تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

(١) التظلم ، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.

(٢) الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.

(٣) الاستفتاء ، فيجوز للمستفتى أن يقول للمفتى : ظلمنى فلان بكذا فهل يجوز له ذلك.

(٤) تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمتصدّين للافتاء مع عدم أهليتهم لذلك ، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج أو مخالطة غيره فى أمر دينى أو دنيوى ويقتصر على ما يكفى ، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك.

(٥) أن يجاهروا بالفسق كالمدمنين على شرب الخمور وارتياد محالّ الفجور ، ويتباهوا بما يفعلون.

(٦) التعريف بلقب أو نحوه ، كالأعور والأعمش ونحو ذلك إذا لم تمكن المعرفة بغيره.

والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها مع ولوع الناس بها حتى إن بعضهم ليقولون : هى صابون القلوب ، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر ، وضراوة كضراوة الخمر.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

تفسير المفردات

من ذكر وأنثى : أي من آدم وحواء ، قال إسحاق الموصلي :

الناس فى عالم التمثيل أكفاء

أبوهم آدم والأم حوّاء

فإن يكن لهم فى أصلهم شرف

يفاخرون به فالطين والماء

١٤١

والشعوب : واحدهم شعب (بفتح الشين وسكون العين) وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومضر ، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر. وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع : الشعب ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة ، وكل واحد منها يدخل فيما قبله ، فالقبائل تحت الشعوب ، والعمائر تحت القبائل ، والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة (بفتح العين وكسرها) وقصىّ بطن ، وعبد مناف فخذ ، وهاشم فصيلة ، والعباس عشيرة ، وسمى الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن السخرية بالناس والازدراء بهم ، وعن اللمز والتنابز بالألقاب ـ ذكر هنا ما يؤكد النهى ويؤيد ذلك المنع ، فبين أن الناس جميعا من أب واحد وأمّ واحدة ، فكيف يسخر الأخ من أخيه؟ إلى أنه تعالى جعلهم شعوبا وقبائل مختلفة ، ليحصل بينهم التعارف والتعاون فى مصالحهم المختلفة ، ولا فضل لواحد على آخر إلا بالتقوى والصلاح وكمال النفس ، لا بالأمور الدنيوية الزائلة.

ذكر أبو داود أن الآية نزلت فى أبى هند وكان حجام النبي صلّى الله عليه وسلم قال : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بنى بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم : نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل : «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ» الآية.

١٤٢

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي إنا أنشأناكم جميعا من آدم وحواء ، فكيف يسخر بعضكم من بعض ، ويلمز بعضكم بعضا وأنتم إخوة فى النسب ، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه.

وعن أبى مليكة قال : لما كان يوم فتح مكة رقى بلال فأذّن على ظهر الكعبة فقال عتّاب بن أسيد بن أبى العيص : الحمد لله الذي قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ، وقال سهيل بن عمرو :

إن يرد الله شيئا يغيره ، فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله الآية زجرا لهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء ، وبين أن الفضل بالتقوى.

وروى الطبري قال : «خطب رسول الله بمنى فى وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال :

يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربى على عجمى ، ولا لعجمى على عربى ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ قالوا نعم ، قال : فليبلغ الشاهد الغائب».

وعن أبى مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه ، وإنما أنتم بنو آدم ، وأحبكم إليه أتقاكم».

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي للتعارف لا للتناكر ، واللمز والسخرية والغيبة تفضى إلى ذلك.

١٤٣

ثم ذكر سبب النهى عن التفاخر بالأنساب بقوله :

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي إن الأكرم عند الله الأرفع منزلة لديه عز وجل فى الآخرة والدنيا هو الأتقى ، فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى ، فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.

روى ابن عمر رضى الله عنهما «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس يوم فتح مكة وهو على راحلته فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل برّ تقى كريم على الله ، ورجل فاجر شقى هيّن على الله تعالى ، إن الله عز وجل يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ثم قال : أقول قولى هذا ، وأستغفر الله لى ولكم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بكم وبأعمالكم ، خبير بباطن أحوالكم ، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ

١٤٤

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

تفسير المفردات

الأعراب : سكان البادية ، آمنّا : أي صدقنا بما جئت به من الشرائع ، وامتثلنا ما أمرنا به ، فالإيمان هو التصديق بالقلب. أسلمنا : أي انقدنا لك ، ودخلنا فى السّلم وهو ضد الحرب : أي فلسنا حربا للمؤمنين ، ولا عونا للمشركين ، لا يلتكم : أي لا ينقصكم ، يقال : لاته يليته إذا نقصه ، حكى الأصمعى عن أم هشام السلولية «الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمّه الأصوات» يمنون عليك : أي يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة ، وأسدى إليك نعمة.

