زائدة : « في الصورة المذكورة لا بأس بإتلاف تلك الأجنة ، فإن قتل الجنين المحرّم إنّما هو فيما إذا كان في الرحم ، أمّا في الخارج فلا دليل على حرمة إتلافه » راجع صراط النجاة : ج ١ ، مسألة (٩٦٥) ، ص ٣٥١.

ولعلّ دليلهما ما روي في تحديد النطفة ، كما في رواية سعيد بن المسيّب ، قال : سألت الإمام زين العابدين عليه‌السلام عن رجل ضرب امرأة حاملا برجله فطرحت ما في بطنها ميتاً ؟ فقال عليه‌السلام : « إن كان نطفة فإنّ عليه عشرين ديناراً. قلت فما حدّ النطفة ؟ فقال : هي التي إذا وقعت في الرحم فاستقرت فيه أربعين يوماً ». راجع وسائل الشيعة : ج ١٩ ، ب ١٩ من أبواب ديات الاعضاء ، ح ٨.

أقول : إنّ السائل وإن سأل عن حدّ النطفة ـ التي هي مبدأ نشوء الإنسان الذي بسقوطها يتحمل المعتدي ( الجاني ) الدية ـ إلاّ أنّ الجواب لم يكن تعريفاً منطقياً بحيث يكون كلّ ما عداه خارجاً عن حدّ النطفة التي هي مبدأ نشوء الإنسان وإنّما كان الجواب عبارة عن التعريف بالمثال ، ولا يعني الجواب أنّ غير هذا التحديد ليس بنطفة ، والدليل على ذلك : أنّ العرف إذا اُلقيت إليه رواية سعيد بن المسيّب لا يفهم خصوصية للرحم ، كما لا يعرف خصوصية للضرب بالرجل ، بل يفهم أنّ الحرمة والدية هي لمبدأ نشوء الإنسان.

٢٨٧

إذا تمكّن العلماء من تبريد اللقيحة المقسومة قبل أن يصنع لها الجدار الصناعي ويُقتصر على إكساء الجدار الخلوي للّقيحة المقسّمة التي يراد وضعها في الرحم ، أمّا الذي يراد تبريدها فإن لم تكسَ بالجدار الخلوي فلا تكون مبدأ نشوء الإنسان ، بل حالها حال المني لوحده الذي يحتوي على (٢٣) شريطاً ، وحال البويضة لوحدها التي تحتوي على (٢٣) شريطاً أيضاً. وهذا لا دليل على حرمة إهداره ، سواء كان منيّاً أو بيضة ، بل دلّ الدليل على جواز إهدار المني ، كما في عملية العزل عن المرأة ( إمّا برضاها أو مطلقاً ) ، كما يجوز إهدار بويضة المرأة فيما إذا استعملت دواءً للإسراع بإلقائها إلى خارج على شكل حيض.

وأمّا الجواب الثالث فهو قد ثبت عندنا حرمة ادخال النطفة في رحم يحرم على صاحب النطفة ، وهذا شيء غير حرمة الزنا ، فقد روي في المعتبرة عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه » (١).

وفي رواية اُخرى رواها الصدوق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند الله عزّوجلّ من رجل قتل نبيّاً أو إماماً أو هدم الكعبة التي جعلها الله قبلة لعباده أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً » (٢).

ومعلوم إرادة المني من النطفة التي ذكرت في الحديث الأول لاضافتها إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٤ ، ب ٤ من أبواب النكاح ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٢.

يرى بعض الفقهاء أنّ المراد من الروايتين ( في حرمة ادخال النطفة في رحم يحرم على صاحب النطفة ) هو كناية عن حرمة نفس عملية الزنا التي هي ملازمة عادة لالقاء المني في الرحم.

ونحن وإن كنّا نخالف هذا الفهم لأنّنا نرى أنّ الرواية قد صرّحت بحرمة القاء النطفة في رحم يحرم عليه ، وهو معنى آخر غير حرمة الزنا الذي هو عبارة عن التقاء الختانين المحرّم ، ولكن حتى على هذا المبنى الذي لا نقبله لا يحرم وضع اللقيحة في رحم امرأة أجنبية لأنّه ليس من الزنا ، كما هو واضح.

