تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

فضرب فى صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى رسوله» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

فتراه قد أخر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه لكان من المتقدمين بين يدى الله ورسوله.

والخلاصة ـ إنه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه ، ولا يعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو أن يفعل ، فلا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح ، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهى عنه.

وأشار إلى ثانيهما بقوله :

(٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) أي إذا نطق ونطقتم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ، ولا تبلغوا بها وراء الحد الذي يبلغه ، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام ، وترك الاحترام.

روى البخاري بسنده عن ابن أبى مليكة «أن عبد الله بن الزبير رضى الله عنه أخبره أنه قدم ركب من تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقال أبوبكر رضى الله عنه :

أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر رضى الله عنه : ما أردت إلا خلافى ، فقال عمر رضى الله عنه : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية. فكان أبوبكر بعدها لا يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا كأخى السرار ، وما حدّث عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته».

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي وإذا كلمتموه وهو صامت فإياكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم ، أو أن تقولوا يا محمد ، يا أحمد ، بل خاطبوه بالنبوة مع الإجلال والتعظيم ، خشية أن يؤدى ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب فتكفروا من حيث لا تشعرون.

١٢١

ولما نزلت هذه الآية تخلف ثابت بن قيس عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعاه إليه صلّى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله : لقد أنزلت هذه الآية وإنى رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملى قد حبط ، فقال عليه الصلاة والسلام : لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك فى أهل الجنة ، فقال : رضيت ببشرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، لا أرفع صوتى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبدا ، فأنزل الله :

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة حتى طهرت وصفت بما كابدت من الصبر على المشاقّ ، لهم مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم لغضهم أصواتهم ولسائر طاعاتهم.

روى أحمد فى الزهد عن مجاهد قال : كتب إلى عمر ، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهى المعصية ولا يعمل بها أفضل ، أم رجل يشتهى المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضى الله عنه ، إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

تفسير المفردات

من وراء الحجرات : أي من خارجها سواء كان من خلفها أو من قدامها ، إذ أنها من المواراة وهى الاستتار ، فما استتر عنك فهو وراء ، خلفا كان أو قداما ، فإذا رأيته

١٢٢

لا يكون وراءك. ويرى بعض أهل اللغة أن وراء من الأضداد فتطلق تارة على ما أمامك ، وأخرى على ما خلفك ، والحجرات (بضم الجيم وفتحها وتسكينها) واحدها حجرة : وهى القطعة من الأرض المحجورة ؛ أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه ، والمراد بها حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام ، وكانت تسعة لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود ، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد ، وقد أدخلت فى عهد الوليد بن عبد الملك بأمره فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبكى الناس لذلك.

وقال سعيد بن المسيّب يومئذ : لوددت أنهم تركوها على حالها لينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حياته ، فيكون ذلك مما يزهد الناس فى التفاخر والتكاثر فيها.

المعنى الجملي

ذم الله تبارك وتعالى الذين ينادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات وهو فى بيوت نسائه كما يفعل أجلاف الأعراب ، ثم أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم فى دينهم ودنياهم ، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم.

روى ابن جرير بسنده عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال : «اجتمع ناس من العرب فقالوا انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه ، قال : فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بما قالوا ، فجاءوا إلى حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا ينادونه وهو فى حجرته يا محمد يا محمد ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأذنى فمدها وجعل يقول : لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد. لقد صدق الله قولك يا زيد».

١٢٣

وقال قتادة : نزلت فى وفد تميم وكانوا سبعين رجلا منهم الزّبرقان بن بدر وعطارد ابن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم ، جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم للمفاخرة ، فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا لزين ، وإن ذمنا لشين ، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين ، وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول الله : ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه ، فقال صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبي صلّى الله عليه وسلم ، قم فأجبه فأجابه ، وقام الزّبرقان بن بدر فقال :

نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا

منا الملوك وفينا تنصب البيع

إلى أن قال :

فلا ترانا إلى حىّ يفاخرهم

إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه

فيرجع القوم والأخبار تستمع

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت أجبه فقال :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد بيّنوا سنة للناس تتّبع

يرضى بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم

أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع

فى قصيدة طويلة ، فلما فرغ حسان من قوله ، قال الأقرع بن حابس : وأبى إن هذا الرجل لمؤتّى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا ، ثم دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : أشهد

١٢٤

أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يضرك ما كان من قبل هذا ، ثم جوّزهم فأحسن جوائزهم.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إن الذين ينادونك من وراء حجرات نسائك أكثرهم جهال بما يجب لك من الإجلال والتعظيم.

