تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

الحديبية كما علمت ، مغانم كثيرة : هى مغانم خيبر ، وكانت خيبر أرضا ذات عقار وأموال قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلة فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما ، عزيزا : أي غالبا ، حكيما : أي يفعل على مقتضى الحكمة فى تدبير خلقه.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن حال المخلّفين فيما سلف ـ عاد إلى بيان حال المبايعين الذين ذكرهم فيما تقدم بقوله : «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ» فأبان رضاهم عنه لأجل تلك البيعة ، لما علم من صدق إيمانهم ، وإخلاصهم فى بيعتهم ، وأنزل عليهم طمأنينة ورباطة جأش وجازاهم بمغانم كثيرة أخذوها من خيبر بعد عودتهم من الحديبية ، وكان الله عزيزا : أي غالبا على أمره ، موجدا أفعاله وأقواله على مقتضى الحكمة.

عن سلمة بن الأكوع قال : «بينا نحن قائلون ، إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيها الناس : البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قوله تعالى : «لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ» الآية. فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس هنيئا لابن عفان ، يطوف بالبيت ونحن هنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف» أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه.

وأخرج البخاري عن سلمة أيضا قال : «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، قيل على أىّ شىء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال : على الموت».

وعن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

١٠١

الإيضاح

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان ، وقد عرفت أنهم كانوا أربع عشرة مائة ، كما عرفت أسباب هذه البيعة.

ولما أراد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلّموا هذه الشجرة بعد ذلك كثر اختلافهم فيها ، فلما اشتبهت عليهم وصار كل واحد يشير إلى شجرة غير التي يشير إليها الآخر ، قال عمر : سيروا ذهبت الشجرة ، وقال ابن عمر : ما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها ، وكانت رحمة من الله.

وعن نافع قال : بلغ عمر أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت أخرجه ابن أبى شيبة فى المصنّف.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم ما فى قلوبهم من الصدق والسمع والطاعة ، فأنزل عليهم الطمأنينة وسكون النفس ورباطة الجأش وأعطاهم جزاء ما وهبوه من الطاعة ـ فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما علمت.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أي وعوّضهم فى العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم ـ فتح خيبر ، فأخذوا أموال يهودها وعقارهم وكان كثيرا ، وخصهم بأهل بيعة الرضوان لا يشركهم فيه سواهم.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وكان الله ذا عزة فى انتقامه ممن انتقم من أعدائه ، حكيما فى تدبير أمور خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.

١٠٢

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

تفسير المفردات

المغانم الكثيرة : ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة ، فعجل لكم هذه : أي مغانم خيبر ، أيدى الناس : أي أيدى اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول منها إلى الحديبية ، آية : أي أمارة للمؤمنين يعرفون بها : (١) صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم. (٢) حياطة الله لرسوله وللمؤمنين وحراسته لهم فى مشهدهم ومغيبهم. (٣) معرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد أن كلاءته تعالى ستعمهم أيضا ماداموا على الجادّة ، الصراط المستقيم : هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه فيما تأتون وما تذرون ، وأخرى : أي مغانم أخرى هى مغانم فارس والروم ، أحاط الله بها : أي أعدها لكم وهى تحت قبضته يظهر عليها من أراد ، لولّوا الأدبار : أي لانهزموا ، والولىّ الحارس الحامى ، والنصير : المعين والمساعد ، سنة الله : أي سنّ سبحانه غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال : «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» أيديهم عنكم : أي أيدى كفار مكة ، وأيديكم عنهم

١٠٣

ببطن مكة ، يعنى بالحديبية ، أظفركم عليهم : أي على كلمته وجعلكم ذوى غلبة عليهم ، فإن عكرمة بن أبى جهل خرج فى خمسمائة إلى الحديبية ؛ فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد.

