بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

إذن لم يبق عندنا إلاّ مخالفة فهم المشهور فقط ، ولا بأس به مع مساعدة الدليل عليه.

وأمّا أهل السنّة : فقد اشترطوا في آلة الذبح أن تكون محدّدةً بحيث تنهر الدم إذا فري الأوداج بها ( سواء كانت من الحديد أو غيره حتى الليطة أو الحجر المحدد بشرط أن لا تكون سنّاً أو ظفراً ) على خلاف في السنّ والظفر على ثلاثة أقوال.

ودليلهم : هو ما رواه رافع بن خديج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً » (١).

التذكية بالمكائن الحديثة

وبعد هذه المقدّمة في معنى التذكية وبيان شروطها الشرعية فهل يطلق على الذبح بالمكائن الحديثة الذكاة الشرعية ، أو لا يمكن أن يطلق عليها ذلك ؟

والجواب : يمكن أن تطرح عدّة إشكالات ليستنتج منها عدم تحقّق التذكية أو عدم تحقّق الشروط المعتبرة فيها ، والاشكالات هي (٢) :

الإشكال الأول : انتساب الذبح للآلة :

من حيث إنّ الذبح إذا تمّ بالماكنة الحديثة يكون الانتساب إلى الآلة قهرياً ، بينما ذكرت الآية القرآنية في حلية الأكل من الذبيحة أن يكون انتساب التذكية إلى الإنسان ، فقد قال تعالى : ( حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهلّ لغير الله

__________________

(١) راجع المغني : ج ١١ ، ص ٤٣ ، وعقد الجواهر الثمينة : ج ١ ، ص ٥٨٦ ـ ٥٨٧.

(٢) ذكر أكثر هذه الإشكالات آية الله السيد محمود الهاشمي في مقالته حول الذبح بالمكائن الحديثة المنشورة في مجلة فقه أهل البيت : العدد الأول.

٢٤١

به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم ... ) (١).

هذا ، بالاضافة إلى أن التذكية هي فعل الإنسان فلا تصدق بفعل غيره ، وقد دلّت على ذلك الروايات الدّالة على أنّه لا يكفي في الحلية زهاق روح الحيوان من قبل نفسه أو بفعل حيوان آخر ولو بقطع مذبحه وأوداجه ما لم يدركه الإنسان فيذكيه ، فعن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « لا تأكل من فريسة السبع ولا الموقوذة ولا المتردّية إلاّ أن تدركها حية فتذكيه » (٢).

الإشكال الثاني : عدم تحقّق التسمية :

وذلك لوجود الفاصل الزمني بين ذبح الحيوان وبين زمان تشغيل الآلة ، أو ربط الحيوان بها إذا صدرت التسمية من الذابح حين تشغيل الآلة أو ربط الحيوان بها لأجل الذبح ، إذ يكون الذبح بلا تسمية حين صدوره.

الإشكال الثالث : عدم تحقّق الاستقبال :

وهذا الاشكال مبني على اشتراط الاستقبال في حليّة الذبيحة ، إذ لا يحصل عند الذبح بالماكنة توجيه مقاديم الذبيحة إلى القبلة ، أو وضعها على الجهة اليسرى متوجّهة للقبلة.

الإشكال الرابع : الذبح بغير الحديد :

وهذا الاشكال هو في صورة كون الذبح بالماكنة المشتملة على آلة الذبح بغير الفلزّ المعروف.

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١٩ من الذبيحة ، ح ٥ وغيره.

٢٤٢

الإشكال الخامس : وهو قطع المنحر :

وهذا الإشكال نتيجة وجود الروايات الناهية عن قطع المنحر ، فتكون الذبيحة محرمة لذلك.

الاجابة عن الإشكالات الخمسة :

أما الاشكال الأول ـ وهو انتساب الذبح للآلة لا للانسان ـ فلا أرى له وجهاً بعد صدق عنوان الذبح بالماكنة ، إذ أنّ الانتساب إلى الفاعل عرفاً يكفي فيه أن يحصل الذبح بفعل الإنسان ويترتّب عليه ترتّباً طبيعياً ، ولذا يصدق القتل وينسب إلى الإنسان إذا سدّد رصاصته من بندقيته ، فحكم الماكنة التي يشغّلها الإنسان لأجل الذبح هو حكم البندقية والسكينة التي تفعل القتل أو الذبح ، فيصدق عنوان القاتل أو الذابح على الإنسان إذا حصلت النتيجة بفعله من دون تخلل شيء بين عمله وبين حصول النتيجة ، وكانت النتيجة قهرية لعمله.

وأمّا الاشكال الثاني ـ وهو عدم تحقّق التسمية من الذابح ـ فجوابه : أنّ الظاهر من أدلّة اشتراط التسمية هو حصولها حين الشروع في الذبح الذي هو عمل اختياري للفاعل ، وإن تحقّق الذبح في الحيوان متأخّراً عن ذلك زماناً. وبما أنّ الذبح في الماكنة يكون الشروع فيه عند تشغيلها أو عند تعليق الحيوان على الشريط السيّار المؤدي إلى الذبح فإنّ التسمية في هذا الحين تكون تسمية عند الشروع في الذبح ، فيصدق أنّه سمّى حين الشروع في الذبح.