والمراد بالحجرات موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولو أن هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا ولم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم عند الله ، لأنه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك ، وراجع أمر الله فى ذلك وفى غيره ، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.

والخلاصة ـ إن الله سبحانه هجّن الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم فى حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدرا ، لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول يكون صنيع مثل هؤلاء معه من المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغا لا يقدر قدره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ

١٢٥

الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

تفسير المفردات

الفاسق : هو الخارج عن حدود الدين ، من قولهم : فسق الرطب إذا خرج من قشره والتبين : طلب البيان ، والنبأ : الخبر ، قال الراغب : ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة وبه يحصل علم أو غلبة ظن بجهالة : أي جاهلين حالهم ، فتصبحوا : أي فتصيروا ، نادمين : أي مغتمّين غما لازما متمنين أنه لم يقع ؛ فإن الندم الغم على وقوع شىء مع تمنى عدم وقوعه ، لعنتّم : أي لوقعتم فى الجهد والهلاك ، والكفر : تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها ، الفسوق : الخروج عن الحد كما علمت ، والعصيان : عدم الانقياد ، من قولهم : عصت النواة : أي صلبت واشتدت ، والرشاد : إصابة الحق واتباع الطريق السوىّ.

المعنى الجملي

أدب الله عباده المؤمنين بأدب نافع لهم فى دينهم ودنياهم ـ أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر ، لا يصدقونه بادى ذى بدء حتى يتثبتوا ، ويتطلبوا انكشاف الحقيقة ولا يعتمدوا على قوله ، فإن من لا يبالى بالفسق لا يبالى بالكذب الذي هو من فصيلته ـ كراهة أن يصيبوا بأذى قوما هم جاهلون حالهم ، فتندموا على ما فرط منكم ، وتتمنوا أنه لو لم يكن قد وقع.

روى عن ابن عباس «أن الآية نزلت فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وكان قد بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بنى المصطلق ليأخذ الصدقات ، فلما أتاهم الخبر فرحوا به وخرجوا يستقبلونه ، فلما حدّث بذلك الوليد حسب أنهم جاءوا لقتاله ،

١٢٦

فرجع قبل أن يدركوه وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم منعوا الزكاة ، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا ، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا يا رسول الله : إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغصب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله عذرهم فى الكتاب فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية». أخرجه أحمد وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه ، وقال ابن كثير : وهذا من أحسن ما روى فى سبب نزول الآية.

وقال الرازي : هذه الرواية ضعيفة لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد ، لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقا ، كيف والفاسق فى أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله : «إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» اه.

ثم بين أن صحبه كانوا يريدون أن يتبع رأيهم فى الحوادث ، ولو فعل ذلك لوقعوا فى العنت والهلاك ، ولكن الله حبب إلى بعضهم الإيمان وزينه فى قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وهؤلاء أهل الرشاد والسالكون الطريق السوىّ.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي يا أيها المؤمنون إن جاءكم الفاسق بأى نبإ فتوقفوا فيه وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا على قوله ، فإن من لا يبالى بالفسق فهو أجدر ألا يبالى بالكذب ولا يتحاماه ـ خشية إصابتكم بالأذى قوما أنتم جاهلون حالهم ، فتندموا على ما فرط منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.

ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها فقال :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي واعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه

١٢٧

ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم كما قال تعالى : «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».

ثم بين أن رأيه أنفع لهم وأجدر بالرعاية فقال :

(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم فى الجهد والإثم ، ولكنه لا يطيعكم فى غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.

عن أبى سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية وقال : هذا نبيكم يوحى إليه ، وخيار أئمتكم لو أطاعهم فى كثير من الأمر لعنتوا ، فكيف بكم اليوم ، أخرجه الترمذي.

ثم استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين فقال :

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي ولكنّ جمعا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبرىء وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم ، لأن الله تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم ، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع فى الأخبار ، وكرّه إليهم هذه الأمور الثلاثة : الكفر والفسوق والعصيان.

والخلاصة ـ إن الإيمان الكامل إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، فكراهة الكفر فى مقابلة محبة الإيمان ، وتزيينه فى القلوب هو التصديق بالجنان ، والفسوق وهو الكذب فى مقابلة الإقرار باللسان ، والعصيان فى مقابلة العمل بالأركان.

