تفسير المراغي - ج ١٩

أحمد مصطفى المراغي

فافتح : أي احكم من الفتاحة بمعنى الحكومة ، والفلك : يستعمل واحدا وجمعا ، المشحون : أي المملوء

المعنى الجملي

بعد أن قص على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد وما حجهم به من الآيات ـ أردف هذا بقصص الأب الثاني وهو نوح عليه السلام ، وفيه ما لا فاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا ، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد : «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» فأغرقهم الطوفان ولم ينج منهم إلا من حملته السفينة.

وهذا القصص مجمل تقدم تفصيله فى سورتى الأعراف وهود ، وسيأتى بسطه أتم البسط فى سورة نوح.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون الله فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله؟.

وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا ، لأن تكذيبه يتضمن تكذيب غيره منهم إذ طريقتهم لا نختلف ؛ فهى فى كل مكان وزمان الدعوة إلى التوحيد وأصول الشرائع.

وقد حكى سبحانه عن نوح أنه خوفهم أوّلا بقوله : ألا تتقون؟ لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدا ، والمقلد إذا خوّف خاف ، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر.

٨١

وقد وصف نوح نفسه بأمرين :

(١) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إنى رسول من الله إليكم ، أمين فيما بعثني به ، أبلغكم رسالاته ، لا أزيد فيها ، ولا أنقص منها.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي خافوا عقاب الله وأطيعونى فيما آمركم به من التوحيد ، وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ؛ لأن التقوى هى ملاك الأمر كله فى هذه الحياة وكرر الأمر بها لأنها العمدة فى جميع الأعمال ، فيجب على العامل ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل.

(٢) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا أطلب منكم جزاء على نصحى لكم ، بل أطلب ثواب ذلك من عند الله.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح الأمر لكم ، وبان نصحى وأمانتى فيما بعثني الله به وائتمنى عليه ، وسبب التكرير ما علمته من قبل ، ونظير هذا ما يقول الوالد لولده : ألا تتقى الله فى عقوقى وقدر بيتك صغيرا؟ ألا تتقى الله فى عقوقى وقد علمتك كبيرا؟.

وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هى أوهى من بيت العنكبوت.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟) أي قالوا كيف نتبعك ونصدّقك ونؤمن بك ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك؟ ومرادهم أن هذا لن يكون أبدا.

وهذه شبهة لا ينبغى لعاقل أن يركن إليها ، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة ، لا بارق بين غنى وفقير ، وصعلوك وأمير ، ولا بين ذوى البيوتات والحسب ، وذوى الوضاعة والخسة فى النسب ، فليس له إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش والبحث عن البواطن ، ومن ثم أجابهم :

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) أي وأىّ شىء يعلمنى ما كان يعمل أتباعى؟ إنما لى منهم ظاهر أمرهم دون باطنه ، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنا ، ومن أظهر

٨٢

السوء ظنت به ذلك ، ولم أكلّف العلم بأعمالهم ، وإنما كلّفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصناعات والفقر والغنى ، وهم كأنهم يقولون إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح. بل لتوقع مال ورفعة.

ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم لا عليه ، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم فقال :

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ما حسابهم على ما تحويه سرائرهم إلا على ربهم المطّلع عليها لو كنتم من ذوى الشعور والعقل.

ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم فقال :

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعنى وصدق بما جئت به من عند الله.

ثم بين وظيفة الرسول فقال :

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت منذرا ومخوّفا بأس الله وشديد عذابه ، فمن أطعنى كان منى وأنا منه ، شريفا كان أو وضيعا ، جليلا كان أو حقيرا.

ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجئوا إلى التهديد.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي قال قوم نوح له : لئن لم تنته عما تدعو إليه من الطعن فى آلهتنا لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها.