ومثل هذا ما ورد في الصيد الذي اشترطت التسمية فيه حين رمي السهم أو إرسال الكلب المعلَّم ، مع أنّ الإصابة متأخرة زماناً عن ذلك ، على أنّ الفاصل الزمني إذا كان قصيراً فيعدّه العرف بحكم المتصل بزمان الذبح ، فيشمله اطلاق ذكر اسم الله عليه.

٢٤٣

ويمكن أيضاً التخلص من هذا الاشكال بتكرار الذابح للتسمية إلى حين حصول الذبح بالماكنة.

تنبيهان :

الأول : بما أنّ الذبح بالماكنة يستوجب تشغيل عمال عديدين لأجل انجاز العمل ، وأنّ التسمية لابدّ أن تكون من الذابح فمن هو الذابح الذي يجب عليه التسمية لأجل حليّة الذبيحة ؟

الجواب : أنّ تعيين الذابح في الماكنة يكون بتعيين الشخص الذي يتحقّق على يده الجزء الأخير من سبب الذبح ، فلو فرضنا أنّ شخصاً معيناً شغّل الماكنة وجاء آخر وأخذ بتعليق الذبائح على الشريط المتحرك لأجل الذبح فإنّ هذا الشخص الأخير يعدّ هو الذابح الذي يتحقّق الذبح بعد عمله ، فيجب عليه التسمية ، كما أنّنا فرضنا أنّ شخصاً أخذ بتعليق الذبائح والشريط ساكن ، ثم جاء آخر وشغّل الماكنة لأجل الذبح ، فإنّ هذا الشخص الأخير المحرك للماكنة يعدّ هو الذابح الذي يتحقّق الذبح بعد عمله ويترتّب عليه ترتّباً طبيعياً.

إذن يجب التسمية على مَنْ يحقّق الجزء الأخير الذي يحصل الذبح بعده (١).

الثاني : إذا كانت الذبائح المعلّقة على الشريط الدائري للذبح كثيرة فهل يكفي تسمية واحدة عليها جميعاً ، أو لابدّ من تعدد التسمية بتعدد الذبائح ؟

والجواب على هذا التساؤل يختلف باختلاف الماكنات المعدّة للذبح ، فإن كانت الماكنة المعدّة للذبح تذبح أعداداً كبيرة مرّة واحدة فيكفي للحلّ تسمية واحدة لصدق اسم الله عليها.

__________________

(١) وهذا شيء عرفي يمكن تشبيهه بالمدفع الذي يكون وضع القذيفة فيه موجبة لاطلاقه ، فإنّ المطلق للقذيفة هو الواضع لها. أمّا المدفع الذي يكون وضع القذيفة فيه غير كافية لاطلاقها ، بل لابدّ من سحب آلة معينة لاطلاق القذيفة ، فإنّ المطلق للقذيفة هو الساحب للآلة المعيّنة التي يحصل الاطلاق بعدها.

٢٤٤

أمّا إذا كانت الماكنة المعدّة للذبح تذبح أعداداً كبيرة بالتدريج ، فلا يكفي للحِلِّ تسمية واحدة ، لأنّه لا يصدق عليها حين الذبح أنّها ممّا ذكر اسم الله عليها. نعم ، يصدق عليها ذكر اسم الله تعالى قبل الذبح ، وهو غير كاف في حلّية الذبيحة ، وحينئذ لابدّ من تكرار الذابح للتسمية على كل ذبيحة حين الشروع في ذبحها.

وأمّا الإشكال الثالث ـ وهو عدم تحقّق الاستقبال للقبلة في الذبيحة حين ذبحها ـ فجوابه : إمّا بناءً على اشتراط الاستقبال ( كما ذهب إليه الإمامية وبعض من غيرهم كما تقدّم ) فيكفي فيه أنّ تكون مقاديم الذبيحة حين الذبح أو يكون منحرها مواجهاً للقبلة ، فإنّه يصدق عليه أنّه ذبح لجهة القبلة. وإمّا أن يكون مضجع الذبيحة حين الذبح على شمالها أو يمينها فهذا ليس عليه أي دليل.

وعلى هذا فيكفي في صدق استقبال القبلة بالذبيحة أن يكون الذبح بشكل عمودي على أن توجّه المقاديم أو المنحر إلى القبلة.

وإمّا بناء على عدم اشتراط الاستقبال في حليّة الذبيحة ، بل هو سنّة باعتبار أنّ جهة القبلة أفضل الجهات ، فلا إشكال في أصل عدم استقبال الذبيحة القبلة أيضاً.

وأمّا الإشكال الرابع ـ وهو أنّ الذبح بالماكنة يكون بغير الحديد من الفلزات الاُخرى ، وقد ورد أنّ الذبح لا يكون إلاّ بالحديد ـ فجوابه ما تقدّم من أنّ المراد بالحديد هو الحادّ في مقابل الذبح بشيء ليس بحادّ ، كالقصبة أو الحجارة أو غيرهما ممّا لا يكون حاداً في ذلك الزمان ، ولذا نجد الروايات ـ والفقهاء تبعاً لها ـ قد جعلت الحديد في مقابل الزجاج والحجر والقصب ، ولم تجعله في مقابل بقية الفلزات ، حتى يفهم من الفلز الخاص المعروف (١).

__________________

(١) راجع عبارة المبسوط : ج ٦ ، ص ٢٦٣ ، وموسوعة الينابيع الفقهية : ج ٢١ ، ص ٩٨ ـ ٢٩٠ من كتاب المهذب والغنية والوسيلة والشرائع والمختصر النافع والجامع للشرائع والقواعد واللمعة وغيرها.

