بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بأن تعالج معهم فيه ، قال : قلت فإنّي اُذيبه لهم فقال : وذلك عمل فلا بأس » (١).

ومن هذه الروايات المتقدّمة ، فإن النتيجة التي نستفيدها هنا هي : يجوز للبنك الإسلامي أو للشركة أو لأي فرد أن يستأجر أرضاً أو أداةً أو معملا أو خدمات اشخاص ، ويؤجرها بأكثر مما استأجرها بشرط أن يعمل عملاً في الأرض أو الأداة أو المعمل ، أو يعمل عملاً مع عمل الآخرين ، وحينئذ يكون الكسب في مقابل ما عمله من عمل.

وبهذا ينفتح الباب أمام الاستثمار فتؤجّر الطائرات والقطارات والسفن وما الى ذلك ويعمل فيها عملاً يجوّز للمستأجرين تأجيرها بأكثر من الاجارة الاُولى ويكون الفرق بين الاجارتين في مقابل العمل الذي بذل فيها. ولا يُفرق بين هذا وبين تأجير خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها ، فإنه لا يجوز بزيادة إذا لم يكن معهم عمل اضافي يبرّر أخذ الربح ، وعلى هذا فيمكن أن تستأجر الشركة خدمات اشخاص ثم تؤجرها لشركة اُخرى بزيادة على الأجر الأول بشرط أن تعمل الشركة معهم بواسطة اعضائها ووكلائها ، فيكون الربح في مقابل هذه الخدمة من قبل الشركة.

٦ ـ شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها

لقد استشكل بعض علماء المسلمين في صورة شراء عين نسيئة بشرط بيعها نقداً بأقل من الثمن الأولي للبائع بعد ذلك ، أو بيع عين نقداً بشرط شرائها نسيئة للبائع بأكثر ممّا باعها عليه ، وكذا استشكلوا في صورة ما إذا كان من نيّتهما ذلك وان لم يذكروا ذلك كشرط في متن العقد ، إذ يكون شرطاً ارتكازياً. وهذا الاشكال قد

__________________

(١) المصدر السابق : ب ٢٣ من الاجارة ، ح ٧.

١٨١

يكون هو الحيلة للوصول الى ربا النسيئة كما عن الإمام مالك وأحمد ، وقد يكون نتيجة النص الخاص الوارد في صحيحة علي بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام حيث قال علي بن جعفر : « سألته ( أي الإمام موسى بن جعفر ) عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحل ؟ قال عليه‌السلام : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس » (١). ومعناها وجود البأس في البيع الأول إذا اشترطا.

أمّا هنا فنريد أن نتكلم عن شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها ، فهل يوجد منع عن هذه المعاملة ؟

الجواب : انَّ مقتضى البيع الذي يحصل بين البائع والمشتري هو ملكية المشتري لمنافع العين ، وملكية البائع للثمن ، ولكن المشتري هنا يشترط في تمليك الثمن للبائع أن يستأجر العين التي ملكها المشتري بالشراء الأول ، فهذا الشرط هو عبارة عن تقييد البائع ، بالتزامه استئجار العين ، كما لو شرطت عليه في عقد آخر أن يستأجر عيناً بثمن معين ، فهو شرط صحيح لم يخالف كتاباً ولا سُنَّة فيشمله الحديث الصحيح « المسلمون عند شروطهم ».

وقد يستشكل في صحة هذا البيع بشرط الاستئجار ، بلزوم الدور وذلك حيث يقال : إنَّ صحة البيع الأول متوقفة على استئجار الدار من قبل البائع ، واستئجار الدار متوقف على صحة البيع الأول ، فتوقف صحة البيع الأول على

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٥ من أحكام العقد ، ح ٦ ، وهذه الصحيحة لها سندان أحدهما صحيح لأنّ الرواية رواها علي بن جعفر في كتابه عن اخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام وبما أن الرواية في كتاب الوسائل وسند صاحب الوسائل الى كتاب علي بن جعفر صحيح باعتبار أنَّ صاحب الوسائل وإن لم يكن له طريق مباشر الى كتاب علي بن جعفر ولكن للشيخ الطوسي طريق معتبر إليه وصاحب الوسائل له طريق معتبر إلى الشيخ الطوسي وبضم هذا الى ذاك يثبت طريق معتبر لصاحب الوسائل الى كتاب علي بن جعفر فتكون الرواية صحيحة.

١٨٢

صحة البيع الأول.

وقد ينقض على هذا الاشكال :

أولاً : في مثل ما إذا اشترط البائع ايجار الدار على شخص ثالث فهو شرط صحيح مع أن شبهة الدور موجودة.

وثانياً : إذا باع الدار بألف بشرط أن توقف الدار على البائع وأولاده وقفاً خاصاً.

وثالثاً : اذا باع شخص داره على آخر نسيئة بشرط أن يرهنه عند البائع على الثمن ، فالشروط هنا صحيحة بلا اشكال مع أنَّ شبهة الدور واردة فيها ، بل هذه النقوص آتية في كل شرط.

وحلّ الاشكال : هو أنَّ الشرط الذي يؤدّي إلى الدور المستحيل هو الشرط الفلسفي الذي هو من أجزاء العلة التامة ، أمّا الشرط هنا فهو شرط معاملي ، وهذا الشرط المعاملي إن كان بمعنى التعليق في العقد على أمر مجهول التحقّق في المستقبل أو معلوم ، فهو باطل كما عن المشهور من عدم امكان الانشاء التعليقي ، وإنّ كان بمعنى الالتزام في ضمن العقد ـ كما هو الصحيح لغة وعرفاً ـ فهو صحيح ، لأنّ الالتزام موجود حين العقد من قبل المشروط عليه ، وبما أن كلامنا هو ( اشتراط التزام ايجار العين في البيع الأول ) فيكون البيع صحيحاً ويجب على المشروط عليه ايجار العين بحيث لو لم يؤجرهَا يكون قد فعل حراماً وبرّر للمشتري فسخ البيع. وبعبارة اُخرى : أنَّ صحة البيع ليست موقوفة على الوفاء بالشرط ، بل يصح البيع حتى مع عدم الوفاء وإنما يترتب على عدم الوفاء بالشرط ثبوت الخيار لافساد البيع.