المعنى الجملي

بعد أن وعدهم فيما سلف بمغانم خيبر ـ أردف ذلك بيان أن ما آتاهم من الفتح والمغانم ليس هو الثواب وحده ، بل الجزاء أمامهم ، وإنما عجل لهم هذه لتكون علامة على صدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم وحياطته له ، وحراسته للمؤمنين وليثبتكم على الإسلام ، وليزيدكم بصيرة ، وسيؤتيكم مغانم أخرى من فارس والروم وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لو لا الإسلام ، فقد كانت بلاد العرب شبه مستعمرات لهذه الدول فأقدرهم الله عليها بعز الإسلام.

ثم ذكر أنه لو قاتلكم أهل مكة ولم يصالحوكم لانهزموا ولم يجدوا وليّا ولا نصيرا يدافع عنهم ، وتلك هى سنة الله من غلبة المؤمنين ، وخذلان الكافرين ، ثم امتنّ على عباده المؤمنين بأنه كفّ أيدى المشركين عنهم ، فلم يصل إليهم منهم سوء ، وكف أيدى المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، فصان كلّا من الفريقين عن الآخر ، وأوجد صلحا فيه خيرة للمؤمنين ، وعافية لهم فى الدنيا والآخرة

الإيضاح

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي وعدكم الله مغانم كثيرة من غنائم أهل الشرك إلى يوم القيامة ، ولكن عجل لكم مغانم خيبر ، وكف أيدى اليهود عن

١٠٤

المدينة بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية وخيبر قاله قتادة واختاره ابن جرير الطبري ، لتشكروه ولتكون أمارة للمؤمنين يعلمون بها أن الله حافظهم وناصرهم على أعدائهم على قلة عددهم ، وليهديكم صراطا مستقيما بانقيادكم لأمره ، وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويزيدكم يقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر.

روى إياس بن سلمة قال : حدثنى أبى قال : «خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجعل عمّى عامر يرتجز بالقوم ثم قال :

تالله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا

فثبّت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : من هذا؟ قال : أنا عامر ، قال : غفر لك ربك (وما استغفر لأحد إلا استشهد) قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له ، يا نبى الله لو أمتعتنا بعامر ، فلما قدمنا خيبر خرج قائدهم مرحب يخطر بسيفه ويقول :

قد علمت خيبر أنى مرحب

شاكى السلاح بطل مجرّب

إذا الحرب أقبلت تلتهب

فبرز له عامر بن عثمان فقال :

قد علمت خيبر أنى عامر

شاكى السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب فى ترس عامر ، فرجع سيف عامر على نفسه ، فقطع أكحله (الأكحل : عرق فى اليد) فكانت فيها نفسه ، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وأنا أبكى فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر ، فقال من قال ذلك؟ قلت ناس من أصحابك ، قال من قال ذلك؟ بل له أجره مرتين ، ثم أرسلنى إلى علىّ وهو أرمد وقال : لأعطينّ الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فأتيت

١٠٥

عليّا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتفل فى عينيه فبرىء وأعطاه الراية فخرج مرحب وقال :

أنا الذي سمتنى أمي مرحب

شاكى السلاح بطل مجرّب

فقال علىّ كرم الله وجهه :

أنا الذي سمتنى أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظرة

أكيلكم بالسيف كيل السّندره (١)

قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه».

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي ووعدكم الله فتح بلاد أخرى لم تقدروا عليها ، قد حفظها لكم حتى تفتحوها ، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها كفارس والروم ، أقدركم عليهم بعز الإسلام وقد كنتم قبل ذلك مستضعفين أمامهم لا تستطيعون دفعهم عن أنفسكم.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وكان الله على كل ما يشاء من الأشياء ذا قدرة لا يتعذر عليه شىء.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يقول سبحانه مبشرا عباده المؤمنين بأنه لوناجزهم المشركون لنصرهم عليهم ولا نهزم جيش الكفر فارّا مدبرا لا يجد وليّا يتولى رعايته ويكلؤه ويحرسه ، ولا نصيرا يساعده ، لأنه محارب لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي هذه هى سنة الله فى خلقه ، ما تقابل الكفر والإيمان فى موطن فيصل إلا نصر الله المؤمنين على الكافرين

__________________

(١) السندرة : مكيال واسع ، وكيلهم بها : قتلهم قتلا واسعا ذريعا.

