تفسير المراغي - ج ١٩

أحمد مصطفى المراغي

على إبطال ما أدعيه من المعجزات فألقوا ما معهم من الحبال والعصى وقد كانت مطليّة بالزئبق ، والعصىّ مجوّفة مملوءة به ، وقالوا بقوة فرعون وجبروته : إنا لنحن الغالبون ، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها وصارت كأنها حيات تدبّ من كل جانب ، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.

وجاء فى سورة طه : «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى».

وقد استفرغوا الوسع وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية بل ما فوقها وأن النصر قد كتب لهم.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون صورته وحاله الأولى بتمويههم وتخييل الحبال والعصى أنها حيات تسعى.

وجاء فى آية أخرى : «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

وقد قامت الحجة لموسى عليهم واستبان لهم أن هذا ليس من متناول أيديهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي فخروا سجد الله ، لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحرى ، فلما ابتلعت الحية ما زّوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا ، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى ، حينئذ خروا سجدا لله القوى القاهر فوق عباده.

وفى التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا.

ثم فاهوا بما يجيش فى صدورهم ، وتنطوى عليه جوانحهم.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا : آمنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون.

٦١

وفى هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية ، وأن سبب إيمانهم ما أجراه الله على يدى موسى وهرون من المعجزات.

وبعد أن حصحص الحق ، وو صح الصبح لذى عينين ، لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة وشرع يهدّد ويتوعد ، ولكن ذلك لم يجد فى السحرة شيئا ، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما ، إذ كان حجاب الكفر قد انكشف ، واستبان لهم نور الحق ، وعلمهم ما جهل قومهم ، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية قد أيده الله بها ، وجعلها دليلا على صدق ما يدّعى.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟) أي قال لهم : أتؤمنون به قبل أن تستأذنو ، وقد كان ينبغى أن تفعلوا ذلك ، وألا تفتاتوا علىّ ، فإنى أنا الحاكم المطاع؟

ثم التمس لإيمانهم عذرا آخر غير انبلاج الحق ، ليعمّى على العامة ، ويصرفهم عن وجه الحق فقال :

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه.

ولا شك أن هذا تضليل لقومه ، ومكابرة ظاهرة البطلان ، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم ، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر.

ثم توعدهم فقال :

(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم ، وسوء عاقبة ما اجترحتم.

ثم بين ذلك بقوله :

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأقطعنّ اليد اليمنى من كل منكم والرجل اليسرى ، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك.

فأجابوه غير مكترثين بقوله ، ولا عابثين بتهديده ، بأمرين فى كل منهما دليل على اطمئنان النفس وبرد اليقين :

٦٢

(١) (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي قالوا لا ضرر علينا فى تنفيذ وعيدك ، ولا نبالى به ، لأن كل حىّ لا محالة مائت.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد

ونحو ذلك قول على كرم الله وجهه : لا أبالى أوقعت على الموت أم وقع الموت علىّ؟

(٢) (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ؟) أي ولأنا نؤمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من السحر ، واعتقدناه من الكفر ، من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا الموقف ، انقياد للحق ، وإعراضا عن زخرف الدنيا وزينتها.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)).

٦٣

تفسير المفردات

أسرى : سار ليلا ، متبعون : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، والشرذمة : الطائفة القليلة من الناس ، غائظون : أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا ، حاذرون : أي من دأبنا الحذر واستعمال الحزم فى الأمور ، كنوز : أي أموال كنزوها وخزنوها فى باطن الأرض ، ومقام كريم : أي قصور عالية ودور فخمة ، أورثناها : أي ملكناها لهم تمليك الميراث ، مشرقين : أي داخلين فى وقت الشروق ، تراءى الجمعان : أي تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر ، لمدركون : أي سيدر كوننا ويلحقون بنا ، كلا : أي لن يدركوكم ، انفلق : انشق ، الفرق : الجزء المنفرق منه ، والطود : الجبل ، وأزلفنا : أي قرّبنا. وثمّ : أي هناك ، لآية : أي لعظة وعبرة توجب الإيمان بموسى.

المعنى الجملي

أقام موسى بين ظهرانى المصريين يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات ، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا واستكبارا ، يرشد إلى ذلك قوله فى سورة الأعراف : «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» الآيات ، ثم أمره الله أن يخرج بنى إسرائيل ليلا من مصر ، وأن يمضى بهم حيث يؤمر ، ففعل ما أمر به وخرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليّا كثيرة.