٢٨٨

الرجل بينما كان السؤال الثالث عن النطفة التي هي لقيحة مكوّنة من ماء الرجل وبويضة المرأة التي هي مبدأ نشوء إنسان ، ولهذا كان الجواب بجواز وضع هذه اللقيحة ( بحدِّ نفسها ) في رحم امرأة أجنبية لعدم شمول دليل الحرمة المتقدّم له. ولعلّ من المستحب أن تحضن هذه المرأة الأجنبية مبدأ نشوء الإنسان وعدم تركه للموت ، فإنّ الاُم الحاضن إذا لم يكن عملها للحمل بهذا الجنين ( اللقيحة ) مستحباً فلا أقلّ من جوازه.

وأمّا ما قيل من التهويل لهذه العملية « إنّ سيدة ستحمل جنيناً غريباً لا هو من زوجها ولا هو منها ولا هو في نطاق عقد زواج » (١) فهو لا ينفع في الحرمة ، إذ ما هو البأس أن تحضن سيدة ولداً ليس من زوجها ولا منها ولا هو في نطاق عقد الزواج ؟ فهل هو زناً أو دلّ الدليل على حرمته من السنة الشريفة أو قواعد الشريعة ؟ بل قد يقال : إنّ هذه السيدة ـ التي انقذت هذا الجنين ( اللقيحة التي هي مبدأ نشوء إنسان ) من الموت وحملتها وحضنتها حتى الولادة ـ قد أنقذت الجنين من الموت فتستحق الشكر.

وأمّا بالنسبة إلى الأب والاُم فهو واضح ، إذ الولد معناه ما تولّد منه الشيء ونشأ منه ، وقد تولّد هذا الولد من مني الرجل فهو أبوه ، ومن بويضة المرأة فهي اُمّه ، أمّا التي وضعت اللقيحة في رحمها فهي اُمّ حاضن وليست اُمّاً حقيقية ، فإنّ القرآن الكريم قال : ( إن اُمّهاتهم إلاّ اللاتي ولدنهم ) والولادة الحقيقية ليست هي الوضع وافراغ ما في البطن إلى الخارج كما هو معنى ذلك عند غير العرب ، بل الولد حقيقةً هو ما تولد من الشيء ونشأ منه ، وقد تولد هذا الولد ونشأ من مني الرجل وبويضة المرأة فهما الأبوان الحقيقيان له ، كما تتولد الشجرة من البذرة.

أمّا المغذية فهي ليست اُمّاً حقيقية ، ومع هذا فقد أفتى السيد الحائري

__________________

(١) استنساخ البشر ، د. حسان حتحوت ص ٨.

٢٨٩

بمحرمية الاُم الحاضن ، لأنّه يرى الأولوية القطعية من الاُم المرضعة التي يحرم عليها الولد الذي اشتد عظمه ونما لحمه من حليب الاُم بواسطة الرضاع ، حيث إنّ هذا الولد قد كبر بواسطة الاُم الحاضن وإنّ كان قد تولد من غيرها.

ولكن أرى في هذه الأولوية القطعية تأمّلا ، حيث إنّ موضوع حرمة الرضاع هو شيء يختلف عن مجرد ترعرع الجنين من الاُم.

أمّا بالنسبة إلى الجواب الرابع والخامس فإنّ الاستفادة من هذا الجنين التوأم إنّما تكون جائزة بشرط أن لا تكون مؤدّية إلى موته أو الاضرار به ، فإنّ من الواضحات عدم جواز إماتته لأجل إنقاذ حياة اُخرى ، وعدم جواز الإضرار به من قبل الغير لأجل أن يستفيد منه شخص آخر.

أمّا إذا كانت الاستفادة منه للآخرين ليس فيها أي ضرر عليه فهو أمر جائز يقوم به وليّه أو نفسه إن كان قد وصل إلى مرحلة البلوغ والرشد ، وهذا الحكم واضح من الشريعة الإسلامية الغراء التي حرّمت قتل مبدأ نشوء الإنسان وحرّمت الضرر على الكائن الحي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ».

أمّا الجواب السادس فلا دليل على حرمة أن يرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنّها له بالمرصاد ، فكم من الاُسر المبتلية بأمراض السكّر أو السمنة أو ضغط الدم أو غيرها من الأمراض الوراثية ولا أحد يقول بحرمة إيجاد طفل لهذه الاُسر ، لأنّ الطفل سوف يُبتلى بتلك الأمراض الوراثية.