المعنى الجملي

بعد أن حثّ الناس على التقوى ـ وبّخ من فى إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم وغلة ، لأنهم كانوا يريدون المغانم وعرض الدنيا ، إذ جاءوا فى سنة مجدبة ، وكانوا يقولون لرسوله صلّى الله عليه وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، يريدون بذكر ذلك الصدقة والمنّ على النبي صلّى الله عليه وسلم ، فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم ، وأنهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا ، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان ، وأمرهم أن يقولوا : استسلمنا وخضعنا ، ثم أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة ، ثم بين أن من علامة الإيمان الكامل التضحية بالنفس والمال فى سبيل الله ببذلهما فى تقوية دعائم الدين وإعلاء شأنه وخضد شوكة العدو بكل السبل الممكنة ، ثم أعقب هذا بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف

١٤٥

أو قوى ؛ إذ لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ، وأنه لا ينبغى للمؤمن أن يمتنّ على الرسول بإيمانه ، بل من حق الرسول أن يمتنّ عليه بأن وفّق للهداية على يديه إن كان صادق الإيمان. ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه ، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه فى السموات والأرض لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شر ، قال مجاهد : نزلت فى أعراب من بنى أسد بن خزيمة (وكانوا يجاورون المدينة) قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين حقّا.

وقال السّدّىّ : نزلت فى الأعراب المذكورين فى سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا.

الإيضاح

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) أي قالت الأعراب : صدقنا بالله ورسوله ونحن له مؤمنون فردّ الله عليهم مكذبا لهم مع عدم التصريح بذلك فقال :

(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي قل لهم : إن الإيمان هو التصديق مع طمأنينة القلب والوثوق بالله ولم يحصل لكم بعد ، بدليل أنكم مننتم على الرسول بترك مقاتلته ، ولكن قولوا : انقدنا لك واستسلمنا ، ولا ندخل معك فى حرب ، ولا نكون عونا لعدوك عليك.

وجاءت الآية على هذا الأسلوب ، ولم يقل لهم كذبتم ، ولكن قولوا أسلمنا ، حملا له عليه السلام على الأدب فى التخاطب ليتأسّى به أتباعه ، فيلينوا لمن يخاطبونهم فى القول.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي قولوا أسلمنا فحسب ، لأنه لم يدخل الإيمان

١٤٦

فى قلوبكم بعد ، إذ لم يوافق القلب ما جرى به اللسان ، ولم يكن لشرائع الدين ولا آدابه أثر فى أعمالكم ، فلم تتغذّ بها أرواحكم ، ولم تصطبغ بهديها نفوسكم.

قال الزجاج : الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك هو الإيمان وصاحبه المؤمن اه.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي وإن تطيعوا الله ورسوله وتخلصوا له فى العمل وتتركوا النفاق لا ينقص سبحانه من أجوركم شيئا ، بل يضاعف ذلك أضعافا كثيرة.

ولما كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد ـ ذكر أنه غفور لزلاته فقال :

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه ستار للهفوات ، غفار لزلات من تاب وأناب وأخلص لربه ، رحيم به أن يعذبه بعد التوبة ، بل يزيد فى إكرامه ، ويصفح عن آثامه.

ثم بين سبحانه حقيقة الإيمان بقوله :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي إنما المؤمنون حق الإيمان الذين صدقوا الله ورسوله ، ثم لم يشكوا ولم يتزلزلوا ، بل ثبتوا على حال واحدة ، وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم فى طاعة الله ورضوانه ـ أولئك هم الصادقون فى قولهم : آمنا ، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة ، وقد دخلوا الملة خوفا من السيف ، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم.

ثم أكد ما سبق من قوله : لم تؤمنوا بقوله :

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟) أي قل لهم : أتخبرون الله بما فى ضمائركم ، وما تنطوى عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم : آمنا حقا.

١٤٧

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه مثقال ذرة فيهما.