١٠٦

ورفع الحق ووضع الباطل كما نصر يوم بدر أولياءه المؤمنين على قلة عددهم وعددهم ، وكثرة المشركين وكثرة عددهم.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي إن الله كفّ أيدى المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية يلتمسون غرّتهم ليصيبوا منهم ، فبعث رسول الله سريّة ، فأتى بهم أسرى ، ثم خلى سبيلهم ولم يقتلهم منة منه وفضلا.

روى أحمد وابن أبى شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي فى آخرين عن أنس قال : «لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح من جبل التنعيم (التنعيم : موضع بين مكة وسرف) فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية : «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ» إلخ.

وروى أحمد عن عبد الله بن مغفل المزني رضى الله عنهما قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى أصل الشجرة التي قال الله فى القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وكان على بن أبى طالب وسهيل بن عمرو بين يديه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلىّ رضى الله عنه ـ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فأخذ سهيل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب فى قضيتنا ما نعرف. قال اكتب باسمك اللهم ـ وكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة ، فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله ، اكتب فى قضيتنا ما نعرف ، فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ؛ فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابّا عليهم السلاح فثاروا فى وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. هل جئتم فى عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟

١٠٧

فقالوا لا ، فخلّى سبيلهم فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية.

(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه شىء منها ، وهو مجازيكم ومجازيهم بها.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

تفسير المفردات

الهدى : ما يقدّم قربانا لله حين أداء مناسك الحج أو العمرة ، معكوفا : أي محبوسا تقول عكفت الرجل عن حاجته : إذا حبسته عنها ، محله : أي المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو منى ، والوطء : الدوس ، والمراد به الإهلاك ، وفى الحديث «اللهم اشدد وطأتك على مضر» ، والمعرة : المكروه والمشقة ، من عرّه إذا عراه ودهاه بما يكره والتنزيل : التفرق والتميز ، والحميّة : الأنفة ، يقال حميت من كذا حميّة إذا أنفت منه وداخلك منه عار ، والمراد بها ثوران القوة الغضبية ، وحمية الجاهلية : حمية فى غير

١٠٨

موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان ، وكلمة التقوى هى : لا إله إلا الله ، وأهلها : أي المستأهلين.

المعنى الجملي

بعد أن أبان فيما سلف أن الله كف أيدى المؤمنين عن الكافرين ، وكف أيدى الكافرين عن المؤمنين ـ عيّن هنا مكان الكف وهو البيت الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه ، ومنعوا الهدى معكوفا أن يبلغ محله ، والسبب الذي لأجله كفوهم هو كفرهم بالله ، ثم أخبرهم بأنه لو لا أن يقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا علم لهم بهم فيلزمهم العار والإثم ـ لأذن لهم فى دخول مكة ، ولقد كان الكف ومنع التعذيب عن أهل مكة ليدخل الله فى دين الإسلام من يشاء منهم بعد الصلح وقبل دخولها ، وليمنعنّ الأذى عن المؤمنين منهم ، ولو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما بالقتل والسبي حين جعلوا فى قلوبهم أنفة الجاهلية التي تمنع من الإذعان للحق ، ولكن أنزل الله الثبات والوقار على رسوله وعلى المؤمنين فامتنعوا أن يبطشوا بهم ، وألزمهم الوفاء بالعهد وكانوا أحق بذلك من غيرهم إذ اختارهم الله لدينه وصحبة نبيه.

روى أنه لما همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع فى عامه على أن تخلى قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه الصلاة السلام لعلىّ ورضى الله عنه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالوا لا نعرف هذا : اكتب باسمك الله ، ثم قال عليه السلام : اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة ، فقالوا كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال صلّى الله عليه وسلّم اكتب ما يريدون ،

١٠٩

فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك وأن يبطشوا بهم ، فأنزل الله السكينة عليهم فتوقّروا واحتملوا كل هذا ، وقد تقدم ذلك برواية أخرى.

