تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

يا عائشة إن الله لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض منى إلا أن يكلفنى ما كلفهم فقال : «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» وإنى والله لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا قوة إلا بالله» أخرجه ابن أبى حاتم والدّيلمى.

ولما أمره بالصبر ، وهو أعلى الفضائل ، نهاه عن العجلة وهى أخسّ الرذائل فقال :

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تعجل بمسألة ربك العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً» وقوله : «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً».

ثم أخبر بأن العذاب إذا نزل بالكافرين استقصروا مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال :

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي كأنهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنه نازل بهم ـ لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار ـ لأن شدة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا فى الدنيا من السنين والأعوام ، فيظنونها ساعة من نهار.

ونحو الآية قوله : «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ» وقوله : «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها».

(بلاغ) أي هذا القرآن بلاغ لهم ، وكفاية إن فكروا واعتبروا ، ودليله قوله تعالى : «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» وقوله : «إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ».

٤١

ثم أوعد وأنذر فقال :

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟) أي وما يهلك بالعذاب إلا الخارجون عن طاعة الله ، المخالفون لأمره ونهيه ؛ إذ لا يعذب إلا من يستحق العذاب.

قال قتادة : لا يهلك على الله إلا هالك مشرك ، وهذه الآية أقوى آية فى الرجاء ومن ثم قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ، وهذا تطميع فى سعة فضل الله سبحانه وتعالى.

أخرج الطبراني فى الدعاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : «اللهم إنى أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والسلامة من كل إثم ، والغنيمة من كل برّ ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، اللهم لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته ، ولا دينا إلا قضيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين».

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة

(١) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان.

(٢) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها.

(٣) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا الله وصدقوا أنبياءه ، وبيان أن جزاءهم الجنة.

(٤) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى الله.

(٥) بيان حال من انهمكوا فى الدنيا ولذاتها.

(٦) قصص عاد ، وفيه بيان أن صرف النعم فى غير وجهها يورث الهلاك.

(٧) استماع الجن للرسول صلى الله عليه وسلّم وتبليغهم قومهم ما سمعوه.

(٨) عظة للنبى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من أمته.

(٩) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية فى الإنذار.

(١٠) من عدل الله ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه.

٤٢

سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم

وتسمى سورة القتال

هى مدنية إلا آية ١٣ فقد نزلت فى الطريق أثناء الهجرة.

وآيها ثمان وثلاثون آية. نزلت بعد الحديد.

ولا تخفى قوة ارتباطها بما قبلها ، فإن أولها متلاحم بآخر السورة السابقة ، حتى لو أسقطت البسملة من البين لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه ، ولكان بعضه آخذا بحجز بعض.

أخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرؤها فى صلاة المغرب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

تفسير المفردات

صدوا عن سبيل الله : أي صرفوا الناس عن الدخول فى الإسلام ، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه ، أضل أعمالهم : أي أبطلها ، وهو الحق من ربهم :

٤٣

أي وهو الحق الثابت الذي لا مرية فيه ، بالهم : أي حالهم فى الدين والدنيا بالتوفيق لصالح الأعمال ، وأصل البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال ما باليت به : أي ما اكترثت به ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم «كل أمر ذى بال» الحديث. يضرب الله للناس أمثالهم : أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه فى معادهم.

المعنى الجملي

قسم سبحانه الناس فريقين : أهل الكفر الذين صدوا الناس عن سبيل الله ، وهؤلاء يبطل أعمالهم سواء كانت حسنة كصلة الأرحام وإطعام الطعام ، أو سيئة كالكيد لرسول الله والصدّ عن سبيل الله ، فالأولى يبطل ثوابها ، والثانية يمحو أثرها ، وهكذا كل من قاوم عملا شريفا فإن مآله الخذلان.

وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم ، وأولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم ويوفقهم فى الدين والدنيا ، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها.

ثم علل ما سلف بأن أعمال الفريقين جرت على ما سنه الله فى الخليقة : بأن الحق منصور ، وأن الباطل مخذول سواء كان فى أمور الدين أم فى أمور الدنيا ، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها ويؤثرونها ، لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق ، وهكذا الشأن فى المزروعات والمصنوعات المتقنة الجيدة ، والسياسات الحكيمة.

