بلغة الفقيّة - ج ٣

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

١

٢

٣

٤

رسالة

في منجزات المريض

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٦

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد (ص) خاتم النبيين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، المعصومين ، حجج الله على الخلق أجمعين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(مسألة) : اختلفت كلمات الأصحاب في نفوذ منجزات المريض في مرض موته : من الأصل ، أو الثلث ، على قولين :

وتنقيح المسألة هو أن يقال : ان تصرف المريض في ملكه ـ عينا أو منفعة في مرض موته ، تمليكا كان التصرف أو فك ملك كالعتق ونحوه (١) ـ لا يخلو : اما منجز ، أو معلق والمعلق : اما معلق على غير موته ـ وان وجد المعلق عليه بعد الموت ـ أو معلق على الموت. وهو : اما أن يكون زمان ما بعد الموت ظرفا للمنشإ دون الإنشاء ، أو يكون ظرفا لهما معا ، كقوله : أعطوا زيدا بعد وفاتي ألفا.

ثم المنجز : اما ان يكون عن حق واجب عليه كالديون والكفارات وأروش الجنايات وبدل الغرامات ـ ومنه النذر المطلق ـ أو متبرعا به ، مجانا كان كالوقوف والصدقات ، والعطايا والهبات المجانية ، أو بمعاوضة تساويه في المثل أو القيمة كالبيع أو الإجارة بثمن المثل وأجرته ، أو بما دون ذلك ، ويعبر عنها بالمعاوضة المحاباتية :

__________________

(١) مثال الأول واضح ، كأن يقول : ملكت فلانا داري ، وشبهه ومثال الثاني ، كالوقوف العامة على عموم المنتفعين بها من مواردها ، مثل الحسينيات والمدارس والمساجد والمرابط ونحوها. فإنها تحرير الملكية وفكها الى غير عودة ، وليست تمليكا ، لا لجهة ، ولا لشخص.

٧

إذا عرفت ذلك فنقول (١) : اما ما كان معلقا على الموت ومؤجلا به ، فمخرجه الثلث إجماعا ـ بقسميه – (٢) من غير فرق بين ما كان وصية تمليكية أو عهدية (٣) وما هو ملحق بها حكما ، وان كان غيرها

__________________

(١) الملاحظ : ان تفصيل الأقسام المذكورة غير جار على ضوء ترتيبها الإجمالي.

(٢) الإجماع : هو اتفاق خاص من قبل عامة الفقهاء على فتوى شرعية ، بحيث يعلم إجمالا بدخول المعصوم (ع) مع المجمعين ـ بنحو مقرر في علم الأصول.

وهو قسمان : محصل ، وهو تحصيل ذلك الاتفاق المذكور على مسألة شرعية من قبل مدعيه ، والحق امتناع ذلك الاطلاع المباشر عادة في هذا الزمان ونحوه.

ومنقول ، وهو نقل ذلك الاتفاق المذكور بالخبر الواحد ، فيكون من صغرياته ، غير أن الفرق بينهما : ان الراوي للخبر ينقل قول المعصوم (ع) رأسا ، وناقل الإجماع ينقل السبب المثبت للحجة التي يعرف منها رأي المعصوم (ع).

وهذا القسم من الإجماع سهل الادعاء ، ممكن الوقوع في هذه الأزمنة (لزيادة الاطلاع والتعرف على حقيقة الإجماع وحجيته وإمكانه تراجع كتب الأصول من الفريقين).

(٣) الوصية : هي! عهد خاص بتمليك عين أو منفعة أو تسليط على تصرف ـ بعد الوفاة.

واختلف الفقهاء في أنها : من العقود أو الإيقاعات. والظاهر أنها من الإيقاعات ، ولكنها ـ مع ذلك ـ بحاجة إلى القبول في تنفيذها.

