تفسير المراغي - ج ١٩

أحمد مصطفى المراغي

لا ينبغى ، وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، (يطليه بمادة سوداء) ويحلق رأسه ويطوف به السوق.

ونحو الآية قوله : «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ».

(٨) (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي والذين إذا ذكّروا بها أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مبصرين بعيون راعية.

وفى هذا تعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما كانوا عليه ، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم ، وجهلهم وضلالهم ، فكأنهم صمّ لا يسمعون ، وعمى لا يبصرون.

(٩) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي والذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له ـ وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه فى الطاعة قرت بهم عينه ، وسر قلبه ، وتوقّع نفعهم له فى الدنيا حيا وميتا ، وكانوا من اللاحقين به فى الآخرة ويسألون أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم ، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل.

روى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، وعلم ينتفع به من بعده ، وصدقة جارية».

والخلاصة ـ إنهم طلبوا من ربهم أمرين ـ أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه فتقربهم أعينهم فى الدنيا والآخرة وأن يكونوا هداة مهتدين ، دعاة إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر.

ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين ذكر إحسانه إليهم بقوله :

٤١

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي أولئك المتصفون بصفات الكمال ، الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب ، يجزون المنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، بصبرهم على فعل الطاعات ، واجتنابهم للمنكرات ، ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام ، ويلقّون التوفير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام.

ونحو الآية قوله : «والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار».

ثم بين أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع فقال :

(خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي مقيمين فيها لا يظعنون ولا يموتون ، حسنت منظرا ، وطابت مقيلا ومنزلا.

ونحو الآية قوله : «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ».

ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم أمر رسوله أن يقول لهم :

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم : إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون ، إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن ، ولولاها لم يعتد بهم ربهم ، ومن ثم لا يعبأبكم إذا لم تعبدوه ، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه ويطيعه وحده لا شريك له كما قال : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي أما وقد خالفتم حكمى ، وعصيتم أمرى ، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل وكذبتم رسولى ، فسوف يلزمكم أثر تكذيبهم ، وهو العقاب الذي لا مناص منه ، فاستعدوا له ، وتهيئوا لذلك اليوم ، فكل آت قريب.

وخلاصة ذلك ـ لا يعتد بكم ربى لو لا عبادتكم إياه ، أما وقد قصر الكافرون منكم فى العبادة ، فسيكون تكذيبهم مفضيا لعذابهم وهلاكهم فى الدنيا والآخرة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصل ربنا على محمد وآله.

٤٢

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام

اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد :

(١) إثبات النبوة والوحدانية ، والنعي على عبدة الأصنام والأوثان ، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذلك مع ذكر شبهاتهم التي قالوها فى النبي صلى الله عليه وسلم وفى القرآن ثم تفنيدها.

(٢) قصص بعض الأنبياء السالفين وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

(٣) العجائب الكونية من مدّ الظل وجعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار ومروج البحرين : العذب الفرات ، والملح الأجاج ، وجعل البروج فى السماء ، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.

(٤) الأخلاق والآداب من قوله : وعباد الرحمن إلى آخر السورة.

٤٣

سورة الشعراء

هى مكية نزلت بعد سورة الواقعة إلا آية ١٩٧ ومن ٢٢٤ إلى آخر السورة فمدنية وآيها ٢٢٧.

وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله أعطانى السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطانى المئين مكان الإنجيل ، وأعطانى الطواسين مكان الزبور ، وفضّلنى بالحواميم والمفصّل ، ما قرأهن نبىّ قبلى».

ومناسبتها ما قبلها من وجوه :

(ا) إن فيها بسطا وتفصيلا لبعض ما ذكر فى موضوعات سالفتها.

(ب) إن كلتيهما قد بدئت بمدح الكتاب الكريم.