والصناعات المرذولة والسلع المزجاة لن يكون حظها إلا الكساد والبوار ، لأن الباطل لا ثبات له ، والحق هو الثابت ، والله هو الحق فينصر الحق ، والعلم الصحيح والدين الصحيح والصناعات الجيدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة ، وضدها عاقبته الشقاء والبوار.

وقصارى ذلك ـ إن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق وعلى قوانين ثابتة منظمة ، فكل ما قرب من الحق كان باقيا ، وكل ما ابتعد عنه كان هالكا ، فرجال الجدّ والنشاط مؤيدون ، ورجال الكسل والتواكل مخذولون ، والمحققون فى كل شىء محبوبون منصورون.

٤٤

الإيضاح

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي الذين جحدوا توحيد الله ، وعبدوا غيره ، وصدوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته وتصديق نبيّه عما أراد ـ جعل الله أعمالهم تسير على غير هدى ، لأنها عملت فى سبيل الشيطان لا فى سبيل الرحمن ، وما عمل للشيطان فمآله الخسران.

فما عملوه فى الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق : من صلة الأرحام وفك الأسارى وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير وقرى الأضياف ونحو ذلك ـ حكم الله ببطلانه ، فلا يرون له فى الآخرة ثوابا ، ويجزون به فى الدنيا من فضله تعالى.

ونحو الآية قوله : «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً».

قال ابن عباس : نزلت الآية فى المطعمين ببدر ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل ، والحارث بن هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبىّ ، وأمية ابنا خلف ، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر بن نوفل.

ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر ، أتبعهم بثواب أهل الإيمان فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي والذين صدقوا الله ، وعملوا بطاعته ، واتبعوا أمره ونهيه ، وصدقوا بالكتاب الذي نزل على محمد ، هو الحق من ربهم ـ محا الله بفعلهم سيىء ما عملوا فلم يؤاخذهم به ، وأصلح شأنهم فى الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة ، وأصلح شأنهم فى الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم فى جناته.

٤٥

قال ابن عباس نزلت الآية فى الأنصار.

ثم بين سبب الإضلال ، وإصلاح البال فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شئونهم ، لأن الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق بما وسوس إليهم به الشيطان ، ولأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم ، فأنار بصائرهم وهداهم إلى سبل الرشاد.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي كما بينت لكم فعلى بفريقى الكفار والمؤمنين. كذلك نمثل للناس الأمثال ، ونشبّه لهم الأشباه ، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها.

والخلاصة ـ إنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، وإضلال أعمالهم مثلا لخيبتهم ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم ، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال كما ضرب المثل بالنخل والحنظل فى سورة أخرى.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا

٤٦

اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

تفسير المفردات

لقيتم من اللقاء : وهو الحرب ، فضرب الرقاب : أي فالقتل ، وعبر به عنه تصويرا له بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجه أعضائه ومجمع حواسه ، وبقاء البدن ملقى على هيئة مستبشعة ، وفى ذلك من الغلظة والشدة ما ليس فى لفظ القتل ، وأثخنتموهم : أي أكثرتم القتل فيهم ، فشدّوا الوثاق : أي فأسروهم ، والوثاق : (بالفتح والكسر) : ما يوثق به ، منّا : أي إطلاقا من الأسر بالمجّان ، فداء : أي إطلاقا فى مقابلة مال أو غيره ، والأوزار فى الأصل : الأحمال ويراد بها آلات الحرب وأثقالها من السلاح والكراع ، قال الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

ومن نسج داود موضونة

تساق مع الحىّ عيرا فعيرا

انتصر : أي انتقم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق ، ليبلو : أي ليختبر ، يضلّ : أي يضيع ، بالهم. أي شأنهم وحالهم ، عرّفها. أي بينها وأعلمها ، إن تنصروا الله : أي تنصروا دينه ، يثبت أقدامكم : أي يوفقكم للدوام على طاعته ، فتعسا لهم ، من قولهم : تعس (بفتح العين) الرجل تعسا : أي سقط على وجهه ، وضده انتعش : أي قام من سقوطه ، ويقال تعسا ونكسا (بضم النون) : أي سقوطا على الوجه وسقوطا على الرأس ، أحبط أعمالهم : أي أبطلها.

٤٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس فريقان : أحدهما متبع للباطل ، وهو حزب الشيطان ، وثانيهما متبع للحق ، وهو حزب الرحمن ـ ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول حتى يفىء إلى أمر الله ، ويرجع عن غيّه ، وتخضد شوكته.