وأركانها أربعة : الموصي ، الوصي ، الموصى به ، الموصى إليه

٨

موضوعا ، كالتدبير ، بناء على انه عتق ، لا وصية بالعتق (١) والنذر المقيد بالموت ـ على الأقوى فيه (٢) ولكون الخروج عن الملك في ذلك مقيدا

__________________

أو له. ولكل منها شروط وأحكام مفصلة في مضانها من كتب الفقه وبحكم تعلق الوصية بالمال والمنفعة ـ تارة ـ وبالتصرف أخرى ـ يصح انقسامها الى :

وصية تمليكية. وهي إنشاء الموصي تمليك عين أو منفعة لشخص معين أو أشخاص ، أو جهة معينة أو جهات ومن ملحقاتها : الإيصاء بالتسليط على حق من حقوقه القابلة للانتقال كالشفعة ـ مثلا.

ووصية عهدية. وهي : إيصاء الموصي لشخص معين أو أكثر بتنفيذ وصيته التي رسمها مما يتعلق بتجهيزه أو استيجار الحج والصلاة والصوم ونحوها من العبادات عنه. ومن ذلك : الولاية على أولاده الصغار أو المجانين والسفهاء من الكبار في إدارة شئونهم.

ومن ملحقات العهدية ـ كما أشار في المتن : الإيصاء بتحرير الملك وفكه كإيقاف داره مسجدا أو حسينية ، نحوهما. ومن ذلك عتق عبده في سبيل الله. ولتفصيل الموضوع يراجع باب الوصايا من كتب الفقه للفريقين.

(١) التدبير : هو عتق المملوك مقيدا بوفاة مالكه. وانما سمي بذلك بحكم صيغته المتعارفة كأن يقول المالك لمملوكه : «أنت حر دبر وفاتي».

وهو قسمان : مطلق ، كقول المالك لعبده : إذا مت فأنت حر ، أو أنت حر دبر وفاتي. ومقيد كقول المالك لعبده ـ مثلا «إذا مت في سفري هذا فأنت حر».

والظاهر ان التدبير ـ بقسميه ـ عتق وتحرير ملك ، لا وصية بالعتق وان جاز رجوع المولى فيه ـ بعد ذلك إذا كان بنحو الوصية.

(٢) الضابط في متعلق النذر ملكية النذر للمنذور ، والقدرة على

٩

بما لا يملك عند تحققه الا الثلث من ماله.

واما المعلق على غير الموت ، فبحكم المنجز في التفصيل الآتي ، وان تحقق الشرط والمعلق عليه بعد الموت ، ما لم يبطل التصرف به.

واما المنجز : فان كان عن حق واجب عليه قبل المرض ، فلا إشكال في خروجه عن محل النزاع ، وانه ينفذ من الأصل.

وان كان عن حق وجب عليه في مرضه بسبب من الأسباب ، فإن كان من التسبيبات القهرية كالإتلاف ونحوه ، نفذ من الأصل ـ بلا خلاف أيضا. وان أوجد السبب في المرض اختيارا. وان كان من قبيل الاستدانة المجانية كالضمان تبرعا عن الغير ، والكفالة التبرعية الموجبة لغرامة ما على المكفول عند تعذر إحضاره ، فالظاهر نفوذه من الأصل أيضا ، خلافا لبعض كالمحقق في (الشرائع) (١) لأن التصرف انما هو في نفسه وذمته ، دون ما له المتعلق به حق الوارث على القول بنفوذه من الثلث وان استتبع الوفاء

__________________

الوفاء به ، لأن النذر تكليف ، وهو محال في غير المقدور ، ولقوله (ص) : «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» ـ كما في سنن ابي داود ج ٣ باب النذر فيما لا يملك وهل يكتفى بتحقق ذلك الشرط حين النذر ـ فقط ـ أم لا بد من استمراره الى حين الوفاء بالنذر؟ فان اكتفي بمحض تحققه حين العقد كما ـ في المتن ـ فيصح النذر المقيد بالموت ، لتحقق التملك والقدرة حينئذ. والا فيشكل صحة النذر (التفصيل في كتاب النذر من كتب الفقه الموسعة).