(ح) إن كلتيهما ختمت بإبعاد المكذبين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

٤٤

تفسير المفردات

لعل : هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار ، وقال العسكري : إنها للنهى ، وباخع نفسك : أي مهلكها من شدة الحزن ، قال ذو الرمة :

ألا أيها الباخع الوجد نفسه

لشىء تحته عن يديه المقادر

وأصل البخع : أن تبلغ بالذّبح البخاع (بكسر الباء) وهو عرق مستبطن فقار الرقبة ، وذلك يكون من المبالغة فى الذبح ، والأعناق : الجماعات ، يقال جاءت عنق الناس : أي جماعة منهم ، وذكر : أي موعظة ، والمراد بالأنباء ما سيحل بهم من العذاب ، وزوج : أي صنف ، والكريم من كل شىء : المرضىّ المحمود منه.

الإيضاح

(طسم) تقدم أن بيّنا أن المراد بمثل هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور التنبيه ، فهى أشبه بألا ونحوها من حروف التنبيه ، ويا التي للنداء ، وتقرأ بأسمائها فيقال طا ـ سين ـ ميم.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات القرآن البين الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل ، والغىّ والرشاد.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أقاتل نفسك أسفا وحزنا على ما فاتك من إسلام قومك وخوفك ألا يؤمنوا؟

وقد يكون المعنى ـ لا تبخع نفسك ولا تهلكها أسى وحسرة على إيمانهم.

ونحو الآية قوله : «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» وقوله : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

ثم بين سبب النهى عن البخع بقوله :

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي لو شئنا

٤٥

أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظّلّة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها ـ لفعلنا ، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريا لا قسريا كما قال : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». ومن ثم نفذ قدرنا ، ومضت حكمتنا ، وقامت حجتنا ، على الخلق بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم.

والخلاصة ـ إن القرآن وإن بلغ فى البيان الغاية غير موصّل لهم إلى الإيمان ، فلا تبالغ فى الأسى والحزن ، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك ، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئا ، فحزنك عليهم لا يجدى نفعا ، وقد كان فى مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء ، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعا لا كرها ، ومن جراء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر ، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل ، لكنهم ضلوا وأضلوا ، وما ربك بظلام للعبيد.

ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيد الصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم فقال :

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي وما يجىء هؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون ما أتيتهم به ـ ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلا أعرضوا عن استماعه وتركوا إعمال الفكر فيه ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه ، وما كان أحراهم بذلك وهم أهل الذّكن والفطنة ، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون.

وخلاصة ذلك ـ إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء.

ثم أكد إعراضهم بقوله :

٤٦

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله ، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء ، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله فى الدنيا والآخرة كما قال : «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» وقال : «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».

ونحو الآية قوله : «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».

وقصارى ذلك ـ إنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق ، وإنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل بلا تدبر ولا تفكير فى العاقبة.

وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم ـ ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها فى الآفاق فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟) أي أهم أصروا على ما هم عليه من الكفر بالله وتكذيب رسوله ولم يتأملوا فى عجائب قدرته ولم ينظروا فى الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلى الكبير؟

والخلاصة ـ كيف اجترءوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه ، وإلهه هو الذي خلق الأرض وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين وتسترعى أنظار الغافلين.

ثم بين أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر ، وعدموا التأمل والنظر فى الأكوان ، ومن ثمّ فهم جاحدون فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولى الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور ، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها وجعل فيها الحدائق الغناء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم ، ويعيدهم سيرتهم الأولى ، ولكن أكثر الناس غفلوا

٤٧

عن هذا ، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه ، وخالفوا أوامره ، واجترحوا معاصيه ، ولله در القائل :

تأمل فى رياض الورد ونظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات

على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

والخلاصة ـ إن فى هذا وأمثاله لآية عظيمة ، وعبرة جليلة ، دالة على ما يجب الإيمان به ، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان ، بل تمادوا فى الكفر والضلالة ، وانهمكوا فى الغى والجهالة.

وفى هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم ، وبيان سوء مآلهم.

ثم بشره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه وإظهاره عليهم فقال :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره والقادر على كل ما يريد ، وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك وإشراكهم بي وعبادتهم للأوثان والأصنام ، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته ، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته بل يغفر له حوبته.