وفى هذا تجهيل وتوبيخ لهم لا يخفى أمره (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم فتنالكم عقوبته ، إذ لا يخفى عليه شىء.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدّون إسلامهم ومتابعتهم لك ونصرتهم إياك منّة يطلبون منك أجرها ، فقد قالوا جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدّعونه من الإسلام فقال :

(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا إسلامكم الذي سميتموه إيمانا منة علىّ ، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه ، ومن ثم قال :

(بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل الله هو الذي يمن عليكم ، إذ أمدكم بتوفيقه وهدايته للإيمان إن كنتم صادقين فى إيمانكم.

وفى هذا إيماء إلى أنهم كاذبون فى ادعائهم الإيمان.

روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأنصار يوم حنين «يا معشر الأنصار ، ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا بلى ، الله ورسوله أمنّ وأفضل».

والخلاصة ـ إن الله تعالى سمى ما كان منهم إسلاما وخضوعا لا إيمانا إظهارا لكذبهم فى قولهم آمنا ، ثم لما منّوا على رسول الله بما كان منهم قال سبحانه لرسوله : أيعتدّون عليك بما ليس جديرا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانا وليس بذاك؟ بل الله هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا ، فهو قد أمدّهم بهديه وتوفيقه. ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات ، وبصره بأعمال المخلوقات فقال :

١٤٨

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن الله يعلم ما غاب فيهما ، وهو بصير بسركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه ما فى ضمائركم.

وفى ذلك رمز إلى أنهم كاذبون فى إيمانهم ، وإعلان للنبى صلّى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين بما فى أنفسهم.

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة

مباحث هذه السورة قسمان : قسم بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته ، وقسم يخص أمته وهو إما ترك للرذائل وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول هو :

(١) ألا يقضى المؤمنون فى أمر قبل أن يقضى الله ورسوله فيه.

(٢) الهيبة والإجلال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وألا تتجاوز أصواتهم صوته.

(٣) ألا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضا ، بل يخاطبونه بالنبي والرسول.

(٤) إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله أولئك هم المتقون.

(٥) إن من نادوه من وراء الحجرات كعيينة بن حصن ومن معه أكثرهم لا يعقلون.

(٦) ذمّ المنّ على الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإيمان.

والقسم الثاني هو :

(١) ألا نسمع كلام الفاسق حتى نتثبّت منه وتظهر الحقيقة.

(٢) إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.

(٣) حبب الله الصلح بين المؤمنين.

(٤) النهى عن السخرية واللمز والتنابز.

(٥) النهى عن سوء الظن بالمسلم وعن تتبع العورات المستورة وعن الغيبة والنميمة.

(٦) الناس جميعا سواسية مخلوقون من ذكر وأنثى ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

١٤٩

سورة ق

هى مكية إلا آية ٣٨ فمدنية ، وآيها خمس وأربعون ، نزلت بعد المرسلات.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه أشار فى آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ، وذلك يقتضى إنكار النبوة وإنكار البعث ، وافتتح هذه السورة بما يتعلق بذلك.

حدّث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسّلام كان يقرأ هذه السورة فى الركعة الأولى من صلاة الفجر.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبى واقد الليثي «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ فى العيد بقاف واقتربت».

وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام ابنة حارثة قالت «ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من فى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها فى كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس».

وكل ذلك دليل على أنه كان يقرأ بها فى المجامع الكبيرة كالعيدين والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

١٥٠

تفسير المفردات

المجيد من المجد ، وهو كما قال الراغب : السعة فى الكرم من قولهم : مجدت الإبل إذا وقعت فى مرعى كثير واسع ، وصف به القرآن لكثرة ما تضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية ، رجع بعيد : أي بعث بعد الموت بعيد عن الأوهام ، ما تنقص الأرض : أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم ، حفيظ : أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ، بالحق : أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات ، مريج : أي مضطرب من قولهم : مرج الخاتم فى إصبعه إذا قلق من الهزال.

الإيضاح

(ق) تقدم أن قلنا غير مرة إن الحروف المفردة. التي جاءت فى أوائل السور حروف لتنبيه السامع إلى ما يرد بعدها ، وأكثر ما جاء ذلك إذا ورد بعدها وصف القرآن كما هنا.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أقسم الله سبحانه بكتابه الكثير الخير والبركة ـ إنك أيها الرسول جئتهم منذرا بالبعث ، يدل على ذلك قوله تعالى «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ـ إلى أن قال ـ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ».