صيانة العين المستأجرة :

إذا صحَّ ايجار العين أو حمل المتاع الى مكان معين ، فهل يصح لمالك العين أن يشترط على المستأجر صيانة العين من العيوب أو النقص الذي يحصل حين

١٨٣

استعمالها أو حملها ؟ وبعبارة اُخرى هل يجوز أن يضمن الأجير على حمل المتاع أو المستفيد من العين ما يحصل من تلف في العين على أساس ضمان الغرامة ؟

الجواب : لقد ذهب المشهور الى عدم صحة شرط الضمان على المستأجر والأجير ولعلّ أهم دليل على ذلك هو أنّ شرط الضمان على المستأجر هو من الشرط المخالف للسنة القائلة بعدم ضمان الأجير والمستأجر ، ففي صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث : ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة » (١).

وصحيحة الحلبي : « قال سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن رجل تكارى دابة الى مكان معلوم فنفقت الدابة ؟ فقال : إنّ كان جاز الشرط فهو ضامن لأنَّه لم يستوثق منها » (٢) ، وغيرها من الروايات.

وواضح من هذه الروايات : أنَّ الضمان إنّما يكون على المتعدي أو المفرّط ، وفي غير هاتين الصورتين لا ضمان ، فيكون اشتراط الضمان خلاف السُنّة ، وقد يستدل ـ أيضاً ـ على أنَّ اشتراط الضمان على الأجير مخالف للكتاب والسُنَّة بروايات عدم الضمان على الأجير ، فقد روى خالد بن الحجاج قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الملاّح أحمله الطعام ثم أقبضه منه فينقص ؟ قال عليه‌السلام : إنّ كان مأموناً فلا تُضْمِنه » (٣).

والتحقيق : أنَّ ظاهر هذه الروايات التي ترفع الضمان على المستأجر أو الأمين إنّما ترفعه في صورة عدم اشتراط الضمان ، فهي تريد أن ترفع القاعدة المركوزة عند العقلاء ، وهي قاعدة : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » الموجبة للضمان ، فتقول هذه الروايات : إن الأمين إذا ائتمنته على شيء فلا تنطبق قاعدة اليد الارتكازية في

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ٢٣ من احكام الاجارة ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ٢٣ من احكام الاجارة ، ح٢ .

(٣) المصدر السابق : ب ٣٠ من أحكام الاجارة ، ح ٣.

١٨٤

صورة التلف ، وكذا المستأجر العامل أو المستأجر للعين ، ولذا لو قلنا بالضمان في هذه الصورة كان خلافاً للروايات ولكن ما نريد أن نتكلم عنه هو شيءٌ آخر. ويمكن توضيحه ببيانين :

أ ـ إن صاحب العين لا يشترط على المستأجر الضمان واشتغال ذمته ، كي يقال : إن الأمين لا يضمن ، وإنّما يشترط عليه تحمل الخسارة ، ودفع ما يساوي قيمة المقدار التالف. فيقول له هكذا : عند تلف شيء من العين يساوي مئة دينار فاللازم عليك دفع المقدار المذكور من دون أن تكون ذمتك مشغولة به. فالشرط شرط للفعل وليس شرطاً للنتيجة ، فان صاحب العين يشترط تسديد قيمة التالف وما يعادله ، وهذا شرط للفعل وبمثابة الأمر التكليفي ، ولا يشترط الضمان واشتغال الذمّة الذي هو شرط للنتيجة وحكم وضعي.

ب ـ إنَّ أدلة نفي الضمان عن المستأجر ناظرة الى نفي الضمان في حالات عدم اشتراط الضمان ، وإنَّ عقد الإجارة لو خلي ونفسه فهو لا يقتضي الضمان ، وهذا لا ينافي تحقّق الضمان من خلال الاشتراط.

وكلمة اُخرى أنَّ انطباق عنوان الأمين على المستأجر إنما جاء بلحاظ إذن صاحب العين للمستأجر في التصرف فيها ووضع اليد عليها ، فيكون عنوان الأمين منتزعاً من الإذن في التصرف ، وحينئذ إذا كان الإذن في التصرف مقيّداً بالضمان ، فمعنى ذلك أن المستأجر أمين يقبل قوله فيما يدعيه ويصدّق ولكن يضمن إذا حصل تلف سماوي بدون تعدي ولا تفريط حسب الشرط الذي قيّد وضع اليد على المال على أن يكون على وجه الضمان ، وحينئذ يرجع المعنى الارتكازي القائل على اليد ما أخذت حتى تؤدي.

ونحن لا نرى تنافياً بين أن يكون الأجير أو المستأجر مأموناً وبين تضمينه بالشرط في صورة حصول التلف السماوي ، لأدلة نفوذ الشرط ، كصحيحة : « المسلمون عند شروطهم ».

١٨٥

ولكن قد يقال : إنَّ ادلّة نفوذ الشرط غير صالحة لمشروعية الضمان على الأجير الحامل للمتاع أو المستأجر للسلعة ، بل إنَّها تقول إنَّ : « المسلمون عند شروطهم » إنّما يُلزم بالنتائج المشروعة ، وحينئذ نحتاج أولاً الى اثبات مشروعية ضمان الأجير للمال الخارجي ، فإذا ثبت ذلك صحّ تضمينه بصحيحة « المسلمون عند شروطهم ».