الإيضاح

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي فإذا واجهتم المشركين فى القتال فاحصدوهم حصدا بالسيوف حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم وصاروا فى أيديكم أسرى فشدوهم فى الوثاق ، كى لا يقاتلوكم أو يهربوا منكم ، ثم أنتم بعد إنهاء الحرب وانتهاء المعارك ـ بالخيار فى أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتموهم بلا عوض من مال أو غيره ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه ـ حتى لا يكون حرب مع المشركين ولا قتال ، بزوال شوكتهم.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ».

قال ابن عباس رضى الله عنهما : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى فى الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده. روى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : «بعث النبي صلى الله عليه وسلّم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بنى حنيفة ، يقال له ثمامة ابن أثال ، فربطوه فى سارية من سوارى المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندى خير ، إن تقتلنى تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت ، حتى كان الغد ، فقال له صلّى الله عليه وسلم : ما عندك يا ثمامة؟ قال : عندى ما قلت لك ، قال : أطلقوا

٤٨

ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلىّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلىّ ، والله ما كان من دين أبغض إلىّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين إلىّ ، والله ما كان من بلد أبغض إلىّ من بلدك ، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلىّ وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فما ذا ترى؟ فبشره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت ، قال لا ولكن أسامت مع محمد صلّى الله عليه وسلم.

وعن عمران بن حصين قال : أسر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.

واعلم أن للحرب فوائد ، وللسلم أخرى ، فالأمم فى حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحلم ، تراه يقاتل الصبيان ويشاجرهم ويوقع الأذى بهم وهم يزيدون فى أذاه ، وينكلون به ، وهذه هى حال الأمم اليوم.

ألا إن الحرب تقوّى الأبدان ، وترقى الصناعات ، وتجعل الأمم تنمو ، وتوقظ الشعور ، وتفتح المغلق ، وتيسر العسير ، قال أرسطو للاسكندر : إن الراحة مضرة للأمم ، ومن ثم قيل : إذا أردت رقىّ أمة فاجعلها تخوض الحروب ؛ فذلك يفتح لها باب السعادة ؛ والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير معرّضة للزوال.

فإذا كملت أخلاق الأمم ومواهبها ، فإن نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها ، فكما يفرح الرجل فى الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء وشفاء الغليل وجمع الرجال والسلاح والكراع ، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها وانشراح صدورها بظهور أمم أخرى تكافح معها فى ميدان الحياة ، ويكون كل فرد فى الأمم المقبلة أشبه بالأب يكدح لمساعدة أبنائه ، وهذا الكدح والجد فى العمل لفائدة الجميع بحد فيه العامل لذة وفرحا أشد من فرح المنتصر فى ميادين القتال.

٤٩

وإن الأمم لا تزال فى الطّور الأول ، فهى تسعى لإسعاد نفسها بإهلاك سواها ، وسيأتى حين تسعى فيه لإسعاد الجميع ، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء ويكون الناس جميعا بعضهم لبعض كالآباء والأبناء.

وإلى حال الكمال أشار سبحانه بقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإلى حال النقص أشار سبحانه بقوله :

(ذلِكَ) أي هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم فى حرب ، وشدّ وثاقهم فى أسرهم ، والمنّ والفداء حتى تضع الحرب أوزارها ـ هو الحق الذي أمركم به ربكم ، وهو السنة التي جرى عليها لإصلاح حال عباده ، وهى التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت فى طور طفولتها ، حتى يتم نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها ، إذ لا يكون هناك حاجة إليها ، لأن العالم كله يكون كأسرة واحدة ، سعادته بسعادة أفراده جميعا ، وشقاؤه بشقائهم.

ثم بين أن هذه هى السنة التي أرادها الله من حرب المشركين ، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال ، فقال :

(وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولو يشاء ربكم لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة عاجلة ، وكفاكم أمرهم ، ولكنه أراد أن يبلو بعضكم ببعض فيختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء ، ويتعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق.

وفى الجهاد تقوية لأبدانكم ، ورقىّ لعقولكم ، ونفاذ لكلمتكم ، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم ، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها ، وهكذا ترتقى حال الأعداء ، فيتسع العمران ، وتعم المدنية ، ويرقى النوع الإنسانى ، ولا يعيش فى هذا الوسط الصاحب إلا الصالح للبقاء والضعيف من الطرفين هالك ، وهذه هى سنة الله فى الكون.