(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم السالكون طريق السعادة ولم يميلوا عن الاستقامة.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه تفضل منه عليكم وإنعام من لدنه

١٢٨

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بمن يستحق الهداية ، ومن يستحق الغواية ، حكيم فى تدبير شئون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه.

والخلاصة ـ إن رسول الله بين أظهركم وهو أعلم بمصالحكم ، لو أطاعكم فى جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم فى مهاوى الردى ، ولكنّ بعضا منكم حبّب إليهم الإيمان فى قلوبهم ، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وأولئك هم الذين أصابوا الحق ، وسلكوا سبيل الرشاد.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

تفسير المفردات

الطائفة : الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله : «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» فأصلحوا بينهما : أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب ، بغت : أي تعدّت وجارت ، تفيء : أي ترجع ، وأمر الله : هو الصلح ، لأنه مأمور به فى قوله : «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» فأصلحوا بينهما بالعدل : أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى ، وأقسطوا : أي واعدلوا فى كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط : إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور ، والقاسط : الجائز كما قال : «وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»

١٢٩

والإخوة فى النسب ، والإخوان فى الصداقة ، واحدهم أخ ، وقد جعلت الأخوّة فى الدين كالأخوّة فى النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم :

أبى الإسلام لا أب لى سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

المعنى الجملي

بعد أن حذر سبحانه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق ـ بين هنا ما ربما ترتب على خبره من النزاع بين فئتين وقد يئول الأمر إلى الاقتتال ، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه ، وأن يصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرة إن أمكن ، أو باستعداء الحاكم عليها ، وإن كان الباغي هو الحاكم فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها بشرط ألا تثير فتنة أشدّ من الأولى.

ثم تمم الإرشاد وأبان أن الصلح كما يلزم بين الفئتين ـ يجب بين الأخوين ، ثم أمرهم بتقوى الله ووجوب اتباع حكمه وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره.

روى قتادة أن الآية نزلت فى رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة فى حق ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقى منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يتّبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدى والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف.

الإيضاح

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي وإن اقتتلت طائفتان من أهل الإيمان ، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم الله والرضا بما فيه ، سواء كان لهما أو عليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.

١٣٠

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم الله وتعدت ما جعله الله عدلا بين خلقه ، وأجابت الأخرى فقاتلوا التي تعتدى وتأبى الإجابة إلى حكمه حتى ترجع إليه وتخضع طائعة له.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله ـ فأصلحوا بينهما بالإنصاف والعدل حتى لا يتجدد بينهما القتال فى وقت آخر.

ثم أمرهم سبحانه بالعدل فى كل أمورهم فقال :

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي واعدلوا فى كل ما تأتون وما تذرون ، إن الله يحب العادلين فى جميع أعمالهم ويجازيهم أحسن الجزاء.

وفى الصحيح عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، قلت : يا رسول الله : هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟

قال : تمنعه من الظلم ، فذلك نصرك إياه».

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للسعادة الأبدية ، وفى الحديث «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يعيبه ، ولا يخذله ، ولا يتطاول عليه فى البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ، ولا يشترى لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها ، ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل» وفى الصحيح أيضا : «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب : قال الملك : آمين ولك بمثله».

ولما كانت الأخوّة داعية إلى الإصلاح ولا بد ـ تسبب عن ذلك قوله :

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فى الدين كما تصلحون بين أخويكم فى النسب.

١٣١

(وَاتَّقُوا اللهَ) فى كل ما تأتون وما تذرون ، ومن ذلك ما أمرتم به من إصلاح ذات البين.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن يرحمكم ربكم ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه واتبعتم أمره ونهيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

تفسير المفردات

السخرية : الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، يقال سخر به وسخر منه ، وضحك به ومنه ، وهزىء به ومنه ؛ والاسم السخرية والسخرى (بالضم والكسر) وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلظ فيه ، أو على صنعته ، أو على قبح صورته.

والقوم : شاع إطلاقه على الرجال دون النساء كما في الآية وكما قال زهير :

وما أدرى وسوف إخال أدرى

أقوم آل حصن أم نساء

ولا تلمزوا أنفسكم : أي لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما ، والمؤمنون كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه ، والتنابز : التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب ، والاسم : الذكر والصيت ، من قولهم : طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم.