فلما وصل علم ذلك إلى فرعون أرسل فى المدائن حاشرين يجمعون له الجند ، ثم قوّى نفسه ونفس أصحابه ، بأن وصف بنى إسرائيل بالقلة ، وأن أفعالهم تضيق بها الصدور ، وتوجب الغيظ ، وهو مستعد أن يبيدهم بما لديه من قوة وجند ، ثم تبعهم هو وجنوده وقت الشروق ، فلما تقارب الجمعان خاف أصحاب موسى وقالوا إن فرعون وقومه لاحقون بنا لا محالة. فقال لهم موسى لن يدركوكم وإن ربى سيهدينى إلى طريق النجاة ؛ وحينئذ أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق حتى صار شكل الماء المتراكم كالجبل العظيم ، فسار هو وقومه فى اليبس حتى جاوزوا البحر

٦٤

من الجانب الآخر ، ودخل فرعون وجنوده من الجانب الأول فانطبق البحر عليهم وأغرقوا أجمعون.

وهذه آية كان من حقها أن توجب الاعتبار والعظة فيؤمن به من بقي من المصريين لكنهم لم يفعلوا.

الإيضاح

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي وأوحينا إليه أن سر بعبادي ليلا حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم فلا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر ، بل يكونون على إثركم حين تلجونه ، فيدخلون مدخلكم ؛ فأطبقه عليهم فيغرقون.

وقد جاء فى سفر الخروج من التوراة فى الإصحاح الحادي عشر : إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه ، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة ، وأن الله سيميت كل بكر فى أرض مصر من الإنسان والحيوان ، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة فى اليوم الرابع عشر من شهر الخروج ، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار ، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير ، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة ، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف ، وهذا هو (فصح الرب) وهذا الدم علامة على بيوت بنى إسرائيل حتى يحفظ كل بكر منهم ويتخطاهم الموت إلى أبكار المصريين ، ويكون أكل الفطير سبعة أيام ، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارا بالخروج من مصر من يوم ١٤ من شهر أبيب إلى ٢١ من هذا الشهر كل سنة.

وهكذا أمر موسى قومه بذلك ، ففعلوا كل هذا ونجا أولادهم ، وصار ذلك سنة أبدية.

ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان فى جميع بلاد مصر فى نصف الليل اشتغل الناس بالأموات ، وأخذ بنو إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر ، ومعاجنهم

٦٥

مصرورة فى ثيابهم على أكتافهم ، وفعلوا ما أمرهم به الرب ، فارتحلوا من رعمسيس إلى سكوت وكانوا ستمائة ألف ماش من الرجال ما عدا الأولاد ، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملّة (فطيرا) ا ه.

وكانت إقامة بنى إسرائيل فى مصر ٤٣٠ سنة ، وليلة الخروج هى عيد الفصح عندهم إلى الأبد.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي فلما أسرى بهم موسى وأخبر فرعون بما صنعوا ، أرسل فى مدائن مصر رجالا من حرسه ، ليجمعوا الجند فيتبعوهم ويردّوهم إلى مصر ، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا.

ثم قوّى فرعون جنده فى اقتفاء آثارهم بأمور :

(ا) (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم وكبح جماحهم فى الزمن الوجيز.

(ب) (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن ، فيحدثون الشغب والاضطراب فى البلاد ـ إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها.

(ج) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم ويصعب رأب صدعهم ، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر ، واستعمال الحزم فى الأمور.

والخلاصة ـ إنه أشار أولا إلى عدم الموانع التي تمنع اتباعهم من قلة وجود الشّوكة لهم ، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم لهم ، ووجوب التيقظ فى شأنهم حثا منه عليه.

وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه.

وخلاصة مقاله ـ إن هؤلاء عدد لا يعبأ به ، وإن فى مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل ، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم ورددناهم على أعقابهم

٦٦

خاسئين ، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب فى البلاد ، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة فى الأمور.

والذي نجزم به أن بنى إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون ، لكنا لا نجزم بعدد معين ، وما فى كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها ولا ينبغى التعويل عليها ، فخير لنا ألا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها ، وقد فنّد ابن خلدون فى مقدمة تاريخه هذه الروايات وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح.

وقد جازى الله فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بنى إسرائيل فأهلكوا جميعا كما قال :

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ) أي فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم ، وتركوا المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله ، وقد كان الأمر حقا كما قلنا.

ثم بين ما آل إليه أمر بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر :

(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وملّكنا بنى إسرائيل جنات وعيونا مماثلة لها فى أرض الميعاد التي ساروا إليها ، وفى هذا بيان لأن حالهم تحوّل من الاستعباد والرقّ إلى الترف والنعيم فى الجنات والعيون والمقام الكريم.

ونحو الآية قوله : «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها».

