تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقول الله تعالى : «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» ثم قال : عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.

وروى أبو أسامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر».

والحكمة فى هذا أن الله لم يخلق الناس لتعذيبهم ، بل خلقهم لتربيتهم وتهذيبهم ، فكل ألم فهو لرقىّ النفس. والعالم المادي من طبعه أن يكون نفعه أكثر من ضره ، والله تعالى خلقنا لغاية شريفة لنا ، والحسنات هى الأصل والسيئات عارضة ؛ كما أن المنافع فى الطبيعة هى الأصل والمضارّ عارضة ، فالنار خلقت لنفعه ، والماء لنفعه ، والهواء لنفعه فإذا أحرق ثوب الناسك ، أو أغرق رب صبية لا عائل لهم ، فهذا عارض ، والأصل فى ذلك المنافع ، وهكذا خلق نوع الإنسان للخير ، والشر عارض ، ولفعل الحسنات ، والسيئات عارضة.

وبعد أن ذكر استبعادهم البعث للجزاء ، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه ، أعلمهم بأنهم يلاقون صدق ذلك حين الموت وحين قيام الساعة فقال :

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أي وكشفت لك سكرة الموت عن اليقين الذي كنت تمترى فيه ، وأن البعث لا شك فيه.

(ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي ذلك الحق الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ، ولا فكاك ولا خلاص.

ولما ثقل أبوبكر جاءت عائشة رضى الله عنها فتمثلت بقول حاتم :

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

١٦١

فكشف رضى الله عنه عن وجهه وقال : ليس كذلك ، ولكن قولى : «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ».

وفى الصحيح «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : سبحان الله ، إن للموت لسكرات».

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ونفخ فى الصور نفخة البعث ، وذلك الزمان العظيم الأهوال هو اليوم الذي أوعد الله الكفار أن يعذبهم فيه.

وفى الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا يا رسول الله ماذا نقول؟ قال :

قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل».

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي وجاءت فى هذا اليوم كل نفس ربها ومعها سائق يسوقها إليه ، وشهيد يشهد عليها بما عملت فى الدنيا من خير أو شر.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي لقد كنت أيها الإنسان فى غفلة عن هذا الذي عاينت من الأهوال والشدائد ، فجلّينا ذلك لك ، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته ، فزالت عنك هذه الغفلة.

وقد جعل سبحانه الغفلة غطاء غطّى به الجسد كله ، أو غشاوة غشّى بها عينيه فلا يبصر شيئا ، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها ، فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ

١٦٢

فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

تفسير المفردات

القرين : هو الملك الموكّل بالمرء ، عتيد : أي معدّ محضر ، عنيد : أي مبالغ فى العناد وترك الانقياد للحق ، مناع للخير : أي كثير المنع للمال فى الحقوق المفروضة عليه ، معتد : أي متجاوز للحق ظالم ، مريب : أي شاكّ فى الله وفى دينه ، القرين هنا : الشيطان المقيّض له ، بعيد : أي من الحق ، لا تختصموا لدىّ : أي لا يجادل بعضكم بعضا عندى ، بالوعيد : أي على الطغيان فى دار الدنيا فى كتبى وعلى ألسنة رسلى ، ما يبدل القول لدى : أي لا يقع فيه الخلف والتغيير فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي ، مزيد : زيادة.

الإيضاح

(وَقالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي وقال الملك الموكل به : هذا الذي وكلتني به من بنى آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي قال تعالى للسائق والشهيد : ألقيا فى جهنم كل من كفر بالله ، أو أشرك به معبودا سواه من خلقه أو كذب الحق وعارضه بالباطل ، ومنع الحقوق المفروضة عليه ، واعتدى الناس بلسانه بالبذاء والفحش ، وبيده بالسطوة والبطش ظلما.

١٦٣

ثم كرر ما سلف توكيدا فقال :

(فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي فألقياه فى النار ذات العذاب الشديد.

(قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي قال الكافر معتذرا :

رب إن قرينى من الشياطين أطغانى ، فقال الشيطان المقيّض له : ربنا ما أطغيته ، ولكن كان طبعه وديدنه الضلال والبعد عن الحق ، فسار على النهج الذي يشاكل أخلاقه.