الإيضاح

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي هم الذين جحدوا توحيد الله وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام وصدوا الهدى محبوسا أن يبلغ محلّ نحره وهو الحرم عنادا منهم وبغيا ، وكان رسول الله ساق معه حين خرج إلى مكة فى سفرته تلك سبعين بدنة.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولو لا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم ـ وهم بين أظهرهم ـ لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل ، ولو قتلتموهم للحقتكم المعرة والمشقة ، بما يلزمكم فى قتلهم من كفارة وعيب.

والخلاصة ـ إنه لو لا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم ـ لوقع ما كان جزاءهم لصدهم وكفرهم ، ولو حصل ذلك لزمكم العيب ؛ إذ يقول المشركون إن المسلمين قتلوا أهل دينهم.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي وقد حال بينكم وبين قتالهم لدخول مكة :

إخراج المؤمنين من بين أظهرهم ، وليدخل فى ذينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها.

عن أبى جمعة جنيد بن سبع قال : «قاتلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا نزلت : ولو لا رجال إلخ. وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين» ، وفى رواية ابن أبى حاتم : «كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة» أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن مردويه.

١١٠

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم قتلا ذريعا.

ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بيّن وقته فقال :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي لعذبناهم حين جعلوا فى قلوبهم أنفة الجاهلية ، فامتنع سهيل بن عمرو أن يكتب فى كتاب الصلح الذي بين رسول الله والمشركين (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتب فيه (محمد رسول الله) وامتنع هو وقومه أن يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامه هذا المسجد الحرام ، فأنزل الله الصبر والطمأنينة على رسوله ، ففهم عن الله مراده وجرى على ما يرضيه ، وأنزله على المؤمنين فألزمهم أمره وقبلوه ، وحماهم من همزات الشياطين ، وألزمهم كلمة التوحيد والإخلاص لله فى العمل ، وكانوا أحق بها ، وكانوا أهلها ، إذ هم أهل الخير والصلاح.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) سواءا كان من المؤمنين أم من الكفار فيجازى كلا بما عمل.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

١١١

تفسير المفردات

الرؤيا : هى رؤيا منام وحلم ، وصدق الله رسوله الرؤيا : أي صدقه فى رؤياه ولم يكذبه ، محلقين رءوسكم ومقصرين : أي يحلق بعضكم ويقصّر بعض آخر بإزالة بعض الشعر ، ليظهره على الدين كله : أي ليعليه على سائر الأديان حقها وباطلها ، وأصل الإظهار جعل الشيء باديا ظاهرا للرائى ثم شاع استعماله فى الإعلاء.

المعنى الجملي

رأى عليه الصلاة والسلام فى المنام. وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ، منهم من يحلق ومنهم من يقصر ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة عامهم هذا ، فلما انصرفوا لم يدخلوا شق ذلك عليهم ، وقال المنافقون : أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا فى العام المقبل.

ومما روى «أن عمر بن الخطاب قال : أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت : ألست نبى الله حقا؟ قال بلى ، قلت فلم نعطى الدنية فى ديننا إذن؟ قال إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى ، قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت ونطوف به؟ قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر : أليس هذا نبى الله حقا؟ قال بلى ، قلت ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل؟ قال بلى. قلت فلم نعطى الدنية فى ديننا؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصى ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه (سر على نهجه) فو الله إنه لعلى الحق ، قلت : أليس كان يحدثنا أنه سيأتى البيت ويطوف به؟ قال بلى. قال فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت لا ، قال فإنك تأتيه وتطوف به».

١١٢

الإيضاح

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي لقد صدق الله رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك ، محلقا بعضهم ومقصرا بعضهم الآخر ، فعلم جل ثناؤه ما لم تعلموا ، وذلك هو علمه تعالى بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها هذا العام لوطئوهم بالخيل والرّجل ، فأصابتهم منهم معرة بغير علم ، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك ، فجعل من دون دخولهم المسجد فتحا قريبا هو صلح الحديبية وفتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر اليوم الموعود.

ثم أكد صدق الرسول فى الرؤيا بقوله :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام ، ليبطل به المثل كلها بنسخ سائر الديانات ، وإظهار فساد العقائد الزائفات ، حتى لا يكون دين سواه.