٢٤٥

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه مشهور علماء الإمامية فلا يرتفع الاشكال إلاّ بأنّ تكون الآلة الذابحة من جنس الحديد ( الفلز الخاص ) ، فإذا حصل هذا فلا اشكال من ناحية الذبح بالآلة عند الفريقين.

وأمّا الإشكال الخامس ـ وهو أنّ الذبح بالماكنة يؤدّي إلى قطع الرأس عمداً وقد نهي عنه ، فتكون الذبيحة محرّمة ـ فجوابه : أنّ النهي الوارد في إبانة الرأس عمداً في صحيحة محمد بن مسلم (١) عن الإمام الباقر عليه‌السلام إذ قال : « لا تقطع الرقبة بعدما تذبح » قد اختلف الفقهاء في افادته للحرمة ، فذهب جمع إلى الكراهة ، وذهب بعض إلى الحرمة.

ولكنّ الصحيح على كلا التقديرين عدم حرمة الذبيحة بهذا الفعل. فقد ذكر الشهيد الثاني في الروضة البهية فقال : « ويكره إبانة الرأس عمداً حالة الذبح ، للنهي عنه في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « لا تنخع ولا تقطع الرقبة بعدما تذبح » وقيل ـ والقائل الشيخ في النهاية وجماعة ـ بالتحريم لاقتضاء النهي له مع صحّة الخبر وهو الأقوى. وعليه هل تحرم الذبيحة ؟

قيل : نعم ، لأنّ الزائد عن قطع الاعضاء يخرجه عن كونه ذبحاً شرعياً فلا يكون مبيحاً ، ويضعّف بأنّ المعتبر في الذبح قد حصل ، فلا اعتبار بالزائد ، وقد روى الحلبي في الصحيح عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث سئل عن ذبح طير قطع رأسه أيؤكل منه ؟ قال : « نعم ، لكن لا يتعمّد قطع رأسه » وهو نصّ ، ولعموم قوله تعالى : ( فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه ) فالمتجه تحريم الفعل دون الذبيحة (٢).

وقد ذهب مشهور أهل السُنَّة إلى حلّية الذبيحة بهذا الفعل ، فقد ذكر في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١٥ من الذباحة ، ح ٢.

(٢) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية : ج ٧ ، ص ٢٣٤ ، جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ١٢٠ ـ ١٢٣.

٢٤٦

المغني قائلاً : « ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك. نصّ عليه أحمد فقال : لو أنّ رجلاً ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله. روي عن عليٍّ رضي‌الله‌عنه أنّه قال : « تلك ذكاة وحية ». وأفتى بأكلها عمران بن حصين ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري. وقال أبو بكر : لأبي عبد الله فيها قولان ، والصحيح أنّها مباحة ، لأنّه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فاُبيح كما ذكرنا ، مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف » (١).

النتيجة : وبما تقدّم من ردّ الاشكالات الخمسة على طريقة الذبح بالمكائن الحديثة يتّضح أنّه لا اشكال في الذبح بالماكنة إذا حصلت التسمية من الذابح مع توجيه مقاديم بدن الذبيحة إلى القبلة إذا كان الذابح مسلماً على رأي مشهور الإمامية ، وحتى لو كان كتابياً على رأي مشهور أهل السُنَّة ، وكانت الشفرة ( السكين ) من جنس الحديد على رأي مشهور الإمامية ، أو من غير جنس الحديد على ما ذكرنا ، وذلك لتوفّر شروط حليّة الذبيحة.

نعم هناك إشكالات اُخر ، هي :

١ ـ إنّ الغالب في هذه الطريقة أن يجتمع معها الصعق بالكهرباء قبل وصول الحيوان إلى الآلة الذابحة بوقت قصير ؛ لغرض أن يكون الحيوان مشلولاً ومنعدم الحركة ، فإذا اضفنا إلى ذلك قول المتخصّصين بأنّ بعض الحيوانات يموت بهذا الصعق فحينئذ يحصل عندنا علم اجمالي بموت بعض الحيوانات قبل إجراء التذكية لها ، وبهذا لا يمكن الحكم بحلّ اي ذبيحة من هذه الحيوانات التي نعلم بحصول ميتة فيها وهي شبهة محصورة.

٢ ـ إنّ الذبيحة المعلّقة على الشريط الدوّار ليست كلّها على نسق واحد من

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ج ١١ ، ص ٥٠.

٢٤٧

ناحية الطول ، وحينئذ فقد تضرب الآلة الحادّة موضع الذبح وقد تضرب الرأس نفسه أو الصدر ، وحينئذ لا تكون كل الحيوانات مذكاة لحصول علم اجمالي بقتل بعضه بما ليس ذبحاً شرعياً.

وحينئذ لا يمكن الحكم بحل هذه الطريقة إلاّ إذا تأكّدنا من أنّ الحيوان الذي صعق بالكهرباء لم يمت وقد ذبحته الآلة الحادة في موضع التذكية.