وخلاصة ذلك ـ إنه فى ضلال بعيد المدى لا يرجع عنه إلى الحق.

ونحو الآية قوله : «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي».

(قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قال عز اسمه للإنسى وقرينه من الجن حين اختصما ـ فقال الإنسى : رب إن هذا أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى ، وقال الشيطان : ربنا ما أطغيته ولكن كان فى ضلال بعيد عن منهج الحق ـ لا تختصموا عندى ، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل وأنزلت الكتب ، وقامت عليكم الحجج.

والخلاصة ـ إنهم اعتذروا بغير ما يصلح أن يكون عذرا ، فأبطل الله حجتهم وردّ عليهم بقوله :

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي لا يغيّر قضائى الذي قضيته ، ووعيدي الذي أوعدته بتخليد الكفار فى النار ومجازاة العصاة على قدر ما يستحقون.

(وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا أعذب أحدا بغير جرم اجترمه ، ولا ذنب جناه ولا أعذب أحدا مكان أحد.

ثم ذكر مكان حلول الوعيد فقال :

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) أي وأنذر قومك يوم نقول لجهنم : هل امتلأت بما ألقى إليك فوجا بعد فوج؟ فتقول : لا مزيد بعد ذلك.

١٦٤

وفى هذا بيان لأنها مع اتساعها وتباعد أقطارها ، يطرح فيها من الجنّة والناس جماعات بعد جماعات حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة.

وهذا السؤال والجواب جىء بهما للتمثيل وتصوير المعنى بإبرازه فى لباس المحسوس ليتضح أمره.

روى عن ابن عباس أنه قال : سبقت كلمته : لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، فلما سيق أعداء الله إليها صارت لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شىء فتقول ألست قد أقسمت لتملأنّى؟ فيضع قدمه عليها فيقول : هل امتلأت؟ فتقول : قطّ قطّ (كفى كفى) قد امتلأت لا مزيد.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

تفسير المفردات

أزلفت : أي أدنيت وقرّبت ، غير بعيد : أي فى مكان غير بعيد منهم بل هو بمرأى منهم ، هذا ما توعدون : أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل ، أوّاب : أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة ، حفيظ : أي حافظ لحدود الله وشرائعه ، خشى الرحمن بالغيب : أي خاف عقاب ربه وهو غائب عن الأعين حين لا يراه أحد ، منيب : أي مخلص مقبل على طاعة الله ، بسلام : أي سالمين من العذاب وزوال النعم ، الخلود : أي فى الجنة إذ لا موت فيها ، مزيد : أي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

١٦٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الحوار بين الكافر وقرينه من الشياطين ، واعتذار الكافر وردّ القرين عليه ، وأن الله سبحانه نهاهم عن الاختصام لديه ، لأنه لا فائدة فيه بعد أن أوعدهم على ألسنة رسله ـ أردف هذا ذكر حال المتقين ، فذكر أن الجنة تكون قريبة منهم بحيث يرونها رأى العين ، فتطمئن إليها نفوسهم وتثلج لمرآها صدورهم ، ويقال لهم هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الأنبياء والرسل ، وهو دائم لا نفاد له ولا حصر ، فكل ما يريدون من لذة ونعيم فهو حاضر ، ولهم فوق هذا رضوان من ربهم «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ».

الإيضاح

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي وأدنيت الجنة للذين اتقوا ربهم ، واجتنبوا معاصيه ، بحيث تكون بمرأى العين منهم ، إكراما لهم ، واطمئنانا لنفوسهم ، فيرون ما أعدّ لهم من نعيم وحبور ، ولذة وسرور ، لا نفاد له ولا فناء.

(هذا ما تُوعَدُونَ) أي وتقول لهم الملائكة : هذا هو النعيم الذي وعدكم به ربكم على ألسنة رسله ، وجاءت به كتبه.

ثم بين المستحق لهذا النعيم فقال :

(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي هذا الثواب للمتقين الذين يرجعون من معصية الله إلى طاعته تائبين من ذنوبهم ويلقون الله بقلوب منيبة إليه ، خاضعة له.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي وتقول لهم الملائكة تكرمة لهم : ادخلوا الجنة سالمين من العذاب والهموم والأكدار ، فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

ثم يبشّرون ويقال لهم :

١٦٦

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي فاطمئنوا وقرّوا عينا ، فهذا يوم الخلود الذي لا موت بعده ، ولا ظعن ولا رحيل.

