تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

(١) تمّ فى هذا الصلح ما يسمونه فى العصر الحديث (جسّ النبض) لمعرفة قوة العدو ومقدار كفايته وإلى أىّ حد هى.

(٢) معرفة صادقى الإيمان من المنافقين كما علم ذلك من المخلفين فيما يأتى.

(٣) إن اختلاط المسلمين بالمشركين حبب الإسلام إلى قلوب كثير منهم فدخلوا فى دين الله أفواجا.

مبينا : أي بيّنا ظاهر الأمر مكشوف الحال.

المعنى الجملي

نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه صلى الله عليه وسلّم من الحديبية فى ذى القعدة من سنة ست من الهجرة ، لما صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام وحالوا بينه وبين قضاء عمرته ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتى من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكرّه من جماعة من الصحابة كعمر ابن الخطاب رضى الله عنه ، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل هذا الصلح فتحا لما فيه من المصلحة ، ولما آل إليه أمره ؛ فقد روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعدّ الفتح صلح الحديبية. وروى البخاري «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسير فى بعض أسفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شىء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك يا عمر ، كررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فىّ قرآن ، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فىّ قرآن ، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علىّ سورة لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً».

٨١

وفى صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ـ إلى قوله : فَوْزاً عَظِيماً» مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحروا الهدى بالحديبية ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم ، لقد أنزلت علىّ آية هى أحب إلىّ من الدنيا جميعها».

هذا ، ولما كان لكل عامل ثمرة يجنيها من عمله ، وغاية يبتغيها منه ـ كان للنبوّة نهاية مطلوبة فى هذه الحياة وثمرة تتبع هذه النهاية ، فنهاية أمر النبوة أن تلتئم الأمور ويجتمع شملها ، وتكمل نظمها التي تبنى عليها الحياة الهنية حتى يعيش العالم فى طمأنينة وهدوء ، ولن يتم ذلك إلا بعد بث الدعوة والجهاد العلمي والعملي بقتال الأعداء وخضد شوكتهم ، ومتى تمّ هذا وأنقذ المستضعفون ودخل الناس فى دين الله أفواجا كرها ثم طوعا انتظم أمر النبوة ، وأدى الرسول واجبه واستوجب أن يجنى ثمرة أعماله ، وهى :

(١) مغفرة ما فرط من ذنبه مما يعدّ ذنبا بالنظر إلى مقامه الشريف.

(٢) تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة بعد أن كانت له النبوة وحدها.

(٣) الهداية إلى الصراط المستقيم فى تبليغ الرسالة ، وإقامة مراسم الرياسة.

(٤) المنعة والعزة ونفاذ الكلمة ورهبة الجانب وحمى الذمار.

فهذا الفتح كان كفيلا بهذه الشئون الأربعة ، فكأنه سبحانه يقول لرسوله :

لقد بلّغت الرسالة ، ونصبت فى العمل ، وجاهدت بلسانك وسيفك ، وجمعت الرجال والكراع والسلاح ، وتلطفت وأغلظت ، وأخلصت فى عملك ، وفعلت فى وجيز الزمن ما لم ينله مثلك فى طويله ، حتى تمّ ماندبناك له ، فلتجن ثمار عملك ، ولتقرّ عينا بما آل إليه أمرك فى الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي إنا فتحنا لك فتحا ظاهرا لا يختلج فيه شك بذلك الصلح الذي تم على يديك فى الحديبية ، إذ لم يمض إلا القليل من الزمن حتى

٨٢

دخل الناس فى دين الله أفواجا ، وكان هو السّلّم الذي فيه رقيت إلى فتح مكة ، وتسابق العرب إلى الدخول فى الدين زرافات ووحدانا.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي ليغفر لك ربك جميع ما فرط منك من الهفوات مما يصح أن يسمى ذنبا بالنظر إلى مقامك الشريف ، وإن كان لا يسمى ذنبا بالنظر إلى سواك ، ومن ثم قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

والمراد غفران الذنوب التي قبل الرسالة والتي بعدها ، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال : «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلى حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟

قال : أفلا أكون عبدا شكورا؟».

قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ـ قلت لم يجعله علة للمغفرة ، ولكنه جعله علة لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة ، وهى المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ، لنجمع لك بين عز الدارين ، وأغراض الآجل والعاجل اه.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء شأن دينك ، وانتشاره فى البلاد ، ورفع ذكرك فى الدنيا والآخرة.

(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه ، يستقيم بك إلى رضا ربك.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي وينصرك على من ناوأك من أعدائك نصرا ذا عزّ بالغ ، لا يدفعه دافع ، لما يؤيدك به من بأس ، وينيلك من ظفر.

٨٣

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

تفسير المفردات

أنزل السكينة : أي خلقها وأوجدها ، قال الراغب : إنزال الله تعالى نعمته على عبد : إعطاؤه إياها ، إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن ، أو بإنزال أسبابه بالهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه اه. والسكينة : الطمأنينة والثبات من السكون ، إيمانا مع إيمانهم : أي يقينا مع يقينهم ، جنود السموات والأرض : أي الأسباب السماوية والأرضية ، ويكفر عنهم سيئاتهم : أي يغطيها ولا يظهرها ، والسوء : (بالضم والفتح) : المساءة ، وظن السوء : أي ظن الأمر السوء فيقولون فى أنفسهم : لا ينصر الله رسوله والمؤمنين ، عليهم دائرة السوء. الدائرة فى الأصل الحادثة التي تحيط بمن وقعت عليه ، وكثر استعمالها فى المكروه ، والسوء : العذاب والهزيمة والشر (وهو بالضم والفتح لغتان) وقال سيبويه : السوء هنا الفساد ، أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم ، لعنهم : أي طردهم طردا نزلوا به إلى الحضيض ، عزيزا : أي يغلب ولا يغلب.

٨٤

المعنى الجملي

بعد أن أخبر سبحانه بأنه سينصر رسله ـ بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينا إلى يقينهم ، ثم أخبر بأن من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض ، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس ، وقد وعد المؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار وأوعد عباده الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمؤمنين ـ بالعذاب الأليم ، وغضب عليهم وطردهم من رحمته.

روى أحمد عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لقد أنزلت علىّ آية أحب إلىّ مما على وجه الأرض» ثم قرأها عليهم ، فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله ، لقد بيّن لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ـ حتى بلغ ـ فَوْزاً عَظِيماً» وأخرجه الشيخان من رواية قتادة.

الإيضاح

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي هو الذي أنزل فى قلوب المؤمنين طمأنينة وثبات أقدام عند اللقاء ومقاتلة الأعداء (وهو المسمى فى العصر الحديث الروح المعنوية فى الجيوش) ليزدادوا يقينا فى دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوى الأحلام ، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم ، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن راضيا عن هذا الصلح وقال : ألسنا على الحق

٨٥

وهم على الباطل؟ وكان للصديق من القدم الثابتة ورسوخ الإيمان ما دل على أنه لا يجارى ولا يبارى.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يدبر أمر العالم ، ويسلط بعض جنده على بعض ، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق ، ويجعل آخرين يقاتلون فى سبيل الشيطان ، ولو شاء لأرسل عليهم جندا من السماء فأباد خضراءهم ، لكنه سبحانه شرع الجهاد والقتال ، لما فى ذلك من مصلحة هو عليم بها ، وحكمة قد تغيب عنا ، وهذا ما عناه بقوله :

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي وإنما دبر ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله ويشكروها فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا ، وليكفر عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها ، شكرا لربهم على ما أنعم به عليهم ، وكان ذلك ظفرا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له ، ونجاة مما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم ، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة ، ومضرة مدفوعة.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي وليعذب هؤلاء فى الدنيا بإيصال الهمّ والغمّ إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبما يشاهدونه من ظهور الإسلام وقهر المخالفين ، وبتسليط النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا ، وفى الآخرة بعذاب جهنم.