ولما طال مقامه بين ظهرانيهم ، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا ، سرا وإعلانا ، وكلما كرر عليهم الدعوة صمّوا آذانهم وصمموا على تكذيبه وتمادوا فى عتوّهم واستكبارهم ـ استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسلهم وينجيه والمؤمنين به.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن قومى كذبونى فيما أتيتهم به من الحق من عندك ، فاحكم بينى وبينهم حكما تهلك به المبطل وتنتقم منه وتنصر به الحق وأهله.

٨٣

وجاء فى آية أخرى «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ».

وفى ذلك إيماء إلى طلب إنزال العذاب بهم كما يرشد إلى ذلك قوله : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

فأجاب الله دعاءه كما قال :

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أي فأنجينا نوحا ومن اتبعه على الإيمان بالله وطاعة رسوله ، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره.

وفى قوله ـ المشحون ـ إيماء إلى كثرتهم وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم ، وقد روى أنهم كانوا ثمانين ، أربعين رجلا وأربعين امرأة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك المصدقين منهم والمكذبين ، على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم ، وكذلك هى سنتى فيك وفى قومك.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل ، وفى هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين لما عوجلوا بالعقاب.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه ممن كفر به وخالف أمره ، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته.

قصص هود عليه السلام

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩)

٨٤

وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))

تفسير المفردات

عاد : اسم أبى القبيلة الأكبر ، ويعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة باسم الأب أو بينى فلان أو آل فلان ، والريع (بالفتح والكسر) المكان المرتفع ، ويقال كم ريع أرضك أي ارتفاعها ، آية : أي قصرا مشيدا عاليا ، تعبثون : أي تفعلون العبث ، وما لا فائدة فيه ، مصانع : أي قصورا مشيدة وحصونا منيعة ، ولعل هنا معناها التشبيه أي كأنكم تخلدون ، والبطش : الأخذ بالعنف ، والجبار : المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة ، أمدكم : أي سخر لكم ، والوعظ : كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد ، خلق الأولين : أي عادتهم التي كانوا بها يدينون ، ونحن بهم مقتدون : نموت ونحيا بلا حساب ولا بعث.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص نوح وقومه وأن نوحا دعاهم وحذرهم عقاب الله وطال عليه المطال ولم يزدهم ذلك إلا عتوّا ونفورا ، فدعا ربه فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ـ أردف هذا قصص هود عليه السلام مع قومه عاد ، وكانوا بعد قوم نوح كما قال فى سورة

٨٥

الأعراف «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً». يسكنون الأحقاف ، وهى جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال ، وجنات وأنهار وزروع وثمار ، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، فبعث الله فيهم نبيّا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده وحذّرهم نقمته وعذابه ، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت هذه المقالة على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه إلى أن بعثة الأنبياء أسّها الدعاء إلى معرفة الله وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب ، وأن الأنبياء مجمعون على ذلك وإن اختلفوا فى تفصيل الأحكام تبعا لاختلاف الأزمنة والعصور ، وأن الأنبياء منزّهون عن المطامع الدنيوية لا يأبهون بها ، ولا يجعلونها قبلة أنظارهم ، ومحط رحالهم.

ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه فقال :

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟) أي أتبنون فى كل مرتفع عال قصرا مشيدا للتفاخر والدلالة على الغنى.

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي وتتخذون الحصون والقلاع كأنكم مخلّدون فى الدنيا.

روى ابن أبى حاتم أن أبا الدرداء رضى الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون فى غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر ، قام فى مسجدهم فنادى : يا أهل دمشق ، فاجتمعوا إليه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا تستجيبون ، ألا تستجيبون ، تجمعون

٨٦

ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأكلون ما لا تدركون ، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ، ويبنون فيوثّقون ، ويأملون فيطيلون ، فأصبح أملهم غرورا ، وأصبح جمعهم بورا ، وأصبحت مساكنهم قبورا ، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان ، خيلا وركابا ، فمن يشترى منى ميراث عاد بدرهمين؟.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذوو جبروت وعتوّ ، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة.

وخلاصة ما قال ـ إن أفعالكم تدل على حب الدنيا وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف.