والخلاصة ـ إن ربك عزّ كل شىء وقهره ، ورحم خلقه ، فلا يعجل بعقاب من عصاه ، بل يؤجله وينظره لعله يرعوى عن غيه ، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر.

قصص موسى عليه السلام

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي

٤٨

وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه سوء حال المشركين وشدة عنادهم وقبيح لجاجهم ـ سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم وأنه ليس بالأوحد فى الأنبياء المكذبين ، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات ، وعظيم المعجزات ، ولم تغن الآيات والنذر ؛ فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون ، وأخذهم الله بذنوبهم وأغرقهم فى اليم جزاء اجتراحهم للسيئات ، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات ، وما ربك بظلام للعبيد.

الإيضاح

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن ، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي ، والظالمين لبنى إسرائيل باستعبادهم

٤٩

وذبح أبنائهم ـ قوم فرعون ذى الجبروت والطغيان ، والعتوّ والبهتان ، ليكون لهم فى ذلك عبرة لو تذكروا ، فيرعووا عن غيهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم ، إذ ابتلعهم اليم وأغرقوا جميعا.

ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه كما أسلفنا من قبل.

ثم أتبع ذكر إرساله عليه السلام إنذارهم وتسجيل الظلم عليهم وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله فقال :

(أَلا يَتَّقُونَ؟) أي قال الله لموسى : ألا يتقى هؤلاء القوم ربهم ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به.

فأجاب موسى عن أمر ربه الإتيان إليهم متضرعا إليه :

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى : رب إنى أخاف تكذيبهم إياى ، فيضيق صدرى تأثرا منه ولا ينطلق لسانى بأداء الرسالة ، بل يتلجلج بسبب ذلك ، كما يرى أن كثيرا من ذوى اللسن والبلاغة إذا اشتد بهم الغم وضاق منهم الصدر تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم.

وفى هذا تمهيد العذر فى استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه ، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة ، وعدم إلزام الحجة ومن ثم قال :

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فأرسل جبريل عليه السلام إلى هرون ، واجعله نبيا ، وآزرنى به واشدد به عضدى ، فبإرساله تحصل أغراض الرسالة على أتم وجه.

ثم ذكر سببا آخر فى الحاجة إلى طلب العون وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرسالة فقال :

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم علىّ تبعة جرم بقتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكز بها ، فأخاف إن أنا جئتهم وحدى أن يقتلونى من جرّاء ذلك ـ وهذا اختصار لما بسط من القصة فى موضع آخر.

٥٠

ومقصده عليه السلام بهذا طلب دفع بلوى قتله ، خوف فوت أداء الرسالة ونشرها بين الملأ كما هو دأب أولى العزم من الرسل ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى : «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

وفى هذا إيماء إلى أن الخوف قد يحصل من الأنبياء كما يحصل من غيرهم.

والخلاصة ـ إن موسى طلب من ربه أمرين : دفع الشر عنه ، وإرسال هرون معه ، فأجابه إليهما.

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال له : لا تخف من شىء من ذلك ، فاذهب أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتكما به مؤيّدين بآياتنا الدالة على صدقكما ، وإنى ناصركما ومعينكما عليه ، وهذا كقوله : «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى».

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأتياه وقولا له : إن الله أرسلنا إليك لتطلق سبيل بنى إسرائيل وتخلّيهم وشأنهم ، ليذهبوا إلى الأرض المقدسة موطن الآباء والأجداد التي وعدنا الله بها على ألسنة رسله ، وكانوا قد استعبدوا أربعمائة سنة.

قال القرطبي : فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة فى الدخول عليه ا ه.

ووحّد الرسول هنا ولم يثنه كما جاء فى قوله : «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» لأن رسولا يستعمل للمفرد وغيره كما قال الشاعر :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول

كما يستعمل كذل عدوّ وصديق كما جاء فى قوله : «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي».

فأجابه فرعون على وجه التفريع والازدراء وذكر أمرين كما حكى سبحانه عنه :

(١) (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك ستين؟) أي أبعد أن ربيناك فى بيوتنا ولم نقتلك فى جملة من قتلنا ، وأنعمنا عليك بنعمنا ردحا من الزمن تقابل الإحسان بكفران النعمة ، وتواجهنا بمثل تلك المقالة؟.

