تفسير المراغي - ج ١٩

أحمد مصطفى المراغي

اذا هى قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهّدها ، وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وتأوى إلى معاطنها ومرابضها ، لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم ، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات ـ إلى أنهم لا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا ، إلى أن جهالة الأنعام مقصورة عليها ، وجهالة هؤلاء تؤدى إلى وقوع الفتنة والفساد ، وصدّ الناس عن سنن السّداد ، ووقوع الهرج والمرج بين العباد ، إلى أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك ، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق ، إلى أنها لم تعطّل قوة من القوى المودعة فيها ، فلا تقصير من قبلها عن الكمال ، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وقد قالوا الملائكة روح وعقل ، والبهائم نفس وهوى ، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار ، فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام ، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام.

وتخصيص الأكثر بالذكر ، لأنه قد كان منهم من آمن ، ومنهم من عقل الحق وكابر ، استكبارا وخوفا على الرياسة.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ

٢١

كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))

تفسير المفردات

ألم تر : أي ألم تنظر ، إلى ربك : أي إلى صنعه ، مد : بسط ، الظل : ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها ، ساكنا : أي ثابتا على حاله فى الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس ، دليلا : أي علامة ، قبضناه : أي محوناه ، يسيرا : أي على مهل قليلا قليلا بحسب سير الشمس فى فلكها ، والسبات : الموت لما فى النوم من زوال الإحساس ، والنشور : البعث ، بشرا : (تخفيف بشر بضمتين) واحدها بشور كرسل ورسول : أي مبشرات ، والرحمة : المطر ، بين يديه : أي قدامه ، طهورا : أي يتطهر به ، والبلدة : الأرض ، والميت : التي لا نبات فيها ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم ، وخصها بالذكر لأنها ذخيرتنا. ومعاش أكثر أهل المدر منها ، وأناسىّ : واحدهم إنسان (أصله أناسين أبدلت النون ياء وأدغمت فى الياء) وصرفناه : أي حولناه فى أوقات مختلفة إلى بلدان متعددة ، ليذكروا : أي ليعتبروا ، كفورا : أي كفرانا للنعمة وإنكارا لها ، نذيرا : أي نبيا ينذر أهلها ، والمرج : من قولهم مرج فلان دابته إذا تركها وشأنها ، فرات : أي مفرط العذوبة ، أجاج : أي شديد الملوحة ، برزخا : أي حاجزا ، حجرا محجورا : أي تنافرا شديدا فلا يبغى أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب ، نسبا وصهرا : أي ذكورا ينسب إليهم ، وإناثا يصاهر بهن.

٢٢

المعنى الجملي

لما بين سبحانه جهالة المعرضين عن دلائل التوحيد ، وسخيف مذاهبهم وآرائهم أعاد الكرة مرة أخرى ، فذكر خمسة أدلة عليه نراها عيانا ، وتتوارد علينا ليلا ونهارا ، وتكون دليلا على وجود الإله القادر الحكيم.

الإيضاح

(١) (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي انظر أيها الرسول إلى صنع ربك ، كيف أنشأ الظل لكل مظلّ من طلوع الشمس حتى غروبها ، فاستخدمه الإنسان للوقاية من لفح الشمس وشديد حرارتها.

(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ولو شاء لجعله ثابتا على حال واحدة لا يتغير ، لكنه جعله متغير فى ساعات النهار المختلفة ، وفى الفصول المتعاقبة ، ومن ثم اتّخذ مقياسا للزمن منذ القدم ، فاتخذ المصريون (المسلات) وقاسوا بها أوقات النهار على أوضاع مختلفة ، وطرق حكيمة منوّعة ، واتخذ العرب المزاول لمعرفة أوقات الصلاة فقالوا : يجب الظهر عند الزوال : أي إذا تحول الظل إلى جانب المشرق ، والعصر حين بلوغ ظل كل شىء مثله عند الأئمة عدا أبا حنيفة الذي قال : لا يجب إلا إذا بلغ ظل كل شىء مثليه.

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهور الظل ومشاهدته للحس والعيان ، والأشياء تستبين بأضدادها ، فلو لا الشمس لما عرف الظل ، ولو لا الظلمة ما عرف النور.

(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرا يسيرا ، ومحوناه على مهل جزءا فجزءا بحسب سير الشمس.

(٢) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي ومن آثار قدرته ، وروائع رحمته الفائضة على خلقه ، أن جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه

٢٣

كما يستركم اللباس ، وجعل النوم كالموت لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة كما قال : «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» وقال : «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت.