ولما نهامم عن حب الدنيا والاشتغال بالسّرف والجبروت ، دعاهم إلى العمل للآخرة زجرا لهم عما هم فيه فقال :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاحذروا عقاب الله ، واتركوا هذه الأفعال الذميمة ، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، فإن ذلك أجدى لكم وأنفع.

ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم الله التي غمرتهم ، وفواضله التي عمّتهم ، وذكرها أوّلا مجملة ثم فصلها ليكون ذلك أوقع فى نفوسهم فيحتفظوا بها ويعرفوا عظيم قدرها فقال :

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي واتقوا عقاب الله بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد فى الأرض ، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار تتمتعون بها كما شئتم ، حتى صرتم مضرب الأمثال فى الغنى والثروة والزخرف والزينة ، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها وتعظيمه وحده.

ثم بين السبب فى أمرهم بالتقوى فقال :

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم

٨٧

ولم تشكروا هذه النعم ، عذاب يوم شديد الهول تذهل فيه المرضعة عما أرضعت ، وترى الناس فيه سكارى حيارى وما هم بكارى ، ولكن عذاب الله شديد.

وبعد أن بلغ الغاية فى إنذارهم وتخويفهم ، وترغيبهم وترهيبهم كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا ، كما أشار إلى ذلك بقوله :

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي هوّن عليك وأرح نفسك ، فكل هذا تعب ضائع ، وجهاد فى غير عدوّ ، وضرب فى حديد بارد ، فإنا لن نرجع عما نحن عليه ، وقد حكى سبحانه قولهم فى سورة هود : «وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ».

ثم ذكروا السبب فى أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم :

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد ، فنحن سالكون سبيلهم ، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا معاد ، ولا ثواب ولا عقاب ، ولا جنة ولا نار.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أي فاستمروا فى تكذيبهم ومخلفة أمر رسوله ، فأملكناهم بريح صرصر عاتية : (ريح عظيمة ذات برد شديد) كما جاء فى قوله : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» وقوله : «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى» :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها ـ لعبرة لقومك المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون فى سابق علمنا.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو الشديد فى انتقامه من أعدائه ، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا.

٨٨

قصص صالح عليه السلام

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)).

تفسير المفردات

الطلع : أول ما يطلع من الثمر وبعده يسمى خلالا ثم بلحا ثم بسرا ثم رطبا ثم تمرا ، والهضيم : هو النضيج الرّخص اللين اللطيف ، والنحت : النجر والبرى ،

٨٩

والنّحاتة : البراية ، والمنحت : ما ينحت به ، والفره : النشاط وشدة الفرح ، من المسحّرين : أي الذين سحروا حتى ذهبت عقولهم ، الشرب : (بالكسر) النصيب والحظ ، فعقروها : أي رموها بسهم ثم قتلوها.

المعنى الجملي

بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص عاد وهود ـ قص قصص ثمود وصالح وقد كانوا عربا مثلهم يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام ، ومساكنهم معروفة تتردد عليها قريش فى رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام.

دعاهم صالح إلى عبادة الله وحده وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم ، لآيات المصدّقة لرسالته ، فأخذهم العذاب وزلزلت بهم الأرض ولم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كذبت ثمود أخاهم صالحا حين قال لهم : ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه ، وخلافكم أمره ، بطاعتكم أمر المفسدين فى الأرض؟ إنى لكم رسول من عند الله أرسلنى إليكم بتحذيركم عقوبته ، أمين على رسالته التي أرسلها معى إليكم ، فاتقوه وأطيعونى ، وما أسألكم على نصحى وإنذارى جزاء ولا ثوابا ، ما جزائى إلا على رب السموات والأرض وما بينهما.

٩٠

ثم خاطب قومه واعظا لهم ومحذرا نقم الله أن تحل بهم ومذكّرا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة والجنات والعيون والزروع والثمرات ، والأمن من المحذورات فقال :

(١) (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟) أي لا نظنوا أنكم تتركون فى دياركم آمنين متمتعين بالجنات والعيون والزروع والثمار اليانعة ، وأن لا دار للجزاء على العمل. بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعيم ، وأمن من عدوّ ، لن يدوم وأنكم عائدون إلى ربكم ، مجازون على أعمالكم خيرها وشرها.