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي إنك جئتهم منذرا بالبعث ، فلم يقبلوا ولم يكتفوا بالشك فى أمرك وردّ رسالتك ، بل جزموا بنفيها ، وجعلوها من عجائب الأمور التي تستحق الدهشة ، وكثير التأمل والاعتبار.

ثم فسر تعجبهم وفصّل محل التعجب وهو إنذاره بالقرآن فقال :

(فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي فقال المكذبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم : هذا شىء عجيب ، أي إن مجىء رجل منا برسالة من الله إلينا

١٥١

أمر عجيب ، هلا أنزل إلينا ملكا فيكون لنا نذيرا ، كما حكى عنهم من قولهم : «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» وقوله حكاية عنهم «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا».

وبعد أن أظهروا التعجب من رسالته أظهروا استبعاد ما جاء به فقالوا :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما يقول النذير؟ إن ذلك الرجوع بعد الموت لبعيد عن الأوهام ، لا يصدّقه العقل وتحيله العادة.

ثم أشار إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه فقال :

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي قد علمنا ما تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم ، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان ، وأين ذهبت ، وإلى أين صارت؟ فلا يصعب علينا البعث ولا يستبعد.

ثم أكد علمه بجميع الأشياء فقال :

(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ، وهذا تمثيل لحال علمه تعالى للكائنات جميعا علما كاملا بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شىء ، فيضبط ما يعلم أتم الضبط ويحصيه أكمل الإحصاء.

ثم حكى عنهم ما هو أفظع من تعجبهم وهو تكذيبهم بالنبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة بلا تدبر ولا تفكر فقال :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي بل كذبوا ، بالنبوة التي قامت الأدلة على صدقها وأيدتها المعجزات الباهرة ، وهم إذا كذبوا بها فقد كذبوا بما أنبأ به الرسول من البعث وغيره ، ولا شك أن هذا الإنكار أعظم جرما وأشد بلية من الإنكار بما جاء به الرسول ، إذ به أنكروا الصلة الروحية بين الله ومن يصطفيه من خلقه من ذوى النفوس الصافية ، وأرباب الأرواح العالية.

(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي فهم فى قلق واضطراب ، فتارة ينفون الرسالة عن البشر ،

١٥٢

وأخرى يزعمون أنها لا تليق إلا بأهل الجاه والرياسة كما ينبئ بهذا قولهم : «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وثالثة يقولون : إنها سحر أو كهانة ، إذ قالوا للنبى صلّى الله عليه وسلم : ساحر أو كاهن إلى نحو ذلك من أقاويلهم التي تدل على اضطراب فى الأمر ، وقلق فى الفكر ، فهم لا يدرون ما ذا يفعلون حين جاءهم النذير الذي أقضّ مضاجعهم ، وجعلهم حيارى دهشين ، إلام هم صائرون؟ وإلى أي منقلب ينقلبون؟

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

تفسير المفردات

بنيناها : أي أحكمنا بناءها ، فجعلناها بغير عمد ، وزيناها : أي بالكواكب ، فروج : أي شقوق ، مددناها : أي بسطناها ، رواسى : أي جبالا ثوابت تمنعها من الميد والاضطراب ، زوج : أي صنف ، بهيج : أي ذى بهجة وحسن ، تبصرة وذكرى : أي تبصيرا وتذكيرا ، منيب : من أناب إذا رجع وخضع ، حب الحصيد : أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير ، باسقات : أي طويلات ، والطلع ما ينمو

١٥٣

ويصير بلحا ثم رطبا ثم تمرا ، ونضيد : أي منضود بعضه فوق بعض ، الخروج : أي من القبور.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنهم استبعدوا البعث فقالوا رجع بعيد ـ أردف ذلك الدليل الذي يدحض كلامهم ، فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب ، وبسط الأرض وجعل فيها رواسى وأنبت فيها صنوف النبات ، وجعل ذلك تذكرة وتبصرة لأولى الألباب ، ونزل من السماء ماء فأنبت به ناضر الجنان ، والزرع المختلف الأصناف والألوان ، والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقا لعباده ، وأحيا به الأرض الموات ـ أفلا يستطيع من هذا شأنه أن يخرج الناس من قبورهم بعد بلاهم ، وبعد أن يصيروا عظاما ورفاتا ، وينشئهم خلقا آخر فى حياة أخرى وعالم غير هذا العالم؟