روى أنه لبث فيهم ثمانى عشرة سنة ، وقيل ثلاثين سنة.

٥١

(٢) (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت ذلك القبطي الذي وكزته وهو من خواصى ، فكنت من الجاحدين لنعمتى عليك من التربية والإحسان إليك.

وخلاصة ما سلف ـ إنه عدد نعماءه عليه أولا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وهو من خواصه ، وهو بهذا أيضا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله.

فأجاب موسى عن الأمر الثاني ، وترك أمر التربية ، لأنها معلومة مشهورة ، ولا دخل لها فى توجيه الرسالة ، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم ، سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى مجيبا فرعون : فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهى قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الجاهلين بأن وكزني تأتى على نفسه ، فإنى إنما تعمدت الوكز للتأديب ، فأدى ذلك إلى القتل.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فخرجت هاربا منكم حين توقعت مكروها يصيبنى حين قيل لى : «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» فوهب لى ربى علما بالأشياء على وجه الصواب ، وجعلنى من المرسلين من قبله لهداية عباده وإرشادهم إلى النجاة من العذاب.

وخلاصة ما قال ـ إن القتل الذي توبخنى به لم يكن مقصودا لى ، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب ، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فرارى ، وإن أنتم أسأتم إلىّ فقد أحسن إلىّ ربى فوهب لى فهم الأمور على حقائقها وجعلنى من زمرة عباده المخلصين.

ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة فقال :

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال عبّدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا ، وتمنّ من المنة بمعنى الإنعام : أي وما أحسنت إلىّ وربيتنى إلا وقد أسأت إلى بنى إسرائيل جملة ، فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم فى أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة.

٥٢

وخلاصة ذلك ـ أفيفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت به إلى مجموعهم؟

فهو ليس بشىء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع ، وكأنه قال : إن هذا ليس بنعمة ، لأن الواجب عليك ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومى ، فكيف تذكر إحسانك إلىّ على الخصوص ، وتنسى استعباد الشعب كله.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١))

الإيضاح

لما دخل موسى وهرون على فرعون وقالا له : إنا رسولا رب العالمين أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق وإرشادك إلى طريق الرشد ، وغلباه بالحجة رجع إلى معارضة موسى فى قوله : «رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ».

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) أي قال لموسى : إنك تدّعى أنك رسول من رب العالمين فما هو؟ إذ كان قد قال لقومه : «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي».

فأجابه موسى عن سؤاله :

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي قال : رب العالمين هو خالق العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات ، والعالم

٥٣

السفلى وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوان ونبات وما بين ذلك من هواء وطير ، إن كانت لكم قلوب موفقة ، وأبصار نافذة.

حينئذ عجب فرعون من كلام موسى والتفت إلى الملأ حوله معجّبا لهم من ذلك المقال.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ؟) أي التفت فرعون إلى الملأ والرؤساء من حوله وقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء : ألا تعجبون من مقالته وزعمه أن لكم إلها غيرى؟

ثم زاد موسى وصف إلههم إيضاحا وبيانا.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي قال : إنه هو خالقكم وخالق من قبلكم من آبائكم وأجدادكم.

وقد انتقل بهم موسى من النظر فى الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر فى الأنفس وما فيها من عجيب الصنع ، فإن التناسل المستمر فى النبات والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر فى الآفاق.

ولما لم يستطع ردا لما جاء به أورد ما يشككّ قومه فى حسن تقديره للأمور وفهمه لما يقول :

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قال فرعون لقومه : إن رسولكم لا عقل له ، إذ يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه ، فهو يدّعى أن ثمّة إلها غيرى.

ثم وصف موسى الإله بأنه. خالق الأكوان ، ورب الزمان والمكان.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قال موسى : إن ربكم هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب ، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب ، ثوابتها وسياراتها مع انتظام مداراتها ، وتغير المشارق والمغارب كل يوم ، إن كان لكم عقول تفقهون بها ما يقال لكم ، وتسمعون بها ما تسمعون ، إذ فى كل

٥٤

ذلك أدلة على أن هناك إلها مصوّرا صوّر هذه العوالم كلها وأبدعها وزيّنها ورتبها ونظّمها على أحسن النظم.