نعم ، قد يحكم بعدم جواز إعلام الصغير أو حتى الكبير فيما يعرض له من الأمراض ، لأنّه أذىً له وقد نهت الشريعة عن أذى المسلم ، إلاّ أن هذا غير حرمة إيجاد طفل يُعلم أنّه سيبتلى بأمراض وراثية.

هذا خلاصة ما أردنا بيانه في بحث الاستتئام.

٢٩٠

ثانياً : الاستنساخ

فهو عبارة عن الحصول على النُسخ طبق الأصل ( في النبات أو الحيوان أو الإنسان ) بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية واُنثوية ، والنسخة التي تكون طبق الأصل هي التي تحتوي على التراث الإرثي الكامل الموجود في خلايا صاحب الزريعة ، فيكون المخلوق الناتج صورة منه تماماً كالكتاب الذي نطبع منه آلاف النسخ فتجيء متشابهة تمام الشبه.

وحينئذ فلو جئنا بنواة خلية من أي خلايا الجسم ـ كالجلد مثلاً ـ وهي تحتوي على الكروموزومات الستة والأربعين شريطاً ثم أودعناها داخل بيضة ناضجة تمّ إخلاؤها من نواتها التي تحمل (٢٣) شريطاً فإن النواة الضيفة تشرع في انقسام ليس في اتجاه تكوين خلايا جلدية ، بل في تكوين جنين سيكون صورة طبق الأصل عمن أخذنا منه نواة الخلية ، لأنّ الذي يحدد جهة الانقسام هو السيتوبلازم ، وبما أن السيتوبلازم هنا هو لبيضة ناضجة ، فإن الانقسام للخلية سيكون باتجاه تكوين جنين ، وبما أن الكروموزومات في الخلية كاملة فمعنى ذلك أنّ الصفات الوراثية للجنين ستكون مطابقة تماماً لصاحب النواة ، إذ ليس عندنا (٢٣) فرداً من الصفات الوراثية من الزوج و (٢٣) فرداً من الصفات الوراثية للاُنثى حتى يكون الجنين حاملا لصفات الاثنين معاً.

وبتكرار هذا العمل نستطيع أن نحصل على أي عدد شئنا من النسخ التي تطابق صاحب النواة في التكوين الوراثي.

ولقد اُنجز هذا العمل ـ فعلاً ـ في عدد محدود من الأحياء الدنيا ، كالضفدعة (١) واُنجز ـ أيضاً ـ في النعجة دولّي في انجلترا التيولدت في يوليو ( ١٩٩٦ م ) وبقيت سرّاً

__________________

(١) لخّص هذا من بحث استنساخ البشر للاُستاذ الدكتور حسّان حتحوت وأبحاث اُخرى لعلماء آخرين ذكرتهم الصحف والمجلات العالمية ، منهم العالم الاسكوتلندي الذي أنتج النعجة دولّي « آيان ويلمون ».

٢٩١

لا يعرفه أحد حتى اُعلن عنها في فبراير ( ١٩٩٧ م ) والنعجة هي من الحيوانات الثديية ( ترضع الثدي ) ، فقد اُخذت من نعجة خليّة ( ثديية ) عزلت نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية وزرعت تلك النواة في بيضة (١) اُنثى بعد أن سُحبت نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية ، ثم وضعت البيضة الملقحة في رحم النعجة ، فتولد جنين طبق الأصل عن صاحب النواة.

__________________

(١) إنّ الخلية الثديية هي متخصّصة لإنتاج الحليب ومكوّناته ، وأمّا المورّثات ( الجينات ) في هذه الخلية فهي في حالة سكون وعاطلة عن العمل ، ولكنّها بمجرد وضعها في سيتوبلازم البيضة ثارت شجون هذه العوامل الوراثية الساكنة وبدأ في العمل ، فالسيتوبلازم الذي في البيضة له دخل في العملية.

٢٩٢

وإذا كان هذا ممكناً ـ ولو بصورة نادرة الآن ـ حيث زرعت (٢٧٧) نواة في (٢٧٧) بيضة ناضجة تم اخلاؤها من نواتها فنجحت حالة واحدة ، ولكن التقنية العلمية العالية قد تتمكّن من زيادة نسبة النجاح في المستقبل.

وإذا أمكن هذا في النعجة ـ وهي من الحيوانات الثديية ـ فهو ممكن في الإنسان ، لأن المرأة لها ثدي ترضع به ولدها.