طرق اُخرى للتذكية (١) :

هناك طرق اُخرى قديمة وحديثة متداولة لازهاق الروح ، لابدّ من تسليط الضوء عليها لمعرفة أنّها هل تعتبر تذكية شرعية يمكن الحكم بحلية الحيوان الذي وقعت عليه أم لا ؟

وقبل البدء في تعداد هذه الطرق بصورة مختصرة نذكر بأنّ التذكية الشرعية وشروطها التي تقدّمت هي عبارة عن قطع الأوداج الأربعة من قبل مسلم بآلة حادة مستقبلا للقبلة مع التسمية ( ذكر اسم الله على الذبيحة ) ، وقد ذكر الاطباء فوائد مهمّة صحّيّة لهذه العملية التي هي في العرف الطبي عبارة عن صدمة نزيفية تجتذب كل الدم السائل إلى الدورة الدموية واخراجه من خلال العروق المقطوعة حتى يتوقّف القلب وينقطع النفس.

أمّا ما هي الطرق الاُخرى للتذكية ؟ فالجواب :

١ ـ تدويخ الحيوان قبل الذبح :

وهي على صور :

أ ـ تدويخ الحيوانات الكبيرة كالماشية والخيول ؛ وذلك بضرب العظم

__________________

(١) هذه الطرق اعتمدنا في توضيحها على بحث « الذبائح والطرق الشرعية في إنجاز الذكاة » للدكتور محمد الهوادي الاستاذ بجامعات المانيا من ص ٢١ ـ ٢٥.

٢٤٨

الجبهي للحيوان بمطرقة ضخمة تحدث ألماً شديداً للحيوان وتفقده الوعي وينهار مباشرةً ثم يتم تذكيته باليد.

وهذه الطريقة قديمة قد تخلّت عنها المجازر الحديثة واستبدلتها بطرق حديثة للتدويخ سنشير إليها.

ب ـ تدويخ الحيوان بواسطة المسدس الواقذ (١) الذي يحدث ثقباً في جوف الجمجمة ( دماغ الحيوان ) يؤدّي إلى فقدان الوعي بشكل فوري نتيجة لتخريب جزء من البنية الحيّة من الدماغ وهذا هو المسدس الواقذ الابري. وهناك قسم من المسدسات تحدث انهداماً في العظم الجبهي يفضي إلى فقدان الوعي ، وهذا هو المسدس الواقذ الكروي.

ج ـ التدويخ بالصدمة الكهربائية : وهي طريقة حديثة نصّ عليها القانون البرطاني ( سنة ١٩٥٨ م ) تستعمل في بعض الحيوانات كصغار العُجول والشياة والأرانب ، وخلاصتها : إمرار تيار كهربائي ذي شدة معينة ولمدّة ثابتة إلى صدغي الحيوان يحدث فقدان الوعي مباشرة ، ثم يحدث طور من التقلص العضلي المزمن قبل الارتخاء التام (٢).

وقد نقل أن في نهاية الثمانينات من القرن العشرين تستخدم المجازر النيوزيلندية الصدمة الكهربائية لتدويخ الماشية ؛ وذلك باستعمال تيار كهربائي شدته ( ٥ / ٢ أمبير ) يؤدّي إلى توقف القلب.

د ـ التدويخ بغاز ثاني اوكسيد الكاربون : وهي طريقة قد يلجأ إليها لتدويخ

__________________

(١) هناك نوعان من المسدسات الواقذة : النوع الأول مسدس واقذ إبري ، بمعنى أن يكون المتفجر الناري يدفع سهاماً تصادمية تنتهي برأس ابري. والنوع الثاني : مسدس واقذ كروي ، بمعنى أن يكون رأسه التصادميّ ينتهي بكتلة نصف كروية.

(٢) لقد عدّل استخدام هذه الطريقة في الطيور والدواجن سنة ١٩٧٠ م بامرارها في حمام مائي مكهرب ليجمع لها الغرق والصعق.

٢٤٩

الشياه والماشية ، استعملت في احدى المصانع المحلية بأمريكا سنة ١٩٥٠ م ثم انتقلت إلى الدانمارك ثم شملت معظم الدول الأوروپية ، وخلاصتها : حبس الحيوان في بيئة هوائية تحتوي على ٧٠ % من غاز ثاني اوكسيد الكاربون فيبقى الحيوان محتفظاً بوعيه خلال عشرين ثانية ، ثم يحدث فقدان الوعي مباشرة ، وتتبعه منعكسات حركية تستمر لمدّة عشر ثوان ، ثم تحدث حالة الارتخاء العضلي إذا حصلت حالة التخدير العميق ، وتستمر هذه الحالة عادة من دقيقتين إلى ثلاث دقائق ، ولا يؤدّي هذا التخدير العميق بواسطة غاز ثاني اوكسيد الكاربون توقّف القلب إلاّ في حالات نادرة.

وفي حالة التدويخ يلاحظ أنّ زمن النزف للدم أطول من الوقت المعتاد بدون تدويخ.

ه‍ ـ التخدير قبل الذبح بواسطة مادّة مخدرة كالبنج بشكل حقن أو بتقديم طعام فيه مادّة البنج.

٢ ـ الخنق بالطريقة الانجليزية :

وهي طريقة تعتمد على خرق جدار الصدر بين الضلعين الرابع والخامس ، ومن خلال هذا الخرق ينفخ بمنفاخ فيختنق الحيوان نتيجة لضغط هواء المنفاخ على رئتي الحيوان ، وهذا الاختناق يحول دون نزيف الدم وإنهاره (١).