الإيضاح

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت ، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد البلى ـ إلى السماء فوقهم كيف رفعناها بلا عمد ، وزيناها بالكواكب ومالها من فتوق ، فهى ملساء متلاصقة الطباق ، وهذا هو الرأى الحديث فى عالم السموات ، إذ يقولون : إن هناك عالما لطيفا أرق من الهواء وألطف من كل ما نراه وهو مبدأ كل شىء وأول كل شىء وهو العالم

المسمى بالأثير ، وهذا العالم وإن لم يره الناس فقد عرفوه من وصول أضواء الكواكب إلينا ، فإن من الكواكب ما لا يصل ضوءه إلينا إلا فيما يزيد على ألف ألف سنة ، ونور الشمس (التي تبعد عنا مقدار سير القطار إليها لو أمكن فى نحو خمس ستين وثلاثمائة سنة) يصل إلينا فى مدة ثمان دقاق وثمانى عشرة ثانية.

١٥٤

فانظر كيف يكون بعد تلك الكواكب التي تحتاج بسير النور إلى مليون سنة ونصف مليون ؛ ألا يدل هذا على أن ذلك الضوء محمول على شىء موجود وهو الأثير فلو أن طبقة من الطبقات لم يكن فيها الأثير لا نقطع سير النور إلى الأرض ولم نره.

وهذا ما يشير إليه الكتاب بقوله «وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» فلو كان هناك فروج تتخلل السموات لا نقطع سير النور إلينا.

وآراء الجهلة فى كل أمة أن كل سماء منفصلة عن الأخرى وبينهما فضاء كما يظن لأول وهلة فيما بيننا وبين السماء ، فجاء الكتاب الكريم وعكس هذه القضية وقال لا فروج فى السماء أي لا خلاء فى العالم.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي والأرض بسطناها وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد وتضطرب ، وأنبتنا فيها من كل صنف من صنوف النبات ما حسن منظره ، وراق مخبره.

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي فعلنا ذلك لتبصرة العبد المنيب وادكاره فإن رفعنا السماء ، أو زيناها بالكواكب فلاستبصاره ، وإن بسطنا الأرض أو أرسيناها بالجبال أو أنبتنا النبات زينة للأرض فلاعتباره.

ثم شرع يبين كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج فقال :

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي ونزلنا من السماء ماء كثير المنافع ، إذ أنبتنا به جنات غناء ، وحدائق فيحاء ، وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالشعير والقمح وغيرهما.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي وأنبتنا به النخل الطوال التي لها طلع منضود متراكم بعضه فوق بعض ، لأقوات العباد وأرزاقهم.

عن قطبة قال : «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فى الصبح ق فلما أتى على هذه الآية ـ والنّخل باسقات ـ فجعلت أقول ما بسوقها؟ قال طولها» أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه.

١٥٥

ولم يقيد هنا العباد بالإنابة كما قيد به فى قوله : «تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب ، والرزق يعم كل أحد ، غير أن المنيب يأكل ذاكرا وشاكرا للإنعام ، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام ، ومن ثم لم يخصص الرزق بقيد.

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها فتربو وتنبت من كل زوج بهيج.

ثم جعل ما سلف كالدليل على البعث لأنه شبيه به فقال :

(كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي ومثل هذه الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور.

وفى التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء ، وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث : وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه لأفهام الناس.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

تفسير المفردات

الرس : البئر التي لم تطو أي لم تبن ، وأصحابه هم من بعث إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام ، والأيكة : الغيضة الملتفة الشجر ، تبّع : هو تبع الحميرى ، والعي

١٥٦

عن الأمر. العجز عنه : قال الكسائي تقول أعييت من التعب ، وعييت من العجز عن الأمر وانقطاع الحيلة ، ولبس : أي شك شديد وحيرة واختلاط.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر تكذيب المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلم ـ أردف ذلك ذكر المكذبين للرسل من قبله وبيان ما آل إليه أمرهم ، تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم وعبرة لهم ، وتنبيها إلى أن حاله معهم كحال من تقدمه من الرسل كذّبوا فصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم وأعلى كلمتهم كما قال : «وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» وقال : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ».