وخلاصة ذلك ـ جعلنا موتكم بالنوم فى الليل ، وجعلنا نشوركم : أي انبعاثكم من النوم الذي يشبه الموت بالنهار ، إذ ينشر الخلق للمعاش كما ينشرون بعد الموت للحساب. قال لقمان لابنه كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر.

ونحو الآية قوله : «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الآية.

(٣) (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي والله الذي أرسل الرياح مبشّرات بقدوم الأمطار.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار والوضوء لما يتوضأ به ، أي وأنزلنا من السحاب ماء تتطهرون به فى غسل ملابسكم وأجسامكم ، وتنتفعون به فى طبخ مطاعمكم ، وتشربونه عذبا فراتا.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى البحر «هو الطّهور ماؤه ، والحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأنزلناه لنحيى به أرضا طال انتظارها للغيث ، فهى هامدة لا نبات فيها ، وبذلك الماء تزدهر بالشجر والنبات والأزهار ، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان.

ونحو الآية قوله : «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» وقوله : «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وليشرب منه الحيوان والإنسان ،

٢٤

وأخر ذكر الإنسان عن النبات والحيوان لحاجته إليهما فى حياته ، ولأنهم إذا ظفروا بماء يسقى أرضهم ومواشيهم لم يعدموا ما يكون منه سقياهم.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي ولقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى ، فلا تمر ساعة فى ليل ولا نهار إلا كان فيه دليل على آثار قدرتنا ، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين ، فنحن صرفناه بينهم كما صرفنا الليل والنهار ، فالشمس تجرى من عند قوم وتذهب إلى آخرين : «صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ».

إلى أن الماء يكون جامدا يشبه الحجر ، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات ، وحينا بخاريا يشبه الهواء ، وهو أيضا غاد ورائح فى الجوّ وفى الأنهار وفى الغدران وفى أجسام النبات والحيوان والإنسان.

(لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي صرّفناه بينهم ، ليعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيشكروا ، ولكن أكثر الناس أبوا إلا جحودا للنعمة ، وكفرانا بخالقها.

ثم بين منته على رسوله وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة ليزداد شرفا ويعظم قدرا فقال :

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي ولو أردنا أن نرسل رسولا إلى أهل كل قرية لفعلنا وخفّت عنك أعباء النبوة ، ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة ، لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة ، فقابل ذلك بشكر النعمة ، وبالثبات والاجتهاد فى الدعوة وإظهار الحق كما قال : «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وجاء فى الصحيحين «بعثت إلى الأحمر والأسود» أي إلى العجم والعرب.

والخلاصة ـ إنّا عظّمناك بهذا الأمر ، وجعلناك مستقلا بأعبائه ، لتحوز ما ادّخر لك من عظيم جزائه ، وكبير مثوبته فعليك بالمجاهدة والمثابرة ، ولا عليك من تلقّيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) أي فلا تطع الكافرين فيما

٢٥

يدعونك إليه من موافقتهم على مذاهبهم وآرائهم ، وجاهدهم بالشدة والعنف ، لا بالملاينة والمداراة لتكسب ودّهم ومحبتهم ، وعظهم بما جاء به القرآن من المواعظ والزواجر ، وذكّرهم بأحوال الأمم المكذبة لرسلها ، وذلك منتهى الجهاد الذي لا يقادر قدره.

ونحو الآية قوله تعالى : «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ».

والخلاصة ـ إنك مبعوث إلى الناس كافة ، لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، فاجتهد فى دعوتك ، ولا تتوان فيها ، ولا تحفل بوعيدهم ، فإن الله ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.

(٤) (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين وجعلهما لا يمتزجان ، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه ، وحجزه عنه بقدرته ، فكأن بينهما حاجزا يمنع أحدهما من إفساد الآخر ، وكأن بينهما ساترا يجعله لا يبغى عليه.

والخلاصة ـ إنه تعالى جعل البحرين مختلطين فى مرأى العين ، منفصلين فى التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح ، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده.

ونحو الآية قوله فى سورة الرحمن : «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».

(٥) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي وهو الذي جعل الماء جزءا من مادة الإنسان ، ليقبل الأشكال المختلفة ، والأوضاع المنوّعة وقسمه قسمين ذوى نسب ينسب إليهم وهم الذكور ، وذوات صهر يصاهر بهن وهن

٢٦

الإناث كما قال : «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» وكان الله قديرا ، إذ خلق من مادة واحدة بشرا عجيب الصنع ، بديع الخلق ، كبير العقل ، عظيم التفكير ، سخّر ما على ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته «وَسَخَّرَ لَكُمْ ... ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ».