وهم قد كانوا يظنون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سيغلب ، وأن كلمة الكفر ستعلو كلمة الإسلام ، ومما ظنوه ما حكاه الله بقوله : «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً».

وإنما قدم المنافقين على المشركين ، لأنهم كانوا أشد ضررا على المؤمنين من الكفار المجاهرين ، لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر ، ويخالط المنافق لظنه إيمانه ،

٨٦

وكان يفشى سره إليه ، وفى هذا دلالة على أنهم أشد منهم عذابا ، وأحق منهم بما أوعدهم الله به.

والخلاصة ـ إن الفريقين ظنوا أن الله لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين.

وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنونه بالمؤمنين من الدوائر وأحداث الزمان فقال :

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم تدور الدوائر ، وسيحيق بهم ما كانوا يتربصونه بالمؤمنين من قتل وسبى وأسر لا يتخطاهم.

ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة فقال :

(وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ونالهم غضب من الله وأبعدهم فأقصاهم من رحمته ، وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة ، وساءت منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن ، والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق ونحو ذلك ـ أنصارا على أعدائه إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم وسارعوا مطيعين لذلك.

وفائدة إعادة هذه الجملة ـ بيان أن لله جنودا للرحمة وجنودا للعذاب ، فذكرهم أوّلا بيانا لإنزالهم للرحمة ، وأنهم يدخلون الجنة مكرمين معظمين ، وذكرهم ثانيا بيانا لإنزال العذاب على الكافرين فى نار جهنم كما قال : «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ».

روى أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبىّ : أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ ، فأين فارس والروم ـ فبيّن سبحانه أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي وكان الله غالبا فلا يرد بأسه ، حكيما فيما دبره لخلقه.

٨٧

خلاصة ما سلف

إنه قد ترتب على هذا الفتح أربعة أشياء للنبى صلّى الله عليه وسلم :

(١) مغفرة الذنوب.

(٢) اجتماع الملك والنبوّة.

(٣) الهداية إلى الصراط المستقيم.

(٤) العزة والمنعة.

وفاز المؤمنون بأربعة أشياء :

(١) الطمأنينة والوقار.

(٢) ازدياد الإيمان.

(٣) دخول الجنات.

(٤) تكفير السيئات.

وجازى الكفار بأربعة أشياء :

(١) العذاب.

(٢) الغضب.

(٣) اللعنة.

(٤) دخول جهنم.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

٨٨

تفسير المفردات

شاهدا : أي على أمتك لقوله تعالى : «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ» ومبشرا : أي بالثواب على الطاعة ، ونذيرا : أي بالعذاب على المعصية ، وتعزروه :

أي تنصروه ، وتوقروه : أي تعظموه ، بكرة : أي أول النهار ، وأصيلا : أي آخر النهار ، والمراد جميع النهار ، إذ من سنن العرب أن يذكروا طرفى الشيء ويريدوا جميعه ، كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا ، يبايعونك : أي يوم الحديبية إذ بايعوه على الموت فى نصرته والذبّ عنه كما روى عن سلمة بن الأكوع وغيره ، أو على ألا يفروا من قريش كما روى عن ابن عمر وجابر ، إنما يبايعون الله ، لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة الله وامتثال أوامره ، يد الله فوق أيديهم : أي نصرته إياهم أعلى وأقوى من نصرتهم إياه ، كما يقال اليد لفلان : أي الغلبة والنصرة له ، نكث : أي نقض ، يقال أوفى بالعهد ووفى به : إذا أتمه ، وقرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء ، وضمها حفص ، لأنها هاء هو وهى مضمومة فاستصحب ذلك كما فى له وضربه.