وقد أحدث هذا الحدث ( للنعجة دولّي ) ضجة في العالم ، وسبب الضجة هو التخوّف من استخدام نفس الاُسلوب لإنتاج بشر متشابِهِين في الشكل والمظهر (١) حسب الطلب ، وهو الموضوع الذي كان يحلم به هتلر وأشباهه في هذا الزمان. فقد يفاجئنا العلم بإنجاز نسخ للإنسان فتؤخَذ خلية من الإنسان من أي مكان أريد ( بشرط أن لا تكون جنسية ) وتعزل نواتها التي تحمل الصفات الوراثية ، وتزرع تلك النواة في بيضة امرأة بعد أن تسحب من البيضة الصفات الوراثية التي فيها ، ثم توضع اللقيحة في رحم المرأة فيتولد جنين طبق الأصل عن صاحب النواة.

وحينئذ بما أنّ الدين لابدّ له من أن يقول كلمته في كل مورد من

__________________

(١) إنّ الفرق بين النسخة الأصل والتابعة موجود بحكم الفرق الزماني والتطور الثقافي والعلمي ويمكن باختلاف البيئة والتربية ، وهذا الاختلاف يمكن أن يكون بين النسخ المتطابقة في الزمن الواحد ، فإن البيئة إذا اختلفت واختلف التعليم والتربية فسوف يكون اختلاف السلوك واضحاً ، كما نشاهد الاختلاف بين التوأمين اللذَين نشآ في بيت واحد من أب واُم ، ولكنّ التشابه التام يكون في الشكل والمظهر كما قلنا. ثم إنّه لحدّ الآن بالنسبة لاستنساخ الحيوان لا يعلم مقدار عمرُ خلايا النسخة ، ففي النعجة دولّي لا يدرى هل عُمر خلاياها عندما ولدت هي نفس عُمر خلايا صاحبة الخلية ، أم عمرها جديد كعمر الحمل حين يولد في حَمل جنسي ؟ فإن كان الأول فمعنى ذلك أن النسخة ضحية لأعراض شيخوخة مبكرة. ولا يعُلم أيضاً هل ستكون هذه النسخة قادرة على التناسل كغيرها من الحيوانات أم انها ستكون عقيمة لا تلد ؟

٢٩٣

الموارد العلمية لقدرته على مواجهة ومسايرة الحياة فحينئذ نسأل عن عدّة اُمور :

أولاً : هل توجد حرمة شرعية لهذا العمل بحدِّ نفسه ؟

ثانياً : هل هذا الكائن الحي إذا وجد هو ولد شرعي ؟

ثالثاً : إذا كان ولداً شرعياً فمن هو أبوه ومن هي اُمه ؟

رابعاً : هل في هذا العمل خطر على البشرية ؟

وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة لابدّ أن نستبعد أولاً ما قيل من أنّ الاستنساخ عبارة عن تغيير لخلق الله تعالى ، وتغيير خلق الله تعالى يحرم بقوله تعالى : ( إن يدعون من دون الله إلاّ إناثاً وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً. لعنه الله وقال لأتّخذنّ من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضِلنّهم ولاُمنّينّهم ولآمرنّهم فليبِّتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرن خلق الله ... ) (١).

فتغيير خلق الله تعالى محرّم ؛ لأنّه ممّـا يأمر به الشيطان ؛ وهو لا يأمر إلاّ بالفحش والمعاصي (٢).

وواضح أنّ استبعاد هذا الكلام من حيث إنّ الاستنساخ لم يكن تغييراً لخلق الله تعالى ، بل هو كشف سرٍّ من أسرار خلق الله في الحيوان ، قد ينجح في الإنسان ، فإن هذا السِّر لم يكن مكشوفاً فتوصل إليه الإنسان ، فلم يخلق العلماء قانوناً ولم يوجدوا سرِّاً في جسد الإنسان والحيوان ، على أنّ المراد بتغيير خلق الله في الآية هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ؛ وذلك بتحريم الحلال وتحليل الحرام ، حيث يقول الله تعالى في مكان آخر من كتابه الشريف : ( فأقم وجهَك للدين حنيفاً فِطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله

__________________

(١) النساء : ١١٧ ـ ١١٩.