٥٠

ثم ذكر جزاء المجاهدين فى سبيل الله فقال :

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين جاهدوا أعداء الله فى دين الله وفى نصرة ما بعث الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الهدى ، فلن يجعل أعمالهم التي عملوها فى الدنيا ضائعة سدى ؛ كما أذهب أعمال الكافرين وجعلها عديمة الجدوى.

روى أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «يعطى الشهيد ستّ خصال.

عند أول قطرة من دمه تكفّر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوّج من الحور العين ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلّى حلة الإيمان».

وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن قتادة قال : «ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الشّعب ، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون : اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ. وقال المشركون : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : قولوا لاسواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون ، وقتلاكم فى النار يعذبون ، فقال المشركون : إن لنا العزى ولا عزّى لكم. فقال المسلمون : الله مولانا ولا مولى لكم».

ثم فسر ما سلف بقوله :

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي سيوفقهم الله للعمل بما يرضيه ويحبه ، ويصونهم مما يورث الضلال ، ويصلح شأنهم فى العقبى ، ويتقبل أعمالهم ، ويجعل لكل منهم مقرّا فى الجنة لا يضل فى طلبه.

لا جرم أن لكل امرئ فى الحياة عملا يستوجب حالا فى الآخرة لا يتعداها ، كما يحصل كل من نال إجازة فى علم أو صناعة على عمل يشاكل إجازته فى قوانين الدولة.

٥١

والناس فى الآخرة أشبه بأنواع السمك فى البحر الملح وأنواع الطير فى جوّ السماء لكل منها جوّ لاتتعداه ، هكذا لكل من الصالحين درجة فى الآخرة لا يتعداها ، بل يجد نفسه مقهورا على البقاء فيها ؛ كما أن السمك منه ما هو قريب من سطح الماء ، ومنه ما يوجد تحت سطح الماء بمئات الأمتار وآلافها ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا».

أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها ، لا يخطئون ؛ كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، لا يستدلون عليها.

وفى الخبر : «لأحدكم بمنزله فى الجنة أعرف منه بمنزله فى الدنيا».

ثم وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه بقوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي إن تنصروا دين الله ينصركم على عدوكم ، ويثبت أقدامكم فى القيام بحقوق الإسلام ومجاهدة الكفار ، لتكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة المشركين هى السفلى :

وبعد أن ذكر جزاء المجاهدين أعقبه بجزاء الكافرين فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين كفروا بالله وجحدوا توحيده فخزيا لهم وشقاء ، وأبطل الله أعمالهم وجعلها على غير هدى واستقامة ، لأنها عملت للشيطان ، لا طاعة للرحمن.

ثم بين سبب ذلك الإضلال فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس وإضلال الأعمال ، من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه على نبينا محمد

٥٢

صلى الله عليه وسلّم فكذبوا به وقالوا هو سحر مبين ، فمن ثم أحبط أعمالهم التي عملوها فى الدنيا وأصلاهم سعيرا.

وقصارى ذلك ـ إن كل ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل ، لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

المعنى الجملي

بعد أن نعى سبحانه على الكافرين مغبّة أعمالهم ، وأن النار مثوى لهم ـ أردف هذا أمرهم بالنظر فى أحوال الأمم السالفة ورؤية آثارهم ، لما للمشاهدات الحسية من آثار فى النفوس ، ونتائج لدى ذوى العقول ، إذا تدبروها واعتبروا بها.

٥٣

الإيضاح

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون بمحمد صلّى الله عليه وسلم ، المنكرون ما أنزلنا عليه من الكتاب ـ فى الأرض فيروا نقمة الله التي أحلها بالأمم الغابرة ، والقرون الخالية ، حين كذبوا رسلهم كعاد وثمود ، ويتعظوا بذلك ، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم.

ثم ذكر ما فعله بهم فقال :

(دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يقال دمّره : أهلكه ، ودمّر عليه : أهلك ما يختص به ، أي أهلك ما يختص بهم من الأهل والولد والمال ، أفلا يعتبر هؤلاء بما حل بمن قبلهم فيعلموا أن ما حاق بهم من سوء المنقلب ـ لا بد أن يحل بهم مثله بحسب ما وضعه سبحانه من السنن فى الأمم المكذبة لرسلها ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي ولهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أمثال هذه العاقبة التي ترون آثارها.