(١) قال ـ في لواحق كتاب الضمان ضمن مسائل ـ : «الثانية إذا ضمن المريض في مرضه ومات فيه ، خرج ما ضمنه من ثلث تركته على الأصح ـ» ويظهر رأيه أيضا في مسائل القسم الثاني من لواحق كتاب الوصية الخاص بتصرفات المريض.

١٠

من ماله فإن الذمة غير داخلة في الحجر المسبب عن المرض ، كما انها غير داخلة في الحجر المسبب عن الفلس بعد أن كان الحجر فيه متعلقا بالمال دون الذمة.

لا يقال بالفرق بين الحجر لفلس والحجر لمرض بتقريب : ان شغل الذمة في الأول لا يزاحم حق الغرماء بناء على اختصاص الحجر فيه بالموجود من المال بخلاف الذمة هنا فإنها تزاحم حق الوارث لتعلق حقه بماله الموجود ، وبما يوجد عند تحققه الى زمان الموت ، والوفاء انما يكون من ماله الذي لا يمكن فرض تحققه إلا متعلقا به حق الوارث ، فالذمة هنا مزاحمة لحقوق الورثة ، وفي الفلس لا تزاحم حقوق الغرماء ، فالضمان مثلا يستلزم تفويت مال على الوارث لولاه لكان موروثا له.

لأنا نقول : لا يجدي الفرق المذكور لو سلم بعد أن كان الضمان بنفسه ليس تصرفا في المال الممنوع عنه ، وبه يتحقق عنوان الدين المقدم على حق الوارث ، ضرورة أنه لا إطلاق في معقد إجماع أو متن رواية بالنسبة إلى ما يمنع عنه في مرضه حتى يعارض ما دل على نفوذ الدين من الأصل بنحو العموم والخصوص المطلق أو من وجه حتى يمكن تقديمه عليه ، بل الدليل الدال على نفوذه من الثلث بعد تسليمه وارد في موارد مخصوصة ، وإنما يتسرى منها الى ما يكون مثلها بعد القطع باتحاد المناط ، فيبقى دليل تقديم الدين سليما عن المعارض مندرجا تحت الأصول والقواعد الموجبة لنفوذه من الأصل.

وأما النذر المطلق المتبرع به الواقع في مرضه : فان كان متعلقا بمال في ذمته نفذ من الأصل أيضا ، كما لو نذر في الصحة لما عرفت في الدين (١) وينفذ من الثلث ـ بناء عليه ـ لو تعلق بعين من أمواله ، كما لو نذر في مرضه

__________________

(١) وذلك من التعليل الذي ذكره ـ آنفا ـ بقوله : لأن التصرف انما هو في نفسه وذمته ، دون ماله.

١١

أن يعطي فرسا من أفراسه أو كتابا من كتبه ، للمنع عن التصرف فيه الموجب لعدم انعقاد النذر عليه فيما زاد على الثلث إلا بالإجازة.

ومنه يظهر الوجه في التفصيل فيما لو اشترى من ينعتق عليه في مرضه بين ما لو اشتراه بثمن في الذمة فإن الثمن دين والانعتاق قهري بحكم الشرع ، وما لو اشتراه بعين من أمواله ، فإن الانعتاق وان كان قهري بحكم الشرع ، وما لو اشتراه بعين من أمواله ، فإن الانعتاق وان كان قهريا الا أن الثمن مفوت على الوارث ، فينفذ من ثلثه ، وفي الزائد يتوقف على الإجازة ، من غير فرق بين كون الشراء بملزم كالنذر أو بغير ملزم في الصورتين.