(٢) ذكر ذلك الإمام محمد مهدي شمس الدين في مجلة الشراع ، وراجع الاستنساخ لمحمد الأشقر : ص ١٦.

٢٩٤

ذلك الدين القيّم ) (١).

فإذا أردنا تفسير القرآن بالقرآن ـ والقرآن أطلق خلق الله على حكم الفطرة وهو التديّن بدين ـ فيكون تغيير خلق الله هو الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين والارتباط بالطبيعة من دون خضوع للسماء في نتائج ما تصل إليه العلوم الطبيعية.

وكذا لابدّ أن نستبعد الحجج غير العلمية للتحريم ، فقد ذكرت الأكاديمية الفرنسية للعلوم الأخلاقية والسياسية عندما أعلنت موقفها ضدّ الإخصاب :

« إنّ الإخصاب الصناعي جريمة ضد قاعدة الزواج والاُسرة والمجتمع » فإن هذه ليست حجّة علمية ، حيث إنّ الإخصاب قد يكون في زواج واُسرة ولكن يوجد مانع منه بصورة طبيعية فيصار إليه بصورة صناعيّة ، وهذا مما ينمّي الأسرة والزواج ، لا أنّه جريمة ضدهما كما هو الحال في أطفال الأنابيب الذي هو علاج لحالة العُقم.

وكذا لابدّ أن نستبعد ما يُظن « من أنّ الاستنساخ هو محاولة من البشر أن يخلقوا مثل خلق الله تعالى ، ومحاولة مثل ذلك ظلمٌ ، وأيُ ظلم ؟! لإنّها لا تقع إلاّ ممن لا يقدّر الله تعالى حقّ قدره ، فيضل تحت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة ». أخرجه البخاري (٢).

وقد رُدّ هذا بالقول : بإنّ الاستنساخ ليس من جنس الخلق الذي تفرّد الله به ( وهو الخلق من العدم ) ، بل الاستنساخ هو من نوع التركيب يوضع بنواة الخلية التي خلقها الله تعالى في بيضة منزوعة النواة ، وسرّ الخلق والحياة موجود في

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) الاستنساخ في ميزان الشريعة الإسلامية ، د. محمد سليمان الأشقر : ص ١٧ و ١٨.

٢٩٥

النواة وسيتوبلازم البيضة ، فالاستنساخ هو مخلوق الله تعالى ، وهو أيضاً من ذكر واُنثى ؛ لأنّ الخلية المأخوذة من الأصل ناشئة في الأصل من تزاوج ذكر واُنثى عندما كان ذلك الأصل خلية واحدة ، ثم تكاثرت خلاياه بالانقسام إلى أن صارت كثيرة وكل منهما يحتوي على (٤٦) كروموزوم ، نصفها من الذكر ونصفها من الاُنثى.

وبعد أن استعبدنا هذه الاجابات المحرمة للاستنساخ نعود لنرى رأي علماء الإمامية ( رضوان الله تعالى عليهم ) في عملية الاستنساخ.

وقد أجاب على مجمل هذه الأسئلة آية الله العظمى الشيخ ميرزا جواد التبريزي ( حفظه الله ) فقال :

« لا يجوز الاستنساخ البشري ؛ لأنّ التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورة للمجتمعات الانسانية اقتضتها حكمة الله سبحانه ، قال تعالى : ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) وقال : ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) وذلك لتوقف النظام العام عليه. بينما الاستنساخ البشري ـ إضافة إلى استلزامه محرمات اُخرى كمباشرة غير المماثل والنظر إلى العورة ـ يوجب اختلال النظام وحصول الهرج والفوضى ... ففي النكاح يختلط الأمر بين الزوجة والأجنبية وبين المحَرْم وغيره ، وفي المعاملات كافة لا يمكن تمييز طرفيها فلا يعرف الموجب والقابل. وفي القضاء والشهادات لا يمكن تمييز المدّعي عن المدّعى عليه وهما عن الشهود ، والملاّك عن غيرهم ، وفي المدارس والمشاغل والإدارات والامتحانات حيث يسهل إرسال ( النسخة ) بدل الأصل فتذهب الحقوق ، وفي الأنساب والمواريث حيث لا يتميّز الولد عن الأجنبي ـ إضافة إلى كون ( النسخة ) لا يعدّ ولداً شرعياً لوالده « صاحب الخلية » ـ فتضيع الأنساب والمواريث ... وهذا غيض من فيض ، وعليه فقس سائر الاُمور حيث لا يبقى نظام أو مجتمع ... والله العالم ».