ثم زاد فى البشرى فقال :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي لهم إجابة لسؤالهم كل ما يشتهون ، ثم نزيدهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينهم ولم يدر بخلدهم.

ونحو الآية قوله : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ».

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

تفسير المفردات

القرن : الجيل من الناس ، بطشا : أي قوة ، فنقبوا فى البلاد : أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب ، ويقال لمن طوّف فى الأرض نقّب فيها ، قال امرؤ القيس :

فقد نقّبت فى الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

١٦٧

محيص : أي مهرب ، لذكرى : أي لعبرة ، قلب : أي لبّ يعى به ، أو ألقى السمع : أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحى ، شهيد : أي حاضر فهو من الشهود بمعنى الحضور ، والمراد به الفطن ، إذ غيره كأنه غائب ، لغوب : أي تعب ، سبح بحمد ربك : أي نزهه عن كل نقص ، أدبار السجود : أي أعقاب الصلوات ، واحدها دبر (بضم فسكون وبضمتين) واستمع أي لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة ، يوم ينادى المنادى : أي يخرجون من القبور يوم ينادى المنادى ، من مكان قريب : أي بحيث لا يخفى الصوت على أحد ، والمنادى هو جبريل عليه السلام ، على ما ورد فى الآثار ، يقول : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزّقة ، والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.

والصيحة : النفخة الثانية. بالحق : أي بالبعث والجزاء ، يوم الخروج : أي من القبور ، تشقق : أي تتصدع ، بجبار : أي بمسيطر ومسلط ، إنما أنت داع ومنذر.

المعنى الجملي

بعد أن أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم ـ أنذرهم بما يعجل لهم فى الدنيا من ضروب العذاب ، سنة الله فيمن تقدمهم من المكذبين قبلهم ممن ساروا فى البلاد طولا وعرضا وكانوا ذوى قوة وأيد ، ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا ، ووسط بين ذلك ذكر المتقين وما يلاقونه من النعيم ، ليكون أمرهم بين الخوف والطمع ، ومن ثم ذكر حال الكفور المعاند ، وحال الشكور العابد ، ثم ذكر أن هذا عظة وذكرى لكل ذى لبّ واع سميع لما يلقى إليه ، ثم أعاد الدليل مرة أخرى على إمكان البعث ، فأبان أنه قد خلق السموات والأرض فى ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب ولا لغوب كما قال : «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟» ثم أمره بالصبر على ما يقولون ، وتنزيه الله عن كلّ نقص آناء الليل وأطراف النهار ، فها هو ذا قد اقترب يوم البعث والنشور ، وسمع صوت الداعي لذلك بعد النفخ فى الصور ، وتشققت الأرض سراعا وخرج الناس من

١٦٨

القبور ، وما ذلك بالصعب على رب العالمين ، خالق السموات والأرضين ، وإنا لنعلم ما يقول المشركون فى البعث والنشور ، فدعهم فى غيّهم يعمهون ، فما أنت عليهم بجبار تلزمهم الإيمان بهذا اليوم ، وما فيه من هول ، إن أنت إلا نذير ، ولا يؤمن بك إلا من يخاف عقابى ، وشديد وعيدي ، ولا تنفع العظة إلا ذوى الأحلام الراجحة ، والقلوب الواعية.

الإيضاح

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟) أي وكثير من الأمم التي قبلك أهلكناهم وكانوا أشد من قومك بطشا ، وأكثر منهم قوة ، كعاد وثمود وتبّع ، فتقلبوا فى البلاد وسلكوا كل طريق ابتغاء للرزق ، ولم يجدوا لهم من أمر الله مهربا ولا ملجأ حين حمّ القضاء ، وهكذا حالكم ، فحذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب العاجل فى الدنيا ، والآجل يوم القيامة.