ودعوى أن بذل الثمن المعين فيه انما هو بإزاء ما يساويه في القيمة ومثل هذه المعاوضة ينفذ من الأصل بلا خلاف ، لعدم المحاباة فيه :

(مدفوعة) باتحاد المناط بينه وبين المحاباة في صدق التفويت عرفا عند الاقدام على هذه المعاوضة بعد إحراز عدم سلامة المعوض له فتأمل.

ولو تصدق طلبا للعافية لا لرجاء الثواب فكبذل الأجرة للطبيب وشراء الدواء في نفوذه من الأصل أيضا.

بل ينفذ منه أيضا بذل كل ما تعود منفعته لنفسه كمئونته ومئونة عياله وأضيافه ولو بنحو التوسعة ، كما لو وقع منه ذلك في حال الصحة ، بلا خلاف أجده فيه. ولو أجاز المريض المعقود على ماله فضولا بما يفيد التمليك بالمحاباة أو مجانا. بناء على جريانه في غير البيع أيضا ، نفذ من الثلث على القول به ، بناء على النقل ، وكذا على الكشف لو وقع العقد في المرض أيضا ولو وقع قبله فالأظهر ذلك أيضا لكون الاستناد إلى المالك إنما هو بالإجازة الواقعة في المرض ، لا سيما على الكشف الحكمي. ويحتمل نفوذه من الأصل فيه على الكشف الحقيقي (١)

__________________

(١) أي بناء على جريان العقد الفضولي في غير البيع من أنواع

١٢

ثم إن التصرف الممنوع عنه يعم التصرف في العين أو المنفعة المملوكة بحيث لولاه لكان موروثا ، فلا يشمل تصرفه بإجارة نفسه بدون أجرة المثل ،

__________________

العقود ـ كما هو الصحيح ـ لانطباق الأدلة عليه.

أقول : ذكر فقهاؤنا رضوان الله عليهم ـ في كتاب البيع من موسوعاتهم الفقهية : أن من جملة شروط المتعاقدين أن يكونا نافذي التصرف ـ فعلا ـ وفرعوا على ذلك مسألة عقد الفضولي وهو الشخص الثالث الكامل التصرف ، غير المتعاقدين ، وهو : إما أن يعقد للمالك ، أو لنفسه ، والأول :

فقد يسبقه منع المالك ، وقد لا يسبقه.

والقدر المتيقن من شمول أدلة الجواز والصحة هو للفضولي العاقد للمالك غير المسبوق بالمنع ، وإن قيل بالبطلان لأدلة ضعيفة.

وأما في صورة سبق المنع من المالك ، فالقول بالبطلان معروف ، وان كان الأقوى والأشهر الصحة أيضا لشمول الأدلة العامة له.

وكذلك الكلام في الصورة الثالثة المتمحضة في الغاصب ـ غالبا ـ فقد اشتهر القول بالبطلان لعدة أدلة ، ولكن الحق والأشهر هو الصحة لمشموليته أيضا للعمومات غير المفرقة بين المقامين.

هذا وقد اختلفوا في أصل جواز عقد الفضولي وعدمه مطلقا ، والتفصيل المذكور بين العاقد للمالك ـ بقسميه ـ جوازا ، ولنفسه منعا. والتفصيل بين العقود جوازا ، والإيقاعات منعا ، الى غيرها من الخلافات المفصلة في بابها من كتب الفقه ـ ولكل قول أدلة ومؤيدات ، لا يسع المجال استعراضها.

والظاهر ـ كما تعضده الأدلة المفصلة في مضانها ـ صحة عقد الفضولي بل وإيقاعه أيضا ، للعمومات الشاملة لجميع الأنواع ، ولخصوص بعض الأدلة الواردة في موارد التفصيل المذكورة.