__________________

(١) اقول : إنّ ما تقدّم من العمليات التدويخية التي تسبق عملية الذبح إنّما هو لأجل أن لا يشعر الحيوان بالألم والضيق اثناء الذبح ، فهم يعتبرون أن تدويخه بالصور المتقدّمة أو خنقه بالطريقة الانجليزية ليس فيها أي ألم أو ضيق على الحيوان ، إلاّ أنّ هذا الرأي مخالف لرأي كثير من العلماء الذين يعتقدون بأنّ هذه العمليات حتى التدويخية المتطوّرة فيها ضيق شديد وألم على الحيوان. ولعلّي أقطع بأنّ اتباع الأداب الشرعية في الذبح أسهل على الحيوان من هذه العمليات التدويخية أو الخنقية أو الغرقية. على أن القوانين الغربية التي لا تُجيز تسويق لحوم الحيوانات الميتة لا تشترط بوضوح في طريقة التدويخ أن لا يؤدّي إلى موت الحيوان قبل الذبح ، وطريقة الخنق الانجليزية شاهد على ذلك.

٢٥٠

وإلى هنا انتهينا من ذكر الطرق الحديثة والقديمة للتذكية ، فما هو الحكم الشرعي اتجاهها ؟

والجواب :

١ ـ بالنسبة للخنق بالطريقة الانجليزية حيث تؤدّي إلى موت الحيوان بالاختناق ـ فالحكم بالتحريم واضح ، إذ المنخنقة محرّم أكلها بالنص القرآني ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم ... ) (١).

وكذا الحكم جار في كل خنق يؤدّي إلى ازهاق الروح ، كاطلاق غاز ثاني اوكسيد الكاربون في غرف مقفلة ، يؤدي إلى ازهاق الروح.

٢ ـ وأمّا بالنسبة إلى التدويخ ـ بصوره المتقدّمة ـ فتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى وقف قلب الحيوان وموته ـ كما قد يحدث بصورة نادرة ـ قبل إجراء عملية الذبح عليه ، ففي هذه الحالة يكون الحيوان ميتة ولا ينفعه الذبح بعد الموت.

وتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى جعل الحيوان فاقد الوعي ( كما هو الفرض ) وسيعود الوعي إليه بعد مدّة معينة ، ففي هذه الحالة يكفي إجراء التذكية على الحيوان لحلِّها فيكفي خروج الدم المتعارف في أمثال هذه الحيوانات المدوّخة وان كان زمن النزف فيه أطول من الوقت المعتاد بدون التدويخ.

وأمّا إذا شككنا في حياة الحيوان بعد التدويخ فيكفي للحكم بالحياة حركته بعد التذكية ( كحركة الذنب والاُذن ) وذلك للروايات الصحيحة : منها صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام المصرِّحة باعتبار الحركة بعد الذبح ، قال : « سألته

__________________

(١) المائدة : ٣.

٢٥١

عن الذبيحة ؟ قال : إذا تحرك الذنب والطرف أو الاُذن فهو ذكي » (١).

ومنها : صحيحة زرارة عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « ... فإن ادركت شيئاً منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد ادركت ذكاته فكله » (٢).

نعم ، هناك رواية الحسين بن مسلم (٣) التي اكتفت بخروج الدم المعتدل ( الخارج بدفع لا بتثاقل ) ، لكن سندها غير تام ، ومن اعتمدها من الفقهاء جعل أحد الأمرين كافياً في حليّة الذبيحة ، وبعض اعتبر اجتماعهما شرط لحلية الذبيحة ، لكن الأقوى هو الاكتفاء بحليّة الذبيحة بالحركة بعد التذكية لصحة دليله وضعف غيره.

وعلى هذا فمن الطبيعي حرمة الحيوان المشكوك حياته إذا اُجريت عليه التذكية ولم يتحرك منه شيء ، وهذا هو مفهوم صحيحتي الحلبي وزرارة المتقدّمتين ، أو لم يتحرك منه شيء ولم يخرج الدم بصورة معتدلة على الرأي الآخر.

تنبيه :

إنّ التدويخ إذا اُجري على عشرين رأس من الغنم ، وحصل لنا قطع بوقف قلب بعضها من هذا التدويخ وحصل الذبح للجميع ولم نعلم على وجه التعيين ذلك البعض الذي وقف قلبه نتيجة التدويخ فالحكم هنا يكون بحرمة أكل جميع العشرين من الغنم ؛ وذلك لحصول العلم الاجمالي بحرمة بعضها في الشبهة المحصورة ، فيحرم الجميع لهذه الشبهة الموضوعية والعلم الاجمالي الذي حصل فيها.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١١ من الذباحة ، ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١٢ من الذباحة ، ح ١.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ١٢ من الذباحة ، ح ٢.

٢٥٢

الآداب الشرعية في التذكية :

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدُكم شفرته وليُرح ذبيحته » (١).

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن حدّ شفرته أمام الشاة : « أتريد أن تميتها ميتتين ، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ».

وقال الإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام : « لا تذبح الشاة عند الشاة ، ولا الجزور عند الجزور وهو ينظر إليه » (٢).

ومن هذه النصوص المتقدّمة نفهم أن الإسلام أراد إراحة الحيوان عند الذبح ، ولكن كيف لنا إراحة الحيوان عند الذبح ؟

ذهب بعضٌ (٣) إلى أن إراحة الحيوان بصورة موضوعية تكون من خلال علامات رئيسية هي الألم والكرب (٤) والوعي ، فالألم يسبب الكرب ، والكرب قد يحدث لأسباب عديدة احدها الإحساس بالألم ، وحينئذ إذا أفقدنا وعي الحيوان فيزول الكرب والإحساس بالألم.