المعنى الجملي

بعد أن أتم الكلام على ما لكلّ من النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من الثمرات التي ترتبت على عمله ـ أعقبه بما يعمهما معا ، فذكر أنه أرسل رسوله شاهدا على أمته ، ومبشرا لها بالثواب ، ومنذرا إياها بالعقاب ، ثم أبان أن فائدة هذا الإرسال هو الإيمان بالله وتعظيمه وتسبيحه غدوة وعشيا ونصرة دينه ، ثم ذكر بيعة الحديبية (قرية صغيرة على أقل من مرحلة من مكة ، سميت باسم بئر هناك) وأن الذين بايعوا هذه البيعة إنما بايعوا الله ونصروا دينه ، وأن من نقض منهم العهد فوبال ذلك عائد إليه ، ولا يضرنّ إلا نفسه ، ومن أوفى بهذا العهد فسينال الأجر العظيم ، والثواب الجزيل.

٨٩

بيعة الرضوان ـ بيعة الشجرة

سبب هذه البيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية ، فبعثه إلى قريش بمكة ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش (واحدهم أحبوش ، وهو الفوج من قبائل شتى) فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليبعثه ، فقال إنى أخافهم على نفسى ، لما أعرف من عداوتى إياهم وما بمكة عدوىّ (قبيلته بنو عدى) ولكنى أدلّك على رجل هو أعز بها منى وأحب إليهم ـ عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة فجعله فى جواره حتى فرغ من رسالته لعظماء قريش ، ثم احتبسوه عندهم ، فشاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وبايعه القوم على ألا يفرّوا أبدا إلا جدّ بن قيس الأنصاري ، فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الموادعة والصلح ، وكان قد أتى رسول الله أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب ، فتمّ الصلح ومشى بعضهم إلى بعض على أن يحج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العام القابل ويدخل مكة.

روى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيّب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال خمس عشرة مائة ، والمشهور الذي رواه غير واحد أنهم كانوا أربع عشرة مائة.

٩٠

الإيضاح

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي إنا أرسلناك أيها الرسول شاهدا على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه مما أرسلتك به إليهم ، مبشرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيم ، ونذيرا لهم عذاب الله إن تولّوا وأعرضوا عما جئتهم به من عنده ، فآمنوا بالله ورسوله وانصروا دينه وعظموه وسبحوه فى الغدوّ والعشىّ.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أصل البيعة العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للامام والوفاء بالعهد الذي التزمه له ، والمراد بها هنا بيعة الرضوان بالحديبية ، وقد بايعه جماعة من الصحابة على ألا يفروا ، منهم معقل بن يسار ، أي إن الذين يبايعونك بالحديبية من أصحابك على ألا يفروا عند لقاء العدو ، ولا يولّوهم الأدبار ، إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك ، وقد ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى : «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ».

(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي فمن نقض العهد الذي عقده مع النبي صلى الله عليه وسلّم فإن ضرر ذلك راجع إليه ولا يضرّنّ إلا نفسه.

(وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن وفّى بعهد البيعة فله الأجر والثواب فى الآخرة ، وسيدخله جنات يجد فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

٩١

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

تفسير المفردات

المخلفون : واحدهم مخلّف ، وهو المتروك فى المكان خلف الخارجين منه ، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم : أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما فى القلب فهو كذب صراح ، والملك : إمساك بقوة وضبط ؛ تقول ملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما ، ومنه لا أملك رأس بعيري : إذا لم تستطع إمساكه إمساكا تاما ، والمراد بالضر : ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما ، وبالنفع : ما ينفع من حفظ المال والأهل ، ينقلب : أي يرجع ، إلى أهليهم : أي عشائرهم وذوى قرباهم ، بورا : أي هالكين لفساد عقائدكم وسوء نياتكم ، سعيرا : أي نارا مسعورة موقدة ملتهبة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال المنافقين فيما سلف وبين أن الله غضب عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاب السعير ـ أردف ذلك ذكر قبائل من العرب جهينة ومزينة وغفار