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي فخرجوا من مصر فى حفل عظيم وجمع كثير من أولى الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند ، فوصلوا إليهم حين شروق الشمس.

ثم ذكر ما عرا بنى إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي فلما رأى كل من

٦٧

الفريقين صاحبه قال بنو إسرائيل : إن فرعون وجنوده سيلحقوننا ويقتلوننا ، وكانوا قد قالوا لموسى من قبل : إنا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، فقد كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا ، ومن بعد ما جئتنا يدركوننا ويقتلوننا.

والخلاصة ـ إنا لمتابعون وسنهلك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد ؛ لأناقد انتهى بنا السير إلى سيف البحر (ساحله) وقد أدركنا فرعون وجنوده.

فأجابهم موسى وطمأنهم وقوّى نفوسهم.

(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي قال لهم موسى : إنه لن يصلكم شىء مما تحذرون ، فإن الله هو الذي أمرنى أن أسير بكم إلى هنا ، وهو سبحانه لا يخلف وعده ، فهو :

(١) سيهدينى إلى طريق النجاح والخلاص.

(٢) سينصرنى عليهم ويتكفّل بمعونتي.

ثم ذكر سبحانه كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه فقال :

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي وصار فيه اثنا عشر طريقا ، لكل سبط منهم طريق وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض ، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض كما قال فى آية أخرى : «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى».

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي وقربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم منه.

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي وأنجينا موسى وبنى إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم ، فلم يهلك منهم أحد ، وأغرقنا : فرعون وجنوده ولم نبق منهم أحدا.

٦٨

والخلاصة ـ إنه لما خرج أصحاب موسى وتتامّ أصحاب فرعون ، انطبق عليهم البحر فأغرقهم جميعا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى الذي حدث فى البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام ، من حيث كان معجزة له ، وتحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم بيّن أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئا.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وإن أكثرهم لم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات.

وفى ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات على يديه ، فنبهه بهذا الذكر إلى أن له أسوة بموسى عليه السلام ، فإن ما ظهر على يديه من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب أكثر القبط له وكفرهم به مع ما شاهدوه فى البحر وغيره ، وتكذيب بنى إسرائيل ، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل وقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.

ثم توعدهم وقال :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه.

وفى هذا بشارة لنبيه بأن النصر سيكتب له ، والفوز سيكون حليفه كما قال :

«وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ».

قصص إبراهيم عليه السلام

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ

٦٩

إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

المعنى الجملي

لما ذكر فى أول السورة شدة حزنه صلى الله عليه وسلم على كفر قومه وعدم استجابتهم دعوته ، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون فى ذلك تسلية له ، وليعلم أنه ليس ببدع فى الرسل ، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادا واستكبارا ، فقد أتى موسى بباهر المعجزات ، وعظيم الآيات ، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل ، ولم يؤمن به من المصريين إلا النذر اليسير ـ أردف ذلك بقصص إبراهيم أبى الأنبياء ، وخليل الرحمن ، وكليم الله ، ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد ، وآلامه كانت أمض ، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار ، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم ، وقد أكثر حجاجهم حتى حجّهم ولم يجد ذلك فيهم شيئا ، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد ، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا ، فهى لا تسمع دعاءهم «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ» ولو سمعت لم تغن عنهم شيئا. ثم ذكر لهم صفات الرّب الذي ينبغى أن يعبد وفصلها أتم التفصيل.

الإيضاح

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟) أي واتل على أمتك أخبار إبراهيم إمام الحنفاء ، ليقتدوا به فى الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده

٧٠

لا شريك له والتبري من الشرك وأهله ، وقد أوتى الرشد من صغره ، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأصنام فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له ، ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.

روى أنّ أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل ، المزهوّ بجميل ما يصنع.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قالوا نعبد الأصنام ونقيم على عبادتها طوال ليلنا ونهارنا. وبعد أن أوضحوا له طريقتهم نبههم إلى فساد معتقدهم بسوق الدليل الذي يرشد إلى بطلانه.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟) أي قال لهم : هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم فيستجيبوا لكم ببذل معونة أو دفع مصرة؟.

ذاك أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه فى المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له ببذل المعونة من جلب نفع أو دفع ضر ، فإذا كان ما تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ، ولو عرف ما استطاع مدّ يد المعونة ، فكيف بكم تستسيغون لأنفسكم أن تعبدوا ما هذه صفته؟.

وحينئذ فلجت حجة إبراهيم ولم يجدوا مقالا يقولونه وكأنما ألقمهم حجرا ، فعدلوا عن الحجاج إلى اللجاج ، وتقليد الآباء والأجداد ، وتلك هى حجة العاجز المغلوب على أمره ، الذي أظلم وجه الحق أمامه ، ولم يهتد لحجة ولا دليل.