والجواب : توجد روايات تدل على صحة شرط الضمان على الأجير ، وهي بنفسها تكون دليلا على صحة شرط الضمان بلا حاجة الى روايات « المسلمون عند شروطهم » ومن هذه الروايات :

١ ـ الروايات الدالة على صحة شرط الضمان على المستعير الأمين ، وإذا صح هذا فلا فرق بينه وبين شرط الضمان على المستأجِر الأمين ، ففي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث قال : « إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلاّ أن يكون اشترط عليه » (١).

وفي حديث أبان عن سلمة عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : « جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى صفوان بن اُمية ، فسأله سلاحاً ثمانين درعاً ، فقال له صفوان : عاريةً مضمونةً أو غصباً ؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل عارية مضمونة » (٢).

٢ ـ صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرجل يبيع للقوم بالأجر وعليه ضمان مالهم ؟ قال عليه‌السلام : إنّما أكره ذلك من أجل أني أخشى أن يغرموه أكثر ممّا يصيب عليهم ، فإذا طابت نفسه فلا بأس » (٣).

وهذه الرواية تنظر الى عمل الدلال الذي يبيع كتب الغير مثلاً ويضمن لهم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١ من كتاب العارية ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١ من كتاب العارية ، ح ٥.

(٣) نفس المصدر السابق : ب ٢٩ من الاجارة ح ١٥.

١٨٦

هذه الكتب في صورة التلف ، وقد أقرّه الإمام عليه‌السلام على هذا الضمان إذا طابت نفسه.

٣ ـ رواية موسى بن بكر عن العبد الصالح ( الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ) قال : « سألته عن رجل استأجر ملاّحاً وحمّله طعاماً في سفينته واشترط عليه إن نقص فعليه ؟ قال عليه‌السلام : إن نقص فعليه » (١).

والنتيجة المتوخّاة من هذا هو صحة أن يؤجر البنك أو الشركة أدواته وسلعه وما تحت يده من عقار بشرط صيانة العين ، وبذلك يطمئن الى أنّ العين مصانة وقد حصل على ربح منها.

٧ ـ التأمين على الديون

إنّ من وظائف البنك اعطاء تسهيلات للعملاء ، ومن هذه التسهيلات القروض التي يقدّمها البنك لعملائه ، وهذه القروض ـ حسب الاحصاءات الاقتصادية ـ سوف يبقى بعضها بدون وفاء ، لذا فإنَّ البنوك الربوية تبرّر أخذ الفائدة كتعويض عن هذه « الديون الميتة » كما تبرر أخذ الفائدة بالنفقات التي تستهلكها البنوك من اُجور الموظفين إضافةً إلى الربح الخالص لرأس المال.

وهنا نريد أن نتساءل عن امكانية أن يتخلص البنك الإسلامي من مشكلة « الديون الميتة » بالتأمين على الأموال التي تقترض منه في السنة ـ مثلاً ـ المقدَّرة بحدٍّ معين. وكذا نتساءل عن امكانية أن يأخذ البنك أجراً على نفقاته التي يبذلها في سبيل انجاز ديون العملاء.

أمّا بالنسبة للربح الخالص لرأس المال فهو الربا المحرم الذي لا يمكن التساؤل عن جوازه.

الجواب : هو امكانية أن يؤمِّن البنك على هذه الديون التي يدفعها الى

__________________

(١) المصدر السابق : ب ٢٧ من الاجارة ، ح ١.

١٨٧

عملائه خلال عام ـ مثلاً ـ بكلفة محددة ، وهذه القروض قد تكون محددة بحدٍّ معين ، وقد تكون محددة بين سطح أعلى أو سطح ادنى ، ولا تضرّ هذه الجهالة في التأمين على هذه القروض ما لم يؤدِّ إلى الخطر ، وقد سبق منّا تحقيق أن التأمين على خطر الموت عقد مستقل يشمله أوفوا بالعقود.

وبالجملة : فإنَّ أنواع التأمين ـ كالتأمين على الحياة ، وعلى المال ، وعلى الحريق ، وعلى الغرق ، وعلى السيارة ، وعلى الطائرة ، وعلى السفينة ، وما شاكل هذه الاُمور التي لا يختلف فيها الحكم الشرعي ـ كلّها جائزة لأنَّ التأمين هو اتفاق بين الشركة وبين المؤمَّن له ( سواء كان شخصاً أو أشخاص ، حقيقي أو اعتباري ) على أن يدفع المؤمَّن له مبلغاً معيناً من المال شهرياً لقاء قيام المؤمِّن بتدارك الخسارة التي تحدث في المؤمَّن عليه على تقدير حدوثها.

وبما أن هذا الاتفاق يشتمل على أركان العقد الأربعة التي هي :

١ ـ الإيجاب من المؤمَّن له.

٢ ـ القبول من المؤمِّن.

٣ ـ المؤمَّن عليه ( الحياة ، الأموال ، الديون ، الحوادث وغيرها ).

٤ ـ قسط التأمين الشهري.

فيمكن تنزيله ـ كما قلنا سابقاً في بحث بطاقات الائتمان ـ منزلة الهبة المعوضة ، لأنَّ المؤمَّن له يهب مبلغاً من المال في كل قسط إلى المؤمِّن ويشترط عليه ضمن العقد أنَّه يقوم بتدارك الخسارة الناجمة عند حدوث حادثة معينة نصّ عليها في الاتفاق ، وعلى هذا يجب على المؤمِّن الوفاء بهذا الشرط ، ولا مانع أن تكون الهبة المشروطة في النتيجة مجانيةً إذا لم يحصل الشرط ، وإذا حصل الشرط فهي هبة معوضة ، كما إذا قال انسان لآخر : أهبُك هذا المال بشرط إن وصلت إلى المدينة المنوّرة ، فتزور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نيابة عني. وهذا معناه أنَّ الموهوب له إن وصل إلى المدينة ولم يكن هناك مانع في طريقه فيجب عليه أن يزور للواهب ، فتكون الهبة معوضة ،

١٨٨

وإن حصل مانع من الوصول إلى المدينة المنورة فتكون الهبة مجانية. وليس من الصحيح القول بأنّ الهبة المعوضة هي بيع فلابدّ فيها من شروطه ، إذ الهبة المعوضة عقد مستقل.