أقول : لابدّ لإراحة الحيوان من غياب الألم أو إنقاصه إلى الحدّ الأدنى عند الذبح الذي هو العنصر الرئيسي في اراحة الحيوان ، وهذا يتوقّف على أن تكون آلة

__________________

(١) اخرجه مسلم في باب الأمر بالاحسان بالذبح.

(٢) الكافي : ج ٦ ، ص ٢٣٠.

(٣) نقل هذا الرأي الدكتور محمد الهواري في مقالته حول الذبائح والطرق الشرعية في انجاز الذكاة عن دراسة مقتبسة من رسالة جامعية لذيل شهادة الدكتوراه من اعداد « إن كاترين فيرمو » بعنوان الذبح الشرعي الديني الحلال والشيخيتا عام ١٩٩٤ ـ ١٩٩٥ م.

(٤) الكرب هو الخوف.

٢٥٣

الذبح حادّة جداً ، ولكن حدّها ينبغي أن لا يكون أمام الحيوان الذي يتولد له خوف وكرب من هذه الحالة.

وعلى هذا فينبغي أن نتجنّب أيّ عملية تخيف الحيوان عند الذبح مثل الضجيج الذي يحدث عند الذبح ، ورائحة الدم الذي يخرج من حيوان نتيجة ألم وخوف ، حيث ثبت أن الدم الذي يخرج على الصفة المتقدّمة يؤدّي إلى كرب الحيوانات الاُخرى ، بخلاف الدم الذي يخرج من حيوان هادئ حيث لا يسبب أي خوف للحيوانات الاُخرى ، بل تقوم الحيوانات الاُخرى بلعق هذا الدم الذي خرج بهدوء.

أمّا فقد الوعي في الحيوان بواسطة مسدس واقذ أو بواسطة الصعقة الكهربائية أو بغاز ثاني اوكسيد الكاربون ، فإنّ ثبت أنّ هذه الأمور لا توجد أي أذىً او خوف عند الحيوان ولا توجب توقف قلبه وإماتته فلا بأس بها ، وتكون منسجمة مع النصوص الشرعية التي أمرت باراحة الذبيحة عند الذبح ومصاديق جديدة لها. وأمّا إذا كان فيها نوع أذىً وخوف للحيوان فتكون منافية للغرض الذي جاءت من أجله ، حيث أوجدت خوفاً أو أذىً للحيوان ، وقد تكون أكثر من خوفه وأذاه عند الذبح وهو واجد لوعيه تماماً ، ولهذا نرى أنّ فقدان الوعي في الحيوان إنّما يكون من الآداب الشرعية إذا خلا من الأذى والكرب للحيوان ، وإلاّ فلا يكون من آداب الذبح.

حكم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ( حكم ما جهل ذابحه ) :

وهذه المسألة قد عبرّ عنها علماء الإمامية ب‍ ( الشبهة الموضوعية ) لأنّ الحكم واضح من حيث حلية الذبيحة إذا كان الذابح مسلماً ، وحرمتها إذا كان غير مسلم كما هو الصحيح. ولكن الاشكال في حلية الذبيحة قد جاء من الموضوع

٢٥٤

الخارجي الذي حقّق الذبح ، هل هو مسلم أو غير مسلم ؟

وهذا البحث لا يكون علمياً إذا شككنا في اسلام الذابح أو كتابيته ، بناءً على ما ذهب إليه مشهور أهل السنة (١) وبعض من غيره من حلية ذبيحة الكتابي وذبح ما يستحلّه ، لأنّ الذبيحة حلال على كل حال إذا توفّرت بقية شروط الذبح.

نعم ، يكون هذا البحث مثمراً لأهل السنّة ومن يرتأي رأيهم في صورة كون الشك في اسلام الذابح أو كونه كافراً غير كتابي ، فتكون الشبهة موضوعية أيضاً ، بمعنى أنّها نشأت من الموضوع الخارجي مع معرفة الحكم في صورة كون الذابح مسلماً أو كونه كافراً غير كتابي.

وعلى كل حال فقد يعمّم موضوع البحث لما إذا شُكَّ في تحقّق شروط الذبيحة أو لم يسمّ عمداً ، أو شك في تركه في توجيه الذبيحة إلى القبلة عمداً أو سهواً ، أو نشك في فري الأوداج الأربعة بآلة حادة ، أو بالسكين بناءً على من يشترطها أو يشترك الفلزّ الخاص ، أو قطعها بيده ، وهكذا ممّا يرجع الشك إلى الموضوع الخارجي.

وأمّا حكم هذه المسألة فتوجد عندنا قاعدة واستثناء :

أمّا القاعدة فهي عامّة في كل حكم قد شرط (٢) بأمر آخر ، فما لم يتحقّق ذلك الأمر لا يتحقّق الحكم خارجاً ، وحينئذ يكون الحكم في موردنا عدم جواز الأكل من الذبيحة للذي يشك في اسلام الذابح ، فلا يدري أنّه مسلم أو ملحد ، أو لا

__________________

(١) راجع المغني لابن قدامة : ج ١١ ، ص ٥٤ وما بعدها ، والجواهر الثمينة : ج ١ ، ص ٥٨٤ ، والشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك : ج ٢ ، ص ١٥٤.