٢٩٦

أقول : إنّ هذه الفتوى المتقدّمة قد نظرت إلى العنوان الثانوي اللازم لنفس العملية ـ وهو اختلال النظام ـ ولم تنظر إلى نفس العملية بعنوانها الأولي ، وهو أمر صحيح إذا طُبّق هذا الاستنساخ بصورة واسعة أدّت إلى اختلال النظام ، أمّا إذا طبق بصورة ضيقة بحيث لا يلزم منه المحاذير التي ذكرت فلم تتعرض الفتوى له.

ولكنّ الأمر الذي يجب أن نتوقف عنده هو التصريح بعدم عدّ الولد ولداً شرعياً لوالده صاحب الخلية ، حيث إنّ الولد لغة وشرعاً ما تولّد من الشيء ، وقد تولـد هذا الـولد ـ حسـب الفرض ـ من الخـلية والبيضة ، فهـو ولد شرعي وعرفي إذ لا نهي عن لحوقه بأبيه صاحب الخلية ، أو باُمه صاحبة البيضة ، كما ورد النهي في الزاني حيث قال الحديث الشريف : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وقد أجاب آية الله السيد كاظم الحائري على هذه الأسئلة بصورة مفصلة ، فقال :

« إنّ نفس عملية الاستنساخ البشري بعنوانها الأولي لو نجحت لا بأس بها إن لم تقارن محرماً.

وأمّا مسألة الاُبوة والاُمومة فمتعينة من باب أنّ الفهم العرفي للأب هو صاحب الخلية (١) ، والأم هي صاحبة البيضة ، لأن الولادة الحقيقية تنصرف البيضة

__________________

(١) فيما إذا كان صاحب الخلية ذكراً. أما إذا كان صاحب الخلية اُنثى فتتصور على نحوين :

أ ـ صاحب الخلية اُنثى وهي غير صاحبة البيضة.

ب ـ صاحب الخلية اُنثى وهي نفس صاحبة البيضة.

ففي هذين النحوين لا يوجد عنصر ذكري ، فالعرف وكذا الشرع لا يقول بوجود أب لهذا الولد. نعم ، له اُم وهي صاحبة البيضة ، أمّا صاحبة الخلية فهل هي اُم ؟ نعم لا يبعد أن تكون اُمّاً لأنّه نشأ منها أيضاً.

٢٩٧

والخلية اللتين ولدتا الولد.

ولكن نفهم من الآية الشريفة في قوله تعالى : ( ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم ) أنّ حكمة الله البالغة جرت على اختلاف الألسنة والألوان حفظاً للنظام ، وبما أن هذا الاستنساخ يؤدي حتماً إلى اختلال النظام لو طبق بصورة شاملة وواسعة « لعدم معرفة البائع من المشتري والمدّعي من المدّعى عليه ومن الشهود وعدم معرفة الظالم من المظلوم وامثال هذه الاُمور في العقود والإيقاعات والجنايات وغيرها » فيلزم تحريم هذه العملية في صورتها الواسعة لهذا اللازم الباطل حتماً.

وهذا الجواب ـ كما هو واضح ـ قد تعرّض بصورة مفصلة لحكم المسألة في عنوانها الأولي والثانوي ، وقد تعرض لمسألة الاُبوة والاُمومة لهذا الكائن لو وجد ، وهو جواب متين ومقبول عرفاً ؛ لأنّ الولد قد نشأ من الخلية والبيضة ، ولولاهما لما نشأ الولد ، بما أن معنى الولد والتولّد الحقيقي هو تولد الشيء من الشيء ، وقد تولد هذا الولد من طرفين ( خلية + بيضة ) كما هو المفروض ، ونشأ منهما فان العرف ينسب هذا الولد إلى صاحب الطرفين وهما صاحب الخلية وصاحبة البيضة (١). وقد ذكر في مجمع البحرين : أنّ التفسير المفهوم من الوالدية هو أن يتصوّر من بعض أجزائه حيّ آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء. وهذا الولد قد تصوّر وتكوّن من الخلية والبيضة.