وبعد أن ذكر فى هذه السورة وما قبلها بارع الحكم ونفائس المعارف الإلهية جملة وتفصيلا ، فمن أدب للأمة مع نبيها ، إلى أدب للأمة بعضها مع بعض ، إلى حفظ للسلام بين الناس والصلح بينهم ، وصيانة اللسان من الهزؤ والسخرية والهمز واللمز ، ثم إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض ، وبذا يحل التواصل محل التقاطع ، ويتعلم الجهال ، ويجتمع الشمل ، ويخيم الأمن فى ربوع البلاد ، أبان أن تلك الزواجر لا ينتفع بها إلا ذوو الألباب فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي إن فيما تقدم لتذكرة وعبرة لمن كان له قلب واع يتدبر به الحقائق ، ويعى ما يقال له.

ثم أعقب ذلك بذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي قسما بربك إنا خلقنا السموات والأرض وملأناهما بالعجائب فى ستة أطوار مختلفة

١٦٩

وما مسنا تعب ولا إعياء ، ولا تزال عجائبنا تترى كل يوم ، فانظروا إليها ، وناملوا فى محاسنها ، فهى لا تحصى ، ولا يبلغها الاستقصاء ، وكذّبوا اليهود الذين قالوا : إن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش ، فنحن لا يمسنا لغوب ولا إعياء.

ونحو الآية قوله : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي فاصبر على ما يقوله المشركون فى شأن البعث من الأباطيل التي لا مستند لها إلا الاستبعاد ، فإن من خلق الخلق فى تلك المدة اليسيرة بلا إعياء ـ قادر على بعثهم وجزائهم على ما قدموا من الحسنات والسيئات.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي ونزه ربك عن العجز عن كل ممكن كالبعث ونحوه ، حامدا له أنعمه عليك ، وقت الفجر ووقت العصر وبعض الليل ، وفى أعقاب الصلوات.

وقال ابن عباس : الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل الغروب الظهر والعصر ، ومن الليل العشاءان ، وأدبار السجود النوافل بعد الفرائض.

روى البخاري عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يسبح فى أدبار الصلوات كلها ، يعنى قوله : «وَأَدْبارَ السُّجُودِ» وفى حديث مسلم تحديد التسبيح بثلاث وثلاثين ، والتحميد بثلاث وثلاثين ، والتكبير بثلاث وثلاثين ، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير ، دبر كل صلاة.

(وَاسْتَمِعْ) أيها الرسول لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة ، وفى إبهام أمره ، تعظيم لشأنه.

ثم بين ذلك الخبر وزمانه بقوله :

(يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي يوم ينادى المنادى من موضع قريب

١٧٠

فيصل نداؤه إلى كل الخلائق على السوية ، ويقول : هلموا إلى الحساب ، فيخرجون من قبورهم ويقبلون. كأنهم جراد منتشر.

ثم زاد الأمر تفصيلا فقال :

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ) أي يوم يسمعون النفخة الثانية منذرة بالبعث والجزاء على ما قدموا من الأعمال.

ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال :

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي هذا اليوم هو يوم الخروج من القبور.

ثم لخص ما تقدم من أول السورة إلى هنا فقال :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي إنا نحن نحيى فى الدنيا ونميت فيها حين انقضاء الآجال ، وإلينا الرجوع للحساب والجزاء فى الآخرة.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي إلينا المصير فى ذلك اليوم الذي تتصدع فيه الأرض فتخرج الموتى من صدوعها مسرعة ، وذلك جمع هين علينا ، لا عسر فيه ولا مشقة.

ثم سلى رسوله وهدد المشركين بقوله :

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي نحن أعلم بما يقولون من فريتهم على ربهم وتكذيبهم بآياته ، وإنكارهم قدرته على البعث بعد الموت.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي وما أنت بمسلّط عليهم تقسرهم على الإيمان وتسيرهم على ما تهوى وتريد ، إنما أنت نذير ، وما عليك إلا التبليغ وعلينا الحساب.

ثم أكد أنه مذكّر لا مسيطر وأن التذكير لا ينفع إلا من خشى ربه فقال :

(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي فذكر أيها الرسول بهذا القرآن الذي أنزلته عليك من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عصانى وخالف أمرى ، أي بلغ رسالة ربك ، وما يتذكر بها إلا من يخاف وعيد الله وشديد عذابه.