هناك اختلاف شديد بين أهل السنّة في حلية ذبيحة الكتابي مطلقاً ، أو في صورة سماع تسميته ، أو في ذبحه لنفسه ما يستحلّه ، أو ذبحه لمسلم ، راجع في ذلك الجواهر الثمينة.

(٢) المراد من الشرط هنا هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » كما يقال : إنّ الوضوء شرط الصلاة.

٢٥٥

يدري أنّه مسلم أو غير مسلم بناء على الرأي الآخر. وقد طابق هذه القاعدة أيضاً أصل عدم التذكية ، لأنّ شرط الأكل هو التذكية الشرعية ، وهذا الأمر مشكوك في تحقّقه ، كما هو الفرض ، والأصل يقتضي عدم التذكية ، لأنّها أمر وجودي يشك في تحقّقه ، فتبقى حرمة الأكل على حالها.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصلاة التي اشترط في صحتها أن يكون الملبوس غير ميتة ، فالقاعدة تقول بعدم جواز الأكل وعدم صحة الصلاة إلاّ بما علم أنّه مذكّى (١).

وقد اشار إلى هذا صاحب الجواهر إذ قال : « إنّ المشكوك فيه باعتبار عدم

__________________

(١) وقد ذكر المشهور نجاسة الجلد أو اللحم ، بالاضافة إلى عدم جواز اكله وعدم جواز الصلاة فيه ، لأنّ المشهور قد جعل عدم التذكية ميتة ، فإذا كان أصل عدم التذكية جارياً ، فاللحم حرام أكله ، ولا يجوز الصلاة في جلده وهو نجس. راجع فوائد الاُصول ، تقريرات الميرزا النائيني قدس‌سره : ج ٣ ، ص ٣٨٤ ، إذ قال : « لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الاُصول العملية. هذا ولكن يظهر من بعض الأساطين التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدّم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه ».

وراجع مستمسك العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٣٢٨ حيث نقل عن الحدائق نجاسة الجلد المطروح ـ الذي لا يعلم أنّه مذكّى أم لا ـ إلى المشهور لأصالة عدم التذكية. وراجع المحكم في اُصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم : ج ٤ ، ص ١١٩ و ١٢٠.

بينما ذكر بعض ـ كصاحب الحدائق وغيره ـ أنّ الطهارة التي هي شرط في الصلاة يكفي فيها احتمال التذكية ، وحينئذ تجري قاعدة الطهارة في المقام ، فيحصل التفكيك بين حرمة الأكل وطهارة الجلد واللحم ، باعتبار أن الأكل ( وكذا جواز الصلاة في الجلد ) لابدّ فيهما من احراز التذكية ، وما لم تحرز التذكية لا يجوز أحدهما. بينما طهارة اللحم والجلد يكفي فيهما احتمال التذكية الذي هو موجود في المقام.

وقد وافق صاحبَ الحدائق السيدُ الخوئي رحمه‌الله ولكنه خالفه في دليل طهارة اللحم والجلد فقال : إنّ الطهارة وجواز الانتفاع بمشكوك الحلّ أو الحرمة هو من باب أنّ النجاسة وحرمة الانتفاع إنّما رتّبا على موضوع الميتة ، واستصحاب عدم التذكية أو إحالة عدم التذكية لا يثبتا الميتة إلاّ بالأصل المثبت ( الذي ليس بحجة كما قرر في الاُصول ) فلا تترتب النجاسة ولا حرمة الانتفاع بالمشكوك ذكاتُه. فقه الشيعة : تقريرات الإمام الخوئي : ج ٢ ، ص ٣٩٣ ـ ٣٩٦.

٢٥٦

العلم بتذكيته وعدم أمارة شرعية تدلّ عليها محكوم بأنّه ميتة لأصالة عدم التذكية » (١).

والدليل على ذلك ـ بالاضافة إلى ما تقدّم من ـ النصوص الشرعية التي منها :

قول الإمام الصادق عليه‌السلام لزرارة في موثّق ابن بكير : « ... فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكاه الذابح » (٢) بناءً على أنّ التذكية شرط في حلية الأكل كما هي شرط في لباس المصلّي ، أو نستفيد ذلك من قوله عليه‌السلام : « وكل شيء منه جائزة إذا لم تكن راجعة إلى ألبانه ».

أمّا الاستثناء فهو في صورة ما إذا شككنا في إسلام الذابح ، أو شككنا في توفر شرائط الذبح ، ولكن كان المشكوك في يد المسلمين بأنّ كان في سوقهم أو أرضهم ، وكان عليه أثر الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ، فإنّه يجوز اكله والصلاة في جلده. وقد دلّ على هذا الاستثناء روايات صحيحة منها :

١ ـ صحيح الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها ؟ فقال عليه‌السلام : اشترِ وصلِّ فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه » (٣).

٢ ـ صحيح أحمد ابن أبي نصر عن الإمام الرضا عليه‌السلام « وقد سأله الخفّاف ياتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو ام لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلي فيه ؟ قال عليه‌السلام : نعم أنا أشتري الخف من السوق ويصنع

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٨ ، ص ٥٠.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٣ ، ب ٢ من لباس المصلي ، ح ١.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢ ، ب ٥٠ من النجاسات ، ح ٢.

٢٥٧

لي واُصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (١).