ثم بيّن السبب فى حلول أمثال هذه العاقبة بهم فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي هذا الذي فعله بهم من التدمير والهلاك ، ونصر المؤمنين وإظهارهم عليهم بسبب أن الله ولىّ من آمن به وأطاع رسوله ، وأن الكافرين لا ناضر لهم ، فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب.

ونفى المولى عنهم هنا لا يخالف إثباته فى قوله : «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» لأن المراد به هناك المالك لأمورهم ، المتصرف فى شئونهم.

قال قتادة : نزلت يوم أحد والنبي صلّى الله عليه وسلّم فى الشّعب ، إذ صاح المشركون : يوم بيوم ، لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» وقد تقدم هذا برواية أخرى.

٥٤

وبعد أن بين حالى المؤمنين والكافرين فى الدنيا ، بيّن حاليهم فى الآخرة فقال :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله ذا الجلال والكمال يدخل يوم القيامة من آمنوا به وصدقوا رسوله وعملوا صالح الأعمال ـ بساتين تجرى من تحت قصورها الأنهار كرامة لهم على إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم يتمتعون فى هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية ، ويأكلون فيها غير مفكرين فى عواقبهم ومنتهى أمورهم ، ولا معتبرين بما نصب الله لخلقه فى الآفاق والأنفس من الحجج المؤدية إلى معرفة توحيده وصدق رسوله ، فمثلهم مثل البهائم تأكل فى معالفها ومسارحها ، وهى غافلة عما هى بصدده من النحر والذبح ، فكذلك هؤلاء يأكلون ويتلذذون وهم ساهون لاهون عن عذاب السعير.

(وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي ونار جهنم مسكن ومأوى لهم يصيرون إليها بعد مماتهم والخلاصة ـ إن المؤمنين عرفوا أن نعيم الدنيا ظل زائل فتركوا الشهوات ، وتفرغوا للصالحات ، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم فى مقام كريم ، وإن الكافرين غفلوا عن ذلك فرتعوا فى الدّمن كالبهائم حتى ساقهم الخذلان ، إلى مقرهم من درك النيران ، أعاذنا الله منها.

وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله : «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» ولم يعتبروا به وذكر لهم.

ما تقدم من الأدلة على وحدانيته ـ ضرب المثل لنبيّه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم فقال :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسا وأكثر جمعا ، وأعدّ عديدا من

٥٥

أهل مكة الذين أخرجوك ـ أهلكناهم بأنواع العذاب ولم يجدوا ناصرا ولا معينا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا ، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل ، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات ، فالله مظهرك عليهم ، ومهلكهم كما أهلك من قبلهم إن لم ينيبوا إلى ربهم ، ويثوبوا إلى رشدهم.

وغير خاف ما فى هذا من التهديد الشديد ، والوعيد الأكيد لأهل مكة.

أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحبّ بلاد الله إلىّ ، وأنت أحب بلاد الله إلىّ. ولو لا أن أهلك أخرجونى لم أخرج منك ، وأعدى الأعداء من عدا على الله فى حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذحول (ثارات) الجاهلية فأنزل الله سبحانه على نبيّه (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)» الآية.

ثم ذكر الفارق بين حالى المؤمنين والكافرين والسبب فى كون هؤلاء فى أعلى عليين وأولئك فى أسفل سافلين ، فقال :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟) أي أفمن كان على بصيرة ويقين فى أمر الله ودينه بما أنزله فى كتابه من الهدى والعلم ، وبما فطره الله عليه من الفطرة السليمة ، فهو على علم بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه بالجنة ، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار ـ كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله ، وأراه إياه جميلا فهو على العمل به مقيم ، وعلى السير على نهجه دائب ، واتبع هواه وجمحت به شهواته فطفق يعدو فى المعاصي ، ويخبّ فيها ويضع ، غير ملتفت إلى واعظ أو زاجر؟

والخلاصة ـ أيستوى الفريقان : من كان ثابتا على حجة بينة من عند ربه وهى كتابه الذي أنزله على رسوله وسائر الحجج التي أقامها فى الآفاق والأنفس. ومن زين له الشيطان سيىء أعماله من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك ،

٥٦

واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما يدعيه ، وتطمئن إليها نفسه فى الدفاع عما يدين به؟ كلّا هما لا يستويان.