وقد لاينهم أوّلا وعاملهم بالرفق حيث قال لهم : إن كنتم موقنين ، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ لهم فى الرد وعارضهم بمثل مقالهم بقوله إن كنتم تعقلون ، لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه.

ولما قامت الحجة على فرعون عدل إلى القهر واستعمال القوة ولبس لموسى جلد التمر كما حكى سبحانه عنه.

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي قال له : لأجعلنّك فى زمرة الذين فى سجونى على ما تعلم من فظاعة أحوالها ، وشديد أهوالها ، وكانت سجونه أشد من القتل ، لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت ، وكان يطرحه فى هوّة عميقة تحت الأرض وحده ، وفى توعده بالسجن ضعف منه ، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعا شديدا.

وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريّا ، ويلجأ إلى المعجزات ، وخوارق العادات.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟) أي أتفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة على صدق دعواى ، وهى المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته ، وعلى صدق دعوى من ظهرت على يديه.

وحين سمع فرعون هذا الكلام من موسى.

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى دعوى الرسالة ، فإن من يدّعى النبوة لا بد له من حجة على صدق ما يدعى ، وقد أمره بذلك ظنا منه أنه يقدر على معارضته.

٥٥

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧))

تفسير المفردات

مبين : أي ظاهر أنه ثعبان بلا تمويه ولا تخييل كما يفعل السحرة ، الملأ : أشراف القوم ، عليم : أي خبير بفن السحر حاذق فى تلك الصنعة ، فماذا تأمرون؟ أي فبم تشيرون ، أرجه وأخاه : أي أخر أمرهما ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة ، حاشرين : أي اجعل رجال الشرطة يحشرون السحرة.

الإيضاح

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي فبعد أن قال له فرعون مقالته ألقى عصاه فإذا هى ثعبان واضح لا لبس فيه ، ولا تخييل ولا تمويه ، وقد روى أنها لما صارت حية ارتفعت فى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون ، فقال : بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.

وقد جاء فى آية أخرى «كَأَنَّها جَانٌّ» والجان الصغير من الحيات ، تشبيها لها به من جراء الخفة والسرعة.

ولما أتى موسى بهذه الآية قال له فرعون : هل هناك غيرها؟ قال نعم.

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي وأدخل يده فى جيبه ثم أخرجها فإذا هى تضىء الوادي من شدة نورها ، وكأنها فلقة قمر ، قال ابن عباس : أخرج موسى يده من جيبه فإذا هى بيضاء تلمع للناظرين ، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يعشى الأبصار ويسدّ الأفق.

٥٦

ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد وذكره لأشراف قومه أمورا ثلاثة :

(١) (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي قال لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروّج عليهم بطلان ما يدّعيه موسى : إن هذا الرجل لبارع فى السحر حاذق فى الشعوذة ، ومراده من هذا أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر لا من وادي المعجزات.

ثم هيّجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به والتنفير منه بقوله :

(٢) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر ، فيكثر أعوانه وأتباعه ، ويغلبكم على دولتكم ، فيأخذ البلاد منكم.

(٣) (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي فأشيروا علىّ ماذا أصنع؟ وبم أدافعه عما يريد؟

ومثل هذا القول يوجب جذب القلوب والتضافر فى مكافحة العدو والتغلب عليه جهد المستطاع.

قال المفتى أبو السعود : بهره سلطان المعجزة وحيره حتى حطه من ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده فى زعمه ، والامتثال لأمرهم ، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم بعد ما كان مستقلا بالرأى والتدبير ، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه ، ونسبه إلى إخراجهم من الأرض لتنفيرهم منه.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي قالوا : أخّر البت فى أمرهما ، ولا تعاجلهما بالعقوبة ، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك ، وأقاليم دولتك ، كل سحار عليم ، ثم تقابلهم به وجها لوجه ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه ، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة وقرعت الدليل بمثله ، ويكون لك النصر والتأييد عليه ، وتجتذب قلوب الشعب إليك.