١٧١

ونحو الآية قوله : «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله : «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ. وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ».

وكان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك ، يا برّ يا رحيم.

موجز لما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات

(١) إنكار المشركين للنبوة والبعث.

(٢) الحث على النظر فى السماء وزينتها وبهجة بنائها ، وفى الأرض وجبالها الشامخات ، وزروعها النضرات ، وأمطارها الثجّاجات.

(٣) العبرة بالدول الهالكات كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع وما استحقوا من وعيد وعذاب.

(٤) تقريع الإنسان على أعماله ، وأنه مسئول عن دخائل نفسه ، فى مجلس أنسه ، وعند إخوته ، وفى خلوته ، وأنه محوط بالكرام الكاتبين ، يحصون أعماله ، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته ، وحانت منيته ، حوسب على كل قول وكل عمل ، وشهدت عليه الشهود وكشفت له الحجب.

(٥) إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا.

(٦) إن القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع يستمع ما يلقى إليه.

(٧) تسلية رسوله على ما يقول المشركون من إنكار البعث وتهديدهم على ذلك (٨) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

(٩) أمر الرسول بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد الله ويخشى عقابه.

١٧٢

سورة الذاريات

هى مكية وآيها ستون ، نزلت بعد الأحقاف ، ومناسبتها لما قبلها :

(١) إنه قد ذكر فى السورة السابقة البعث والجزاء والجنة والنار ، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق وأن الجزاء واقع.

(٢) إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

تفسير المفردات

الذاريات : الرياح تذرو التراب وغيره : أي تفرقه ، والوقر : حمل البعير وجمعه أوقار : أي أثقال ، والحاملات وقرا : هى الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء ، واليسر : السهولة ، والجاريات يسرا : هى الرياح الجارية فى مهابّها بسهولة ، والمقسمات أمرا : هى الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب ، وما توعدون : هو البعث

١٧٣

والحشر للحساب والجزاء ، والدين : الجزاء ، وواقع : أي حاصل ، والحبك : الطرق واحدها حبيكة ، مختلف : أي متناقض مضطرب فى شأن الله ، فبينا تقولون إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان معه ، وفى شأن الرسول فتارة تقولون إنه مجنون وتارة تقولون إنه ساحر ، وفى شأن الحشر فتارة تقولون لا حشر ولا بعث ، وأخرى تقولون : الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة ، يؤفك عنه من أفك : أي يصرف عن القول المختلف : أي بسببه من صرف عن الإيمان ، والخرّاصون : أي الكذابون من أصحاب القول المختلف ، فى غمرة : أي فى جهل يشملهم ويغمرهم شمول الماء الغامر ، ساهون : أي غافلون عما أمروا به ، أيان يوم الدين : أي متى يوم الجزاء : أي متى حصوله ، يفتنون : أي يحرقون ، وأصل الفتن : إذابة الجوهر ليعرف غشه ، فاستعمل فى الإحراق والتعذيب ، فتنتكم : أي عذابكم المعدّ لكم.

المعنى الجملي

هاهنا أمور يجمل بك أن تتفهمها :

(١) بعد أن بين الحشر بدلائله وقال : «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» ثم أصروا على ذلك غاية الإصرار لم يبق إلا اليمين فقال «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ـ ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ».

(٢) إن الأيمان التي حلف بها الله تعالى فى كتابه كلها دلائل على قدرته أخرجها فى صورة الأيمان ، كما يقول القائل للمنعم عليه : وحق نعمك الكثيرة إنى لا أزال أشكرك ، فيذكر النعم وهى سبب لدوام الشكر ويسلك بها مسلك القسم ، وجاءت الآية هكذا مصدّرة بالقسم ، لأن المتكلم إذا بدأ كلامه به علم السامع أن هاهنا كلاما عظيما يجب أن يصغى إليه ، فإذا وجّه همه لسماعه خرج له الدليل والبرهان المتين فى صورة اليمين.