كما يمكن أن يكون هذا العقد عقداً مستقلاً عقلائياً فيشمله ( أوفوا بالعقود ). لأنَّه لا يخرج عن كونه التزاماً في مقابل التزام.

وأمّا من ناحية الشك في حرمة هذا العمل فتجري اصالة الإباحة ( عدم الحرمة ).

وطبعاً إنّما يقدم البنك على أن يؤمِّن على قروضه التي يقرضها لعملائه فيما إذا رأى أن عملية الاقراض بالنسبة له مهمّة وضرورية ، كما أن تحصيل الدين منهم كذلك. والتأمين على الديون أقل كلفة من تلف بعض الديون وبقائها بدون تسديد.

ما يمكن للبنك أن يطلب من عملائه الذين يرغبون في الاقتراض منه أن يؤمِّنوا على هذه القروض عند شركة التأمين ، ويكون طلب البنك من عميله هذا بمثابة كفيل معين لسداد القرض في صورة تخلف المقترض ، وهنا يكون المؤمَّن المقترِض هو الذي يدفع اُجور التأمين لمصلحة البنك ، وبهذا تكون اجرة التأمين من المقترض لشركة التأمين رأساً أو تدفع إلى البنك ليوصلها الى شركة التأمين كوكيل عن المقترض ، وبهذا لا يكون البنك قد اشترط على المقترض مالاً لنفسه غير المال المقترض ، وتخلّص من مشكلة الديون الميتة ، فلا يحتاج الى أخذ الربا كما يفعل البنك الربوي في مقابل تلك الديون.

وقد يُستشكل في هذه العملية لشمول نص الرواية القائلة : « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » لما نحن فيه لأنَّ هذا القرض مع شرط التأمين على الدين لمصلحة البنك يكون قد جرّ نفعاً لشركة التأمين فهو ربا.

والجواب : أنَّ النص القائل « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ينظر إلى النفع

١٨٩

الذي يحصل عليه من نفس عملية الاقراض للمقرض أو لشخص آخر ، أو يحصل من عملية تأجيل القرض ، أمّا ما نحن فيه فعقد التأمين الذي يطلبه البنك لمصلحته هو الذي نفع الشركة ، فهذا النفع للشركة لم يحصل من عملية الاقراض ، وإنّما حصل من عقد التأمين الذي هو ضمان معاملي وعقدي تقوم به الشركة وتتعهد بوفاء المقترض للمقرِض مباشرة أو بوفائها للقرض في حالة عدم وفاء المقترض ، وليس هذا شرطاً ربوياً لأنّ مرجعه إلى الاستيثاق في وفاء الدين ، كما أنَّه ليس أجراً على إنشاء الضمان والدفع في حالة معينة ، بل إنّ الشركة تتعهد بأنّها تقوم بعمليات معينة لأجل أن يفي المقترض بالتزامه ، من قبيل ملاحقته ومطالبته والضغط عليه أو ترغيبه ونصحه وإرشاده الى حسن الوفاء بالعهد والقرض وما الى ذلك من اُمور تؤدّي في النهاية الى تسديد القرض ، وأمّا عملية إنشاء الضمان والتعهد بالمال فهو عمل لا يقابل بالمال ؛ لأنّه لا يبذل في مقابله أجر ، وإنّما الأجر يكون على قيام الشركة بعمليات معينة لتسديد القرض من قبل صاحبه. وإذا تعذر علينا قبول هذه التكييفات للتأمين على الديون فيتمكن البنك للتأمين على ديونه من أخذ ضامن معتبر على السداد في الوقت المحدد ـ بواسطة الشيك الموقّع من قبل الضامن ـ إن لم يقم المدين بالتسديد ، كما يمكن للبنك أن يأخذ أكثر من ضامن لهذا الأمر. كما أن الكمبيالات التي يشتريها الضامن أو المقترض لأجل أن يوقّع عليها الضامن ـ بمعنى تعهده بالسداد إن لم يسدد المدين ـ هي عبارة عن نفس عقد التأمين الذي يحصل فيه المؤمِّن على ربح بواسطة عقد التأمين ، فإن لم نستشكل في النفع الحاصل لبائع الكمبيالة لأجل توثيق الدين فكذلك ينبغي أن لا نستشكل في عقد التأمين الذي فيه نفع للمؤمِّن والذي كان لأجل توثيق الدين.

ثم إنّ من نافلة القول التأكيد على أن البنك يتمكن أن يأخذ أجراً على نفقات إنجاز الديون إلى العملاء لأنَّ هذا الانجاز للديون فيه جملة من العمليات التي تستوجب كتابةً وعملا محترماً يقابل بأجر.

١٩٠

٨ ـ إقتراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أو في نشاط محدود

قد يقوم البنك بإقراض بعض عملائه أو غيرهم مقداراً من المال بشرط أن يتعامل معه في صفقاته التجارية ، فهل في هذا الشرط حرمة ربوية ؟

الجواب : اننا بلا شك نرى أنَّ هذه العملية القرضية إنّما يقصد بها البنك جرّ النفع له ، فهل تشمله الرواية القائلة « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » ؟

ويمكن أن يقال : إنّ النفع الذي هو حرام في عملية القرض بواسطة الشرط هو النفع الذي يوجد من عملية الاقراض أو في مقابل الأجل ـ كما تقدّم ذلك ـ أمّا هذا النفع الذي يذكر في المقام فهو نفع قد حصل في مقابل عقد قام به البنك مع المقترض ، كأن يبيعه سيارة بمبلغ معين (١) كما يحصل البنك على نفس هذا النفع من عملاء آخرين قد تعاملوا معه بدون هذه العملية ، ولهذا يمكن ادّعاء إنصراف كل قرض جرّ نفعاً عن هذه الانتفاعات التي في مقابلها عقد تجاري.