٥٧

وقد كان هذا من تسخير الله تعالى له ، ليجتمع الناس فى صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه للناس فى وضح النهار جهرة.

روى أن فرعون أراد قتله فقال له الملأ : لا تفعل. فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة فى أمره ، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم ، ظنا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره ، وتم لفرعون الغلب.

فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم.

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

تفسير المفردات

الميقات : ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام ، واليوم المعلوم : هو يوم الزينة الذي حدده موسى فى قوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس

٥٨

ضحى ، وعزة فرعون : أي قوته التي يمتنع بها من الضيم ، تلقف : أي تبتلع بسرعة ، يأفكون : أي يقلبونه عن وجهه وحقيقته بكيدهم وسحرهم ، من خلاف : أي بقطع الأيادى اليمنى والأرجل اليسرى ، لا ضير : أي لا ضرر علينا فيما ذكرت ، منقلبون : أي راجعون.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه هذه المناظرة بين موسى عليه السلام والقبط فى سورة الأعراف وسورة طه وفى هذه السورة.

وخلاصتها ـ إن فرعون وقومه أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وذلك شأن الإيمان والكفر والحق والباطل ما تقابلا إلا غلب الإيمان الكفر : «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» ومن ثم لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم مصر العليا وكانوا أبرع الناس فى فن السحر وأشدهم خداعا وتخيلا ، وكانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا أحضروا مجلس فرعون ، فطلبوا منه الأجر إن هم غلبوا ، فأجابهم إلى ما طلبوا ، وزادهم عليه أن سيجعلهم من بطانته ومن المقربين إليه ، ولكن المناظرة انتهت بغلبة موسى لهم وهزيمة من استنصر بهم ، وإيمانهم بموسى ، وحينئذ عاد إلى المكابرة والعناد ، وشرع يتهدد السحرة ويتوعدهم ويقول : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ولكن ذلك لم يردّهم إلا إيمانا وتسليما ، لعلمهم ما جهله قومهم من أن هذا لا يصدر عن بشر إلا إذا أيده الله وجعله حجة على صدق ما يدّعى ، ومن ثمة قالوا له بعد أن توعدهم بقطع الأيدى والأرجل : إن ذلك لا يضيرنا ، وإن المرجع إلى الله ، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وإنا لنرجو أن يغفر لنا خطايانا ، لأنا سبقنا قومنا من القبط إلى الإيمان ، ويروى أنه قتلهم جميعا.

٥٩

الإيضاح

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت فى أمر موسى ، وبان من الخير له أن يجمع السحرة ، ليظهر عند حضورهم فساد قوله ـ رضى بما أشاروا به واستقر عليه الرأى وأحب أن تقع المناظرة فى يوم عيد لهم ، لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس ، ويتم الله نوره ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله.

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي وقيل للناس حثا لهم على المبادرة إلى الاجتماع ومشاهدة ما يكون من الجانبين : هل أنتم مجتمعون فى ذلك الميقات لتروا ما سيكون فى ذلك اليوم المشهود ، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور ، وقد طلب أن يكون ذلك بمجمع من الناس لئلا يؤمن بموسى أحد منهم ، فوقع من موسى الموقع الذي يريده ، لأنه يعلم أن حجة الله هى الغالبة ، وحجة الكافرين هى الداحضة ، وفى ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة فى الاستظهار للمحقين ، وقهر للمبطلين.

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي إنا نرجو أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم ولا نتبع دين موسى.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي فلما جاء السحرة مجلس فرعون طلبوا منه الإحسان ببذل المال والتقرب إليه إن هم غلبوا ، فأجابهم إلى ما طلبوا وزاد على هذا أن وعدهم بأنهم سيكونون من جلسائه وخاصة بطانته.

بعدئذ عادوا إلى مقام المناظرة وقالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين.

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي قال لهم موسى ألقوا ما تريدون إلقاءه ، مما يكون حجة لكم

٦٠