تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً؟) أي ومن الناس منافقون يستمعون فلا يعون ما تقول ، ولا يفهمون ما تتلو عليهم من كتاب ربك ، تغافلا عما تدعو إليه من الإيمان ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب الله : ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه؟.

وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول ، وأنه مما لا ينبغى أن يؤبه به ، أو يلقى لمثله سمع.

روى مقاتل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله ابن مسعود ، استهزاء : ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس : وقد سئلت فيمن سئل.

ثم بين سبب استهزائهم وتهاونهم بما سمعوا فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي هؤلاء الذين هذه صفتهم ـ هم الذين ختم الله على قلوبهم ، فلا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا شهواتهم وما دعتهم إليه أنفسهم ، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان.

ثم ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله :

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي والذين اهتدوا بالإيمان واستماع القرآن زادهم الله بصيرة وعلما وشرح صدورهم ، وألهمهم رشدهم ، وأعانهم على تقواه.

ثم بيّن أنهم فى غفلة عن النظر والتأمل فى عاقبة أمرهم فقال :

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي إنه بعد أن قامت الأدلة على وحدانية الله وصدق نبوّة رسوله وأن البعث حق ، وأن الله يهلك

٦١

من كذب رسله ويحل بهم الوبال والنكال كما شاهدوا ذلك فيمن حولهم من الأمم التي أهلكها الله لتكذيبها رسلها ، ولم يبق منها إلا آثارها ، ولم يفدهم كل ذلك شيئا ولم يتعظوا ولم يؤمنوا ـ فماذا ينتظرون للعظة والاعتبار؟ لا ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة إذ جاءت علامتها ، ولم يبق من الأمور الموجبة للتذكر والعظة للإيمان بالله سوى ذلك.

والخلاصة ـ إن البراهين قد نصبت ، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان بالله ، وصدق رسوله ، والبعث والنشور ، وهم لم يؤمنوا ـ فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذ إلا حين مجىء الساعة بغتة ، وهاهى ذى أشراطها قد ظهرت ، ومقدماتها قد بدأت ، ولم يأبهوا بها ، ولا فكروا فى أمرها ، والمراد بيان أنهم بلغوا الغاية فى العناد ، والنهاية فى الاستكبار.

ثم أظهر خطأهم ، وحكم بأن رأيهم آفن فى تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة ، ببيان أن التذكر لا يجدى نفعا حينئذ فقال :

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟) أي فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟

فإن الذكرى لا تنفع حينئذ ، ولا تقبل التوبة ، ولا ينفع الإيمان.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى».

وبعد أن أبان أن الذكرى لا تنفع إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل ـ أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه ، والاستغفار لأتباعه ، فقال :

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وعذاب الكافرين ، فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة ، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك (وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل) وتوجّه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات.

وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول : «اللهم

٦٢

اغفر لى خطيئتى وجهلى وإسرافى فى أمرى وما أنت أعلم به منى اللهم اغفر لى هزلى وجدّى ، وخطئى وعمدى ، وكل ذلك عندى».

وثبت أنه كان يقول فى آخر الصلاة : «اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت وما أنت أعلم به منى ، أنت إلهى لا إله إلا أنت».

وجاء أيضا أنه قال «أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فإنى أستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة».

وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : إنما أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكونى بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون».

وفى الأثر المروي «قال إبليس وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم فى أجسادهم ، فقال الله عز وجل : وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى».

ثم رغبهم سبحانه فى امتثال ما يأمرهم به ، ورهّبهم مما ينهاهم عنه فقال :

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي والله يعلم تصرفكم فى نهاركم ومستقركم فى ليلكم ، فاتقوه واستغفروه ، فهو جدير بأن يتقى ويخشى ، وأن يستغفر ويسترحم.

ونحو الآية قوله : «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» وقوله : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ».