وعلى هذا فلو وضعنا هذه اللقيحة في رحم طرف ثالث ( امرأة أجنبية عن صاحبة البيضة ) فإنّ الاُم تبقى هي صاحبة البيضة والأب هو صاحب الخلية ؛ لأن التولّد غير التغذّي ، فإنَّ هذا الولد قد نشأ ووجد من طرفين ( خلية وبيضة ) فلو وضع في رحم حاضن فهو قد تغذى على طرف ثالث والمغذية ليست هي الاُم

__________________

(١) قد يقال أنَّ الفهم العرفي للأب هو صاحب المني.

٢٩٨

الحقيقية ( كما أنّ المغذية للطفل بلبنها ـ وهي المرضعة ـ ليست أمّاً حقيقية ، بل هي اُم مرضع ومجازية ).

نعم ، قد يحكم بمحرمية هذه الاُم الحاضن للطفل للأولوية من الاُم المرضع الذي ترعرع الطفل على لبنها.

وحتى لو تكوّن النسيخ من خلية المرأة وبيضتها ـ كما في النعجة دولّي حيث كانت الخلية من نعجة حامل ـ فإن الولد ينسب إليها لأنّها هي ولدته.

تحريم ولي الأمر :

إنّ نفس عملية الاستنساخ البشري بعنوانها الأولي التي قيل بحليتها لو نجحت في الإنسان إن لم تقارن محرماً آخر يمكن لولي الأمر تحريمها بالحكم الولائي ( الحكومي ) ؛ وذلك إذا أخذنا بنطر الاعتبار أنّ الدول الغربية التي تجري فيها أبحاث الاستنساخ على أقسام :

فمنها : من منعت أبحاث الاستنساخ البشري.

ومنها : من حَرَمتها من معونة ميزانية الدولة.

ومنها من جمّدتها سنوات حتى تبحثها اللجان المتخصصة ثم ينظر في أمرها من جديد ، لهذا فقد يرى ولي الأمر تحريم ذلك لئلاّ يسعى رأس المال الخاصّ وشركات الأدوية إلى تخطّي هذا الخطر بتهيئة الأموال واستمرار الأبحاث في دول العالم الثالث واستغلالها حقلا للتجارب البشرية كما كان ديدنها في كثير من السوابق ، ولكن مع ذلك نقول : إنّ هذا التحريم ليس حكماً شرعياً لا يتبدل ، بل هو حكم ولائي حكومي قد يتبدل في زمان ما أو مكان ما.

٢٩٩

تحفظ من القول بالاباحة بالعنوان الأولي :

إنّ الفتوى المتقدّمة بحلّية عملية الاستتئام والاستنساخ بالصورة المتقدّمة لابدّ من تقييدها بعدم الضرر ، كما هي مقيّدة في صورة الاستتئام ، ولكن لما كانت بعض المضار لا تظهر قبل مرور وقت طويل فلابدّ من عدم التسرع قبل التثبت والتأكد قدر الاستطاعة من عدم الضرر عند العامل لعملية الاستتئام والاستنساخ البشري ، ولهذا قد نرى الارشاد لإجراء التجارب على الحيوان لاستنساخه أو استتئامه ، فإن سلِم من التبعات والأضرار وتأكّدنا من عدم الإضرار لو طبِّق على الإنسان فنجيز ذلك بصورة لا تؤدّي إلى الإخلال بالنظام « ولا ينبغي أن تنسى الانسانية درسها الكبير بالأمس القريب في مجال انشطار الذرة ، إذ ظهر لها بعد حين من الأضرار الجسيمة ما لم يكن معلوماً ومتوقعاً » إذن لابدّ من أن يستمر ترصد نتائج التجارب النباتية والحيوانية لزمن طويل لنأمن من الاضرار والتبعات ، فإن حصل لنا قطع بعدم الاضرار بتطبيقها على الإنسان فنسمح بذلك بصورة لا تؤدي إلى الاخلال بالنظام ، والله العالم.

هل تنجح عملية الاستنساخ ؟

إن الله تعالى صرّح في كتابه الكريم بأنّه بدأ خلق الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعل نسله من ماء مهين ( وهي الحيامن الذكرية ) فقال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثمّ جعلناه نطفةً في قرار مكين * ثمّ خلقنا النطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مضغةً فخلقنا المضغةَ عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمّ أنشأناه خلقاً آخرَ فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين ) (١).

أقول : إذا كان مراد هذه الآية وأمثالها ـ التي هي في صدد خلقة الإنسان

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٣٠٠