ثم ذكر الدليل على البعث الذي أنكرته الأمم التي كذبت رسلها بأن من خلق العالم بادىء ذى بدء فهو على إعادته أقدر.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) هدد سبحانه كفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم من النقم والعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة ، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان ، وأهلك جميع من ذكروا بعدهم من الأمم التي كذبت رسلها بضروب شتى من العذاب ، وحق عليهم وعيده ، ونصر رسله ، وأعلى كلمتهم وكانت العاقبة لهم كما قال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وقد تقدمت هذه القصص فى مواضع متفرقة من الكتاب الكريم.

ثم ذكر ما يؤكد صحة البعث فقال :

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أفأعجزنا ابتداء

١٥٧

الخلق حتى يشكّوا فى الإعادة؟ أي إن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل من الابتداء ، فلا حق لهم فى تطرق الشبهة إليهم والشك فيه ، كما قال : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال : «وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» وجاء فى الحديث القدسي : «يقول الله تعالى : يؤذينى ابن آدم يقول لن يعيدنى كما بدأنى ، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته».

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

تفسير المفردات

الوسوسة : الصوت الخفىّ ومنه وسواس الحلي ؛ والمراد بها هنا حديث النفس وما يخطر بالبال من شتى الشئون ، وحبل الوريد : عرق كبير فى العنق ، وللانسان وريدان مكتنفان بصفحتى العنق فى مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه ، وقعيد : بمعنى مقاعد كالجليس بمعنى المجالس ، والرقيب : ملك يرقب قوله ويكتبه ، فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين ، وإن كان شرا فهو صاحب الشمال ، عتيد : أي مهيأ لكتابة ما يؤمر به من الخير والشر ، سكرة الموت : شدته ، بالحق : أي بحقيقة الحال ، تحيد :

١٥٨

أي تميل وتعدل ، يوم الوعيد : أي يوم إنجاز الوعيد ، السائق والشهيد : ملكان أحدهما يسوق النفس إلى أمر الله ، والآخر : يشهد عليها بعملها ، والغطاء : الحجاب المغطى لأمور المعاد ، وهو الغفلة والانهماك فى اللذات وقصر النظر عليها ، حديد : أي نافذ ، لزوال المانع للابصار.

المعنى الجملي

بعد أن استدل على إمكان البعث بقوله : أفعيينا بالخلق الأوّل ـ أردف ذلك دليلا آخر على إمكانه وهو علمه بما فى صدورهم وعدم خفاء شىء من أمرهم عليه ، فإن من كان كذلك لا يبعد أن يعيدهم كرة أخرى ، ثم أخبر بأنهم سيعلمون بعد الموت أن ما جاء به الدين حق لا شك فيه ، وأنه يوم القيامة تأتى كل نفس ومعها ملكان أحدهما سائق لها إلى المحشر والثاني شهيد عليها ، وأن الخزنة سيقولون لأهل النار : لقد كنتم فى غفلة عن حلول هذا اليوم الذي توفّى فيه كل نفس جزاء ما عملت ، والآن أزلنا عنكم هذه الغفلة فأبصرتم عاقبة أمركم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي إنه تعالى قادر على بعث الإنسان ، لأنه خالقه وعالم بجميع أموره حتى إنه ليعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر ولا عقاب على حديث النفس ، وقد ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله تجاوز لأمتى ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل».

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي ونحن أعلم به وبخفيات أحواله لا يخفى علينا شىء من أمره ، من علمكم بحبل الوريد ، لأن العرق تحجبه أجزاء من اللحم ، وعلم الله لا يحجب عنه شىء.

١٥٩

أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «نزل الله من ابن آدم أربع منازل ، هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو يحول بين المرء وقلبه ، وهو آخذ بناصية كل دابة ، وهو معهم أينما كانوا».

قال القشيري : فى هذه الآية ـ هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.

ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال :

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي نحن أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به ، مع أننا أغنياء عن استحفاظ الملكين لشدة قربنا منه.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أي مقاعد ومجالس له يترصد ما يقول ويعمل ، فالذى عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات.

قال الحسن وقتادة : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك : أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك.

ثم ذكر عملهما واستعدادهما لأدائه فقال :

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي لا يلفظ بكلمة من فيه إلا لديه ملك حاضر معه مراقب لأعماله ، يكتب ما فيه ثوابه أو عقابه.

قال الحسن البصري وتلا هذه الآية : «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ» يا بن آدم بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طويت صحيفتك وجعلت فى عنقك

١٦٠