(٢) (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي وتتخذون تلك البيوت المنحوتة فى الجبال أشرا وبطرا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام فى بنائها ، فاتقوا الله وأقبلوا على ما يعود عليكم نفعه فى الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، وتسبيحه بكرة وأصيلا.

(٣) (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا فى معصية ربكم واجترءوا على سخطه ، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون فى الأرض ولا يصلحون وهم لنذكورون فى قوله :

«وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» أي يسعون فى أرض الله بمعاصيه ، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته.

وخلاصة هذا ـ لا تطيعوا رؤساءكم وكبراءكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.

ولما عجزوا عن الطعن فى شىء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة.

(١) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي أنت ممن سحر كثيرا حتى غلب على عقله ، فلا يقبل لك قول ، ولا يسمع لك نصح.

٩١

(٢) (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إنك بشر مثلنا ، فكيف أوحى إليك دوننا؟ كما حكى عنهم فى آية أخرى : «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟» فأجابهم إلى ما اقترحوا من الآيات الدالة على صدقه فيما جاء به من عند ربه.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقة : يا قوم هذه ناقة الله آية لكم ، ترد ماءكم يوما وتردونه أنتم يوما ، فلها حظ من الماء يوما ولكم مثله يوما آخر.

قال قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، ولا تشرب فى يومهم ماء.

روى أنهم اقترحوا عليه عشراء (الحامل فى عشرة أشهر) تخرج من صخرة عيّنوها ، ثم تلد سقبا ، فقعد عليه الصلاة والسلام يتذكر ، فقال له جبريل عليه السلام : صلّ ركعتين وسل ربك ، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها فى العظم. وإن أمثال هذه الروايات لا يجب علينا التصديق بها إلا إذا ثبتت بصحيح الأخبار.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي ولا تمسوها بسوء كضرب أو عقر فيحل بكم عذاب لا قبل لكم به.

ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم فقال :

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي فعقروا الناقة بعد أن مكثت بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل المرعى ، ثم ندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم ، إذ أنظرهم ثلاثة أيام وفى كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله فندموا حيث لا ينفع الندم ، فأخذهم العذاب وزلزلت أرضهم زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت منها قلوبهم ، ونزل بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تقسيرها

٩٢

قصص لوط عليه السلام

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

تفسير المفردات

أخوهم : أي فى البلد والسكنى ، لا فى الدين ولا فى النسب ، لأنه ابن أخى إبراهيم وهما من أرض بابل ، والذكران : واحدهم ذكر ضد الأنثى من كل حيوان ، عادون :

أي متعدون الحدود التي رسمها العقل والشرع ، من المخرجين : أي ممن نخرجهم من أرضنا وننفيهم من قريتنا ، من القالين : أي المبغضين لفعلكم ، والقلى : البغض

٩٣

الشديد كأنه يقلى الفؤاد ، يقال قليته أقليه قلى وقلاء ، الغابرين : أي الباقين فهى لم تخرج مع لوط ومن مضى معه.

المعنى الجملي

قص الله علينا فى هذه الآيات قصص لوط بن هارون بن آزر بن أخى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بعثه الله فى حياته إلى أمة عظيمة تسكن مذوم وما حولها من المدائن من بلاد الغور بالقرب من بيت المقدس ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وطاعة رسوله ، ونهاهم عن معصيته وارتكاب ما كانوا ابتدعوا من الفواحش مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين ، فكذّبوه فأهلكهم الله ، فأرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء فاحترقت قريتهم وأحدث بها زلزالا جعل عاليها سافلها كما جاء فى قوله : «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ».

الإيضاح

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم تفسير هذا فى سالف القصص.

وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره وبخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله :

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أأنتم دون الناس جميعا تفعلون هذه الفعلة الشنعاء ، تعشون الذكور وتتركون النساء اللاتي جعلهن الله حلّا لكم تستمتعون بهن ويستمتعن بكم.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول وتبيحها الشرائع ، بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال أحد ممن قبلكم ،

٩٤

ولما اتضح لهم وجه الحق وانقطعت حجتهم لجئوا إلى التهديد واستعمال القوة :

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من إنكارك ما تنكره من أمرنا لننفينّك من قريتنا ، وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف واحتباس الأموال : (كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم).

حينئذ أجابهم بأن إبعاده لا يقف به عن الإنكار عليهم.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي إنى برىء مما تعملون ، مبغض له ، لا أحبه ولا أرضاه ، ولا يضيرنى تهديدكم ولا وعيدكم ، وإنى لراغب فى الخلاص من سوء حواركم.

وقال (مِنَ الْقالِينَ) دون (قالَ) إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه ، كما يقال فلان من العلماء فإنه أشد مدحا من قولك فلان عالم ، إذ الأولى تدل على أنه فى عداد زمرة العلماء المعروفين بمساهمته لهم فى العلم.

ثم أعرض عنهم وتوجه إلى الله أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله قال :

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي رب نجّنى من شؤم أعمالهم وأبعدنى من عذابك الدنيوي والأخروى.

فأجاب الله دعاءه وأغاثه بعد أن استغاثه قال :

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه وأهله جميعا مما حل بأهل القرية من العذاب ، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم ما نزل ، إلا عجوزا قد بقيت ولم تخرج معه وهى امرأته كما جاء فى سورة هود : «إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» وكانت عجوز سوء لم نتبع لوطا فى الدين ولم تخرج معه.

والخلاصة ـ فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزا قدر الله بقاءها لسوء أفعالها وقبح طويّتها ، ولما لها من ضلع فى استحسان أفعالهم.

٩٥

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه : أنزل الله عليهم الكبريت والنار.

وبئس المطر هذا وما أشد وطأته ، وما أقسى وقعه ، فقد أحدث بأرضهم زلزالا جعل عاليها سافلها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ : وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سبق تفسير ذلك.

إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون

كتبت مجلة السياسية الأسبوعية فصلا قالت فيه : روت الكتب المنزلة أن الله أهلك مدينتى سذوم وعمورة وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء ، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته ولوط وابنتيه ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن ، بل نزح إليها من الشمال طلبا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحّل فى ذلك الزمن.

وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه قصة خرافية ، وبعضهم يقول إنها قصة واقعية كما يشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط).

وقد قام الدكتور (أو لبرابط) بمباحث واسعة فى وادي نهر الأردن وعلى سواحل البحر الميت حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها ، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها ، وعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام انحدر حوالى القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين ومعه أهل بيته وابن أخيه لوط وأهله ومعهما أنعام كثيرة ، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة فرأى لوط حفظا للسلام أن يفترق عن إبراهيم واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها

٩٦

سذوم وعمورة وأقام بسذوم ، واختار إبراهيم المرتفعات التي فى الشمال وضرب خيامه هنالك.

وكشف الدكتور آثارا تدل على صدق هذه القصة ، إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمسمائة قدم وبجواره (المذبح) هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة يرجح أن الوثنيين فى ذلك الزمن كانوا يقدّمون عليها قرابينهم ، ويرجح أن البحر الميت طغا على المدن الخمس التي كانت فى منطقة الأردن ا ه.

وبعض علماء الجيولجيا (طبقات الأرض) يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادا كانت آهلة بالسكان.