٩٢

وأشجع والدّيل وأسلم ـ تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما استنفرهم عام الحديبية حين أراد السير إلى مكة معتمرا ، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا ، واعتلوا بأن أموالهم وأهليهم قد شغلتهم ، لكنهم فى حقيقة أمرهم كانوا ضعاف الإيمان خائفين من مقاتلة قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش ، وقالوا : كيف نذهب إلى قوم قد غزوه فى عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذا السفر ، ففضحهم الله فى هذه الآية وأخبر بأنه أعدّ لهؤلاء وأمثالهم نارا موقدة تطّلع على الأفئدة ، وأعدّ للمؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وهو ذو مغفرة لمن أقلع من ذنبه ، وأناب إلى ربه.

الإيضاح

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي أيها الرسول سيقول لك الذين تخلفوا عن صحبتك والخروج معك فى سفرك حين سرت إلى مكة معتمرا زائرا بيت الله الحرام وعاقبتهم على التخلف : شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا وإصلاح معايشنا وأهلونا ، إذ لم يكن لنا من يقوم بتدبير شئونهم وقضاء حاجهم ، فاطلب لنا المغفرة من ربك ، إذ لم يكن تخلفنا عن عصيان لك ، ولا مخالفة لأمرك.

فرد الله عليهم وكذبهم بقوله :

(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إنهم لم يكونوا صادقين فى اعتذارهم بأن الامتناع كان لهذا السبب ، لأنهم إنما تخلفوا اعتقادا منهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين يغلبون بدليل قوله بعد : «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً».

٩٣

ثم أمر رسوله أن يرد عليهم حين اعتذروا بتلك الأباطيل فقال :

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟) أي قل لهم :

إنكم بعملكم هذا تحترسون من الضرّ وتتركون أمر الله ورسوله وتقعدون طلبا للسلامة ، ولكن لو أراد الله بكم ضرا لا ينفعكم قعودكم شيئا ، أو أراد بكم نفعا فلا رادّ له ، إذ من ذا الذي يمنع من قضائه؟

وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع.

ثم أبان لهم أنه عليم بجميع نواياهم وأن ما أظهروه من العذر هو غير ما أبطنوه من الشك والنفاق فقال :

(بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيعلم أن تخلفكم لم يكن لما أظهرتم من المعاذير ، بل كان شكا ونفاقا كما فصل ذلك بقوله :

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي إن تخلفكم لم يكن لما أبديتم من الأسباب ، بل إنكم اعتقدتم أن الرسول والمؤمنين سيقتلون وتستأصل شأفتهم ، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدا ، وزين لكم الشيطان ذلك الظن حتى قعدتم عن صحبته ، وظننتم أن الله لن ينصر محمدا وصحبه المؤمنين على أعدائهم ، بل سيغلبون ويقتلون ، وبلغ الأمر بكم أن قلتم : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس (قليلو العدد) فأين يذهبون؟

وقد صرتم بما قلتم قوما هلكى لا تصلحون لشىء من الخير ، مستوجبين سخط الله وشديد عقابه.

ثم أخبر سبحانه عما أعدّه للكافرين به فقال :

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي ومن لم يصدق بما أخبر الله به ويقرّ بصدق ما جاء به رسوله من الحق من عنده ، فإنا أعتدنا له سعيرا من النار تستعر عليه فى جهنم إذا وردها يوم القيامة جزاء كفره.

٩٤

ثم بين قدرته على ذلك وأنه يفعل ما يشاء لا رادّ لحكمه ، ولا معقّب لقضائه فقال :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي ولله السلطان والتصرف فى السموات والأرض ، فلا يقدر أحد أن يدفعه عما أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه ، أو منعه من العفو عنكم إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم.

وهذا حسم لأطماعهم فى استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لهم وهم على هذه الحال.

ثم أطمعهم فى مغفرته وعفوه إن تابوا وأنابوا إليه فقال :

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله كثير المغفرة والرحمة ، يختص من يشاء بمغفرته ورحمته دون من عداهم من الكافرين فهم بمعزل عن ذلك.