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

تفسير المفردات

الظهير والمظاهر : المعاون فهو يعاون الشيطان على ربه : أي على رسوله بالعداوة ، وسبح بحمده : أي ونزّهه وصفه بصفات الكمال ، ويقال كفى بالعلم جمالا : أي حسبك ، فلا تحتاج معه إلى غيره ، والخبير بالشيء : العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به ، والبروج : منازل السيارات الاثني عشر المعروفة التي جمعها بعضهم فى قوله :

٢٧

حمل الثور جوزة السرطان

ورعى الليث سنبل الميزان

ورمى عقرب بقوس لجدّى

نزح الدلو بركة الحيتان

فهى الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت ، وهى منازل الكواكب السيارة السبعة وهى : المريخ وله الحمل والعقرب ، والزهرة : ولها الثور والميزان ، وعطارد : وله الجوزاء والسنبلة ، والقمر : وله السرطان ، والشمس : ولها الأسد ، والمشترى : وله القوس والحوت ، وزحل : وله الجدى والدلو.

وهى فى الأصل القصور العالية. فأطلقت عليها على طريق التشبيه ، والسراج : الشمس خلفة : أي يخلف أحدهما الآخر ويقوم مقامه فيما ينبغى أن يعمل فيه.

المعنى الجملي

بعد أن بسط سبحانه أدلة التوحيد ، وأرشد إلى ما فى الكون من باهر الآيات ، وعظيم المشاهدات ، التي تدل على بديع قدرته ، وجليل حكمته ـ أعاد الكرة مرة أخرى ، وبين شناعة أقوالهم وقبيح أفعالهم ، إذ هم مع كل ما يشاهدون لا يرعوون عن غيّهم ، بل هم عن ذكر ربهم معرضون ، فلا يعظّمون إلا الأحجار والأوثان وما لا نفع فيه إن عبد ، وما لا ضرّ فيه إن ترك ، إلى أنهم يظاهرون أولياء الشيطان ، ويناوثون أولياء الرحمن ؛ وإن تعجب لشىء فاعجب لأمرهم ، فقد بلغ من جهلهم أنهم يضارّون من جاء لنفعهم وهو الرسول الذي يبشّرهم بالخير العميم إذا هم أطاعوا ربهم ، وينذرهم بالويل والثبور إذا هم عصوه ، ثم هو على ذلك لا يبتغى أجرا.

ثم أمر رسوله بألا يرهب وعيدهم ، ولا يخشى بأسهم ، بل يتوكل على ربه ، ويسبح بحمده ، وينزهه عما لا يليق به من صفات النقص كالشريك والولد ، وهو الخبير بأفعال عباده ، فيجازيهم بما يستحقون.

٢٨

الإيضاح

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها ، ولا تضرهم إن تركوا عبادتها ، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى ، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها ، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله : «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» إلى آخر الآيات.

ثم ذكر لهم جرما آخر فقال :

(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي وكانوا مظاهرين الشيطان ، على معصية الرحمن ، وذلك دأبهم وديدنهم ، فهم يعاونون المشركين ، ويكونون أولياء لهم على رسوله وعلى المؤمنين ، بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام ، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفير منها كما قال : «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ».

وقد يكون المعنى ـ وكان الكافر على ربه هيّنا ذليلا لا قدر له ولا وزن له عنده من قول العرب : ظهرت به ، أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه ، ومنه قوله تعالى :

«وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» أي هينا ، وقول الفرزدق :

تميم بن قيس لا تكونن حاجتى

بظهر فلا يعيا علىّ جوابها

قال ابن عباس نزلت الآية فى أبى الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام.

ثم بين عظيم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم ودفع الأذى عنهم فقال :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي كيف تطلبون العون على الله ورسوله والله قد أرسل رسوله لنفعكم ، إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات ، وينذركم على فعل المعاصي ، فتستحقوا الثواب وتبتعدوا عن العقاب.

٢٩

وخلاصة ذلك ـ لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده فى إيذاء من يرجو نفعه فى دينه ودنياه.

وفى هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم.

ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغى لنفسه نفعا فقال :

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي قل لمن أرسلت إليهم : لا أسألكم على ما جئت به من عند ربى أجرا ، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا ، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له فى أموالنا مطمع.

(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى الله بالإنفاق فى الجهاد وغيره ، ويتخذ ذلك سبيلا إلى رحمته ونيل ثوابه فليفعل.