وكذلك ـ بناء على صحة الفضولية ـ لا فرق بين كون الثمن

١٣

وتزويج المرأة نفسها بأقل من مهر المثل ، لعدم التفويت على الوارث بخلاف نقل منفعة العبد أو الأمة بدون المثل لدخولها في المحاباة بعد أن كانت متمولة

__________________

شخصيا ، أو كليا في ذمة الأصيل ، كما لا فرق أيضا في صحة الفضولي بين العقود اللفظية أو المعاطاة ـ على القول بإفادتها للملك في نفسها.

ولا بد أن يتعقب عقد الفضولي ـ بناء على جوازه مطلقا أو على بعض التفصيلات الآنفة الذكر ـ : أما اجازة المالك ذلك العقد ـ بحكم كونه أحد طرفيه ، فيصح ، واما الرد ، فيبطل. فالكلام ـ بايجاز إذا ـ حول الإجازة ، والمجيز ، والمجاز ، فنقول :

أما الإجازة بالنسبة إلى عقد الفضولي ، فلا بد من حصولها في تصحيحه :

اما بناء على كونها جزء السبب في التأثير ، أو شرط الصحة على غرار الشرط المتأخر ـ بناء على إمكانه في نفسه ـ أو شرطية وصف التعقب المقارن للعقد ـ كما ستعرف ـ وعلى كل فقد اختلفوا في تخريج ارتباط الإجازة المتأخرة بالعقد المتقدم على أقوال :

الأول ـ النقل ، أي انها ناقلة ومصححة للعقد من حين صدورها من المالك ، ولا تترتب آثار العقد من النقل والانتقال والثمرات الأخرى إلا من حين صدورها ، لا من حين صدور العقد ، حتى كأن العقد الصحيح وقع من الآن ، لا من ذي قبل.

هكذا قيل في تصوير النقل ، وإن أشكل عليه بلزوم تأثير المعدوم ، فان العقد المتقدم ـ حال الإجازة المتأخرة ـ معدوم ، وليست الإجازة تمام السبب في النقل ، بل هي اما جزؤه مع العقد ، أو شرط صحته ، وتمام السبب هو العقد.

ولكن الحق صحة التصوير ودفع الإشكال بأن العقد ليس نفس الألفاظ حتى ينعدم بتصرم الزمن ، وانما هو المعنى الاعتباري الحاصل من

١٤

مملوكة ، بل ولا يشمل ما كان من الحقوق بإسقاطها نحو حق الشفعة وحق الخيار ، وإن كان مآله المال ، بخلاف الإبراء من الدين.

__________________

الألفاظ إلى حين الإجازة ، فهي ليست لا حقة بأمر معدوم ، وليس للأمر المعدوم ـ وهو الألفاظ ـ أي صعيدية في ترتب الآثار والأحكام.

الثاني ـ الكشف ، بمعنى أن الإجازة المتأخرة كاشفة عن صحة العقد السابق ، وباعثة على ترتب الآثار من حينه ، لا من حينها ، حتى كأن الإجازة وقعت مقارنة للعقد.

وربما قبل بامتناع الكشف على هذا التصوير لاستلزامه القول بالشرط المتأخر ، وهو محال التعقل كتأثير المعدوم ، وتقدم المعلول على علته.

ولكن الحق إمكان تصور الشروط المتأخرة في التشريعيات ـ كالتكوينيات ـ ولذلك عدة تخريجات ، منها على رأي المحقق الخراساني ـ قدس سره ـ في كفايته : من أن العلة في الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلا بمنشإ انتزاعها ليس الا لحاظ ما هو منشأ الانتزاع ، فكما يمكن لحاظ المقارن يمكن لحاظ المتقدم والمتأخر على حد سواء. ومنها على رأي

صاحب الفصول ـ على ما حكي عنه ـ من أن شرط الصحة في العقد الفضولي ، هو وصف تعقب الإجازة ، لا نفسها ، وهذا الوصف والعنوان حاصل حين العقد ، فليس من قبيل الشرط المتأخر واقعا.