٣ ـ وفي موثّق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت له : وإنّ كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال عليه‌السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (٢).

وقد يقال هنا بجريان قاعدة اُخرى في خصوص ما إذا شككنا في شرائط الذبيحة بعد إحراز أنّ الذابح مسلمٌ ، وهي قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة التي هي مقدّمة على أصالة عدم التذكية (٣).

ولكن ذكر الشيخ النائيني قدس‌سره في فوائد الاُصول بأنّ أصالة الصحة إنّما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ، وأمّا إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد كأصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم قابلية المال للنقل والانتقال فلا تجري فيه اصالة الصحة (٤).

تنبيهات :

١ ـ ما المراد من الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ؟

الجواب : إنّ المراد من الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة هو الاستعمال الاقتضائي أو الاستعدادي لا الفعلي من كل جهة ، فإذا كان الجلد الذي يعرض

__________________

(١) المصدر السابق : ح ٦.

(٢) المصدر السابق : ح ٥.

(٣) جواهر الكلام : ج ٨ ، ص ٥٦ حيث أرجع قاعدة سوق المسلمين ويد المسلم إلى أصالة صحة فعل المسلم.

(٤) فوائد الاُصول : ج ٤ ، ص ٦٥٦.

٢٥٨

للبيع يمكن أن يُجعل ظرفاً للماء ، كما يمكن أنّ يجعل ظرفاً للقاذورات ، وكان اللحم المعرّض في السوق للبيع يمكن أن يأكله الإنسان ، كما يمكن أنّ يقدّم غذاء للقطط ، فهذا كاف في صحة الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة (١).

كما أنّ الموجود في سوق المسلمين أو أرض الإسلام لا يكفي في الحلّية للأكل أو جواز الاستعمال في الصلاة إذا لم يعلم استعماله الاقتضائي أو الاستعدادي في ما يشترط فيه الطهارة ، كما إذا وجد في السوق مع احتمال إرادة احراقه أو اعطائه للحيوانات احتمالا معتدّاً به ، أو احتمل أن يكون فريسة سبع كذلك (٢).

٢ ـ ما المراد من السوق الوارد في الروايات ؟

الجواب : إنّ كلمة « السوق » في الروايات منصرفة إلى سوق المسلمين ؛ وذلك لعدم وجود سوق للكفار في بلاد المسلمين يتعاطون فيها ما يعتبر فيه التذكية من لحوم أو جلود أو شحوم. كما أن الروايات ذكرت عدم العبرة بسوق الكفار ، كصحيحة الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم أنّهم سألوا الإمام الباقر عليه‌السلام عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون ؟ فقال عليه‌السلام : « كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه » (٣).

٣ ـ ما هو ميزان معرفة سوق المسلمين ؟

الجواب : إنّ الميزان في معرفة سوق المسلمين أو أرضهم من غيرهم هو الميزان الذي ذكره الإمام الصادق عليه‌السلام في جواب سؤال اسحاق بن عمار المتقدّم : « إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » وهذا الميزان غير مناف للعرف

__________________

(١) راجع مهذب الاحكام للسيد السبزواري : ج ٥ ، ص ٢٧٧.

(٢) راجع جواهر الكلام : ج ٨ ، ص ٥٧.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٦ ، ب ٢٩ من الذبائح ، ح ١.

٢٥٩

أيضاً ، فيميّز سوق الإسلام بأغلبية المسلمين فيه ، سواء كان حاكمهم مسلماً أم لا ، وحكمهم نافذاً أم لا.

٤ ـ لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم :

لقد ذكر الفقهاء أنّه لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم ، بمعنى أن سوق المسلمين أو أرضهم يكون كاشفاً نوعيّاً عن كون البائع مسلماً ، وإلاّ فلا دخل للبناء في السوق من غرف أو سقف. وعلى هذا فإنّ ما وجد في سوق المسلمين أو أرضهم هو عبارة عن أمارة يد المسلم إذا كان المسلم يستعمل ما في يده في ما يشترط فيه الطهارة ( كالصلاة مثلاً ) فلا اثنينية بين أمارة سوق المسلمين ويد المسلم في الحكم بتذكية المشكوك الذي نحن بصدده.

وبعبارة أدقّ : إنّما يكون المقصود أولاً وبالذات في أمارة التذكية هو يد المسلم وتصرفه في اللحم أو الجلد في ما يشترط فيه الطهارة ، ويكون السوق طريقاً إليها ، فلا تكون يد المسلم في قبال سوق المسلمين.

وهكذا نخلص إلى أنّ ما وجد في يد المسلم أو سوق المسلمين أو أرضهم ولا يعلم ذابحه قد حكم الشارع بحلية الذبيحة ( كما ذكرت الروايات ) وحَكَمَ الشارع على الذابح بأنّه مسلم ، ولذا عند موته يجب تغسيله ودفنه وغيرهما من احكام المسلمين (١).

وعلى ما تقدّم لا يجوز الشراء من معلوم الكفر ولو كان في سوق المسلمين ، لما ذكرنا من أن العبرة هي يد المسلم الذي يستعمل السلعة في ما يعتبر فيه الطهارة ، ولا خصوصية للسوق.

ومن نافلة القول أنّ نبيّن أن المفروض في كل مسلم معرفته بالأعمال المشترط فيها الطهارة ومقيّد بها غالباً.

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٨ ، ص ٥٦.

٢٦٠