ولما كان هذا وعدا لا بد من تحققه أعقبه بقوله :

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان كائن لا محالة.

وفى هذا تسلية له على ما وقع من سهيل بن عمرو ، إذ لم يرض بكتابة «محمد رسول الله» وقال ما قال.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ

١١٣

السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

تفسير المفردات

أشداء : واحدهم شديد ، رحماء : واحدهم رحيم ، فضلا : أي ثوابا ، والسيماء والسيمياء من السومة (بالضم) وهى العلامة قال :

غلام رماه الله بالحسن يافعا

له سيمياء لا تشق على البصر

مثلهم : أي وصفهم العجيب الجاري مجرى الأمثال فى الغرابة ، والشطء : فروخ الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرع فى شاطئيه : أي جانبيه وجمعه أشطاء ، وشطأ الزرع وأشطأ : إذا أخرج فراخه ، وهو فى الحنطة والشعير والنخل وغيرها ، وآزره : أعانه وقوّاه وأصله من المؤازة وهى المعاونة ، واستوى على سوقه : أي استقام على قصبه وأصوله ، والسوق ، واحدها ساق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام ، ليعلى شأنه على سائر الأديان أردف هذا بيان حال الرسول والمرسل إليهم ، فوصفهم بأوصاف كلها مدائح لهم ، وذكرى لمن بعدهم ، وبها سادوا الأمم ، وامتلكوا الدول ، وقبضوا على ناصية العالم أجمع ، وهى :

(١) إنهم غلاظ على من خالف دينهم وناوأهم العداء ، رحماء فيما بينهم.

(٢) إنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله ديدنهم فى أكثر أوقاتهم.

(٣) إنهم يرجون بعملهم الثواب من ربهم والزلفى إليه ورضاه عنهم.

١١٤

(٤) إنّهم لهم سيمى يعرفون بها ، فلهم نور فى وجوههم ، وخشوع وخضوع يعرفه أولو الفطن.

(٥) إن الإنجيل ضرب بشأنهم المثل فقال : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

ذاك أنهم فى بدء الإسلام كانوا قليلى العدد ثم كثروا واستحكموا وترقى أمرهم يوما قيوما حتى أعجب الناس بهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قوّاه الله بمن معه كما يقوّى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتوالد منها.

الإيضاح

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) أي إن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله بلا شك ولا ريب مهما أنكر المنكرون ، وافترى الجاحدون.

(وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي إن صحابته الذين معه غليظة قلوبهم على الكفار ، رقيقة قلوب بعضهم على بعض ، لينة أنفسهم لهم ، هينة عليهم.

ونحو الآية قوله : «فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)» وفى الحديث «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر» وقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وشبك بين أصابعه» وعلى هذا جاء قوله :

حليم إذا ما الحلم زين أهله

على أنه عند العدو مهيب

١١٥

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي تراهم دائبين على الصلاة مخلصين لله محتسبين فيها الأجر وجزيل الثواب عنده طالبين رضاه عنهم «ورضوان من الله أكبر».

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي لهم سمت حسن وخشوع وخضوع يظهر أثره فى الوجوه ، ومن ثم قيل : إن للحسنة نورا فى القلب ، وضياء فى الوجه وسعة فى الرزق ، ومحبة فى قلوب الناس. وقال عثمان بن عفان رضى الله عنه : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه.

روى عن عمر أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، وعن أبى سعيد رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائنا ما كان».

والخلاصة ـ إن كل ما يفعله المرء أو يتصوره يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله عز وجل ظاهره للناس.

ثم أخبر سبحانه أنه نوّه بفضلهم فى الكتب المنزلة والأخبار المتداولة فقال :

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي هذه الصفة التي وصفت لكم من صفات أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم هى صفتهم فى التوراة.

(وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يكونون قليلين ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون كزرع أخرج فراخه التي تتفرع على جانبيه كما يشاهد فى الحنطة والشعير وغيرهما ، فيقوى ويتحول من الدقة إلى الغلظ ، ويستقيم على أصوله ، فيعجب به الزراع لقوّته وكثافته وغلظه وحسن منظره.