ولم يعدم الفقه الإسلامي من أمثلة لمثل هذه الشروط التي جوّزت هذه العملية ، فمن تلك النصوص حسنة جميل ، قال : « قلت للإمام الصادق عليه‌السلام أصلحك الله اننا نخالط نفراً من أهل السواد فنقرضهم القرض ويصرفون الينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر ، ولنا في ذلك منفعة ؟ قال : لا بأس. ولا أعلمه إلاّ قال : ولولا

__________________

(١) أمّا إذا كان تعامل البنك مع عملية المقترض الذي اشترط عليه التعامل معه يختلف عن العميل الذي لم يقترض منه ولم يوجد بينهما هذا الشرط ، فيكون الربح في الصورة الاُولى عشرين بالمئة وفي الصورة الثانية عشرة بالمئة فهذه العملية من البنك مع شرط التعامل تكون ربا لأنّها دخلت تحت الرواية القائلة « كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا » إذ يكون ما انتفع به البنك في العقد عشرة بالمئة والعشرة الثانية من عملية القرض أو في مقابل الأجل.

١٩١

ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم ، قال : لا بأس » (١) بناءً على أنَّ جملة ولولا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم هي عبارة عن شرط صريح في ضمن عقد القرض أو شرط ارتكازي قام عليه عقد القرض.

وبعبارة اُخرى : الروايات تحرم أن يكون القرض هو الذي جرّ النفع مباشرة بواسطة الشرط ، ونحن وإن قبلنا أن « جارَّ الجار جارٌّ » فإذا جر القرض بيعاً والبيع جرّ نفعاً فهو داخل عقلاً في جرّ القرض للنفع ، إلاّ أن هذا منصرف عن الروايات التي معناها العرفي هو أن يكون القرض هو الجارّ للنفع مباشرة ، ولهذا ينبغي يكون معنى القرض الذي يجرّ منفعة الذي نَصِفُه بالربا هو ما كانت المنفعة مشترطة فيه ولم تكن في مقابل عمل يبذله المقرض.

ثم إذا حكَّمنا الأصل العملي عند الشك ، فالجواز بمعنى عدم الحرمة هو الجاري في المقام ، وترتب الأثر على هذا العقد يكون بالتمسّك بإطلاق ( أوفوا بالعقود ).

٩ ـ بيع الدين ( خصم الكمبيالات أو الشيكات )

لقد تقدّم منا في بحث « بيع التقسيط » (٢) جواز بيع الدين بأقل منه حالا ، وبما أنَّ الكمبيالة الحقيقية أو الشيك الحقيقي الذي يعبّر عن وجود قرض واقعي قد استلمه موقّع الشيك أو موقّع الكمبيالة ، فيكون الدائن هو من كتبت باسمه هذه الوثيقة ( السند ) لإثبات أنَّ المبلغ الذي تتضمّنه دين في ذمة موقِّعها لمن كتبت باسمه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ، ب ١٩ من الدين ، ح ١٢ وإنّما عبّرنا عنها بالحسنة لأنّ طريق الشيخ الطوسي الس محمد بن أبي عمير حسن ، وقد عبّر عنها بالمرسلة لوجود طريق الصدوق بإسناده عن جميل بن دراج عن رجل. اذن الرواية لها طريقان أولهما حسن ، فهي حجّة عند مَنْ يعتبر الحَسَن.

(٢) البحث المقدّم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة سنة ١٤١٣ ه‍ ق.

١٩٢

وهذه السندات لم تعتبر لها مالية كالأوراق النقدية ، بل هي مجرد سند إثبات ، فالمشتري عندما يشتري سلعة ويدفع الشيك أو الكمبيالة فهو لم يدفع ثمن البضاعة ، بخلاف ما إذا دفع ورقة نقدية.

ولذا لو ضاعت الكمبيالة أو ضاع الشيك أو احترق عند البائع لم تفرغ ذمة المشتري ، بخلاف ما إذا احترق الورق النقدي الذي دفعه المشتري إلى البائع أو سُرِق أو ضاع.

وعلى هذا يتبيّن أنَّ الشيك أو الكمبيالة هي : عبارة عن سند يثبت أن ذمّة الموقّع عليه مدينة بقدر المبلغ لمن صدر السند بأسمه. وعلى هذا فلا يوجد مانع من صحة بيع هذا الدين الكلي في ذمّة المصدِّر بأقل منه حالا للمصدِّر أو لغيره ، وقد قلنا فيما سبق إنّ هذا عقد يشمله ( أوفوا بالعقود ) أمّا إذا كان الثمن مؤجلا فهو لا يجوز ، بناءً على صدق بيع الدين بالدين هنا المنهي عنه.

ولا بأس بالتنبيه الى أن صحة هذا العقد مشروطة بشروط :

١ ـ أنْ لا يكون الدين من الذهب أو الفضة أو كل مكيل أو موزون ، لثبوت النهي عن بيع المكيل والموزون بأقل منه أو بأكثر.

٢ ـ أنْ لا يكون البيع نسيئة.

وبما أن بيع الكمبيالة التي هي عبارة عن دين على ذمّة شخص ، بأوراق نقدية والبيع حالا فهو أمر جائز لا يشمله المنع ويشمله ( أوفوا بالعقود ) والروايات المؤيّدة لصحة هذا البيع ، ولكن ننبه الى أنَّ عملية بيع الدين بأقل منه تقترن بها مسؤولية المستفيد من البيع عن وفاء المدين للدين ، وعن وفاء المستفيد للبنك عند عدم وفاء محرِّر الكمبيالة أو الشيك ، ولذا نحتاج الى تخريج لهذه المسؤولية ، ولهذا نقول : يمكن تخريجها على أساس أن المستفيد ( البائع ) تعهد أمام البنك أو أمام المشتري بوفاء المدين للدين ، ووفائه هو عند عدم وفاء المحرر ، فيقبل المشتري ، ويكفي أنْ يصدق العقد على هذا التعهد وهذا القبول لأنّه يعتبر عقلائياً تحت

١٩٣

سلطانهما معاً ، كما في الهبة التي اعتبرناها عقداً مع أنَّها مشتملة على تصرف الواهب مع قبول الموهوب له.