ويظهر من القائلين بالكشف أنهم صوروه بتصويرات ثلاثة :

كشف حقيقي بمعنى أن الإجازة المتأخرة تكشف عن تأثير العقد من حين تحققه تأثيرا تاما ، وهو القول المشهور بين الفقهاء الذين يتهضمون تأثير الشرط المتأخر ـ بالرغم من تأخر زمانه.

وكشف تعبدي ، وهو نفس الأول مع تخريج التأخير بتصور اللحاظ ـ كما عليه الآخوند ـ أو التعقب ـ كما عليه الفصول ـ وذلك مذهب

١٥

فظهر أن محل النزاع انما هو في المنجزات المتبرع بها ، تمليكا كان أو فك ملك مجانا أو بمعاوضة محاباتية.

__________________

غير المتهضمين لتأثير الشرط المتأخر من الفقهاء فهما ـ بحسب الواقع ـ معنى واحد ، وان اختلفا بحسب المبنى ، والتخريج.

وكشف حكمي ، وهو معنى وسط بين الكشف الحقيقي ، والنقل ، والتفصيل بين آثار العقد وأحكامه في ترتيب بعضها من حيث العقد وتعطيل بعضها الآخر الى حين الإجازة ، فالإجازة المتأخرة لا تؤثر بالنقل والانتقال في الملكية من حين العقد ، ولكنها تؤثر ـ من حينه ـ في النماءات غير المملكة ، فهو من حيث ترتب النماءات غير المملكة ، كشف حقيقي ، ومن حيث عدم ترتب ملكية المبيع إلى المشتري الأصيل ، نقل حقيقي ، ولهذا كان وسطا بين الاثنين.

وهناك ثمرات وآثار تختلف في ترتبها باختلاف المباني في الإجازة بين الكشف بأنواعه والنقل ، ولعل من أهمها موضوع النماءات الحاصلة بعد العقد ، فبناء على الكشف الحقيقي والتعبدي هي لمن التقلت العين اليه ، وهو المشتري الأصيل ، وعلى الكشف الحكمي والنقل هي لمن انتقلت عنه ، وهو المالك.

وهناك ثمرات بين أنواع الكشف والنقل ذكرت في أبوابها من كتب الفقه ، لا يسعنا استعراضها في هذا المجال.

ثم ان الأنسب بالقواعد من أقوال الإجازة هو النقل ثم الكشف الحكمي ثم التعبدي. وأما الحقيقي ـ مع اعتبار الإجازة جزء سبب أو شرطا للتأثير ، فمشكل بدون تأويل وتخريج ـ كما عرفت. والإجازة من المالك قد تكون بالقول الصريح مثل (أجزت وأمضيت) ونحوهما ، وقد

١٦

إذا عرفت ذلك ، فنقول : ليعلم أولا ، إن معنى كون المنجزات من الأصل ـ على القول به ـ واضح ، ومعناه ـ على القول به من الثلث ـ

__________________

تكون بغيره ، كالكتابة والإشارة والفعل ، وكل ما يدل بصراحة على الرضا بمضمون العقد.

ولا تورث الإجازة ، لأنها من الأحكام ومن شئون السلطنة على الملك ، وليست من الحقوق القابلة للإرث. وينبغي مطابقة الإجازة للعقد المجاز ، إطلاقا وتقييدا من حيث الثمن والمثمن ، والاعتبارات الآخر ، لأنها من متمماته ، سواء قلنا بكونها جزء سبب أو شرطا في الصحة.

ويشترط في الإجازة : أن لا يسبقها الرد من المالك ، لأنها تجعل المجيز أحد طرفي العقد ، فلا بد من تحقق رضاه به ، ومع سبق الرد لا يتحقق ذلك.

ولا تعتبر الفورية فيها ، بل للمالك حق الإجازة أو الرد في أي وقت شاء ، بحكم ارتباط العقد به ، ولصدق العمومات عليه كآيتي البيع ، والعقود في أي وقت ، غاية الأمر أن ينفتح باب خيار الفسخ للمشتري الأصيل عند تضرره بالتأخير.