١٣٢

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق ، بيّن ما ينبغى أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ، فذكر أنه لا ينبغى أن يسخر منه ولا أن يعيبه بالهمز واللمز ، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه ، فبئس العمل هذا ، ومن لم يتب بعد ارتكابه فقد أساء إلى نفسه وارتكب جرما كبيرا.

روى أن الآية نزلت فى وفد تميم إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة وسلمان الفارسي وسالم مولى أبى حذيفة فى آخرين غيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم.

وروى أنها نزلت فى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب رضى الله عنها : أتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت : «إن النساء يقلن لى : يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها :

هلّا قلت : أبى هارون ، وعمى موسى ، وزوجى محمد».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي لا يهزأ ناس من المؤمنين بآخرين :

ثم ذكر العلة فى ذلك فقال :

(عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي فقد يكون المسخور منهم خيرا عند الله من الساخرين كما جاء فى الأثر «فربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله تعالى لأبرّه».

فينبغى ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تتقحمه عينه لرثاثة حاله ، أو لكونه ذا عاهة فى بدنه ، أو لكونه غير لبق فى محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله تعالى.

١٣٣

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) أي ولا يسخر نساء من نساء عسى أن يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات ، وأتى بالجمع فى الموضعين ، من قبل أن الأغلب فى السخرية أن تكون فى مجامع الناس ، وكم من متلذذ بها ، وكم من متألم منها.

روى الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبى صلّى الله عليه وسلّم رجلا فقال : «ما يسرنى أنى حكيت رجلا وأن لى كذا وكذا ، قالت فقلت يا رسول الله إن صفية امرأة وقالت (١) بيدها هكذا تعنى أنها قصيرة ، فقال : لقد مزحت بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».

وروى مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وفى هذا إيماء إلى أن المرء لا يقطع بمدح أحد أو عيبه كما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال ، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه ، فالأعمال أمارات ظنية ، لا أدلة قطعية.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية.

وفى قوله : «أنفسكم» تنبيه إلى أن العاقل لا يعيب نفسه ، فلا ينبغى أن يعيب غيره لأنه كنفسه ، ومن ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» وقال عليه الصلاة والسلام : «يبصر أحدكم القذاة (٢) فى عين أخيه ويدع الجذع فى عينه».

__________________

(١) تطلق العرب القول على جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان توسعا فى الاستعمال.

(٢) ما يقع فى العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.

١٣٤

وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر :

لا تكشفن من مساوى الناس ما ستروا

فيهتك الله سترا عن مساويكا

واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا

ولا تعب أحدا منهم بما فيكا

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب الذي يسوءه ويكرهه كأن يقول لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق ، أو يقول لمن أسلم : يا يهودى ، أو يا نصرانى.

قال قتادة وعكرمة عن أبى جبيرة بن الضحاك قال : فى بنى سلمة نزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا واحدا باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت. أخرجه البخاري فى الأدب وأهل السنن وغيرهم.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب وراجع الحق ، فنهى الله تعالى أن يعيّر بما سلف من عمله.

أما الألقاب التي تكسب حمدا أو مدحا وتكون حقّا وصدقا فلا تكره كما قيل لأبى بكر : عتيق ، ولعمر : الفاروق ، ولعثمان : ذو النورين ، ولعلى : أبو تراب ، ولخالد سيف الله.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم فى الإيمان واشتهارهم به.

وفى هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول بئس الصبوة بعد الشيخوخة أي معها.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخريته منه ، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه.

١٣٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

تفسير المفردات

اجتنبوا : أي تباعدوا ، وأصل اجتنبته : كنت منه على جانب ، ثم شاع استعماله فى التباعد اللازم له ، والإثم : الذنب ، والتجسس : البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس ، والغيبة : ذكر الإنسان بما يكره فى غيبته ، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت لو كان فى أخى ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».

المعنى الجملي

أدب الله عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم : منها ما تقدم قبل هذا ، ومنها ما ذكره هنا من الأمور العظام التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإسلامى قوة وهى :

(١) البعد عن سوء الظن بالناس وتخوّنهم فى كل ما يقولون وما يفعلون ، لأن بعض ذلك قد يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه ، وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا ، وأنت تجد لها فى الخير محملا.

(٢) البحث عن عورات الناس ومعايبهم.

(٣) عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون فى غيبتهم ، وقد مثل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعا له.

١٣٦

قال قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة ممدودة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حىّ.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) أي يا أيها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين ، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلا ، ففى الحديث «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه ، وأن يظن به ظن السوء».

ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة ، أما من يجاهر بالفجور كمن يدخل إلى الخانات أو يصاحب الغواني الفواجر فلا يحرم سوء الظن به.

أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن سعيد بن المسيّب قال : كتب إلىّ بعض إخوانى من أصحاب رسول صلّى الله عليه وسلم. أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظننّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا ، ومن عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ إلا نفسه ، ومن كتم سرّه كانت الخيرة فى يده ، وما كافأت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وعليك بإخوان الصدق فكن فى اكتسابهم ، فإنهم زينة فى الرخاء ، وعدّة عند عظيم البلاء ، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى ، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه ، وعليك بالصدق وإن قتلك ، واعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين ، ولا أمين إلا من خشى الله ، وشاور فى أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.

ثم علل الأمر باجتناب كثير من الظن بقوله :

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن ظن المؤمن بالمؤمن الشرّ إثم ، لأن الله قد نهاه عنه ففعله إثم. ونحو الآية قوله : «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً».

١٣٧

قال ابن عباس فى الآية : نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا اه.

ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال :

(وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره يبتغى بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمون من الخفايا.

وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» التجسس : البحث عما يكتم عنك ، والتحسس : طلب الأخبار والبحث عنها ، والتناجش : البيع على بيع غيرك (الزيادة عليه) والتدابر : الهجر والقطيعة.

وعن أبى برزة الأسلمى قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه فى عقر بيته».

وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ثلاث لازمات لأمتى : الطّيرة والحسد وسوء الظن ، فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلّى الله عليه وسلم : إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيرت فامض».

وقال عبد الرحمن بن عوف : حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة ، إذ تبين لنا سراج فى بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب ، فما ترى؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال تعالى : «وَلا تَجَسَّسُوا» وقد تجسسنا ، فانصرف عمر وتركهم.

١٣٨

وقال أبو قلابة : حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له فى بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن : إن هذا لا يحل لك ، قد نهاك الله عن التجسس. فخرج عمر وتركه.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكره فى غيبته ، والمراد بالذكر الذكر صريحا أو إشارة أو نحو ذلك مما يؤدى مؤدى النطق ، لما فى ذلك من أذى المغتاب ، وإيغار الصدور وتفريق شمل الجماعات ، فهى النار تشتعل فلا تبقى ولا تذر ، والمراد بما يكره ما يكره فى دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ملبسه أو غير ذلك مما يتعلق به.

قال الحسن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها فى كتاب الله : الغيبة ، والإفك ، والبهتان.

(١) فأما الغيبة : فهى أن تقول فى أخيك ما هو فيه.

(٢) وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه.

(٣) وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه.

ولا خلاف بين العلماء فى أن الغيبة من الكبائر وأن على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه.

وعن شعبة قال : قال لى معاوية بن قرّة : لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت هذا أقطع كان غيبة ، قال شعبة فذكرته لأبى إسحاق فقال صدق.

ثم ضرب سبحانه مثلا للغيبة للتنفير والتحذير منها فقال :

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته؟ فإذا كنتم لا تحبون ذلك بل تكرهونه لأن النفس تعافه ، فكذلك فاكرهوا أن تغتابوه فى حياته.

والخلاصة ـ إنكم كما تكرهون ذلك طبعا فاكرهوا ذلك شرعا لما فيه من شديد العقوبة.

١٣٩

وقد شبهت بأكل اللحم لما فيها من تمزيق الأعراض المشابه لأكل اللحم وتمزيقه ، وقد جاء هذا على نهج العرب فى كلامهم. قال المقنّع الكندي :

فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا

وقد زادت الآية فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعا.

سمع على بن الحسين رضى الله عنهما رجلا يغتاب آخر فقال : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس ، وقيل لعمرو بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا.

وقال رجل للحسن البصري : بلغني أنك تغتابنى ، فقال : لم يبلغ قدرك عندى أن أحكمك فى حسناتى.

وقد ثبت فى الصحيح من غير وجه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال حين خطب فى حجة الوداع : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا».

(وَاتَّقُوا اللهَ) أي فاكرهوا الغيبة ، واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وراقبوه واخشوه.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يتوب على من تاب إليه عما فرط منه من الذنب ، رحيم به أن يعذبه بعد توبته.

ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه ، بأن يقلع عنها ويندم على ما فرط منه ، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما فرط منه.

ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا بها ، وينحصر ذلك فى ستة أمور :

١٤٠