١٧٤

(٣) فى السور التي أقسم الله فى ابتدائها بغير الحروف المقطعة كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة : الوحدانية والرسالة والحشر وهى التي يتم بها الإيمان ، فأقسم لإثبات الوحدانية فى سورة الصافات فقال : «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» وأقسم فى سورتى النجم والضحى لإثبات الرسالة فقال فى الأولى : «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» وقال فى الثانية : «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» وأقسم فى سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء.

(٤) فى السورة التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات فقال : «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا» وفى السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات فقال : «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ـ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ـ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ـ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» لأن الحشر فيه جمع وتفريق ، وهو بالحركة أليق.

(٥) كانت العرب تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع ، وقد جرى النبي صلى الله عليه وسلّم على سننهم ، فحلف بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا ، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقا ، وإلا أصابه شؤم الأيمان ، وناله المكروه فى بعض الأيمان.

الإيضاح

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم سبحانه بالرياح وذروها التراب ، وحملها السحاب ، وجريها فى الهواء بيسر وسهولة ، وتقسيمها الأمطار ، إن هذا البعث لحاصل ، وإن هذا الجزاء لا بد منه فى ذلك اليوم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها ، لما يشاهدون من آثارها ونفعها العظيم لهم فهى التي ترسل الأمطار مبشرات برحمته ، ومنها تسقى الأنعام والزروع ، وبها تنبت

١٧٥

البساتين والجنات وتصير الأرض القفر مروجا ، وعليها يعتمدون فى معاشهم ، فآثارها واضحة أمامهم ، ولا عجب أن تكون لها المنزلة العظمى فى نفوسهم.

وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية ، فإن ما على الأرض منجذب إليها ، واقع عليها ، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفا عجيبا تابعا لسير الكواكب ، فبجريها وجرى الشمس تؤثر فى أرضنا وهوائها بنظام محكم ، فما ذرت الرياح التراب ، ولا حملت السحاب ، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكية منتظمة ، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء ، والحسن والاستواء ، إنكم أيها المشركون المكذبون للرسول ، لفى قول مختلف مضطرب ، لا يلتئم ولا يجتمع ، ولا يروج إلا على من هو ضالّ فى نفسه ، لأنه قول باطل يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به.

والخلاصة ـ قسما بالسماء وزينتها وجمالها ، إن أمركم فى شأن محمد وكتابه لعجب عاجب ، فهو متناقض مضطرب ، فحينا تقولون هو شاعر ، وحينا آخر تقولون هو ساحر ، ومرة ثالثة تقولون هو مجنون ، وبينا تقولون عن القرآن إنه سحر إذا بكم تقولون إنه شعر أو إنه كهانة.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم فى جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به.

وهذا دعاء عليهم يراد به فى عرف التخاطب لعنهم ، إذ من لعنه الله فهو بمنزلة الهالك المقتول ، وقد جاء فى القاموس : قتل الإنسان ما أكفره : أي لعن ، وقاتلهم الله ، أي لعنهم.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألك المشركون استهزاء فيقولون : متى يوم الجزاء ، وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجىء هذا

١٧٦

اليوم ، فإن أحدا منهم لا يترك عبيده وأجراءه فى عمل دون أن يحاسبهم وينظر فى أحوالهم ، ويحكم بينهم فى أقوالهم وأفعالهم ، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه ـ سدى ويوجدهم عبثا؟.

ثم أجاب عن هذا السؤال وذكر أنه يكون يوم القيامة فقال :

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار وتقول لهم الخزنة : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون وقوعه استهزاء وتظنون أنه غير كائن.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

تفسير المفردات

فى جنات وعيون : أي فى بساتين تجرى من تحتها الأنهار ، محسنين : أي مجوّدين لأعمالهم ، والهجوع : النوم ليلا ؛ والهجعة النومة الخفيفة ، والأسحار : واحدها سحر وهو السدس الأخير من الليل ، حق : أي نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم تقربا إلى ربهم وإشفاقا على عباده ، والسائل : هو المستجدى الطالب العطاء ، والمحروم : هو المتعفف