فتبين أن عملية بيع الدين بأقل منه هي عبارة عن عقدين :

الأول : بيع المستفيد من الشيك أو الكمبيالة التي تعبّر عن دين حقيقي في ذمّة مصدِّرها للمشتري بثمن أقل من الدين حالاً.

والثاني : تعهد وعقد من المستفيد بأداء المدين للمبلغ إلى المشتري ، وأداؤه هو عند عدم وفاء محرّر الكمبيالة.

وهذا التعهد من المستفيد عقد ضمان صحيح شرعي ، دليله الارتكاز العقلائي مع ( أوفوا بالعقود ) ، وهو يختلف عن الضمان الذي هو ضم مسؤولية إلى مسؤولية ، أو نقل الدين من ذمّة الى ذمّة ، بل هو شيء آخر ينتهي الى استحقاق المشتري للمطالبة من الضامن فيما إذا امتنع المدين عن الوفاء لأنَّ هذا الامتناع معناه : أنَّ ما تعهد به الضامن ـ وهو اداء الدين للمشتري ـ لم يتحقّق ، بل تلف على المشتري ، وحينئذ يكون مضموناً على من تعهد به.

والجدير بالاضافة هنا هو : أن مجمع الفقه الإسلامي قد قرر في دورته الثامنة جواز الأخذ برخص المذاهب فيما إذا كانت هناك حاجة الى هذا الأخذ لا لمجرد التلهي ، وهذه الرخصة قال بها الإمامية ، فيمكن للبنك أو للمشتري لهذه السندات التي تمثّل ديناً حقيقياً في ذمة موقّعها من شراء هذه الديون الحقيقية بثمن أقل حالاً. وبهذا يكون للبنك الإسلامي أداة من أدوات الربح الشرعي والابتعاد عن الربا ، فيتمكن من شراء الديون التي في ذمّة الآخرين بأقل من قيمتها حالا ، كما يتمكن من بيع دينه على ذمّة الآخرين بالأقل إذا احتاج إلى السيولة النقدية.

أمّا إذا كان السند الذي وقَّعه شخص لآخر ( شيكاً أو كمبيالة ) صورياً ولا يحكي عن وجود دين في ذمّة الموقع ـ وهو المسمى بالسند الصوري وكمبيالة المجاملة ـ وتقدم المستفيد لخصم قيمته من البنك أو من فرد آخر ، فحقيقته هو

١٩٤

اقراض من البنك للمستفيد ، وتحويل المستفيد البنك الدائن على الموقع ، وهذا من الحوالة على البريء ، وعلى هذا فسوف يكون اقتطاع البنك شيئاً من قيمة الكمبيالة لقاء المدة الباقية محرَّم لأنّه ربا.

١٠ ـ الأوراق المالية : « اجرتها ، اقراضها ، رهنها »

الأوراق المالية المقصودة هنا بالبحث هي الأسهم والسندات :

١ ـ السهم : ونقصد به الصك الذي يمثل جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة يزيد وينقص تبعاً لرواجها وعدمه ، وقد يسمى عند الاقتصاديين نصيباً أيضاً ، ولذا يعرّف بأنّه : نصيب المساهم في شركة من شركات الأموال ، أو الجزء الذي ينقسم على قيمته مجموع رأس مال الشركة ، وكلامنا هنا يدور حول الأسهم العادية المتساوية القيمة والحقوق والواجبات وكانت تدور في نطاق المباحات.

٢ ـ السند : وهو صك يمثل جزءاً من قروض الحكومة أو الهيئات الرسمية أو غير الرسمية ، فيصدر الصك بقيمة ألف دينار الى أجل محدَّد ولكنه يباع بتسعمائة دينار نقداً ، وحينئذ يكون السند في حقيقته وثيقة بدين مع التزام المصدِّر بدفع نصيب من الفائدة في تاريخ محدد.

ثم إنّ هذه الأوراق ( السهم والسند ) تصدر بقيمة محددة ، ولكنَّ اسعارها تتغيّر بعد ذلك كبقية السلع ، مثلاً السهم له ثلاث قيم :

١ ـ القيمة الأسمية : وهي التي تحدد للسهم عند انشاء الشركة ، فيكون مجموع القيم الاسمية يساوي رأس مال الشركة عند انشائها.

٢ ـ القيمة الحقيقية : وهي عبارة عن نصيب السهم من صافي اُصول الشركة بعد اعادة تقديرها وفقاً للاسعار الجارية بعد ملاحظة الارباح والديون.

٣ ـ القيمة السوقية : وهي عبارة عن القيمة التي يباع بها السهم ، وهذه القيمة

١٩٥

مرتبطة بنجاح الشركة أو فشلها وبحسب رأس مالها الاحتياطي والظروف والأزمات المالية والسياسية والرغبة والدعاية وغير هذه الأمور ممّا هو دخيل في قيمة السهم السوقية.

وهكذا الأمر بالنسبة للسندات ، فإنّ اسعارها تتغيّر بعد ذلك ، فيكون لها قيمة سوقية غير قيمتها الاسمية التي اشتريت بها (١).

ولهذا السبب فإنَّ الناس ـ بما فيهم البنك أو الشركات ـ يقبلون على شرائها لغرض الربح الذي ينتج من الفرق بين قيمة الشراء والبيع ، كما أن الاحتفاظ بها يكون عبارة عن سيولة ، حيث يمكن تحويلها الى نقد بسرعة ، فهل هذا العمل صحيح شرعاً ؟

الجواب : يوجد فرق بين السهم والسند ، فالسهم الذي يمثّل جزءاً من رأس مال الشركة المساهمة يكون بيعه وشراؤه جائزاً إذا كانت هذه الشركة تدور اعمالها في نطاق المباحات ، لأنَّ هذا السهم يمثل جزءاً من أعيان الشركة يجوز بيعه بأيّ ثمن أراد البائع بيعه.