وأما المجيز ـ وهو المالك ـ فلا بد من كونه جائز التصرف بالبلوغ والعقل ، والاختيار وعدم الحجر المالي لفلس أو سفه ونحوهما أو مرض موت بناء على عدم نفوذ منجزات المريض من الأصل كما هو الحق في المسألة ـ بلا فرق في ذلك بين البناء في الإجازة على الكشف ـ بأنواعه ـ أو النقل.

وهل يكفي توفر ذلك الشرط ـ وهو جواز التصرف ـ حين الإجازة ، أم لا بد من تحققه حين العقد أيضا؟ قولان في المسألة :

والظاهر كفاية توفره حين الإجازة فقط ، وإن كان حين العقد ممنوع

١٧

كونه موقوفا مراعي إلى أن يكشف الحال بالبرء الكاشف عن النفوذ من الأصل من حين التصرف ، أو بالموت الكاشف عن نفوذه من الثلث كذلك

__________________

التصرف ، فلو كان محجورا حين العقد ، وارتفع حجره حين الإجازة صحت إجازته ، بخلاف العكس ، إذ الملاك صحة تصرفه فيما يؤول إليه من التصرفات بالخصوص ، فإن الإجازة تصرفه ، والعقد تصرف غيره.

وأما المجاز ـ وهو عقد الفضولي ـ فلا كلام لنا في اعتبار ما يعتبر في غيره من العقود اللفظية ، لأنه من مصاديقها ، بحكم الأدلة المجوزة وإنما الكلام في أن الشروط ههنا هل يعتبر اجتماعها في العقد حين العقد ، أم حين الإجازة؟ ، أم من زمان العقد إلى زمان الإجازة؟ وجوه ثلاثة في المسألة؟

والتحقيق ـ كما يتراءى من أدلة المقام ـ التفصيل بين الشروط ، فبعضها دخيل في ماهية العقد وتقومه كالقصد والعقل والتمييز والبلوغ ـ على القول به ـ في المتعاقدين ، وكالمالية والملكية في العوضين ، وكالتنجيز والعربية ـ بناء عليها ـ في ألفاظ العقود ، فهذه ونحوها لا بد من اعتبارها في حال العقد ، إضافة إلى حال الإجازة ، إذ بدونها يختل صدق العقدية حينئذ ، وعقد الفضولي ـ كما هو الحق ـ هو العقد المتكامل القابل للتأثير لو لا رضا المالك.

وبعض الشروط ليس لها دخالة في تقوم العقد ككون المعاملة غير غررية أو غير ربوية وكون العوضين غير نجسي العين أو محرمين كالخمر وآلات القمار ، ونحو ذلك ، فلا حاجة الى توفرها حين العقد ، بل يكفي توفرها حين تحقق الإجازة ، وان كانت حين العقد مفقودة.

(وفي كتاب البيع من الموسوعات الفقهية بحوث مفصلة وفروع مفيدة في الإجازة والمجيز والمجاز لا يسع المقام ذكرها).

١٨

إذا كان بقدره ، ونفوذ قدر الثلث منه إذا كان قاصراً عنه ، وبطلانه في الزائد عليه مع عدم الإجازة من حين التصرف ، فيكون الموت كاشفا عن تعلق حق للورثة بالمال من حين المرض الموجب لعدم نفوذ التصرف فيما لهم فيه حق الا بإجازتهم ، كالوصية التي تبطل من حينها فيما زاد على الثلث مع عدم الإجازة (وتوهم) الفرق بأن الوصية إخراج للمال عن الملك في زمان ينتقل فيه المال إلى الورثة لا يملك منه الا الثلث ، وفي المقام إخراج له عن ملكه حينما يملك المال كله (فاسد) لأنه يكفي في المنع تعلق حق الغير به كالرهن الممنوع عن تصرف المالك فيه ، لتعلق حق الاستيفاء به ، وان كان مملوكا له.