وفى الآية حثّ لهؤلاء المتخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التوبة والمراجعة إلى أمر الله فى طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطلب المبادرة بها ، فإن الله يغفر للتائبين ويرحمهم إذا أنابوا إليه ، وأخلصوا العمل له.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

تفسير المفردات

المراد بالمغانم : مغانم خيبر ، فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية فى ذى الحجة من سنة خمس وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم ، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية

٩٥

ففتحها وغنم أموالا كثيرة خصهم بها والمراد بتبديل كلام الله الشركة فى المغانم دون أن ينصروا دين الله ويعلوا كلمته ، يفقهون : أي يفهمون والمراد بالفهم القليل فهمهم لأمور الدنيا دون أمور الدين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه اعتذارهم عن التخلف فيما سلف بأنه إنما كان لمعالجة معايشهم وصلاح أموالهم ، وما كان له من سبب آخر يقعدهم عن نصرته ـ أعقب ذلك بما يكذبهم فى هذه المعذرة ، فإنهم قد طلبوا السير مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فى وقعة خيبر لما يتوقعونه من مغانم يأخذونها ، ولو كانت التعلّة السالفة حقا ما طلبوا السير معه بحال.

ثم أخبر بأن الله سبحانه رفض طلبهم الذهاب مع رسول الله إلى خيبر ، فقالوا إن ذلك حسد من المؤمنين لهم أن ينالوا شيئا من الغنيمة ، فرد الله عليهم ما قالوا ، وأبان أنهم قوم ماديون لا يسعون إلا للدنيا ، ولا يفهمون ما يعلى شأن الدين ويرفع قدره.

الإيضاح

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي سيقول لك الذين تخلفوا عنك فى عمرة الحديبية واعتلوا بشغلهم بأموالهم وأهليهم : دعونا نتبعكم ونسر معكم إلى غزو خيبر ، حين توقعوا ما سيكون فيها من مغانم. وفى هذا وعد للمبايعين الموافقين بالغنيمة ، وللمتخلفين المخالفين بالحرمان.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) فإنه تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب ، فقد جاء فى صحيح الأخبار «إن الله وعد

٩٦

أهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم إقناطا وتيئيسا من الذهاب معه إلى خيبر.

(قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تأذن لهم فى الخروج معك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن امتناعهم عن الخروج إلى الحديبية ما حصل إلا لأنهم كانوا يتوقعون المغرم وهو جلاد العدو ومصاولته ، ولا يتوقعون المغنم ، فلما انعكست الآية فى خيبر طلبوا ذلك فعاقبهم الله بطردهم من المغانم.

ثم أكد هذا المنع بقوله :

(كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي هكذا قال الله لنا من قبل مرجعنا من الحديبية إليكم : إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن تتبعونا لأن غنيمتها لغيركم.

ثم أخبر بأنهم سيردون عليك مقالك السابق «كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ» فقال :

(فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي إن الله ما قال ذلك من قبل ، بل أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنما ، ومن ثم منعتمونا.

فردّ عليهم اتهام رسوله وصحبه بالحسد فقال :

(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم تمنعونهم عن اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدو مغنما ، بل إنما كان لأنهم لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا ، ولو فقهوا ما قالوا ذلك لرسوله وللمؤمنين ، بعد أن أخبرهم بأن الله منعهم غنائم خيبر.

وفى هذا إشارة إلى أن ردّهم حكم الله ، وإثبات الحسد لرسوله والمؤمنين ـ ناشىء من الجهل وقلة التدبر.

٩٧

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

تفسير المفردات

قال الزهري ومقاتل وجماعة : المراد بالقوم أولى البأس الشديد بنو حنيفه أصحاب مسيلمة الكذاب ، وقال قتادة : هم هوازن وغطفان ، وقال ابن عباس ومجاهد : هم أهل فارس ، وقال الحسن : هم فارس والروم ، قال ابن جرير : إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم ، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين اه. والبأس : النجدة وشدة المراس فى القتال ، والحرج : الإثم والذنب.