١٧٧

الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس ، آيات : أي دلائل على قدرته تعالى من وجود المعادن والنبات والحيوان ، والدحو فى بعض المواضع والارتفاع فى بعضها الآخر عن الماء ، واختلاف أجزائها فى الكيفيات والخواص. للموقنين : أي للموحدين الذين سلكوا الطريق الموصل إلى معرفة الله ، فهم نظارون بعيون باصرة ، وأفهام نافذة ، وما توعدون : أي والذي توعدونه من خير أو شر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال المغترين الذين أنكروا يوم الدين ، وكذبوا بالبعث والنشور ، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وعبدوا مع الله غيره من وثن أو صنم ـ أردف ذلك ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، جزاء إحسانهم فى أعمالهم ، وقيامهم بالليل للصلاة ، والاستغفار بالأسحار ، وإنفاقهم أموالهم للفقراء والمساكين ، ونظرهم فى دلائل التوحيد التي فى الآفاق والأنفس ، وتفكيرهم فى ملكوت السموات والأرض مصدقين قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ».

ثم أقسم برب السماء والأرض إن ما توعدون من البعث والجزاء حق لا شك فيه ، كما لا شك فى نطقكم حين تنطقون.

الإيضاح

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه ، فى بساتين وجنات تجرى من تحتها الأنهار ، قريرة أعينهم بما آتاهم ربهم ، إذ فيه ما يرضيهم ويغنيهم ويفوق ما كانوا يؤملون.

ثم ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم كانوا فى دار الدنيا يفعلون صالح

١٧٨

الأعمال ، خشية من ربهم وطلبا لرضاه ، ومن ثم نالوا هذا الفوز العظيم ، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون.

ونحو الآية قوله : «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» ، ثم فصل ما أحسنوا فيه فقال :

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون القليل من الليل ويتهجدون فى معظمه ، قال ابن عباس : ما تأتى عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئا إما من أولها أو من وسطها ، وقال الحسن البصري : كابدوا قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نشطوا فجدّوا إلى السحر. وعن أنس قال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي فهم يحيون الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا فى الاستغفار كأنهم أسلفوا فى ليلهم الجرائم.

ولما ذكر أنهم يقيمون الصلاة ثنى بوصفهم بأداء الزكاة والبر بالفقراء فقال :

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا فى أموالهم جزءا معينا ميزوه وعزلوه للطالب المحتاج ، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يسأل الناس ، ولا يفطنون إليه ليتصدقوا عليه.

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ، قيل فمن المسكين؟

قال الذي ليس له ما يغنيه ، ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه ، فذلك المحروم».

وبعد أن ذكر أوصاف المتقين بين أنه قد لاحت لهم الأدلة الأرضية والسماوية التي بها أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه فقال :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفى الأرض دلائل على وجود الخالق وعظيم

١٧٩

قدرته ، استبانت لمن فكر وتدبر فى هذا الكون وبديع صنعه ، مما يشاهد من صنوف النبات والحيوان ، والمهاد والجبال ، والقفار والبحار ؛ إلى نحو أولئك مما بهر المخلوقات كما قال : «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ».

فالموقنون كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها فازدادوا إيقانا ، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين يعترفون بذلك ، ويتدبرونه فينتفعون به.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) أي أفلا تنظرون نظر من يعتبر فى اختلاف الألسنة والألوان ، والتفاوت فى العقول والأفهام ، واختلاف الأعضاء ، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحار فيه اللّبّ ، ويدهش منه العقل؟

وخلاصة ما سلف ـ إنّ الله تعالى وصف المتقين بأنهم مجدّون فى العبادة البدنية وفى بذل المال للمستحقين من ذوى الحاجة والبائسين ، والإيمان بالله والعلم بقدرته بالنظر فى الآفاق والأنفس.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي وفى السماء أسباب رزقكم من النيّرين (الشمس والقمر) والكواكب والمطالع والمغارب التي بها تختلف الفصول فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب وتسوقها الرياح لأسباب فلكية وطبيعية أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة. وكذلك ما توعدون من خير وشر ، قاله مجاهد.

ثم أقسم ربنا بعزته وجلاله إن البعث لحق فقال :

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أقسم ربنا جلت قدرته بجلاله وكبريائه : إن ما وعدكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء حق لا مرية فيه ، فلا تشكّوا فيه كما لا تشكون فى نطقكم حين تنطقون ، وهذا كما يقول الناس : إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع.

١٨٠