لا يقال : لم لا نحكم بنفوذه من الأصل في الواقع ، وللوارث إبطاله عند الانتقال إليه ، فينفذ حينئذ من الثلث من حين الموت كالفسخ بالخيار الموجب للبطلان من حينه لا من حين العقد.

لأنا نقول : بعض التصرفات ـ بعد فرض وقوعه صحيحا في الواقع ـ لا يمكن طرو الفساد عليه كالعتق الموجب للتحرير ، إذ لا يعود الحر ملكا وكالوقف المأخوذ في معناه التأبيد ، ولا قائل بالتفصيل بين ما يقبل طرو الفساد وغيره. هذا بالنسبة الى حكمة المسألة في الواقع ، وأما في مرحلة الظاهر ، فهل للمالك المتصرف في مرضه تنفيذ تصرفه وتسليط المعطى له على المال بالتسليم له ، أو التخلية بينه وبينه مطلقا أم لا كذلك؟ وجهان :

والأوجه ـ بل الأقوى ـ هو الأول ويحتمل التفصيل بين ما يسعه الثلث حين التصرف وما لا يسعه كذلك ، فله التنفيذ في الأول ، لأصالة سلامة المال عن التلف مع عدم تعين حق الوارث في خصوص ما تصرف فيه ، وليس له ذلك في الثاني ، لأصالة

١٩

عدم تجدد مال له بعد التصرف حتى يتدارك به حق الوارث فيما تصرف فيه.

وفيه : أن شرط الصحة وفاء الثلث به عند الوفاة ، لا حين التصرف ، وأصالة سلامة المال لا يثبت بها عنوان الوفاء عند الوفاة ، لأنها من الأصول المثبتة التي لا معول عليها (١).

__________________

(١) المتيقن ان الشارع المقدس يأمر بعدم نقض اليقين والمضي عليه الا بيقين مثله : وذلك هو معنى أصل الاستصحاب. أي أنه يوجب ترتيب آثار الشي‌ء المتيقن الثابتة بواسطة اليقين ، وتلك الآثار لا بد أن تكون هي الآثار الشرعية المجعولة من قبل الشارع لأنه هو الآمر بترتيبها ولأنها هي القابلة للجعل الشرعي دون غيرها من الآثار العقلية والعادية.

وعليه فان المتيقن المستصحب : اما أن يكون نفسه حكما من الأحكام الشرعية المجعولة من قبل الشارع كوجوب شي‌ء أو حرمته أو إباحته وأمثالها ، واما أن يكون من الموضوعات الخارجية أو اللغوية ونحوهما كحياة زيد وموته ، وكرية الماء ورطوبة الإناء وغير ذلك مما هو سوى الأحكام الشرعية ومعنى الاستصحاب في القسم الأول هو أن المجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساو للحكم المتيقن في زمان اليقين في جميع الآثار المترتبة عليه ، وذلك هو معنى وجوب البقاء عليه.

وأما في القسم الثاني فليس المجعول ـ في زمان الشك ـ جميع الآثار المترتبة على المتيقن في زمان اليقين ، بل المجعول الآثار الشرعية منها فقط دون العقلية والعادية ودون ملزوماته وما هو ملازم معه لملزوم ثالث يشتركان في الترتب عليه وغير ذلك ، فاستصحاب حياة زيد مثلا معناه الأمر بوجوب ترتيب الآثار الشرعية فقط ـ التي كانت في حال اليقين ـ حال الشك كصيانة أمواله وحرمة تزويج زوجته وأمثالهما ، وليس معناه ترتيب جميع الآثار حتى العادية والعقلية كاستمرار نموه ونبات شعره ونحوهما. على أنه ربما

٢٠