ونحو الآية قوله : «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى» وقوله : «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ».

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

تفسير المفردات

مثل الجنة : أي صفتها ، آسن : أي متغير الطعم والريح لطول مكثه ، وفعله أسن (بالفتح من بابى ضرب ونصر ، وبالكسر من باب علم) لذة تأنيث لذّ ، وهو اللذيذ ، مصفى : أي لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل ولم يمت فيه بعض نحله كعسل الدنيا ، حميما : أي حارّا ، والأمعاء : واحدها معى (بالفتح والكسر) وهو ما فى البطون من الحوايا.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الفارق بين الفريقين فى الاهتداء والضلال ـ ذكر الفارق بينهما فى مرجعهما ومآلهما ، فذكر ما للأولين من النعيم المقيم واللذات التي لا يدركها

٥٧

الإحصاء ، وما للآخرين من العذاب اللازب فى النار وشرب الماء الحارّ الذي يقطّع الأمعاء

الإيضاح

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة التي وعدها الله من اتقى عقابه ، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه ـ ما ستسمعونه بعد.

ثم فسر هذه الصفة بقوله :

(١) (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي فيها أنهار جارية من مياه غير متغيرة الطعم والريح ، لطول مكثها وركودها.

(٢) (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حازرا كألبان الدنيا ، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم.

(٣) (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي وفيها أنهار من خمر لذيذة لهم ، إذ لم تدنسها الأرجل ، ولم ترنّقها (تكدرها) الأيدى كخمر الدنيا ، وليس فيها كراهة طعم وريح ، ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا ، فلا يتكرّهها الشاربون.

(٤) (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وفيها أنهار من عسل قد صفّى من القذى وما يكون فى عسل أهل الدنيا قبل التصفية من الشمع وفضالات النحل وغيرها.

وبدىء بالماء لأنه لا يستغنى عنه فى الدنيا ، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى المطعوم لكثير من العرب فى غالب أوقاتهم ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الرىّ والشبع تشوفت النفس لما يستلذ به ، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء فى الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم.

أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن معاوية ابن حيدة قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : «فى الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها بعد».

٥٨

(٥) (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولهم فيها أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال.

(٦) (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهو يرضى عنهم بما أسلفوا من عمل ، ويتجاوز عن هفواتهم التي اقترفوها فى الدنيا.

وبعد أن ذكر ما وعد به المتقين من النعيم ـ ذكر ما أوعد به الكافرين من العذاب الأليم فقال :

(١) (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أم من هو خالد فى الجنة بحسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد فى النار كما نطق به الكتاب فى قوله : «وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» أي ليس هؤلاء كأولئك فليس من هو فى الدرجات العلى ، كمن هو فى الدركات السفلى.

(٢) (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي وسقوا ماء حارّا لايستساغ ، وإذا دنوا منه شوى وجوههم وقطّع أمعاءهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

٥٩

تفسير المفردات

آنفا : أي قبيل هذا الوقت ، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه ، وأصل ذلك الأنف بمعنى الجارحة ثم سمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه ، آتاهم : أي ألهمهم ، بغتة : أي فجأة ، والأشراط : العلامات ، واحدها شرط (بالسكون والفتح) ومنه أشراط الساعة ، قال أبو الأسود الدؤلي :

فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا

فقد جعلت أشراط أوله تبدو

فأنى لهم : أي كيف لهم ، ذكراهم : أي تذكرهم ، متقلبكم : أي تقلبكم لأشغالكم فى الدنيا ، ومثواكم : أي مأواكم فى الجنة أو النار.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال المشركين وبين سوء مغبتهم ـ أردف هذا بيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونا واستهزاء به ، حتى إذا خرجوا من عنده قالوا للواعين من الصحابة : ما ذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟ ـ وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم ، واتبعوا أهواءهم ، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه وأقبلوا على جمع حطام الدنيا ، ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا ، وألهمهم ربهم ما يتقون به النار ، ثم عنّف أولئك المكذبين وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجىء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد صلّى الله عليه وسلم والذكرى لا تنفع حينئذ ، ثم أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه ، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات ، والله هو العليم بمتصرفكم فى الدنيا ومصيركم إلى الجنة أو إلى النار فى الآخرة.

٦٠