والخلاصة ـ إن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم وأعجب الناس.

١١٦

روى أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : «أرحم أمتى أبو بكر ، وأشدهم فى أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علىّ ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبىّ ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح».

ثم بين أنه إنما جعلهم كذلك.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي إنه تعالى نمّاهم وأكثر عددهم ليغيظ بهم الكفار ، إذ يعتقدون أن الله متمّ بهم نوره ولو أبى الجاحدون.

[تنبيه] هذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها ، فانظر الآن وتأمل فى تخاذلها وجهلها حتى أصبحت مثلا فى الخمول والجهل ، وأصبحت زرعا هشيما تذروه الرياح ، فكيف يجتمع عصفه وتبنه؟

ولعل الله يبدل الحال غير الحال ويخضرّ الزرع بعد ذبوله ، وتعود الأمة سيرتها الأولى مهيبة مرعية الجانب مخشية القوة.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي وعد سبحانه هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم بإدخالهم جنات النعيم ، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل.

وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو فى حكمهم ، ولهم السبق والفضل والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد.

روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابى ، فو الذي نفسى بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه (نصفه)» رضى الله عنهم وأرضاهم.

[خاتمة] هذه السورة آخر القسم الأول من القرآن الكريم وهو المطول ، وسيأتى القسم الثاني ، وهو المفصل.

١١٧

خلاصة مقاصد هذه السورة

(١) بشارة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفتح وإعزاز دين الله.

(٢) وعد المؤمنين ووعيد الكافرين والمنافقين.

(٣) ذم المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار.

(٤) رضوان الله على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة ، ووعده إياهم بالنصر فى الدنيا ، وبالجنة فى الآخرة.

(٥) البشرى بتحقق رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، وقد تمّ لهم ذلك فى العام المقبل.

(٦) وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة.

(٧) وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.

١١٨

سورة الحجرات

هى مدنية آيها ثمانى عشرة ، نزلت بعد سورة المجادلة.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) ذكر فى هذه قتال البغاة ، وفى تلك قتال الكفار.

(٢) إن السابقة ختمت بالذين آمنوا ، وافتتحت هذه بهم.

(٣) إن كلا منهما تضمن تشريفا وتكريما للرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا سيما فى مطلعيهما.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

تفسير المفردات

لا تقدموا : أي لا تتقدموا ، من قولهم مقدمة الجيش لمن تقدم منهم ، قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا تقدّم بين يدى الإمام وبين يدى الأب : أي لا تعجل بالأمر دونه ، وقيل إن المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة ، ورجّح هذا ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي : أي إذا كلمتموه ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء

١١٩

الحد الذي يبلغه بصوته ، يغضون أصواتهم : أي يخفضونها ويلينونها ، امتحن الله قلوبهم : أي طهّرها ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غشّ.

المعنى الجملي

ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال لأن الأولى كالمقدمة والثانية كالنتيجة وذكرت هذه بعد الفتح ، لأن الأمة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها والنبي صلّى الله عليه وسلّم بينها ، واستتبّ الأمر ، وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ، وكيف يعاملونه؟ وكيف يعامل بعضهم بعضا؟ فطلب إليهم ألا يقطعوا أمرا دون أن يحكم الله ورسوله به ولا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض ، لما فى ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدى إلى الكفر المحبط للأعمال.

الإيضاح

أدب الله المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين : أحدهما فعل ، وثانيهما قول ، وأشار إلى أولهما بقوله :

(١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يا أيها المؤمنون لا تعجلوا بالقضاء فى أمر قبل أن يقضى الله ورسوله لكم فيه ، إذ ربما تقضون بغير قضائهما ، وراقبوا الله أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به ، إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم ، لا يخفى عليه شىء من ضمائر صدوركم.

وبنحو هذا أجاب معاذ بن جبل رضى الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن قال له «بم تحكم؟ قال بكتاب الله تعالى ، قال صلّى الله عليه وسلّم فإن لم تجد ، قال بسنة رسوله ، قال صلّى الله عليه وسلّم فإن لم تجد ، قال أجتهد رأيى ،

١٢٠