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا

٦٣

عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

تفسير المفردات

لو لا : كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها ، أي هلا أنزلت سورة فى أمر الجهاد ، محكمة : أي بيّنة واضحة لا احتمال فيها لشىء آخر ، مرض : أي ضعف ونفاق ، نظر المغشىّ عليه من الموت : أي كما ينظر المصروع الذي لا يطرف بصره جبنا منه وهلعا ، أولى لهم : أي فويل لهم ، وهو من الولي بمعنى القرب ، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ويقرب منهم ، عزم الأمر : أي جدّ أولو الأمر ، عسى كلمة تدل على توقع حصول ما بعدها ، توليتم أي توليتم أمور الناس. وتأمرتم عليهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه حال المنافقين والكافرين والمؤمنين حين استماع آيات التوحيد والحشر والبعث وغيرها من الأمور التي أوجب الدين علينا اعتقادها بقوله فيما سلف «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» وقوله : «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» ـ أردف هذا فذكر حالهم فى الآيات العملية كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها ، فأبان أن المؤمنين كانوا ينتظرون مجيئها ويرجون نزولها ، وإذا تأخرت كانوا يقولون : هلا أمرنا بشىء من ذلك ، لينالوا ما يقرّبهم من ربهم ويحصلوا على رضوانه والزلفى إليه ، وأن المنافقين كانوا إذا نزل شىء من تلك التكاليف شق عليهم ونظروا نظرة المصروع الذي يشخص بصره خوفا وهلعا. ثم ذكر نتيجة لما سلف ، وفذلكة

٦٤

لما تقدم ، فأعقب هذا بأن الله طرد المنافقين وأبعدهم من الخير ، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين ، وأعمى أبصارهم فلا يسيرون على الصراط المستقيم ، أما المؤمنون فقد رضى عنهم وأرضاهم ، ونالوا محبته ، ودخلوا جنته ، فضلا منه ورحمة ، والله ذو الفضل العظيم.

الإيضاح

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي إن المؤمنين المخلصين فى إيمانهم يشتاقون للوحى ، ونزول آيات الجهاد حرصا على ثوابه ويقولون : هلا أنزلت سورة تأمرنا به ، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة فى الأمر به فرحوا بها ، وشق ذلك على المنافقين ، وشخصت أبصارهم هلعا وجبنا من لقاء العدو ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره حين الموت.

ونحو الآية قوله «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ».

ثم هددهم وتوعدهم فقال :

(فَأَوْلى لَهُمْ) أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين ، إذ حياتهم ليست فى طاعة الله ، فالموت خير منها ، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك ، فكأنه قيل : أهلكهم الله هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك ، فهو نحو قولهم فى الدعاء بعدا له وسحقا

٦٥

قال الأصمعى معناه : قاربه ما يهلكه أي نزل به ، وأنشد :

فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة لله وقول معروف أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدو ، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل ، وظل زائل ، والآخرة خير لمن اتقى.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي فإذا حضر القتال كرهوه وتخلّفوا عنه خوفا وفرقا ، ولو صدقوا فى إيمانهم واتباعهم للرسول ، وأخلصوا النية فى القتال لكان خيرا لهم عند ربهم ، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده ويعطيهم ما تقرّ به أعينهم ، ويدخلهم جنات النعيم.

ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب فقال :

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلّكم لما عهد فيكم من الحرص على الدنيا وزخرفها إذ قد أمرتم بالجهاد الذي هو الوسيلة إلى الثواب فكرهتموه ، وظهر عليكم ما ظهر من الخوف والهلع والتشبث بالبقاء فى هذه الحياة والتكالب على زينتها إن أنتم توليتم أمور الناس وصرتم عليهم أمراء أن تفسدوا فى الأرض بالبغي وسفك الدماء ، وتقطعوا أرحامكم فتعودوا إلى تباغض الجاهلية من إغارة بعضكم على بعض ونهب الأموال وسفك الدماء.

والخلاصة ـ إنه لاعجب بعد أن صدر منكم ما صدر من كراهة الدفاع عن حوزة الإسلام ـ أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم.

وبعد أن ذكر هناتهم بين سببها فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم الله من رحمته ، فأصمهم عن الانتفاع بما سمعوا ، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما

٦٦

شاهدوا من الآيات المنصوبة فى الأنفس والآفاق ، فلم يكن سماعهم سماع إدراك ، ولا إبصارهم إبصار اعتبار.

عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه ، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال نعم ؛ أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى ، قال : فذلك لك ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، وقد وردت أحاديث كثيرة فى صلة الرحم.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

٦٧

تفسير المفردات

يتدبرون القرآن : أي يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يقلعوا عن الوقوع فى الموبقات ، ارتدوا على أدبارهم : أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، سوّل لهم : أي سهّل لهم وزين ، وأملى لهم : أي مدّ لهم فى الأمانى والآمال ، يضربون وجوههم وأدبارهم : أي يتوفونهم وهم على أهوال الأحوال وأفظعها ، والأضغان : واحدها ضغن ، وهو الحقد الشديد ، وتضاغن القوم واضطغنوا إذا أبطنوا الأحقاد ، قال :

قل لابن هند ما أردت بمنطق

ساء الصديق وشيّد الأضغانا؟

لأريناكهم : أي لعرّفناكهم ، والسيمى : العلامة ، ولحن القول : أسلوبه بإمالته عن وجهه من التصريح إلى التعريض والتورية ، ولنبلونّكم : أي لنختبرنّكم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عن الخير ، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا ـ بين أن حالهم دائرة بين أمرين : إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم ، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه فى قلوبهم لكونها مقفلة ؛ ثم ذكر أنهم رجعوا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة ، والمعجزات الباهرة ، وقد زين لهم الشيطان ذلك وخدعهم بباطل الأمانى ، ثم بين سبب ارتدادهم وهو قولهم لبنى قريظة والنّضير من اليهود : سنطيعكم فى بعض أحوالكم وهو ما حكى عنهم فى قوله : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.

٦٨

ثم أردف هذا ذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهواءهم وعمل ما يغضب ربّهم ، ومن ثم أحبط أعمالهم ، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل إنه سيوضح ذلك لذوى البصائر ، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ، ولكن لم نفعل ذلك ، سترا منا على عبادنا ، وحملا للأمور على ظاهر السلامة ، وردّا للسرائر إلى عالمها ، وإنك لتعرفنّهم فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم ، بمغامز يضعونها أثناء حديثهم ، وقد كان يفهمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويفهم مراميها فلا تخفى عليه.

ثم ذكر أنه يبتلى عباده بالجهاد وغيره ، ليعلم الصادق فى إيمانه ، الصابر على مشاقّ التكاليف ، من غيره ، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم فيجازيهم بما قدموا «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

الإيضاح

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها فى آي كتابه ، ويتفكرون فى حججه التي بيّنها فى تنزيله فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون ، أم هم قد أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل فى كتابه من العبر والمواعظ؟

والخلاصة ـ إنهم بين أمرين كلاهما شر ، وكلاهما فيه الدمار ، والمصير إلى النار ، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون ، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا.

ولما أخبر بإقفال قلوبهم بيّن منشأ ذلك فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى

٦٩

وقصد السبيل ، فعرفوا واضح الحجج ، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله ـ الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال ، وحسّن لهم ما فى الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين ، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين ، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر ، ولا يبلغها العدّ.

ثم ذكر كيف إنهم ضلوا فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الضلال من قبل أنهم مالئوا اليهود من بنى قريظة والنضير وناصحوهم سرا على المؤمنين كما هو شأن المنافقين فى كل زمان ، والله يعلم ما يسرون وما يخفون ، وهو مطلع عليهم وعالم بهم.

ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد وشديد التهديد.

ونحو الآية قوله : «وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ».

ثم ذكر أن هذه الحيل إن أجدت فى حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال :

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها ، وقد مثل ذلك بحال يخافونها فى الدنيا ، ويجبنون عن القتال من أجلها ، وهو الضرب على الوجوه والأدبار ، إذ فى يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفرّ ، فكيف يحترزون من الأذى ، ويبتعدون من العذاب؟.

ثم بين سبب التوفى على تلك الحال الشنيعة فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا فى المعاصي ، وزينت لهم الشهوات ، وكرهوا ما يرضى الله من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له فى السر والعلن ، فأحبط ما عملوه من البر والخير ، كالصدقات ، والأخذ بيد الضعيف ، ومساعدة البائس الفقير ،

٧٠

وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك ، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن لله ولا بأمره ، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.