فزاد فى تقريعهم وتوبيخهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قالَ : أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدّعون ، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلىّ بالمساءة فإنى عدوّ لها ، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها ، ولكن رب العالمين هو ولى فى الدنيا والآخرة ، ولا يزال متفضلا علىّ فيهما.

ونحو هذا قول نوح عليه السلام «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» وقول هود :

٧١

«إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد :

(١) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى ، وهو الذي يهدينى إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.

(٢) (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي وهو رازقى بما يسرّ من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المزن ، وأنزل الماء فأحيا به الأرض ، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد ، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى.

(٣) (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وهو الذي ينعم علىّ بالشّفاء إذا حصل لى مرض ، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً».

والخلاصة ـ إنى إذا مرضت لا يقدر على شفائى أحد غيره بما يقدّر من الأسباب الموصلة إلى ذلك.

(٤) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو ، فهو الذي يبدئ ويعيد ، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت ، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء.

(٥) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب فى الآخرة إلا هو كما قال : «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ» وسمى إبراهيم ما صدر منه من عمل ـ هو خلاف الأولى ـ خطيئة ، استعظاما له.

وخلاصة مقاله ـ إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هى من الله وحده ، ولا قدرة لأصنامكم على شىء منها.

٧٢

وفى صحيح مسلم عن عائشة «قلت يا رسول الله : ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما : رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين».

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

تفسير المفردات

الحكم : هو العلم بالخير والعمل به ، واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام فى زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها ، لسان صدق : أي ذكرا جميلا بين الناس بتوفيقى إلى الطريق الحسنة حتى يقتدى بي الناس من بعدي ، وهذا هو الحياة الثانية كما قال : قد مات قوم وهم فى الناس أحياء ، من ورثة جنة النعيم : أي من الذين يتمتعون بالجنة وسعادتها فيكون ذلك غنيمة لهم كما يتمتع الناس بالميراث فى الدنيا ، والخزي : الهوان ، والقلب السليم : هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة.

المعنى الجملي

بعد أن أثنى إبراهيم على ربه بما أثنى عليه ـ ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى ، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه ، ليستغرق فى معرفة ربه ومحبته ، ويصير أقرب شبها بالملائكة الذين

٧٣

يعبدون الله بالليل والنهار لا يفترون ، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به فى دينه ودنياه ، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدى إلى ما يريد ، ومن ثم جاء فى الأثر حكاية عن الله تعالى : «من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين».

الإيضاح

دعا إبراهيم ربه أن يؤتيه من فضله أجمل الأخلاق وأكمل الآداب ، فطلب إليه أمورا هي :

(١) (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي ائتني معرفة بك وبصفاتك ، ومعرفة للحق لأعمل به.

(٢) (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي ووفقني للعمل فى طاعتك ، لأنتظم فى سلك المقربين إليك ، المطيعين لك ، وقد أجاب الله دعاءه كما قال : «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ».

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى دعائه : «اللهم أحينا مسلمين ، وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مبدّلين».

(٣) (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي وخلّد ذكرى الجميل فى الدنيا بتوفيقى لصالح العمل ، فأكون قدوة لمن بعدي إلى يوم القيامة ، وقد أجاب الله دعاءه كما قال : «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ».

ومن ثم لا نرى أمة إلا محبة لإبراهيم وتدّعى أنها على ملته ، وقد جاء من ذريته كملة الأنبياء وأولو العزم منهم.

وختم ذلك بمجدّد دينه ، وداعية الناس إلى التوحيد وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

وبعد أن طلب سعادة الدنيا طلب ثواب الآخرة فقال :

٧٤

(٤) (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي واجعلنى ممن يدخلون الجنة ويتمتعون بنعيمها كما يتمتع المالك بما يملكه ميراثا ويئول إليه أمره من شئون الدنيا.

وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأقرب الناس إليه وهو أبوه فقال :

(٥) (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي واغفر له ذنوبه ، إنه كان ضالا عن طريق الهدى ، وهذه الدعوة وفاء بما وعده من قبل كما جاء فى آية أخرى :

«وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ».

ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة فقال :

(٦) (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي ولا تخزنى بمعاتبتي على ما فرطت ، أو بنقص مرتبتى عن بعض الوارثين.

ثم بين حال هذا اليوم وما فيه من شديد الأهوال فقال :

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي يوم لا يقى المر ، من عذاب الله المال ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعا ، ولكن ينفعه أن يجىء خالصا من الذنوب وأدرانها ، وحب الدنيا وشهواتها ، وخص الابن بالذكر لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع ، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى.