وفى التوراة : إن إبراهيم كان ذات يوم جالسا بباب خيمته فى حرّ النهار إذ أقبل إليه ثلاثة ملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة واحتفى بهم ، وفى أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم ، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم وانغماسهم فى شهواتهم البهيمية ولا سيما المحرمة منها ، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توّا إلى منزل لوط ابن أخى إبراهيم ليبيتوا عنده ، وعلم أهل سذوم بقدومهم فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقا ، ولكن لوطا دافع عنهم وعرّض أن يضحى بشرف ابنتيه لينقذهم ، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء ، وقد تمكن الضيوف من الفرار ، وأقنعوا لوطا وأهل بيته بالفرار ، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط (صوعر) فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وجميع سكانها ونظرت امرأة لوط إلى الوراء فصارت عمود ملح : (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت إما بحدوث زلزلة أو بسقوط صاعقة من الجو).

وفى التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات هيو لوجية شبيهة بحادثة (سذوم وعمورية) فقد يثور بركان ويتدفق حممه على البلاد المجاورة فيغمرها ويهلك أهلها ، وقد تغور بلاد واسعة فيطمو عليها البحر وتزول هى وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان ، وقد تنشقّ الأرض فتبتلع مدنا بأسرها :

٩٧

والخلاصة ـ إن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين وكانت ذات رياض غناء وغياض غنيه بوفرة مائها وحيراتها وشمل أهلها الفساد ورتعوا فى شهواتهم البهيمية ولم يبق فيها برّ إلا لوط وأهله ، فانتقم الله منهم فأمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء ، فألهب البراكين النارية التي فيها ، فعجلت دمارهم ، وخسفت الأرض بهم ، وظهرت البحيرة على ما يراه الآن.

قصص شعيب عليه السلام

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

٩٨

تفسير المفردات

الأيكة : غيضة كثيرة الشجر قرب مدين بعث الله إلى أهلها شعيبا كما بعثه إلى أهل مدين ولم يكن منهم نسبا ، من المخسرين : أي المطففين الآخذين من الناس أكثر ممّا لكم ، والقسطاس : الميزان ، والمستقيم : أي العدل ، ولا تعثوا : أي لا تفسدوا ، والجبلة : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وبضمهما وتشديد اللام : الخلقة والطبيعة ، ويقال جبل فلان على كذا : أي خلق ، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة ، كسفا : واحدها كسفة كقطعة (وزنا ومعنى) والظلة : السحابة التي استظلوا بها.

المعنى الجملي

قص الله تعالى علينا فى هذه الآيات قصص شعيب مع قومه أهل مدين ، وقد بعثه إليهم فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان وألا يعثوا فى الأرض فسادا فكذبوه ، فسلط الله عليهم الحر الشديد فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أحر من غيرها فيخرجون ، ثم أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا.

الإيضاح

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) سبق تفسير هذا.

وبعد أن نصحهم بتلك النصائح وعظهم بعظة أخرى ، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم وهى التطفيف فى الكيل والميزان فقال :

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملا ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصا ، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم.

٩٩

وخلاصة ذلك ـ خذوا كما تعطون ، وأعطوا كما تأخذون.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان السوي العدل ، وقد جاء فى سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه فقال : «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا ، عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ».

ثم عمم النهى عن البخس فى كل حق فقال :

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا الناس حقهم فى كيل أو وزن أو غيرهما كالمذروعات والمعدودات كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير ، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير وهكذا.

ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنا وأشد خطرا ، وهو الفساد فى الأرض بجميع ضروبه وأشكاله فقال :

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تكثروا فيها الفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق والسلب والنهب ونحوها.

وبعد أن نهاهم عن ذلك خوّفهم سطوة الجبار الذي خلقهم وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشا وعتوّا فقال :

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وخافوا بأس الله الذي خلقكم من العدم للإصلاح فى الأرض ، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة وأكثر مالا ، كقوم هود الذين قالوا من أشد مناقوة ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وقد تمخض هذا النصح عن شيئين : القدح فى رسالته أولا ، واستصغار الوعيد ثانيا.

(١) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي ما أنت إلا ممن سحر عقله مرة بعد أخرى ، فصار كلامه جزافا لا يعبّر عن حقيقة ، ولا يصيب هدف الحق.

(وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فما وجه تفضيلك علينا وإرسالك رسولا إلينا.

١٠٠