ثم بالغ فى توبيخ المنافقين ، وإظهار خباياهم ، وإعلان نواياهم فقال :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي بل أحسب أولئك المنافقون الذين فى قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أستارهم ويبرز أحقادهم ، بلى سيبرزها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين فلا تبقى مستورة ، وقد أنزل الله فى فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة ، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم : «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» وقوله : «فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا».

ثم أكد ما فهم من سالف الكلام وأنه سيظهرها فقال :

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم ، فعرفتهم عيانا بعلامات هى غالبة عليهم ، ولكنه لم يفعل ذلك فى جميع المنافقين للستر على خلقه ، وردّا للسرائر إلى عالمها ، وحرصا على ألا يؤذى ذوى قرباهم من المخلصين.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ولتعرفنهم فيما يداورونه من القول ، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة ، وإياه عنى القائل فى مدح محبوبته فقال :

منطق صائب وتلحن أحيا

نا وخير الحديث ما كان لحنا

يريد أنها تتكلم بشىء وتريد غيره وتعرّض فى حديثها فتزيله عن جهته ، لفطنتها وذكائها.

وقد كانوا يخاطبون الرسول صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ ظاهرها الحسن وهم يعنون بها القبيح. قال الكلبي : فلم

يتكلم بعد نزولها عند النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق

٧١

إلا عرفه ، وقال أنس : فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، عرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه.

وفى الحديث : «ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر».

وروى أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه.

وقد ثبت فى الحديث تعيين جماعة من المنافقين ، فقد روى أحمد عن عقبة ابن عامر قال : «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ، ثم قال : إن فيكم منافقين فاتقوا الله ، قال فمرّ عمر رضى الله عنه برجل ممن سمى مقنّع قد كان يعرفه ، فقال مالك؟ فحدّثه بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقال بعدا لك سائر الدهر».

ثم وعد سبحانه وأوعد ، وبشر وأنذر فقال :

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بما قدمتم من خير أو شر ، إذ لا يضيع عمل عامل عدلا منه ورحمة.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره ، ويعرف ذو البصيرة فى دينه من ذى الشك والحيرة فيه ، والمؤمن من المنافق ، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم فى إيمانه من الكاذب.

قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال :

اللهم لا تبتلنا ، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

٧٢

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

تفسير المفردات

شاقوا الرسول : أي عادوه وخالفوه ، وأصله صاروا فى شقّ غير شقه ، فلا تهنوا :

أي فلا تضعفوا عن القتال ، من الوهن وهو الضعف ، وقد وهن الإنسان ووهّنه غيره ، وتدعوا إلى السلم : أي تدعوا الكفار إلى الصلح خوفا وإظهارا للعجز ، الأعلون : أي الغالبون ، والله معكم : أي ناصركم ، لن يتركم أعمالكم : أي لن ينقصكموها ؛ من وترت الرجل : إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبت ماله وذهبت به ، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو إضاعة شىء معتد به من الأنفس والأموال.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المنافقين ستفضح أسرارهم ، وأنهم سيلقون شديد الأهوال حين وفاتهم ـ أردف ذلك ذكر حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير كفروا بالله وصدوا الناس عن سبيل الله وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته فى التوراة ، وما ظهر على يديه من المعجزات ، فهؤلاء لن يضروا الله شيئا بكفرهم ، بل يضرون أنفسهم وسيحبط الله مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه ، ثم ذكر قصص بنى سعد

٧٣

وقد أسلموا وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلينا ، منّا بذلك عليه ، فنهاهم عن ذلك وبين لهم أن هذا مما يبطل أعمالهم ، ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر الله لهم ، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط وأن ذنبهم غير مغفور ، وبعدئذ أردف هذا أن الله خاذلهم فى الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ، ولا تظهروا ضعفا أمامهم ، فإن الله ناصركم ، ولن يضيع أعمالكم.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله ، وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة أنه مرسل من عند ربه ـ لن يضروا الله شيئا ، لأن الله بالغ أمره ، وناصر رسوله ، ومظهره على من عاداه وخالفه ، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها ، لإبطال دينه ومشاقة رسوله ، ولا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون له من الغوائل ، وستكون ثمرتها إما قتلهم أو جلاءهم عن أوطانهم.