المعنى الجملي

بعد أن رفض سبحانه إشراك المتخلفين فى قتال خيبر عقابا لهم على تقاعدهم عن نصرة الله ورسوله فى الحديبية ـ أردف ذلك بيان أن باب القتال لا يزال مفتوحا أمامكم ، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاء فى ميدان القتال فاستعدوا فستندبون إلى مواجهة قوم أولى بأس ونجدة ، فإما أن يسلموا وإما أن تبارزوهم حتى تبيدوا خضراءهم ولا تبقوا منهم ديّارا ولا نافخ نار ، فإن أجبتم داعى الله أثابكم على ما فعلتم جزيل الأجر ، وإن نكصتم على أعقابكم كما فعلتم من قبل فستجزون العذاب الأليم ،

٩٨

ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد ، ومنها ما هو لازم كالعمى والعرج ، ومنها ما هو عارض يطرأ ويزول كالمرض ، ثم أعقب ذلك بالترغيب فى الجهاد والوعيد بالعذاب الأليم من مذلة فى الدنيا ، ونار موقدة فى الآخرة لمن نكل عنه وأقبل على الدنيا ، وترك ما يقرّ به من ربه.

الإيضاح

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي قل لهؤلاء المخلفين الذين تقدم ذكرهم ـ إنكم ستندبون إلى قتال قوم من أولى البأس والنجدة ، فعليكم أن تخيّروهم بين أمرين : إما السيف ، وإما الإسلام. وهذا حكم عام فى مشركى العرب والمرتدين يجب اتباعه.

ثم وعدهم إذا أجابوا بقوله :

(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) أي فإن تستجيبوا وتنفروا للجهاد وتؤدوا ما طلب منكم أداؤه – يؤتكم ربكم الأجر الحسن ، والثواب الجزيل ، فتنالوا المغانم فى الدنيا ، وتدخلوا الجنة فى الآخرة.

كما أوعد من نكص على عقبه بقوله :

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته ، وتخالفوا أمره ، فتتركوا قتال أولى النجدة والبأس إذا دعيتم إلى قتالهم ، كما عصيتموه فى أمره إياكم بالمسير مع رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة يعذبكم العذاب الأليم بالمذلة فى الدنيا ، والنار فى الآخرة.

ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن القتال فقال :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي لا إثم على ذوى الأعذار إذا تخلفوا عن الجهاد وشهود الحرب مع المؤمنين إذا هم لقوا عدوهم للعلل التي بهم ، والأسباب التي تمنعهم من شهودها كالعمى والعرج والمرض

٩٩

روى أنه لما نزل قوله «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ» الآية. قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله : «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الآية.

وقال مقاتل : عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية.

ثم رغّب سبحانه فى الجهاد وطاعة الله ورسوله ، وأوعد على تركه بقوله :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) أي ومن يطع الله ورسوله فيجيب الداعي إلى حرب أعدائه أهل الشرك دفاعا عن دينه وإعلاء لكلمته ـ يدخله يوم القيامة جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ومن يعص الله ورسوله فيتخلف عن القتال إذا دعى إليه ـ يعذبه عذابا موجعا فى نار جهنم.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

تفسير المفردات

الرضا : ما يقابل السخط ، يقال رضى عنه ورضى به ورضيته ، والمراد بالمؤمنين أهل الحديبية ، ورضاه عنهم لمبايعتهم رسوله صلّى الله عليه وسلم ، والشجرة : سمرة (شجرة طلح ـ وهى المعروفة الآن بالسنط) بايع المؤمنون تحت ظلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما فى قلوبهم : أي من الصدق والإخلاص فى المبايعة ، والسكينة : الطمأنينة والأمن وسكون النفس ، فتحا قريبا : هو فتح خيبر عقب انصرافهم من

١٠٠