أمّا بالنسبة إلى السندات ففي واقعها هي ربا محرّم يمنع من التعامل به إلاّ في حدود خاصة وهي :

__________________

(١) هناك اشتراك بين الأسهم والسندات في تساوي القيمة الأسمية لكل فئة ، وقابليتها للتداول وعدم قابليتها للتجزء ، ومع هذا يوجد فرق بين السند والسهم يتلخّص في هذه الأمور :

أ ـ السند يعتبر شهادة دين على الشركة بينما السهم هو جزء من رأس المال.

ب ـ السند يحصل صاحبه على الربا من دون أن يرتبط بربح الشركة أو خسارتها بخلاف السهم.

ج ـ صاحب السند لا يشارك في إدارة الشركة بخلاف صاحب السهم.

د ـ يحصل صاحب السند على قيمة سهمه وفوائده في الوقت المحدّد بخلاف صاحب السهم الذي ينتظر عادة تصفية الشركة للحصول على سائر أمواله.

ه‍ ـ صاحب السند له ضمان على موجودات الشركة فيحصل على حقّه في حالات التصفية مقدّماً على صاحب السهم.

١٩٦

١ ـ شراء سندات صدرت من أشخاص لا يؤمنون بالإسلام.

٢ ـ شراء سندات صدرت من بنوك حكومات لا تؤمن بالإسلام.

والسبب في هذا المخرج هو ما ورد من الفتاوى والنصوص (١) التي تجوِّز التعامل بالربا مع الكافرين ( الذمي بشرط أن نأخذ منه الزيادة ) وهذه النصوص وإن كانت ضعيفة السند ولكن أخذ بها كل علماء الإمامية الذين يرون الشهرة الفتوائية جابرة لضعف السند (٢). وذهب الى هذا القول بعض علماء المسلمين من غير الإمامية كالامام الحنفي. وأرى أنَّه على وفق القاعدة إذا نظرنا الى حكم الكافر غير الذمّي ( الحربي ) الذي جوّز لنا الشارع قتله ، فكيف بأخذ المال منه بطريقة سلمية وباختياره !!

وعلى كل حال فإنْ كان بيع هذه الأوراق صحيحاً بالقيود التي ذكرت له ، فهل يمكن للبنك أن يقوم بالتوسط لبيعها أو شرائها ؟

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ب ٧ من أبواب الربا ، ح ٢ و ح ٣ و ح ٥.

(٢) أمّا الإمام الخوئي ; الذي لا يقول بأنّ عمل المشهور الفتوائي جابر لضعف سند الرواية ( حسب ما حقّقه في الاُصول ) فقد ذكر « جواز أخذ الربا من الكافر الحربي بعد وقوع المعاملة من باب الاستنقاذ » في رسالته العملية « منهاج الصالحين : ج ٢ ، ص ٦١ مسألة ٢١٨ » فكأنّه يفرق بين الحكم الوضعي والتكليفي فقال بجواز أخذ الربا وضعاً بعد تمامية المعاملة ، أمّا نفس المعاملة الربوية مع الكافر الحربي فهي محرمة لأنّه تمسك بإطلاق « حَرَّم الربا ».

ولكن الصحيح أن « حَرَّم الربا » غير شامل للحربي ، حيث أن الحرمة إنّما تكون لمن كان لماله حرمة بحيث لا يجوز التصرف فيه ، وأمّا الحربي الذي حكمه القتل فهو مهدور الدم فلا حرمة لدمه فضلا عن ماله فلا تشمله « حَرَّم الربا » فتكون منصرفة عنه ، وبهذا يكون أخذ الزيادة منه جائزاً بلا حاجة الى نص خاص وقد يقال : إنَّ دعوى الانصراف توجب الالتزام بجواز احراق أموال الكافر أو القائها في البحر باعتبار عدم حرمتها ، ولكن هذا لا يجوز لأنّه تبذير ، وحرمة التبذير لا تتأثر بعدم حرمة المال.

والجواب : ان الانصراف المدعى هو لعدم حرمتها بحيث لا يجوز التصرّف فيها ، أمّا التصرف بنحو تكون حراماً من ناحية ثانية فهو أمر آخر.

١٩٧

والجواب : أنَّ عملاء البنوك عندما يأمرون البنوك بشراء كمية من هذه الأوراق أو بيعها لهم ، يقوم البنك ـ بعد التأكّد من سلامة هذه الطلبات ـ بالاتصال بالبورصة مباشرة عن طريق ممثله أو بواسطة سماسرة الأوراق المالية ، لأجل الوقوف على سعر الأوراق لإنجاز عملية البيع أو الشراء بالسعر المتفق عليه ، والبنك من حقه أن يطلب أجراً أو جعلا على هذه العملية المشروعة.

ولا بأس بالتنبيه على أن بيع أو شراء هذه الأسهم إنّما يكون بعد تكوّن الشركة كلها أو أغلبها من العينيات ( السلع والعروض ) وإن كان اساسها من النقد ، بناءً على أنَّ العبرة بالغالب لا بالقليل والتابع.

وأمّا إذا كانت هذه الشركة تتعامل بالأوراق النقديّة فقط أو كان غالب عملها هو هذا ، فهل يجوز بيع السهم وشراؤه ؟ الجواب : نعم يصح إذا باع سهمه الذي هو من الأوراق النقدية المختلفة بورق نقدي واحد نقداً أو نسيئة ، حيث لا نشترط التقابض هنا ، كما ذهب الى ذلك المشهور ـ كما سيتّضح عند بحثنا للأوراق النقدية.

أمّا بيع ورقة ونقده بنفس الورق فالارتكاز العرفي يقول : بأنَّه قرض لا يجوز الزيادة في رده ولو نسيئة.