والمراد بصد الناس عن سبيل الله ، منعهم إياهم عن الإسلام بشتى الوسائل ، وعن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانضواء تحت لوائه.

ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي يا أيها الذين صدقوا بوحدانية الله وقدرته وسائر صفات كماله ، وصدقوا رسوله فيما جاء على لسانه من الشرائع ـ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فى اتباع أوامرهما والانتهاء عن نواهيهما.

٧٤

ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطل الكفار أعمالهم فقال :

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي ولا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي قاله الحسن ، وقال الزهري بالكبائر. وقال مقاتل بالمنّ والأذى وقال عطاء بالنفاق والشرك ؛ والأولى أن يراد به النهى عن كل سبب من الأسباب التي تكون سببا فى إبطال الأعمال كائنا ما كان بلا تخصيص بنوع معين.

وعن أبى العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت هذه الآية ، فخافوا أن يبطل الذنب العمل وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى أنه ليس شىء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها ، قلنا قد هلك حتى نزل «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» فكففنا عن القول فى ذلك ، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها رجونا له.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فى الآية : من استطاع منكم ألا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى.

ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر والصدّ عن سبيل الله فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وصدوا من أراد الإيمان بالله ورسوله عن ذلك ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوه ، ثم ماتوا وهم على كفرهم فلن يعفو الله سبحانه عما صنعوا ، بل يعاقبهم ويفضحهم به على رءوس الأشهاد.

٧٥

وقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر ، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا.

ثم ذكر سبحانه أن لا حرمة للكافر فى الدنيا والآخرة ، فأمر بقتالهم وأرشد إلى أن النصر حليف المؤمنين فقال :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون عن جهاد المشركين وتجبنوا عن قتالهم ، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهارا للعجز ، وأنتم العالون عليهم والله معكم بالنصر لكم عليهم ، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

تفسير المفردات

كل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر فى الحال ولا منفعة فى المآل ولم يمنعك عن مهامّ أمورك فهو لعب ، فإن شغلك عنها فهو لهو ، ومن ثم يقال آلات الملاهي ، لأنها مشغلة عن غيرها ، ويقال لما دون ذلك لعب كاللعب بالشّطرنج والنّرد والحمام ، فيحفكم أي فيجهدكم بطلبها جميعا ، والإلحاف والإحفاء بلوغ الغاية فى كل شىء ؛ يقال أحفاه فى المسألة : إذا لم يترك شيئا من الإلحاح ، أضغانكم : أي أحقادكم.

٧٦

المعنى الجملي

بعد أن أمر المؤمنين بترك المعاصي لأنها محبطة لثواب الأعمال الصالحة ، وأمرهم بالتشمير عن ساعد الجد للجهاد ومقاتلة الأعداء نصرة لدينه ، ووعدهم بأن الله ناصرهم وهم الأعلون ، فلا ينبغى لهم أن يطلبوا المهادنة من العدو خورا وجبنا خوفا على الحياة ولذاتها ـ أكد هذا المعنى فأبان أنه لا ينبغى لكم أيها المؤمنون الحرص على الدنيا ، فإنها ظل زائل ، وعرض غير باق ، وما هى إلا لذات مؤقتة لا تلبث أن تزول ، وهى مشغلة عن صالح الأعمال ، فلا يليق بكم أن تعضّوا عليها بالنواجذ ، بل اعملوا لما يرضى ربكم يؤتكم أجوركم وهو لا يسألكم من أموالكم إلا القليل النزر الذي فيه صلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة ، دنيوية كانت أو دينية ، وهو عليم بأنكم أشحة على أموالكم ، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرت أحقادكم على طالبيها ، والله قد طلب إليكم الإنفاق فى سبيله ، والقيام بما تحتاج إليه الدعوة ، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم ، والله غنى عن معونتكم ، وإن أعرضتم عن الإيمان والتقوى يأت الله بخلق غيركم يقيمون دينه ، وينصرون الدعوة.

الإيضاح

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) يقول سبحانه حاضّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه والنفقة فى سبيله ، وبذل مهجتهم فى قتال أهل الكفر به : قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر ، ولا تدعكم الرغبة فى الحياة إلى ترك قتالهم ، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب إلا ما كان منها من عمل فى سبيل الله وطلب رضاه.