وخلاصة ذلك ـ لا أسألكم عليه أجرا لنفسى ، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته.

وبعد أن بين له أن الكافرين متظاهرون على إيذائه ـ أمره بالتوكل عليه فى دفع المضارّ وجلب المنافع فقال :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شىء ومليكه ، واجعله ملجأك وذخرك ، وفوّض إليه أمرك ، واستسلم له ، واصبر على ما نابك فيه ، فإنه كافيك وناصرك ومبلغك ما تريد ، ونزّهه عما يقوله هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد ، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ، كما تنزهه عن الأنداد والشركاء من الأصنام والأوثان فهو لا كفء له ولا ند : «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ».

وقد علمت قبل أن التوكل اعتماد العبد على الله فى كل الأمور ، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها.

ونحو الآية قوله : «وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

٣٠

وفى قوله : (الْحَيِّ) إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن ، ولا على من لا بقاء له ممن يموت ، لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه.

وحكى عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال : لا ينبغى لذى لب أن يثق بعدها بمخلوق.

ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم ، ومجازيهم عليها يوم القيامة فقال :

(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي وحسبك بالحي الذي لا يموت خبيرا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن ، فهو لا يخفى عليه شىء منها ، وهو محصيها عليهم ومجازيهم عليها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.

وفى هذا ساوة لرسوله ، ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم ، وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء ، وكأنه قيل : إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه فى مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.

ثم وصف نفسه بذكر أفعاله التي تجعله حقيقا أن يتوكّل عليه فقال :

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم إيضاح هذا فى سور يونس وهود وطه ، ولكن يلاحظ هنا أنه تعالى وصف نفسه بالأبدية والعلم الشامل ، ثم بخلق السموات والأرض ليقرر وجوب التوكل عليه ويؤكده ، فإن من أحدث هذه الأجرام العظيمة على ذلك النمط البديع وجعلها مرفوعة بغير عمد فى تلك الأيام ، وقد كان قديرا على إبداعها دفعة واحدة بقدرته التي لا تقف على كنهها العقول ـ جدير بأن يتوّكل عليه ويفوّض أمره إليه.

(الرَّحْمنُ) أي عظيم الرحمة بكم ، والحدب عليكم ، فلا تعبدوا إلا إياه ولا تتوكلوا إلا عليه.

وخلاصة ذلك ـ توكلوا على من لا يموت وهو رب كل شىء وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو ، وخالق

٣١

الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ويقضى بالحق.

(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرا به يخبرك بحقيقته وهو الله سبحانه ، لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو ، فالأيام التي ثم فيها الخلق إنما هى أطوار ستة سار عليها طورا بعد طور وحالا بعد أخرى كما يرشد إلى ذلك قوله : «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» والاستواء على العرش لا يراد به الجلوس عليه بل تمام التصرف فيه.

فمن كان محدود الفكر فليقف عند ظاهر اللفظ ويترك البحث فيه ، ومن كان حصيف الرأى طليق الفكر فليجدّ فى البحث والدرس وسؤال أهل الذكر من العلماء ليعلم المراد من ذلك على قدر ما تصل إليه طاقة البشر.

وبعد أن ذكر سبحانه إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من الكفر فى موضع الشكر فقال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم : اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصا دون الآلهة والأوثان ، قالوا على طريق التجاهل : وما الرحمن؟ أي نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له.

ونحو هذا قول فرعون : «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» حين قال له موسى عليه السلام : «إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» وهو قد كان عليما به كما يؤذن بذلك قول موسى له : «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ».

ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك وأنكروه عليه بقولهم :

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟) أي أنسجد للذى تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه.

ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادا واستكبارا فقال :

٣٢

(وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وبعدا مما دعوا إليه ، وقد كان من حقه أن يكون باعثا لهم على القبول ثم الفعل.

وكان سفيان الثّورى يقول فى هذه الآية : إلهى زدنى لك خضوعا ، ما زاد عداك نفورا.

روى الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا ، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا فى ناحية المسجد مستهزئين.

وبعد أن حكى عنهم مزيد النفرة من السجود له ، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود لمن له تلك الخصائص فقال :

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) أي تقدس ربنا الذي جعل فى السماء نجوما كبارا عدها المتقدمون نحو ألف وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديثة (التلسكوبات) أكثر من مائتى ألف ألف ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدا ، وجعل فيها شمسا متوقدة وقمرا مضيئا.

ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته وفيها الدليل على وحدانيته فقال :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ، فيكون فى ذلك عظة لمن أراد أن يتعظ باختلافهما ويتذكر آلاء الله فيهما ويتفكر فى صنعه ، أو أراد أن يشكر نعمة ربه ليجنى ثمار كل منهما ، إذ لو جعل أحدهما دائما لفاتت فوائد الآخر ، ولحصلت السآمة والملل ، وفتر العزم الذي يثيره دخول وقت الآخر ؛ إلى نحو أولئك من الحكم التي أحكمها العلى الكبير.

وفى الحديث الصحيح : «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل».

وعن الحسن : من فاته عمل من التذكر والشكر بالنهار كان له فى الليل مستعتب ،

٣٣

ومن فاته بالليل كان له فى النهار مستعتب. وروى أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه! فقال : إنه بقي علىّ من وردى شىء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية : «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» إلخ.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

٣٤

تفسير المفردات

الهون : الرفق واللين والمراد أنهم يمشون فى سكينة ووقار ، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا ، الجاهلون : أي السفهاء ، سلاما : أي سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية كقول إبراهيم لأبيه : «سَلامٌ عَلَيْكَ» ويبيتون : أي يدركهم الليل ناموا أو لم يناموا كما يقال بات فلان قلقا ، غراما : أي هلاكا لازما ، قال الأعشى :

إن يعاقب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالى والإسراف : مجاوزة الحد فى النفقة بالنظر لنظرائه فى المال ، والتقتير : التضييق والشح ، قواما : أي وسطا وعدلا لا يدعون : أي لا يشركون ، والآثام : الإثم والمراد جزاؤه ، مهانا : أي ذليلا مستحقرا ، لا يشهدون الزور : أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة والمراد أنهم لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، واللغو ما ينبغى أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه ، كراما : أي مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه ، والخرور : السقوط على غير نظام وترتيب ، وقرة العين : يراد بها الفرح والسرور ، والإمام : يستعمل للمفرد والجمع والمراد الثاني أي أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين ، والغرفة : كل بناء عال مرتفع ويراد بها الدرجات الرفيعة ، ما يعبأ بكم : أي لا يعتدبكم ، دعاؤكم : أي عبادتكم ، لزاما : أي لازما يحيق بكم حتى يكبكم فى النار.

المعنى الجملي

بعد أن وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته ، والنفور من طاعته ، والسجود له عز اسمه ـ ذكر هنا أوصاف خلص عباده المؤمنين ، وبين ما لهم من فاضل الصفات ، وكامل الأخلاق ، التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم ، وأكرم لأجلها مثواهم ؛ وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئب إليها أعناق العاملين ، وتتطلع إليها نفوس الصالحين ، الذين يبتغون المثوبة ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال ، وأتوا به من جليل الأعمال.

٣٥

الإيضاح

وصف الله سبحانه عباده المخلصين الذين استوجبوا المثوبة منه وجازاهم على ذلك الجزاء بصفات تسع :

(١) (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي وعباد الله الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون فى سكينة ووقار ، لا يضربون بأقدامهم كبرا ، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا.

روى أن عمر رضى الله عنه رأى غلاما يتبختر فى مشيته فقال : إن البخترة مشية تكره إلا فى سبيل الله ، وقد مدح الله أقواما فقال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد فى مشيتك.

وقال ابن عباس : هم المؤمنون الذين يمشون علماء حلماء ذوى وقار وعفة.

وفى الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أيها الناس عليكم بالسكينة ، فإن البرّ ليس فى الإيضاع» (السير السريع) وفى صفته صلى الله عليه وسلم : إنه كان إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفؤا ، ويمشى هونا ، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب (التقلع : رفع الرجل بقوة ، والتكفؤ : الميل إلى سنن القصد ، والهون : الرفق والوقار ، والذريع : الواسع الخطا) أي إنه كان يرفع رجله بسرعة فى مشيه ويمد خطوه خلاف مشية المختال وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ومن ثم قيل كأنما ينحط من صبب قاله القاضي عياض فى الشفاء.

وخلاصة هذا ـ إنهم لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوّا فى الأرض ولا فسادا.

(٢) (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أي وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله ، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما.

٣٦

وعن الحسن البصري : هم حلماء لا يجهلون ، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا ، هذا نهارهم فكيف ليلهم؟ خير ليل ، صفّوا أقدامهم ، وأجروا دموعهم ، يطلبون إلى الله جل ثناؤه فكاك رقابهم.