قال النسفي : وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين ، حيث سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم ، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة ، ثم صور المسألة فى نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى ، فعظم شأنه ، وعدّد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته ، مع ما يرجى فى الآخرة من رحمته ، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين ، وابتهل إليه ابتهال الأدب ، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعذابه وما يفعل المشركون يومئذ من الند

٧٥

والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ا ه.

أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال : لما نزلت : «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» الآية. وقال بعض أصحاب رسول الله لو علمنا أىّ المال خير اتخذناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضله لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه».

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

تفسير المفردات

أزلفت : أي قرّبت ، برزت : أي جعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها ، والغاوين : الضالين عن طريق الحق ، فكبكبوا : أي ألقوا على وجوههم مرة بعد أخرى من قولهم كبّه على وجهه : أي ألقاه ، يختصمون : أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين ، نسويكم : أي نجعلكم مساوين له فى استحقاق العبادة ، والصديق : هو الصادق فى وده ، والحميم : هو الذي يهمه ما أهمك ، والكرة : الرجعة.

٧٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه لا ينفع فى هذا اليوم مال ولا بنون ، وإنما ينفع البعد من الكفر والنفاق ـ ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورا تبين شديد أهواله ، وعظيم نكاله.

الإيضاح

ذكر ما يحدث فى هذا اليوم مما يبشر بثواب المتقين ونكال الكافرين ، ثم قرّعهم على ما اجترحوا من السيئات فقال :

(١) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي إن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ، ينظرون إليها ، ويفرحون بأنهم سيحشرون إليها كما جاء فى آية أخرى : «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ».

وفى هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها ، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها.

(٢) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي وتكون النار بارزة مكشوفة للأشقياء ، بحيث تكون بمرأى منهم ، يسمعون زفراتها التي تبلغ منها القلوب الحناجر ، ويوقنون بأنهم مواقعوها ، لا يجدون عنها مصرفا.

وفى هذا تعجيل للغم والحسرة ، إذا نسوا فى دنياهم هذا اليوم كما جاء فى قوله : «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ».

ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعا لهم.

(٣) (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟)

٧٧

أي أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم؟ لا ـ إنهم وآلهتهم وقود النار.

والخلاصة ـ ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئا ، ولا هى بدافعة عن نفسها شيئا ، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.

ثم ذكر مآلهم بعدئذ فقال :

(٤) (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي فألقى الآلهة والغاوون الذين عبدوها فى النار ، والشياطين والداعون إلى عبادتها ـ على رءوسهم أو ألقى بعضهم على بعض.

وتأخير الغاوين فى الكبكبة عن آلهتهم ؛ ليشاهدوا سوء حالهم ، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم.

ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة.

(٥) (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين : تالله إننا كنا فى ضلال واضح لا لبس فيه حين سويناكم برب العالمين فى استحقاق العبادة وعظمناكم تعظيم المعبود الحق ، وما أضلّنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء كما جاء فى آية : «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا».

وخلاصة ذلك ـ إنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها.

ثم أكّدوا ندمهم على ما فرط منهم وحسرتهم على ما صنعوا.

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما

٧٨

نحن فيه من ضيق أو ينقذنا من هلكة ، ولا صديق شفيق بعنيه أمرنا ويودنا ونوده.

ونحو الآية ما جاء فى آية أخرى حكاية عنهم : «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ».

وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع ، وقد نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم فى تخليصهم من العذاب بشفاعته ، ثم ترقّوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم.

والخلاصة ـ إن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع.

ثم حكى الله عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون ، والله يعلم إنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فقال :

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي إن فى محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم فى التوحيد ـ لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره ، ولا معبود سواه ، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم.

وفى هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم ـ لهو القادر على الانتقام منهم ، الرحيم بهم إذ لم يهلكهم ، بل أخّر ذلك وأرسل إليهم الرسل ونصب لهم الشرائع ، ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.

٧٩

قصص نوح عليه السلام

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))

تفسير المفردات

القوم : اسم لا واحد له من لفظه كرهط ونفر يذكّر ويؤنث ، أخوهم : أي أخوّة نسب ، كما يقال يا أخا العرب ويا أخاتيم ، يريدون يا من هو واحد منهم ؛ قال الحماسى :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

فى النائبات على ما قال برهانا

الأرذلون : واحدهم أرذل ، والرذالة : الخسة والدناءة ، وقد استرذلوهم ؛ لا تضاع نسبهم وقلة حظوظهم من الدنيا ، من المرجومين : أي من المقتولين رميا بالحجارة ،

٨٠