ثم رغبهم فى العمل للآخرة فقال :

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي وإن تؤمنوا

٧٧

بربكم وتتقوه حق تقاته ، فتؤدوا فرائضه وتجتنبوا نواهيه ـ يؤتكم ثواب أعمالكم فيعوضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم ، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها فى الزكاة وسائر وجوه الطاعات ، بل يأمركم بإخراج القليل منها وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء ، ونفع ذلك عائد إليكم.

ثم بين شح الإنسان على ماله وشدة حرصه عليه فقال :

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة ويلحف عليكم بطلبها ـ تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنا منكم بها ، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال.

قال قتادة : قد علم الله أن فى سؤال المال خروج الأضغان للاسلام من حيث محبة المال بالجبلّة والطبيعة ، ومن نوزع فى حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرّها.

والخلاصة ـ قد علم الله شح الإنسان على المال فلم يطلب منه إلا النزر اليسير فى الصدقات ، وبذل المال فى المرافق العامة لإصلاح شئون المجتمع الإسلامى كسدّ الثغور ، وبناء القناطر والجسور.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي هأنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة فى جهاد أعداء الله ونصرة دينه.

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي فمنكم من يبخل عن النفقة فى هذا السبيل ، ومن يبخل فإنما ضرر ذلك عائد إلى نفسه ، لأنه ينقصها أجرها من الثواب ، ويبعدها من رضا الله والقرب منه فى جنات النعيم ، والله لا حاجة إليه فى أموالكم ولا نفقاتكم ، فهو الغنى عن خلقه ، وخلقه فقراء إليه ، وإنما حضكم على النفقة فى سبيله ، لتنالوا بذلك الأجر والثواب.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي وإن تعرضوا

٧٨

عن طاعة الله واتباع شرائعه ، وترتدوا راجعين عنها ، يهلككم ثم يجىء بقوم آخرين غيركم يصدقون بها ، ويعملون بالشرائع التي أنزلها على رسوله ، ويقومون بذلك كله على ما يؤمرون به ، والمراد بهم على ما صح فى الحديث أهل فارس.

أخرج عبد الرازق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي والترمذي عن أبى هريرة قال : «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إلخ فقالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ، ثم لا يكونون أمثالنا؟

فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منكب سلمان ، ثم قال هذا وقومه ، والذي نفسى بيده لو أن هذا الدين تعلق بالثريا لتناوله رجال من فارس».

وقد طعن بعض رواة الحديث فيه وجرّحوا بعض رواته ، قال ابن كثير وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم.

قال الكلبي : شرط فى الاستبدال توّليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم بهم.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله ، ونصر دينه بأتباعه المؤمنين ، وجعلهم للعمل بنشره دائبين.

اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد

(١) وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله : «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ».

(٢) جزاء الفريقين فى الدنيا والآخرة من خذلان ونصر ونار وجنة من قوله : «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ـ إلى قوله : وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ».

(٣) الوعد والتهديد للمنافقين والمرتدين من قوله : «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» إلى آخر السورة.

٧٩

سورة الفتح

هى مدنية ، وآيها تسع وعشرون ، نزلت بعد سورة الجمعة.

ووجه مناسبتها لما قبلها :

(١) إن الفتح المراد به النصر مرتب على القتال.

(٢) إن فى كل منهما ذكرا للمؤمنين والمخلصين والمنافقين المشركين.

(٣) إن فى السورة السالفة أمرا بالاستغفار ، وفى هذه ذكر وقوع المغفرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

تفسير المفردات

أصل الفتح : إزالة الأغلاق ، وفتح البلد : دخله عنوة أو صلحا ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية (والحديبية بئر) على المشهور ، وهو المروي عن ابن عباس وأنس والشعبي والزهري ، وسمى هذا فتحا ؛ لأنه كان سببا لفتح مكة ، قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام من قلوبهم ؛ وأسلم فى ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام ، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة فى عشرة آلاف ففتحوها والخلاصة ـ إنه كان من نتائج هذا الصلح الأمور الآتية :

٨٠