وهنا قد يطرح سؤال آخر ـ وهو المقصود بالبحث ـ وهو :

هل يجوز تأجير الأسهم ؟ وهل يجوز اقراضها ؟ وهل يجوز رهنها وإعارتها ؟

أمّا بالنسبة لتأجير السهم ، الذي هو : عبارة عن حصة من الشركة مشاعة ، فقد ذكر الفقهاء : « أن كل ما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه ، تصح إعارته وإجارته ، وينعكس في الاجارة كلياً دون الاعارة ، لجواز إعارة المنحة (١) مع أن المقصود منها هو اللبن ، ولا تبقى عينه ، ولا تصح اجارتها لذلك » (٢) بعد أن كان ذلك بدليل ،

__________________

(١) المنحة : هي الناقة التي تستعار للبنها.

(٢) شرح اللمعة الدمشقية ، للشهيد الثاني : ج ٤ ، ص ٣٣١ ( كتاب الاجارة ).

١٩٨

ولا يفرق فقهاء الإمامية بين الملك الخاص المتميز والمشاع حيث يمكن استيفاء المنفعة من الملك المشاع بموافقة الشريك ، فيدخل تحت قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود ) وتشمله ـ أيضاً ـ خصوص اطلاقات الاجارة.

نعم لا تسلّم العين إلى المستأجر إلاّ بإذن الشريك ، ولو أبى الشريك الإذن ، رفع المالك أمره إلى الحاكم الشرعي ليجبره على الإذن أو يأذن الحاكم الشرعي في التصرف إذا عاند الشريك.

نقول : إنَّ كلامنا في تأجير السهم الذي هو حصة مشاعة من الشركة التي تعمل وفق إدارة لها ، وبما أن المستأجِر للسهم لا يريد استلام العين التي استأجرها ، بل يريد أن ينتفع بحاصلها الذي يُعلم في ضمن سنة مثلاً ، فقد انتفى مشكل تسليم العين إلى المستأجر إذا لم يوافق الشريك ، وقد عرفنا أنَّه لا يمنع من صحة الاجارة للمشاع.

ولكن لا يتمكن هذا المستأجر لهذه الحصة أن يؤجرها الى غيره بأكثر مما استأجرها ، ليأخذ الفارق بين الأجرتين بدون عمل يبرر هذا الأخذ ، وهذا يختلف عن حصول المستأجر على ربح السهم المشاع إذا سُلِّم إليه وكان أكثر من مال الاجارة ، إذ أنَّ المستأجر قد استحق حصة السهم المشاع من الربح المتلبس بالأعيان ، وقد قُدِّرت هذه بالنقد الورقي ، فكأنَّ المستأجر حينما يستلم النقد الورقي قد باع ربح السهم المشاع الذي استأجره ، والمتلبس بالأعيان بالنقد الورقي أو بادله بذلك فلا ينطبق عليه أنَّه ربح بدون عمل ، بل انَّ أمواله النقدية قد حوّلها الى منافع السهم المشاع ، وقد حصلت وبادلها بالنقد ، فيكون كالمشتري للدار التي يربح من بيعها ولو لم يعمل فيها عملاً.

وأمّا بالنسبة لرهن السهم : فكذلك لا يوجد اشكال في ذلك ، لأنّ رهن السهم عبارة عن رهن الحصة المشاعة من الشركة عند آخر لأجل التوثيق للدين ، ورهن السهم هنا لا يحتاج إلى تسليمه إلى المرهون عنده حتى نحتاج الى رضا

١٩٩

الشركاء ، بل معناه تسجيل الحصّة في قائمة الحصص الممنوعة من البيع والاجارة والهبة والأرث إلاّ بعد سداد الدين للمرتهن الذي رهنت الحصة عنده. وان لم يدفع الراهن ما عليه عند تمامية مدة الدين يكون الحق للمرتهن من بيع هذه الحصة المشاعة وسداد مقدار دينه وارجاع الباقي إلى الراهن ، وهذا شيء صحيح يجري في كلّ عين مرهونة سواءٌ كانت محددة ومشخّصة أو مشاعة ، وقد ذكر الفقهاء في شرط الرهن : « أن يكون عيناً مملوكة يمكن قبضها ويصح بيعها » (١).

وعلى هذا فهل يمكن قبض الحصة المشاعة ؟

الجواب : نعم يصح قبضها بإذن الشريك ، فيقبض المرتهن الحصة المشاعة ويمنع الراهن من التصرف فيها الى سداد الدين وفك الرهن.

أمّا بالنسبة لاقراض هذه الأسهم للغير ، فلا تخرج عن كونها إمّا أن تحسب من الأعيان المثلية أو القيمية ، والقاعدة هي جواز اقراضها للغير وهو معنى تمليكها مع الضمان ، ونطبق عليها قواعد القرض ، فإنْ كانت مثلية فيجب عليه إرجاع مثلها ، وإن كانت قيمية فيجب عليه ارجاع قيمتها حين اقترضها كما هي القاعدة في باب القرض.

والخلاصة : أنّ السهم الذي هو عبارة عن حصَّة مشاعة في الشركة يترتب عليه جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك ، من بيع وهبة وإعارة وإرث وإجارة وغيرها. ولا نحتاج لأجل إحكام العقد الذي حصل بين المالك والمشتري والواهب والمستأجر مثلاً من قبول الجهة المصدِّرة للسهم البائعة له بعد أن كان السهم ملكاً لغير هذه الجهة إلاّ إذا اشترطت الجهة المصدِّرة والبائعة له أن يكون الانتقال بإذنها ، فإنَّ « المسلمون عند شروطهم » يوجب أخذ الإذن من الشركة في كل هذه التصرفات إلاّ الارث الذي هو حكم شرعي نافذ ولو بدون رضا المصدِّر

__________________

(١) المصدر السابق : ص ٦٥ كتاب الرهن.

٢٠٠