قال ابن العربي : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أندية المشركين ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم.

ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه فقال :

(٣) (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي والذين يبيتون ساجدين قائمين لربهم أي يحيون الليل كله أو بعضه بالصلاة ، وخص العبادة بالبيتوتة ، لأن العبادة بالليل أحمص وأبعد عن الرياء ، وقال ابن عباس : من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا قائما : وقال الكلبي : من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا قائما.

ونحو الآية قوله : «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» وقوله : «كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وقوله : «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ».

(٤) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي والذين يدعون ربهم أن يضرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها.

وفى هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم للخلق واجتهادهم فى عبادة الخالق وحده لا شريك له ، يخافون عذابه ويبتهلون إليه فى صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال فى شأنهم : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ».

ثم بين أن سبب سؤالهم ذلك لوجهين :

(ا) (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي إن عذابها كان هلاكا دائما ، وخسرانا ملازما.

٣٧

(ب) (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إنها بئس المنزل مستقرا وبئس المقيل مقاما : أي إنهم يقولون ذلك عن علم ، وإذا فهم أعرف بعظم قدر ما يطلبون ، فيكون ذلك أقرب إلى النّجح.

قال الحسن : قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم ، وقال محمد بن كعب : طالبهم الله تعالى بثمن النعيم فى الدنيا فلم يأتوا به ، فأخذ ثمنه بإدخالهم النار.

(٥) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي والذين هم ليسوا بالمبذّرين فى إنفاقهم ، فلا ينفقون فوق الحاجة ، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم فيقصّرون فيما يجب نحوهم ، بل ينفقون عدلا وسطا ، وخير الأمور أوسطها ، وقد قيل :

ولا تغل فى شىء من الأمر واقتصد

كلا طرفى قصد الأمور ذميم

وقيل :

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت

ولم ينهها تاقت إلى كل باطل

وساقت إليه الإثم والعار بالذي

دعته إليه من حلاوة عاجل

قال يزيد بن أبى حبيب : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثيابا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ، ويقوّيهم على عبادة ربهم ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ، ويكفهم من الحر والبرد ، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ قال عمر : الحسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية ، وقال لابنه عاصم : يا بنى كلّ فى نصف بطنك ، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه ، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله فى بطونهم وعلى ظهورهم.

(٦) (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر فيشركون فى عبادتهم إياه ، بل يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة.

٣٨

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها ، كالكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل النفس بغير حق.

(وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.

روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أىّ الذنب أكبر؟ قال : أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، قلت ثم أىّ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت ثم أىّ؟ قال أن تزانى حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.

وقد نفى عنهم هذه القبائح مع أنه وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس ومزيد خوفهم من الله وإحياء الليل يقتضى نفيها عنهم ، تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم ، وتنبيها إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين ، فكأنه قيل : وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنتم تدعون ، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة ، ولا يزنون وأنتم تزنون.

روى مسلم عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا ، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ونزل : «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية : وقد قال ابن عباس وسعيد بن جبير إن هذه نزلت فى وحشي قاتل حمزة.

ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب فقال :

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة ، يلق فى الآخرة جزاء إثمه وذنبه

٣٩

الذي ارتكبه ، بل سيضاعف له ربه العذاب يوم القيامة ويجعله خالدا أبدا فى النار مع المهانة والاحتقار ، فيجتمع له العذاب الجسمى والعذاب الروحي.

وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار فى التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين فيفوزون بجنات النعيم فقال :

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لكن من رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمله الصالحات فألئك يمحو الله سوابق معاصيه بالتوبة ويثبت له لواحق طاعته.

قال الحسن : قال قوم هذا التبديل فى الآخرة وليس كذلك.

وقال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة ، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة.

وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن السيئات تبدل بحسنات» ، وروى معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

والخلاصة ـ إنه يعفو عن عقابه ، ويتفضل بثوابه ، والله واسع المغفرة لعباده ، فيثيب من أناب إليه بجزيل الثواب ، ويبعد عنه شديد العقاب.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها ، وندم على ما فرط منه ، وزكى نفسه بصالح الأعمال ، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحا ، مقبولة لديه ، ماحية للعقاب ، محصلة لجزيل الثواب ، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل ، ويوفقه للخير ، ويبعده عن الضير.

وفى هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها.

(٧) (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي والذين لا يؤدون الشهادات الكاذبة ، ولا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيه كاللغو فى القرآن وشتم الرسول والخوض فيما

٤٠